​الأدب والمدرسة



د. المصطفى البوسعيدي




تكمن قيمة تدريس الأدب في كونه وسيلة للاتصال والتواصل والإبلاغ بين الأفراد والمجتمعات والأمم، فقراءة الأدب أداة تكسب صاحبها المعارف والعلوم، وأداة من أدوات المجتمع للربط بين أفراده وأقوامه البشرية للتعارف بين شعوبها مهما تفرقت أوطانهم وبين أجيالها مهما تباعدت أزمانهم (1).


فمنذ أن بدأ الإنسان يقرأ ويكتب، بدأ العلم ينمو. ونماء العلم وسعته يكون بالقراءة، وسيظل الأمر كذلك (2). وتكمن أهمية القراءة في حمولتها الدينية، خصوصا أن أول فعل رباني أوصى بفعل القراءة. ومادام تدريس الأدب إحدى الركائز الأساسية التي تقوم اليوم بهذه الوظيفة، فإنه - أي تدريس الأدب - يعاني من عدة إكراهات تحول دون القيام بوظيفته الأساسية. إلى درجة أن نظرة العامة تجعل من الأدب مجرد مضيعة للوقت، مع العلم أنه - الأدب - أساس كل إصلاح للحياة وللنفس (3). في هذا الصدد، تأتي هذه الورقة لتجيب عن بعض التساؤلات التي تمس تدريس الأدب بالمدرسة، كما تحاول أن تعرض لبعض إكراهات وعوائق الأدب، من دون نسيان التطرق إلى وظيفته الحقة، خصوصا في علاقته بالحياة.


يبدو الأدب في نظر عامة الناس من دون أي صلة بحياة الإنسان اليومية، كما يبدو مجرد خطاب تافه لا يرجى من ورائه أي نفع مباشر ومادي. لذلك تبدو الحاجة ماسة إلى إبراز طبيعة العلاقة بين الأدب المدرسي والحياة (4).


ما علاقة الأدب بالحياة؟ لاسيما أن الأدب يبدو مجرد أفكار ونصوص في غالب الأحيان هي متعالية على انفعالات الناس وعلى أوضاعهم وهمومهم؟


إن غالبية الناس يرتبطون ارتباطا وثيقا بحاجاتهم الضرورية. وكل ما يحقق لهم رغد العيش، كما يرتبطون بالواقع المباشر بشكل يجعلهم لا يعترفون إلا بما يلامسونه ويتعاملون معه حسيا. ولعل ذلك ما يفسر إقبالهم على الصنائع والحرف والمهن والعلوم التطبيقية، وكل ما له نفع مادي مضمون أو مباشر. كما يفسر في آن واحد نفور الإنسان من الأدب واعتباره فكرا غامضا أو تلاعبا بالأفكار والألفاظ، ومن ثمة مضيعة للوقت لا غير.


ولإبراز أهمية الأدب في الحياة، لابد من تحويل التساؤل السابق إلى محاولة إبراز وظائف الأدب. وقبله تشخيص واقع القراءة بالمدرسة وتحديد نظرة المجتمع إلى هذه القراءة.


عزوف القراء عن الأدب



يصعب التكهن بوضع تحديد دقيق وشامل لأهم الأسباب الحقيقية والكامنة وراء عزوف القراء عن الأدب، لأن الظاهرة يتداخل فيها الاقتصادي بالسياسي بالسيكولوجي، إلا أن هذا الأمر لا يمنعنا من استحضار بعض من هذه الأسباب الحقيقية، وما أصبح يعيشه الأدب ودارس الأدب.


وسائل الإعلام



فكثرة القنوات الفضائية اليوم وبرامجها تغذي ثقافات وفنونا تبتعد عن الأدب أو تدريس الأدب. وإذا كانت وزارة التربية والتعليم قد قدمت لقرائها مشروعا تثقيفيا عبر إنشاء الإدارات والمؤسسات الأدبية، فإنها قد بخلت عليهم بعدم توفير أولويات اقتصادية، مع قلة التشجيع والتحفيز لأهل الأدب، مما يشكل عاملا محبطا للإنتاج الفكري بصفة عامة.


دور المجتمع



إذ نجد غيابا شبه تام لتشجيع الناشئة على قراءة الأدب، بل غالبية الناس لهم رؤية سوداوية عن الأدب وآفاق الآداب، كما أن مدرسي الأدب أنفسهم يفتقدون رؤى واسعة حول أهميته في الحياة، مما يحرم المقبلين عليه من أي تشويق للمطالعة والرغبة والاهتمام. أما دور الجامعات في تدريس الأدب، فهو يفتقر إلى قنوات تصريف وتوظيف هذه الكفاءات، بل يكاد ينعدم وجود أي صلة بسوق الشغل. كما نجد أكثر المعيقات التدريسية مجسدة في النظام التعليمي الابتدائي والثانوي (5)، إذ إن المتحكمين في وضع البرامج التعليمية لا يراعون مسألة الجودة الأدبية بقدر ما يراهنون على جعل المدرسة قنوات لتصريف إيديولوجيات لتصورات سائدة، والتدريس وفق رؤى ضيقة تفتقد هامش الحرية والإبداع وتنمية الملكات الفطرية، وتضخم المقرر الدراسي بالكم الهائل للكتب، من دون مراعاة كيفية تدريس هذا الكم، وإثقال الكاهل بكثرة الكتب والمطبوعات من دون مراعاة المناخ التعليمي الملائم.


وظائف الأدب



يمكن التمييز في وظائف الأدب بين وظيفتين، عمل جل المتتبعين للشأن المعرفي منذ الأزل على إبرازهما (6).


< وظيفة اجتماعية:



يعمل الأدب منذ نشأته على التفكير في الإنسان، ويجعل منه محور اهتماماته. فقد عملت الفلسفات الأدبية، على سبيل المثال، منذ عصر اليونان - في إرهاصاتها الأولية - على تحليل طبيعة الإنسان، وفهم سلوكه مع تنظيم تفكيره. وقد أبرز الأدب منذ القدم ما ينبغي امتلاكه من أسلحة عقلية وجسدية لولوج الطبيعة، وفهم قوانينها وتسخير ظواهرها لمصلحته. وفي هذا الإطار تبرز عدة نظريات نذكر منها: المجتمع والجريمة، والأدب والحياة، كما دققت العلوم الإنسانية والفلسفة نظرة الإنسان إلى ذاته حينما عملت على رد الاعتبار لهذا الكائن عبر تحليل بعض الظواهر التي تمس بكرامته وسلامته ووجوده. كما هي الحال عند ميشيل فوكو الذي طرح في أحد مؤلفاته histoire de la folies مسألة الجريمة، وحاول أن يبرز دوافعها وعلاقاتها، فخصص جزءا منها لدراسة ظاهرة الحمق، واعتبر ذلك انهزاما للمجتمع.


< وظيفة معرفية:



يمكن تقسيم هذه الوظيفة إلى قسمين، إذ يعمل الأدب من جهة على تزويد الإنسان بالمعارف والمعلومات وأفكار الناس عبر الزمان والمكان، فهو يمثل الجسر الرابط بين الحضارات، ويفتح إلى اللانهاية إمكانية هذا التفاعل مع الآخرين، فهو يثرينا ويزودنا بإحساسات لا تعوض تجعل العالم الحقيقي أشحن بالمعنى وأجمل (7). ولاشك أن ذلك الرصيد سيساهم في بلورة شخصية الإنسان، وتصحيح معارفه، وتطور ثقافته، وتعميم التفكير، فباطلاع الفرد على الأدب يمكنه اكتساب أسلوب في التحليل وتقنيات في طرح التساؤلات والإشكاليات وكيفية معالجتها، وفهم الحوار والتعامل، ثم انعكاس ذلك على الشخصية واكتساب الاستقلال والقدرة على الإقناع، ونبذ العنف، لأن الأدب يؤمن بأن العنف هو أسلوب من لا يملك منهجا في التفكير والحوار.


كيف يكون الأدب فاعلا؟



يشكل الأدب بكل فنونه وفروعه، وبخاصة الأدب التعليمي، نافذة حرية للرأي والمعرفة والتعليم والتعلم، كما يمثل قنوات مختلفة للبوح والكشف لكثير من الظواهر الاجتماعية. إننا لا نستطيع ترسيخ أسلوب تعليمي إلا عبر منح الأدب قيمته المطلقة، تلك القيمة التي تعبر عن المحيط، وتجعل من القيم بذرة أولى في نواة الأسرة، حيث تزرعه داخل أبنائها، وبأساليب تربيتنا لهم لتعلو في دواخلهم شجرة للوعي البناء والناجح، خصوصا عندما ننمي في دواخلهم روابط الوعي الأمتن للإصلاح، الذي يبتعد عن التقليد والجمود الفكري. ولعل خطرا يواجه الأدب اليوم بين دفتي حجران المؤسسات يكاد يكون شيئا ثانويا لا فائدة منه سوى صرف الأموال بلا طائل من ذلك (8).


والأدب الفاعل لا يكون موجها إلا عندما يتنفس بتجربة مسؤولة، وأن يشكل الهاجس الرئيسي المخلص، ولابد كذلك له أن يستند إلى قاعدة صلبة تتلقى النقل من دون أن تميد، وهذه القاعدة ينبغي أن تتشكل لدى الخاصة المسؤولة بوعي الأدب، وتدبير رابطتهم الجغرافية (9).


إن ما نمارسه وندرسه في بعض الدروس - إن لم نقل جلها - باسم الأدب لا يعدو أن يكون أدبا بمفهومه الحقيقي، إذ لا نمارسه وفق الإبداع الفردي، ولا نتقبله في بعده الاجتماعي الحقيقي، وكثيرا ما يخلط فيه بين إبداء حرية الرأي، وغياب الذوق وسوء تدريسه، ومنه فلا يمكن أن نجعل من الأدب موجها حقيقيا مادام تدريسه ينهض على الاعتباطية، كما لا يمكن تصحيح أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية والتربوية إلا بتصحيح نظرتنا إلى الأدب، مادمنا لا نفرق بين النقد الشخصي والنقد الموضوعي، مع العلم أن الأدب هو منبع هذه التفرقة.


رهانات الأدب



إن الأدب يجعل من الإنسان مركز اهتماماته، ويعمل على طرح الإشكاليات المرتبطة به وبواقعه الاجتماعي، غير أن واقع الأدب يتغير كما تتغير التحديات والمشاكل التي تعترض الإنسان. وذلك ما يدفعنا إلى تفحص قيمة الأدب.


لقد عرف المجتمع الإنساني، خصوصا منذ بداية العصر الحديث، تقلبات شكلت في رمتها ما اصطلح على تسميته بعصر النهضة أو الثورة، وقد مست مخلفات هذا التغيير مختلف جوانب الحياة اليومية للإنسان، كالمجال الاجتماعي، والاقتصادي، والنفسي، والسيكولوجي. (10).


إننا لا نجادل في أهمية التطور الذي عرفته حياة البشرية، وما حققته العلوم التطبيقية الحديثة من منافع ساهمت في تسهيل حياة الإنسان، وتذليل الصعوبات التي كان يعاني منها، ومن ذلك اختراع الطاقة وما يرتبط بها وبكل أنواعها. والتقدم الحاصل في مجال الطب. وفي تقلص حدة الأوبئة وانتشارها، فضلا عن تطور وسائل التنقل والاتصال، إلى درجة أن أحد مخترعي الإنترنت قال: «إننا سنجعل من العالم قرية صغيرة».


إن هذه الإنجازات بقدر ما تبعث على الانبهار والتقدير، بقدر ما تخفي وراء إيجابياتها سلبيات ومخاطر تهدد استقراريته وإنسانيته، كالتقدم الحاصل في الأسلحة، ودخول الناس في دوامة الصراع والتسابق نحو الاستهلاك، حتى أصبح مقياس قيمة كل إنسان بما يملكه من المصنوعات والمنتجات، وليس ما هو عليه من قدرات عقلية أو ثقافية أو فكر خاص. ومن ثم، انحطت قيمة الإنسان، ولم يعد غاية كما أراده الأدب، بل أصبح أداة لتحقيق المنافع وترويج البضائع والأفكار التي تنتجها مؤسسات معينة من أجل ترسيخ قناعات تحقق منافع خاصة.


يهدف الأدب، إذن، بوصفه فكرا محايدا ومستقلا وشموليا، إلى صيانة كرامة الإنسان، والتعامل معه غاية وقيمة، وليس وسيلة وأداة. ولتحقيق ذلك يتجه التفكير الأدبي إلى إيقاظ وعي الإنسان لتخليصه من أوهامه ومن الأفكار التي تصنع من أجل أغراض معينة وعابرة، فتشوه حقيقته وتزيد الإنسان ابتعادا عن الواقع. فالأدب يعمل على مساعدة الإنسان على فهم واقعه وذاته حتى تكون طموحاته مطابقة لإمكاناته، وحتى يتمكن من فهم وتحديد موقعه داخل دوامة الصراع الاجتماعي والثقافي والسياسي (11). كما يعمل الأدب على نقد العلوم من أجل توجيهها نحو خدمة الصالح العام، أي الإنسان بغض النظر عن انتماءاته العرقية أو العنصرية وإمكاناته الطبيعية.


خاتمة



هكذا يتبين أن السؤال: ما الأدب؟ سؤال مستمر، لأن الأدب ليس له وصف نهائي وقار. بل يتلون بتلون المشاكل التي يفرزها المجتمع الإنساني. ولأنه فكر يصدر من الإنسان ولأجل الإنسان، فهو وعي العالم. والعالم بلا أدب، لا يفكر إلا في المنافع التي قد يجنيها عمله، فلا يتنبه إلى هذه المخاطر التي تصاحب ذلك.



إن الأدب من خلال هذه الوظائف وغيرها، يبقى وثيق الصلة بحياة الإنسان، مادام هذا الإنسان يفكر، فإن الأدب يمكنه من تنظيم هذا التفكير وعقلنته، كما يساعده على فهم واقعه الاجتماعي والطبقي من أجل بناء علاقات بناءة داخل المجتمع، والحفاظ على الطبيعة، إذ إنه - أي الإنسان - أخطر مكوناتها.


الهوامش



1- كتاب القراءة أولا، لمحمد عدنان سالم،ص:42.


2- الجسر والهاوية.. سيرة شعرية، محمد بن طلحة، ص:5، نهاية التاريخ وبداية الشعر.


3- يمكن العودة إلى كتاب إدانة الأدب، لعبدالرحيم جيران.


4- انظر كتاب الأدب والمؤسسة، لسعيد يقطين، نحو ممارسة أبية جديدة.


5- انظر كتاب المعرفة والمدرسة، آليات النقل والتبسط، محمد حمود، منشورات صدى التضامن.


6- الأدب وفنونه، عزالدين إسماعيل، ص:24-25.


7- الأدب في خطر، تزيفتان تودروف، ترجمة عبدالكبير الشرقاوي، ص:7.


8- المجلة العربية، بتصرف 79.


9- نفسه، ص79.


10- يمكن العودة لكتاب اقرأ وربك الأكرم، لجودة سعيد، ص:32-33.


11- يمكن العودة لكتاب جينالوجيا المعرفة، لميشيل فوكو.