مفردة (مثل) في القرآن الكريم،
دراسة تطبيقية لعلم الوجوه والنظائر
د. يوسف مرزوق الضاوي (*)
ملخص البحث:
يتناول هذا البحث نوعا من أنواع علوم القرآن، وهو: علم الوجوه والنظائر، فيلقي الضوء على هذا العلم، ويتناول أهم الجوانب المتعلقة به، من حيث التعريف لغة واصطلاحا، والأصل في هذا العلم، واهتمام السلف به، ونشأته، وأهميته، وأهم مصادره، وأهم المؤلفات فيه، ويتناول العلاقة بينه وبين علم التفسير وعلم اللغة، ودراسة مفردة (مثل) من الجانب اللغوي " لبيان الأصل الجامع لمعاني هذه المفردة، ومن الجانب الموضوعي، وهو يتناول ورودها في القرآن الكريم، ودراسة الأوجه التي وردت فيها هذه المفردة، من خلال كتب الوجوه والنظائر، وكتب التفسير.
المقدمة:
الحمد لله الذي أنزل القرآن، وجعله تذكرة للمؤمنين في كل زمان ومكان، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا تنقضي عجائبه، ولا تنتهي بركاته، ويرفع الله به من شاء من عباده، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وأسوة المؤمنين، نبينا الأمين، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، أما بعد:
فإن أشرف العلوم التي ينبغي لطالب العلم أن يشتغل بها هو: علم كتاب الله تعالى، وما كان متصلا به، لان قيمة أي علم وأهميته إنما تقاس بأهمية المعلوم، والغرض من تعلمه، وبمقدار حاجة العباد إلى ذلك العلم وضرورتهم إليه، ومن كم كان علم القرآن من أجل علوم الشريعة وأرفعها قدرا، إذ هو أشرف العلوم موضوعا وغرضا وحاجة إليه، لان موضوعه كلام الله تعالى الذي هو ينبوع كل حكمة، ومعدن كل فضيلة؛ ولأن الغرض منه هو الاعتصام بالعروة الوثقى والوصول إلى السعادة الحقيقية، (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه: 123-124).
ومن العلوم المتصلة بالقرآن الكريم: علم شريف، اعتنى به العلماء منذ بزوغ فجر الإسلام، وهو علم الوجوه والنظائر في كتاب الله تعالى، اعتنى به سلف الأمة أيما عناية، وتحلى بعدهم بأجمل زينة، فجاء العلماء الذين من بعدهم وصنفوا فيه المؤلفات المتعددة، وجمعوا مادته من اللغة والتفسير، مقدمين خدمة تليق بهذا الكتاب العزيز.
وفي هذا البحث -بمشيئة الله تعالى -سأتكلم عن هذا العلم: علم الوجوه والنظائر، متناولا فيه أهم الجوانب التي تعزف به، مع دراسة تفصيلية لمفردة (مثل) كنموذج لهذا العلم الواسع.
سائلا الله عز وجل أن يوفقني فيه للصواب، وأن ينفع به، إنه الهادي إلى سواء السبيل.
هدف الدراسة: تسليط الضوء على مصدر مهم من مصادر تفسير القرآن الكريم، وطريقة لا يستغني عنها المفسر لبيان معنى اللفظ في سياقه، وإيضاح المعاني والوجوه الواردة لكلمة (مثل) في القرآن الكريم.
موضوع البحث: تركز محور البحث على دراسة مفردة (مثل) من الناحية اللغوية، والتفسيرية، مع إعطاء لمحة عن علم الوجوه والنظائر.
منهج البحث: سلكت في هذا البحث منهج الاستقراء والتحليل، فقد تتبعت مواضع ورود المفردة في الكتاب العزيز، ثم انتقيت ما يتعلق بموضوع البحث، وقارنته بما كتبه أصحاب الوجوه والنظائر، وأهل التفسير واللغة.
خطة البحث: وقد اعتمدت في ذلك على تقسيم البحث إلى مقدمة، وتمهيد، وفصلين، وخاتمة.
المقدمة: وفيها بيان موضوع البحث وأهميته، وهدفه، وخطة البحث.
التمهيد: وفيه بيان أهمية موضوع الدراسة وبيان نشأته.
الفصل الأول: وهو يتناول الجانب اللغوي، وتحته المباحث التالية:
المبحث الأول: الأصل اللغوي لمفردة (مثل).
المبحث الثاني: الوجوه والنظائر، معناها، وعلاقتها بالتفسير.
الفصل الثاني: ويتناول الجانب الموضوعي للدراسة وتحته مبحثان:
المبحث الأول: بعض الاشتقاقات الواردة في القرآن الكريم لمفردة (مثل).
المبحث الثاني: الوجوه الواردة في القرآن الكريم لمفردة (مثل).
التمهيد:
لا ريب أن الله تعالى أرسل كل رسول بلسان قومه؛ ليبين لهم الرسالة، ويوضخ لهم الحجة؛ وليفهموا خطاب الله لهم ومراده منهم، فيؤمنون به ويصدقونه، ولو كان الخطاب بغير لغتهم لشق عليهم الفهم والإدراك، واحتاجوا إلى ترجمان يبين لهم المراد، وجريا على سنة الله في ذلك، بعث الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بلسان قومه، وأنزل عليه الكتاب العزيز بلساني عربي مبين، فكان القرآن الكريم أفصح الكلام وأبلغه، وأعزه وأمنعه، ومن هنا كانت لغة العرب أهم المصادر وأوثقها في علم التفسير، والعلم بها شرط من شروط المفسر، والأخذ بها والاعتماد عليها من أصول التفسير المعتبرة عند العلماء.
قال ابن فارس ([1]): (إن العلم بلغة العرب واجب على كل متعلق من العلم بالقرآن والسنة والفتيا بسبب، حتى لا غناء بأحد منهم عنه، وذلك أن القرآن نازل بلغة العرب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عربي، فمن أراد معرفة ما في كتاب الله جل وعزوما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلمة غريبة أو نظم عجيب لم يجد من العلم باللغة بدأ) ([2])
وإن من أهم جوانب اللغة التي تتعلق بالتفسير: معرفة دلالات الكلام، أي معاني الألفاظ التي يدور عليها كثير من علم التفسير، فبها يعرف مدلول الخطاب.
ولغة العرب واسعة، ومفرداتها غنية، ومتشعبة، بسبب أن العرب كانوا يعيشون متفرقين في شبه الجزيرة العربية، ولكل بيئته الخاصة بمعارفها وثقافتها ومشاهدها، فأورث هذا الاختلاف ثراء في المفردات، وأنتج ظواهر لغوية مثل المترادفات، وهي: الألفاظ المختلفة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد. ([3])
والمشترك اللغوي وهو: اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين فأكثر، دلالة على السواء. ([4])
والمشترك اللفظي في اللغة العربية موجود ثابت، فلغتنا العربية تحوي كثيرا من الألفاظ التي تطلق على عدة معان، سواء كان بين هذه المعاني صلة أم لا، وقد صنف العلماء -قديما -كثيرا من الكتب في المشترك اللغوي مثل أبي عبيد القاسم بن سلام ([5]) (ت 224 هـ) في كتاب (الأجناس)، وكتاب المبرد ([6]) (ت 286 هـ) (ما اتفق لفظه واختلف معناه)، وغيرهما كثير.
وانتقل التصنيف في المشترك اللفظي في اللغة إلى التأليف في المشترك اللفظي في التفسير ومعاني القرآن -وهو ما يعنينا في هذا البحث -وجاء باسم جديد وهو الأشباه والنظائر، أو الوجوه والأشباه، مثل كتاب مقاتل بن سليمان ([7]) (ت 150 هـ) الأشباه والنظائر، وكتاب الوجوه والنظائر للدامغاني ([8]) (ت 478 هـ)، وكتاب نزهة الأعين النواظر لابن الجوزي ([9]) (ت 597 هـ)، وغير هذا كثير.
وبهذا يفتح باب واسع أمام الباحثين في لغة القرآن لدراسة بعض الألفاظ المشتركة الواردة في الكتاب العزيز.
وقد اخترت مفردة (مَثَل) لكثرة استعمالها في القرآن الكريم وتعدد اشتقاقاتها فعلى سبيل المثال:
وردت كلمة (مَثَل) في القرآن الكريم في خمسة وثلاثين موضعا.
و(مثلا) في اثنين وعشرين موضعا، و (مثله) في ثلاثة مواضع، و(مثلهم) في ثلاثة مواضع.
أما التصاريف الأخرى لهذه المفردة:
(مثل) (31) موضعا.
(مثلكم) (7) مواضع.
(مثله) (9) مواضع.
(مثلها) (6) مواضع.
(مثلهن، مثليها، مثليهم، مثالي، مثلات)
في موضع واحد.
هذا وقد يكون للمفردة أصل واحد تدور عليه تعريفات الكلمة في لغة العرب، وقد يكون لها أكثر من أصل.
وسأقوم بدراسة هذه المفردة الغنية من جانبين، الجانب اللغوي، وذلك لبيان الأصل الجامع لمعاني هذه المفردة، والجانب الموضوعي، وهو يتناول ورودها في القرآن الكريم، ودراسة الأوجه التي وردت فيها هذه المفردة، من خلال كتب الوجوه والنظائر، وكتب التفسير.
الفصل الأول: الجانب اللغوي
المبحث الأول: الأصل اللغوي لمفردة (مَثَل)
وأعني بذلك الأصل الجامع لمعنى اللفظ في لغة العرب، ومعرفة علاقة الوجوه الأخرى بهذا الأصل.
ذهب أكثر اللغويين إلى أن المثل: الشيء الذي يضرب مثلا فيجعل مثله ([10])، قال ابن فارس: (مثل) الميم والثاء واللام أصل صحيح يدل على ما مناظرة الشيء للشيء، وهذا مثل هذا أي: نظيره أي أن (المثل) هو الشبيه والنظير، والعرب تقول: هو مثيل هذا أي شبهه، ويقال: أمثل السلطان فلانا: قَتَلة قودا، والمعنى أنه فعل به مثل ما كان فعله.
والمثل أيضا كشبه وشبه، ويرى ابن فارس أن المثل المضروب مأخوذ من هذا المعنى؛ لأنه يذكر مورى به عن مثله في المعنى. ([11])
وفي تاج العروس المثل والمثل والمثيل: الشبة، يقال: هذا مثله ومثله، كما يقال: شبهه وشبهه.
ويأتي المثل بمعنى (الصفة)، روى الأزهري في تهذيب اللغة، قال: أخبرني المنذري عن ابن فهم عن ابن سلام قال: أخبرني عمر ابن أبي خليفة، قال: سمعت مقاتل صاحب التفسير يسأل أبا عمرو بن العلاء عن قول الله تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) (الرعد: 35) ما مثلها؟ قال: فيها أنهار من ماء غير أسن، قال: ما مثلها؟ فسكت أبو عمرو، قال: فسألت يونس عنها فقال: مثلها صفتها. ([12])
ثم شرع في تحليل هذه الرواية فقال: وأما جواب أبي عمرو لمقاتل حين سأله: ما مثلها؟ فقال: (فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ) (محمد: 15) ثم تكريره السؤال: ما مثلها؟ وسكوت أبي عمرو عنه، فإن أبا عمرو أجابه جوابا مقنعا، ولما رأى نبوة فهم مقاتل عما أجابه سكت عنه، هذا ما برر به الأزهري سكوت العالم الكبير أبي عمرو بن العلاء ([13]) عن سؤال مقاتل.
ثم أخذ يشرح جواب أبي عمرو بن العلاء ويبين سداده فقال: وذلك أن قول الله عز وجل (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) (الرعد: 35) تفسير لقول الله عز وجل (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (الحج: 14)، ففسر جل وعز تلك الأنهار فقال: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) (الرعد: 35) مما قد عرفتموه في الدنيا من جناتها وأنهارها، جنة فيها أنهار من ماء غير أسن وأنهار من كذا، ولما قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (الحج: 4 1) وصف تلك الجنات فقال (مثل الجنة) أي صفتها.([14])
وكذلك قول الله تعالى: (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الفتح: 29) أي ذلك صفة محمد، وأصحابه في التوراة ثم اعلم أن صفتهم في الإنجيل كزرع ([15])
وقال الراغب الأصفهاني ([16]) وهو يبين معنى "مَثَل" و "مِثْل" (وقد يعبر بهما عن وصف الشيء). ([17])
قال الماوردي ([18]): (ويقال لصفة الشيء: مِثْلُ ومَثَل، قال الله تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) (محمد: 15) وقرأ على ابن أبي طالب عليه السلام (أمثال الجنة). ([19])
والعرب تسمي نفس الشيء مثله، قال تعالى: (فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُ مُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة: 137) يعني فإن أمنوا بما أمنتم به، وهذا التفسير مروي عن ابن عباس قراءة حكاها عنه الطبري ([20]) وأبو عمرو الداني ([21])، ولكن ابن عطية ([22]) بين أنها على جهة التفسير وليست قراءة مروية. ([23])
ويأتي (المثل) بمعنى العبرة، ومنه قول الله تعالى: (فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ) (الزخرف: 56)، فمعنى قوله "سلفا" أي جعلناهم متقدمين يتعظ بهم من بعدهم، ومعنى قوله "مثلا" أي عبرة يعتبر بهم المتأخرون. ([24])
قال ابن قتيبة ([25]): سلفا: قوما تقدموا، ومثلا: عبرة. ([26]) أي أنه جعلهم متقدمين يتعظ ويعتبر بهم المتأخرون.
ويأتي "المثل" بمعنى القول السائر وهو القول الذي اشتهر وتناقلته الألسن، وتمثل الناس به.
والقول السائر: هو الذي يشبه مضربه بمورده، ويراد بمضرب المثل: الحالات والمواقف المتجددة التي يمكن أن يستعمل فيها المثل لما بينها وبين مورد المثل من التشابه، ([27]) قال المبرد: المثل هو قول سائر يشبه به حال الثاني بالأول، والأصل فيه التشبيه، ([28]) وهو مأخوذ من التمثل أي الإنشاد.
قال جرير ([29]): والتغلبي إذا تنحنح للقرى حك استه وتمثل الأمثالا ([30])
ويعرفه الراغب الأصفهاني بقوله: (المثل: عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء أخر، بينهما مشابهة؛ ليبين أحدهما الآخر ويصوره). ([31])
وحقيقة المثل: ما جعل كالعلم للتشبيه بحال الأول، كقول كعب بن زهير:
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا وما مواعيدها إلا الأباطيل.
فمواعيد عرقوب علم لكل ما لا يصح من المواعيد. ([32])
ويطلق لفظ (المثل) بمعنى المثال، وهو النموذج الذي يحذى عليه ([33]) وهو مأخوذ من المثول، مثل فثولا، أي قام منتصبا، ومثل بين يديه فثولا أي انتصب قائما، ومنه قيل لمنارة المسرجة ماثلة ([34])، والمثل: ما جعل مثالا أي مقدارا يحذى عليه والجمع المثل وثلاثة أمثلة ([35])، قال الراغب: والمثال: مقابلة الشيء بشيء هو نظيره، أو وضع شيء ما ليحتذي به فيما يفعل. ([36])
ولهذا المعنى استعمالات واسعة في اللغة العربية، مثل: أن يوضع شخص ما قدوة في شأن خاص لكونه مرضى السيرة فيه أو اشتهر به، فيقال عمر قتل في العدل، وأيوب عليه السلام مثل في الصبر، وفرعون مثل في الطغيان والاستكبار، ويستخدم أيضا لفظ "مثل" بمعنى "المثال" حينما يستشهد به لإيضاح قضية أو قاعدة معينة أو فكرة ما، ومن ذلك: الشواهد اللغوية كقولنا: الكلام: لفظ مفيد، مثل: محمد رسول الله، أو مثل ذلك: محمد رسول الله أو مثاله: محمد رسول الله، وفي لسان العرب: (المثل ما جعل مثالا أي مقدارا لغيره يحذى عليه... ومنه: أمثلة الأفعال والأسماء في باب التصريف)، ([37]) وورد هذا الاستخدام في القرآن الكريم، كقوله تعالى: (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) (الفرقان: 33) قال ابن كثير ([38]): "ولا يأتونك بمثل" أي بحجة وشبهة "إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا" أي ولا يقولون قولا يعارضون به الحق إلا أجبناهم بما هو الحق في نفس الأمر وأبين وأوضح وأفصح من مقالتهم. ([39])
فالمثل هنا هو الشاهد والحجة التي تورد لتدل على صحة الدعوى، وهي باعتبار موردها تعتبر شاهد وحجة، أما في واقع الحال فقد تكون حجة صحيحة وقد تكون شبهة باطلة.
ويأتي (المِثَال) بمعنى المماثلة كالجدال والمجادلة، والقتال والمقاتلة، ومعناه: الشبه ومنه: قول البحتري ([40]): مثالك من طيف الخليل المعاود آلم بنا من أفقه المتباعد. ([41])
المبحث الثاني: الوجوه والنظائر، معناها وعلاقتها بالتفسير
1-التعريف اللغوي:
الوجوه: جمع وجه، والوجه في اللغة له عدة معان، منها: وجه الإنسان، والجهة، ومنها: نفس الشيء، تقول: وجه الرأي، أي: هو الرأي نفسه. ([42])
والوجه: مستقبل كل شيء قال ابن فارس: والواو والجيم والهاء: أصل واحد يدل على مقابلة لشيء، والوجه: مستقبل لكل شيء. ([43])
قال ابن دريد ([44]) في جمهرة اللغة: وجه الكلام: السبيل التي تقصدها به. حرفت الشيء عن وجهه أي عن سننه... وكساء موجه، أي له وجهان، ويجمع وجه على أوجه ووجوه وأجوه. ([45])
فالحاصل أنه من دلالات الوجه في اللغة العربية: الدلالة على التعدد في المعنى، أو الخروج باللفظ عن سننه المعتاد إلى معان أخرى يحتملها، وهذه الدلالة كما تكون في المعاني تكون في الأمور المحسوسة كما أشار ابن دريد إلى الكساء الموجه، أي: له وجهان، ولعل هذا هو أصل التسمية.
والنظائر في اللغة: جمع نظيرة وهي المثل والشبة في الكلام، والأشياء كلها. ([46])
قال ابن دريد: فلان نظير فلان أي مثله، والجمع نظراء. ([47])
وقال الزبيدي ([48]): النظير كأمير، والمناظر: المثيل والشبيه في كل شيء، يقال: فلان نظيرك، أي مثلك، لأنه إذا نظر إليهما الناظر رآهما سواء. ([49])
2-الوجوه والنظائر في الاصطلاح:
المقصود بالوجوه والنظائر: أن تكون الكلمة الواحدة ذكرت في مواضع من القرآن على لفظ واحد، وهي النظائر، بمعنى الكلمات المتشابهة.
وأريد بكل موضع معنى غير الآخر، وهذه هي الوجوه أي: المعاني المختلفة للفظ الواحد. ([50])
والحقيقة أن ثمة خلافا في تحرير هذا المصطلح: (الوجوه والنظائر). ([51])
ولكن عند النظر في كتاب مقاتل بن سليمان البلخي (ت 150 هـ) وهو أول من ألف في هذا الفن مصنفا مستقلا، وجميع من كتب بعده في هذا العلم عول عليه، واستفاد منه، فيصح لنا الاحتكام إليه في تحرير هذا المصطلح العلمي، وهذا مثال مما كتب مقاتل بن سليمان في كتابه (الوجوه والنظائر) يوضح لنا مراده من هذا المصطلح.
قال مقاتل: تفسير "الحسنى" على ثلاثة أوجه:
فوجه منها: الحسنى يعني: الجنة، فذلك قوله في يونس: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) (يونس: 26)، يعني: الذين وحدوا لهم الحسنى يعني الجنة، "وزيادة" يعني: النظر إلى وجه الله.
ونظيرها في النجم حيث يقول: (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (النجم: 31)، يعني: بالجنة، وكقوله في الرحمن: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) (الرحمن: 60)، يقول: هل جزاء أهل التوحيد إلا الجنة. ([52])
والوجه الثاني: الحسنى: أي البنون، فذلك قول الله تعالى في النحل: (لَهُمُ الْحُسْنَى) والوجه الثالث: الحسنى، يعني: الخير، فذلك قوله تعالى في براءة: (إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى) (التوبة: 107)، يقول: ما أردنا ببناء المسجد إلا الخير، ونظيرها في النساء: (إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا) (النساء: 62)، يعني: الخير. ([53])
نلاحظ في هذا المثال أن مقاتل بن سليمان أورد للفظ "الحسنى" ثلاثة معاني مختلفة وسماها " الوجوه " ثم جاء بما يشبهها من الآيات في المعنى وسماها "النظائر" واكتفى باتفاقها في المادة وإن لم تتفق في التصريف الاشتقاقي، مثل: الحسنى والإحسان.
وعلى هذا يتحرر مصطلح الوجوه والنظائر كالآتي: -
الوجوه: المعاني المختلفة للفظة الواحدة بحسب مواضعها من القرآن.
والنظائر: ما ورد في القرآن من مواضع متعددة للوجه الواحد، التي اتفق فيها معنى اللفظ فتكون الآية نظيرة للآية الأخرى، والجمع نظائر.
قال الزركشي ([54]) تحت عنوان: (في جمع الوجوه والنظائر): فالوجوه: اللفظ المشترك الذي يستعمل في عدة معان كلفظ "الأمة"، والنظائر: كالألفاظ المتواطئة. ([55])
3-الكتابة في علم الوجوه والنظائر:
كتب العلماء في هذا الفن -وهو علم الوجوه والنظائر -منذ زمن مبكر، حيث نسبه ابن الجوزي إلى عكرمة ([56]) عن ابن عباس، وإلى علي بن أبي طلحة ([57]) عن ابن عباس، إلى مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ)، وإلى العباس بن الفضل الأنصاري (ت 186 هـ) وغيرهم رحمهم الله جميعا ([58])، فعلى هذا يكون بدء التصنيف فيه من القرن الأول والثاني الهجريين.
وسبق ابن الجوزي في ذلك الإمام إسماعيل بن أحمد الضرير النيسابوري الحيرى ([59]) في مقدمة كتاب (وجوه القرآن) حيث قال: (ذكرت في هذا الكتاب وجوه القرآن والسابق لهذا التصنيف عبد الله بن عباس رضي الله عنه ثم مقاتل ثم الكلبي). ([60])
وما وصل إلينا من المؤلفات في علم الوجوه والنظائر:
كتاب الوجوه والنظائر، لمقاتل بن سليمان بن بشر البلخي (ت 150 هـ).
كتاب وجوه القرآن لهارون بن موسى (ت نحو 170 هـ).
كتاب التصاريف، ليحيى بن سلام البصري (ت 200 هـ).
كتاب: ما اتفقت ألفاظه ومعانيه في القرآن الكريم، لأبي العباس محمد بن يزيد الأزدي المعروف بالمبرد (ت 285 هـ).
وجوه القرآن، لابي عبد الرحمن إسماعيل بن أحمد الحيري النيسابوري (ت 421 هـ).
الوجوه والنظائر، الحسين بن محمد الدامغاني (ت 478 هـ).
نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر، لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (ت 597 هـ).
4-أهمية هذا العلم وعلاقته بالتفسير:
يعد علم الوجوه والنظائر من علوم القرآن الكريم المستقلة التي أفردت بالتصنيف، قال الزركشي: (النوع الرابع: في جمع الوجوه والنظائر، وقد صنف فيه قديما مقاتل ابن سليمان، وجمع فيه من المتأخرين: ابن الزاغوني، وأبو الفرج بن الجوزي، والدامغاني الواعظ، وأبو الحسين بن فارس وسمي كتابه الأفراد). ([61])
لأنه علم يبحث في معاني ألفاظ القرآن وتعددها، ويستفاد منه معرفة الغالب من استعمال اللفظ في القرآن الكريم. ([62])
وهكذا عده الزركشي والسيوطي من أنواع علوم القرآن ([63]) فهو من العلوم الهامة التي لا غنى للمفسر عنها؛ حتى يفهم مراد الله في كتابه، وهذا يبين لنا مدى اهتمام العلماء به وكثرة المؤلفات فيه كما أسلفنا.
وقد جعل بعضهم ذلك من أنواع معجزات القرآن، حيث كانت الكلمة الواحدة تصرف إلى عشرين وجها أو كثر أو أقل، ولا يوجد ذلك في كلام البشر. ([64])
ولما يدل على أهمية هذا العلم -علم وجوه القرآن -وأصالته وقدم نشأته ما أخرجه مقاتل بن سليمان في كتاب الأشباه والنظائر بسنده مرفوعا بلفظ (لا يكون الرجل فقيها كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة). ([65])
وهو إن لم يصح مرفوعا بهذا السند فقد صح موقوفا على أبي الدرداء رضي الله عنه بلفظ: (لا تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوها كثيرة) أخرجه عبد الرزاق الصنعاني ([66]) من حديث معمر بن راشد عن أبي أيوب السخيتاني عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وهذا الإسناد رجاله كلهم أئمة كبار، ويشهد للأثر السابق: ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه حينما أرسل ابن عباس إلى الخوارج قال: (اذهب إليهم فخاصمهم، ولا تحاجهم في القرآن؛ فإنه ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسنة). ([67])
وعلى هذا نستطيع القول بأن الصحابة رضي الله عنهم اهتموا بوجوه القرآن واعتنوا ببيان معانيه، فقد روي عنهم وجوه متعددة في تفسير الآية الواحدة.
وتظهر علاقة هذا العلم بالتفسير مباشرة، حيث إن له أثرا كبيرا في تفسير المفردات والألفاظ القرآنية، فقد يأتي اللفظ في موضع من السياق، فيختار المفسر من الوجوه ما يتلائم مع السياق القرآني، وما يعضده الدليل والقرينة، وهذا ظاهر في صنيع كثير ممن ألفوا في شرح الألفاظ القرآنية، مثل الراغب الأصفهاني، حيث يقول عنه الزركشي: أنه يتصيد المعاني القرآنية من السياق؛ ولا يقتصر على الأصل اللغوي فقط.
قال الزركشي: (... وهذا يعنى به الراغب كثيرا من كتابه المفردات، فيذكر قيدا زائدا على أهل اللغة في تفسير مدلول اللفظ، لأنه اقتنصه من السياق). ([68])
وقال حينما تحدث عن كتب الغريب: (ومن أحسنها: كتاب المفردات للراغب، وهو يتصيد المعاني من السياق، لان مدلولات الألفاظ خاصة). ([69])
وهذه الميزة التي عند الراغب هي مشابهة لما يكتبه علماء الوجوه والنظائر تماما.
والعلاقة بين معاني الألفاظ والسياق القرآني علاقة وثيقة، فالسياق له دخل كبير في وضوح المعنى، والوجوه لا ينكشف معناها، ولا يتضح مفهومها إلا في ضوء السياق القرآني.
ولهذا تتبع العلماء الوجوه القرآنية ونظائرها لإيضاح معناها وتيسير فهمها للقارئ وكان ذلك من أعظم الأسباب في تأليف كتب الوجوه والنظائر. ([70])
الفصل الثاني
الدراسة الموضوعية لمفردة (مَثَل) في القرآن الكريم
المبحث الأول: الاشتقاقات الواردة في القرآن الكريم لمفردة (مَثَل)
وردت عدة اشتقاقات مفردة "مثل" في القرآن الكريم، وهي تدور حول المعنى الجامع لهذه الكلمة، وهو الأصل اللغوي للمفردة بمعنى الشبيه والنظير، وأغلب الاشتقاقات يكون فيها معنى المشابهة والمناظرة.
قال أبو هلال العسكري ([71]): أصل "المثل": التماثل بين الشيئين... كقولك: هذا مثل الشيء ومَثَله، كما تقول: شبهه وشبهه. ([72])
1-صيغة الجمع "الأمثال":
قال تعالى: (فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النحل: 74)
قال الزجاج ([73]): أي لا تجعلوا لله مثلا، لأنه واحد لا مثل له جل وعز ([74])، وقال الطبري: "فلا تضربوا لله الأمثال" يقول: فلا تمثلوا لله الأمثال، ولا تشبهوا لله الأشباه، فإنه لا مثل له ولا شبه، ([75]) فالأمثال هنا جمع مثل وهو الشبيه والنظير.
وقوله تعالى: (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (إبراهيم: 25)
قال ابن جرير الطبري: (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ) يقول: ويمثل الله الأمثال للناس، ويشبه لهم الأشباه (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) يقول: ليتذكروا حجة الله عليهم. ([76]) لان في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني. ([77])
وقوله تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (العنكبوت: 43) قال البغوي ([78]): (الأمثال: الأشباه، والمثل: كلام سائر يتضمن تشبيه الآخر بالأول، يريد أمثال القرآن التي شبه بها أحوال كفار هذه الأمة بأحوال كفار الأمم المتقدمة). ([79])
2-أمثالكم:
قال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (الأنعام: 38) قال ابن عاشور ([80]): فمعنى "أمثالكم" المماثلة في الحياة الحيوانية وفي اختصاصها بنظامها. ([81])
وقال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الأعراف: 194) والمماثلة هنا من حيث إنها مملوكة مسخرة، ([82]) قال القرطبي ([83]): وسميت الأوثان "عباد" لأنها مملوكة لله مسخرة، ([84]) فالعبد أصله المملوك والله له ملك السموات والأرض وما فيهن. ([85])
3-المثلات:
قال تعالى: (وَيَسْتَعْجِلُو نَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ) (الرعد: 6) جاء في تهذيب اللغة: العرب تقول للعقوبة: مثلة ومثلة، فمن قال: مثلة جمعها على (مثلات)، ([86]) ويوضح ابن فارس المأخذ اللغوي لها من حيث الأصل فيقول: (المثلات) أي العقوبات التي تزجر عن مثل ما وقعت لأجله، وواحدها مثلة كسمرة وصدقة، ويحتمل أنها التي تنزل بالإنسان فتجعل مثالا ينزجر به ويرتدع غيره. ([87])
قال ابن قتيبة: وأصل المثلة: الشبه والنظير، وما يعتبر به. ([88])
يتبع