معنى عبارة ( فهم السلف) التي ترد في كلام العلماء- كيف يكون فهمنا سلفيا؟!



الشيخ: فَتْحي بِن عَبدِ الله المَوْصِليِّ



جملة فهم السلف لم تأت تقييدًا لمعاني الكتاب والسنة، بل جاءت كاشفة لهذه المعاني ومفسّرة لها من جهة ومصحّحة لمفاهيم الناس المخالِفة لمعاني الكتاب والسُّنّة من جهة أخرى
بسبب الاختلاف والإجمال والاشتباه في واقعنا اليوم صار منهج الأئمة الثلاثة ابن باز، والألباني، وابن عثيمين -رحمهم الله- معياراً لاتباع المنهج الحق


وردت جملة على لسان المحدث الفقيه الألباني – رحمه الله – نافعة في بابها جامعة في معانيها ضرورية في زمانها، وهي: (الالتزام بالكتاب والسنة بفهم سلف الأمة)، وقد استُشكِل هذا القيدُ الواردُ في الجملة – بفهم السلف الصالح – في حينها ؛ فقالت طائفة على سبيل الاعتراض – إنه تقييد لما حقه الإطلاق، وذهبت طائفة أخرى تفسر فهم السلف بفهمها وآرائها وتنظيراتها؛ فاجتمعت الطائفتان على ميراث الأئمة الثلاثة بالتقطيع والتحريف والتكتيل والتجريح والتجهيل؛ ولما رأيت في بعض المواقع عودة هذا الاستشكال في فهم هذه الجملة (فهم السلف) أحببت التوضيح والبيان في المقدمات الآتية:



سبيل المؤمنين

قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} وسبيل كل قوم طريقتهم التي يسلكونها في وصفهم الخاص؛ فالسبيل مستعار للاعتقادات والأفعال والعادات، التي يلازمها كل أحدٌ ولا يبتغي التحوّلَ عنها، كما يلازم قاصدُ المكان طريقاً يبلغه إلى قصده. (التحرير والتنوير: 1/501).

والتلازم بين مشاققة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين ظاهر؛ كما قال شيخ الإسلام: فإنهما متلازمان؛ فكلُّ مَن شاقّ الرسولَ من بعد ما تبيّن له الهدى فقد اتّبع غيرَ سبيل المؤمنين، وكلُّ من اتبع غيرَ سبيل المؤمنين فقد شاقّ الرسولَ مِن بعد ما تبين له الهدى. (المجموع: 7/38).

عين الكمال لا عين النقص

النظر إلى فهم السلف وطريقتهم بعين الكمال لا بعين الانتقاص؛ فقد كَمُلوا في: الوسائل والمقاصد، والمسائل والدلائل، والدليل والمدلول، واللفظ والمعنى، والاعتقاد والاستدلال، والتأصيل والتنزيل، والأسماء والأحكام، والانتساب والاكتساب، والبيان والتعليم، والفهم والاستنباط، والرواية والدراية، والضبط والعدالة، والتزكية والتخلية، والتصويب والتخطئة، والجمع والتفرقة، والنصرة والهجرة، والإرشاد والدعوة، والعلم والعبادة، والعشرة والمعاملة، والإمارة والسياسة، والحكمة والمصلحة.

فهم السلف

هذه الجملة (فهم السلف) لم تأت تقييداً لمعاني الكتاب والسنة؛ بل جاءت كاشفة لهذه المعاني ومفسّرة لها من جهة، ومصحّحة لمفاهيم الناس المخالِفة لمعاني الكتاب والسُّنّة من جهة أخرى؛ فجاءت هذه الجملة للتفسير وإزالة الإشكال ولتصحيح المفاهيم المغلوطة؛ وقد جيء بها للتمييز ودفع الإشكال الواقع أو المتوقع، ولاسيما لما يكون الانتساب إلى الكتاب- في بعض الأزمنة – والسنة مجمَلاً ويكون فهمُ المعاني غامضاً؛ فيحتاج العبد إلى السبيل الذي يفصّل المجمَلَ ويوضح الغامضَ المبهمَ.


والتقييدات المتصلة بالكلام تأتي غالباً للحاجة؛ فإذا صارت كلمة (فهم السلف) مجمَلة؛ بحيث يَحمِل كلُّ واحد فهمَ السَّلَف على مراده ورأيه من غير مستند شرعي ولا ضابط صحيح؛ فآنذاك تُقيَّد هذه الكلمة بقيود أخرى؛ فيقال: (اتباع الكتاب والسنة على وفق فهم السلف من خلال تقريرات الأئمة الراسخين في العلم)، بل قد تزداد الغربة بأهل الحق، ويكثر الإجمال والاشتباه في كلام المنتسبين إلى طريقة السلف؛ فتحتاج إلى ضابط معيّن آخر وتقييد مخصّص؛ فيذكر -لإزالة الإجمال والاشتباه- العلماء الراسخين تعييناً وتحديداً، كما حملت الأمة في وقت محنة أهل السنة في زمن الإمام أحمد -رحمه الله- بأن جعلوا الإمام أحمد معياراً لاتّباع منهج السلف والالتزام بالسنّة المحضة، وكما نرى اليوم في واقعنا بسبب الاختلاف والإجمال والاشتباه صار منهج الأئمة الثلاثة ابن باز، والألباني، وابن عثيمين -رحمهم الله- معياراً لاتباع المنهج الحق؛ وهي إضافة إلى أعلام المنهج، أكثر من الإضافة إلى المنهج، وهذا يدل على اشتداد الغربة وقوة الإجمال والاشتباه عند المنتسبين إلى السنة. والله المستعان.

التقييد بالوصف

إن التقييد في الجملة جاء بمعنى الشرط أو اللازم؛ لأن (التقييد بالوصف بمنزلة التعليق بالشرط)؛ أي: الفهم الصحيح للكتاب والسنة مشروط بفهم السلف؛ وإن الاتباع للكتاب والسنة يَلزم منه التقيّد بفهم السلف في فهم معاني النصوص.


وعليه يمكن القول إن معنى القيد الوارد (فهم السلف) له معنيان: معنى مجمل ومعنى مفصّل؛ أما المجمل: فهو فهم الكتاب والسنة بتفسير الصحابة، والوقوف على طريقتهم في استنباط المعاني والأحكام والمقاصد، وفهم منهجهم في الاحتجاج والاستدلال، ومعرفة طريقتهم في دفع الإشكالات التي تَرِدُ على الدليل أو على المدلول، ومعرفة لغتهم التي كانوا يتخاطبون بها واصطلاحاتهم التي كانوا يستعملونها.

القيد الوارد على لسان العلماء

وأما فهم هذا القيد الوارد على لسان العلماء الراسخين على وجه التفصيل؛ فهو يبحث في عشرين باباً من أبواب العلم؛ وهي:

1- الوقوف على طريقة الصحابة في الاجتهاد والعمل.

2- فقههم في تحقيق الاتباع ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم في مقاصد أفعاله وبحسب مراد كلامه.

3- اعتناء الصحابة بالجامع والفارق.

4- اعتناؤهم بالمقاصد والحكم والمناسبات.

5- الحفاظ على عموم الألفاظ، وعدم التخصيص بلا دليل.

6- تميز الصحابة بمعرفة المعاني المؤثرة في الأحكام.

7- اعتناء الصحابة بالأقيسة الصحيحة والمعاني الدقيقة وتمكنهم من إلحاق النظير بالنظير.

8-تفسيرهم للنص بحسب أسباب نزول القرآن وورود الحديث.

9- اعتناء الصحابة بمعاني الألفاظ لا بصورها، والنظر إلى الألفاظ على أنها وسيلة لحفظ تلك المعاني.

10- فقه الصحابة في جمع النصوص المتعارضة وعدم عدولهم عن الجمع بينها إلى الترجيح إلا عند التعذر التام.
11- عدم دفع النصوص ومعارضتها بالعقليات أو بالاحتملات الضعيفة.


12- لم يستعمل الصحابة إلا الرأي المحمود المدلل عليه بالمعاني الصحيحة والقواعد العامة.

13- اعتناء الصحابة بأحكام النوازل؛ بتصوّرها واستخراج الأحكام الخاصة بها وتنقيح عللها وتحقيق مناطها والنظر إلى مآلاتها وآثارها.

14- منهج الصحابة في الاستفتاء مبنيٌّ على الرجوع إلى الأعلم ، والتزام الأصح في كل باب، والرجوع إلى الأشهر في كل فن.
15- مراعاة الصحابة لجانب الاستصحاب والاحتياط معاً عند تقرير الأحكام.


16- مباحثة الصحابة لمسائل الفقه مباحثة مذاكرة ومحاورة ومناصحة لا مباحثة جدل ومغالبة.

17- تفريق الصحابة بين مسائل الاجتهاد ومسائل الخلاف؛ ومعاملة الأولى بالتوسعة والاعتذار والثانية بالحزم والإنكار.

18-لم يحرص الصحابة على بحث المسائل النادرة الوقوع أو أغلوطات المسائل وغريبها.

19-لم يستنبط الصحابة مسائل أصول الدين إلا من أدلة القرآن والسنة.

20- منهج الصحابة وسط بين الجمود على ظواهر النصوص وبين سلب المعاني والمقاصد من اللفظ؛ ومراعاتهم للفظ في موضعه، واعتبار المعنى الصحيح في جميع الأحوال.
21- وهي الجامعة لكل ما تقدم؛ فقد قال ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد (5/594): «وبهذا يعرف قدر فهم الصحابة -رضي الله عنهم- وأنّ مَن بعدهم إنما يكون غاية اجتهاده أن يفهم ما فهموه ويعرف ما قالوه».
اللهم ارزقنا حبهم واتباع منهجهم والتقيّد بفهمهم.