من أدب الحوار

محمد رشيد العويد





ما أحوج كثيرا من الناس إلى تعلم آداب الحوار، حتى ينجحوا في تحقيق ما يريدونه من حوارهم، ويحافظوا على استمراره، ويختصروا أوقاتا تضيع حين يتحول الحوار جدالا عقيما.


وخير من نتعلم منه آداب الحوار، كما نتعلم منه كل شيء، إنما هو أسوتنا " صلى الله عليه وسلم" ، إذ نجد آدابا عظيمة، جميلة، في كثير من محاوراته التي تزخر بها سيرته " صلى الله عليه وسلم" .


وأختار اليوم ما دار بينه " صلى الله عليه وسلم" وبين عتبة ابن ربيعة، سيد من سادات مكة، حين جاءه يعرض عليه أمورا، فقال: يابن أخي، إنك منا حيث علمت من السلطة - المكانة - في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا لعلك تقبل بعضها، فقال النبي " صلى الله عليه وسلم" : قل يا أبا الوليد أسمع.


وأرجو أن نقف هنا نتأمل كيف وجه عتبة أربع تهم عظيمة للنبي " صلى الله عليه وسلم" هي: أنه " صلى الله عليه وسلم" فرق قومه، وسفه عقولهم، وعاب آلهتهم، وكفر آباءهم، فلم يرد " صلى الله عليه وسلم" على أي واحدة من هذه التهم، ولم يفندها ولم يعترض عليها، لأنه لا يحمل هم نفسه، ولا يريد أن يضيع الوقت في تفنيدها، والانشغال بها، فهو يحمل رسالة عظيمة هي كل همه.


لم يقل " صلى الله عليه وسلم" : قبل أن أسمع منك أريد أن أبين لك بطلان ما اتهمتني به، فأنا لم أفرق قومي بل جئتهم بما هو خير لهم، ولم أسفه عقولهم إنما سفهت عبادتهم للأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولم أعب آلهتهم إلا لأنها أصنام تحتاج إلى تحطيم.


وفي هذا توجيه للدعاة ألا ينشغلوا بالفروع، وألا يكون همهم دفاعهم عن أنفسهم، وألا يخوضوا في ما يبعدهم عن أساس دعوتهم.


وللأسف فإن كثيرا ممن يحسبون أنفسهم محاورين إنما هم مجادلون، ينساقون إلى ما يخرجهم عن حقيقة الحوار وآدابه، وعن دعوتهم وغاياتها.


ثم نلاحظ أدب النبي " صلى الله عليه وسلم" في خطاب عتبة إذ قـال: يا أبا الوليد، فخاطبه بكنيته، ولم يخاطبه باسمه، وهذا ما يحسن بالمحاور أن يقوم به فيقدر من يحاوره، ولا ينال من شخصه، ولا ينقص من قدره. ولقد تكرر خطابه " صلى الله عليه وسلم" بأبي الوليد مرة أخرى كما سنجد في بقية الحوار.


قال عتبة يعرض أموره: يابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيـه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه.


وهنا أيضا نجد النبي " صلى الله عليه وسلم" لا يناقشه في عروضه، ولا ينشغل بالرد عليها ورفضها، إنما يكتفي بأن يسأله إن كان قد انتهى من كلامه «أقد فرغت يا أبا الوليد»؟ قال: نعم. قال " صلى الله عليه وسلم" : «فاسمع مني»: قـال عتبة: أفعل. فتلا " صلى الله عليه وسلم" سورة فصلت، أي أنه " صلى الله عليه وسلم" اكتفى بكلام الله تعالى يتلوه عليه، فهو الذي يريد تبليغه للناس، هو الرسالة التي لا يمكن أن يتركها " صلى الله عليه وسلم" ، إنه لا يدعو لنفعه، ولا يريد شيئا مما عرضه عليه، حتى إنه لم يلتفت " صلى الله عليه وسلم" إليه، ولم يقف عنده، ولم يكترث به، ولم يحاوره حوله. إنها الرسالة الخاتمة، النبأ العظيم.


هكذا ينبغي أن يكون الدعاة، لا يلتفتون إلى شيء سوى إبلاغ رسالة الله تعالى، «بلغوا عني ولو آية» (البخاري). {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (المائدة:92)، {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} (المائدة:99)، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} (الرعد:40)، {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (النحل:35)، {فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (النحل:82)، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (النور:54 والعنكبوت:18)، {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (يس:17)، {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} (الشورى:48)، {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (التغابن:12).


ومما نتعلمه مما سبق:


- حرص المحاور على حسن الخطاب، فلا يخاطب صاحبه الآخر بألفاظ تفتقد الاحترام والتقدير، مثل «أنت»، «يا فهيم»، ذكر اسمه دون كنيته، بل يحرص على مخاطبته بما يؤكد تقديره له واحترامه لشخصه؛ ولعل أفضل خطاب هو بكنيته.


- عدم الانشغال بالتفاصيل، والأشياء الصغيرة، بل يركز على جوهر الموضوع، ويصبر على هذا، فلا يستجر إلى الفروع والهوامش.


- الانتصار للحق وليس للنفس، وخاصة الداعية الذي يبتغي رضا ربه، ونصرة دعوته، ولا يبتغي مجدا شخصيا، ولا انتصارا لنفسه.


- الحذر الشديد من تحول الحوار إلى جدال، وذلك بالحرص على العمل بالأمور الثلاثة السابقة.