على البيض والأرز عند العرب : الكتابة الميكروسكوبية
د. عمرو عبدالعزيز منير

تزخر متاحف العالم بأعداد لا حصر لها من الكتابات المتناهية الصغر، التي بلغت درجة عالية من الجودة والإتقان، ساهمت بدور كبير في تتبع مراحل تطور الفن الكتابي، الذي ساهم فيه الخطاطون العرب بخدمات جليلة عندما ابتكروا الأقلام الدقيقة التي مكنتهم من تصغير الكتابة إلى حد أثار الإعجاب، حيث كانوا يكتبون على الحبوب وعلى الخواتم وغيرها، مما هيأ في ما بعد لبلورة هذا الفن؛ ليكون شكلا من أشكال حفظ المعلومات المهمة والحساسة، والذي أصبح يطلق عليه اليوم الكتابة الميكروسكوبية وقد تنبه العرب منذ قرون عديدة إلى فكرة تصغير الكتابة إلى حد لافت للانتباه، وكأنهم أرادوا أن يوضحوا للعالم أن هذا اللون من الكتابة المصغرة قد يكون هو الأنسب لإخفاء المعلومات والرسائل المهمة في مستقبل الأيام، وكأنهم تنبأوا بما سيكون في القرن العشرين، الذي شهد مولد التقارير الميكروسكوبية، التي يتم فيها تصغير صفحة كاملة في حجم الدبوس بواسطة ميكروكاميرا، بل تعدى الأمر إلى توصل العلماء إلى ما يسمى بالنقطة الميكروسكوبية، التي يمكن بواسطتها عن طريق كاميرا خاصة تصوير كتاب متوسط الحجم بأكمله في مساحة لا تزيد على المساحة التي يشغلها رأس نفرتيتي المرسومة على ورقة النقود المصرية، بحيث لا يزيد الخطاب الفردي عن حجم الدبوس.


ولكن المدهش أن العرب لم تكن لديهم أجهزة التصغير الحديثة، بل استخدموا إمكاناتهم البسيطة، وبرعوا في ذلك إلى حد يفوق الخيال، ومارسوا هذا اللون من الفن على الحبوب، والذي لم يكن لأغراض عسكرية ولا سياسية، وإنما كان عبارة عن ترف فني، القصد منه إظهار المهارة في هذا اللون من الكتابة، وهو ما يوضحه لنا المؤرخ النابه سلامة محمد البلوي في كتابه المدهش «تاريخ أمن المعلومات في الحضارة الإسلامية»، الصادر أخيرا عن دار القلم في دبي.
ولعل من أطرف الملاحظات التي أشار إليها البلوي، هي أن الإشارات التي تدل على أن العرب استخدموا هذا اللون من الفن ما أورده عبدالحي الحنبلي صاحب «شذرات الذهب في أخبار من ذهب»، من أن إسماعيل بن عبدالله الناسخ، المعروف بابن الزمكجلي (ت 788هـ - 1386م) أنه كان أعجوبة في كتابة قلم الغبار مع أنه لا يطمس واوا ولا ميما، وكان يكتب آية الكرسي على أرزة وكذا سورة الإخلاص.
ولم يكن الزمكجلي الوحيد الذي ذكرته مصادرنا الإسلامية ممن برع في هذا الفن، بل يحدثنا صاحب تاريخ الأول في من تصرف في مصر من أرباب الدول، أنه شاهد عام (996هـ - 1587م) شخصا يدعى الأميـر سليمان بن أحمد بن أزدمر، المشهور بالأخرس، الجركسي الأصل، وهو من أعيان عسكر مصر، حضر إلى محكمة منيف في مصر، وأبرز من يده حبة أرز مكتوب عليها ما قرأته وهو: «بسم الله الرحمن الرحيم» سورة العصر، وسورة الكوثر، وسورة الإخلاص، كتبه محمد سنة 992هـ. وشاهد ذلك قضاة المحكمة المذكورة وشهودها، وما من شخص منهم إلا وقرأ ذلك مرة أو مرتين. أما الراوي لهذه الحادثة فإنه قرأ ما على الأرزة ثلاث مرات، وتأمل حروفها تأملا شافيا، وشاهد جرة كل بسملة، والكافات المبسوطة واسم الكاتب والتاريخ المكتوب بالأحمر، وكتب في خصوص ذلك محضرا رقم به شهادة من شاهد ذلك ورآه منهم. إن ممارسة هذا النوع من الفن ليست بالأمر اليسير وإلا لما قدم إلى المحكمة لتثبت صحة دعواه، ولما كتب محضرا في ذلك. إن ذلك يتطلب صناعة أقلام دقيقة، خصيصا لهذه الغاية، كذلك يتطلب الأمر تحضير نوع خاص من الحبر الذي يمكن أن يكتب به على هذا النوع من الحبوب، كذلك يتطلب الأمر صبرا وأناة من المتعامل مع هذا اللون من الكتابة، وكذلك دليل على رقي العقلية الإسلامية وقدرتها على ممارسة الأمور الدقيقة التي تبهر عقل المطلع عليها.
لقد استثمر المسلمون ورعايا الدولة الإسلامية في ممارسة هذا اللون من الفن حتى مطلع القرن العشرين، رغم الظروف الصعبة التي تلت الحرب العالمية الأولى كدليل على تواصل هذه الحضارة وعدم انقطاعها وتجددها رغم كل الظروف المحيطة، فممن اشتهر في مطلع القرن العشرين بالكتابة المصغرة على الحبوب وغيرها الأستاذ القانوني حسن أفندي عبدالجواد بمصر، الذي كتب على حبة قمح ثلاث سور من القرآن من السور القصار، وممن اشتهر بذلك أيضا الخطاط اللبناني الشهير نسيب مكرم، الذي نقش على فص خاتمه من الذهب بحجم 10/9 مليمتر النشيد القومي المصري لأحمد شوقي، وعدد أبياته ستة عشر بيتا وعدد كلماته 287 كلمة، وكان نسيب قد سمع عن الأمير التنوخي أنه كتب آية الكرسي على حبة قمح مقدمة إلى متحف الجامعة الأميركية في بيروت كتب عليها قصيدة كلماتها 107، وهناك حبة أرز من رخام بحجم حبة الأرز الطبيعية كتبت عليها قصيدة للشاعر عبدالرحيم قليلات بعنوان «مصر وبنوها» من ثلاثين بيتا و287 كلمة، وحبة أرز كتب عليها قطعتين من نشيد المرسيير الفرنسي، ومن عجائب آثاره بيضة من رخام بحجم بيضة الدجاجة الطبيعية كتب برأسها الطغراء السلطانية ثم مقدمة بدا فيها اسم الشيخ نسيب ودعاء للسلطان ثم فاصلا تليه مواد الدستور العثماني باللغة التركية، ثم فاصلا تليه قصيدتان في الدستور والجيش العثماني من 59 بيتا، ثم فاصلا تليه خريطة الدولة العثمانية. وقد جمع على سطح هذه البيضة نحو عشرة آلاف كلمة عدا الطغراء والخريطة، وكذلك جاء في تحفة الخطاطين بأن قاسم عبارى (ت 1034هـ - 1624م)، وحمد مصلح الدين بن إسماعيل (1081هـ - 1670م) كانا يكتبان على الحبوب سورا من السور القصار.
وقد أهدى نسيب إلى الملك عبدالعزيز خاتما ذهبيا نقش على فصه تاريخ جلوس الإمام العادل ملك الحجاز وسلطان نجد عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود أيده الله ثم أبيات منها:

بك يا عبدالعزيز انتظمت

حالة الإسلام بين العالمين
وعلى حبك في الله لقد
جمع الله قلوب المسلمين
كذلك اشتهر في القرن العشرين محمد طاهر الكردي، فقد كتب بيتين من الشعر على حبة أرز، ورسم خريطة الجزيرة العربية، مع أسماء البلدان ووضع الألوان، رسما صغيرا بحجم طابع البريد محلاة بالذهب وقدمها هدية للملك عبدالعزيز آل سعود.
هذا، ويوجد في دار الكتب المصرية العديد من الحبوب التي تحتوي على كتابات، من بينها حبة قمح مكتوب عليها باللغة العبرية مدح سيدنا موسى - عليه السلام - للأراضي المقدسة حين دخلها بنو إسرائيل. واشتهر خطاط أفغانستان بكابول محمد داوود الحسيني بالكتابة على الحبوب، وقد كتب على بوصة مربعة 555 كلمة. من هنا، يتضح أن هذا الفن ازدهر في أجزاء عديدة من عالمنا الإسلامي حتى مطلع القرن العشرين.. في مصر ولبنان والجزيرة العربية وأفغانستان وسوريا، وهذا خير شاهد على أن العرب كانوا السابقين لهذا الفن من بين أمم الأرض، وهم الذين أعطوه شخصيته كفن من الفنون التي انفردت بها الحضارة الإسلامية.
وقد سبق العرب الفرنسيين في الكتابة على البيض، بيد أن العرب استخدموا الكتابة على البيض كترف فكري ومن أجل الزخرفة وإظهار الإبداع، أما الفرنسيون فقد استخدموا الكتابة على البيض من أجل أهداف سياسية وعسكرية. وكانت الكتابة على البيض عند الفرنسيين غير ظاهرة، بينما عند المسلمين كانت ظاهرة بارزة، فقد كان الفرنسيون يغسلون بيضة طازجة بعناية فائقة ليزيلوا الغشاء الطبيعي لها ويكتبوا الرسالة على القشرة بحبر سري يمكن إظهاره بواسطة الحرارة، وعندما يمر القلم على المسام الموجودة على القشرة بحبر سري يمكن إظهاره بواسطة الحرارة، وعندما يمر الحبر على المسام الموجودة على القشرة إلى الغشاء لا يترك أثرا ملحوظا على البيضة التي توضع بين عشرات البيض.
أما العرب فقد كانوا يكتبون على البيضة بعد تفريغها، فقد كتب حسن أفندي عبدالجواد بمصر، والذي اشتهر كما تقدم بالكتابة على الحبوب وعلى البيض أيضا، على بيضة دجاجة مفرغة تاريخ محمد علي باشا وإسماعيل باشا، وكتب على بيضة مفرغة أخرى الدستور المصري، وقد نال العديد من الجوائز على ذلك. وقد اشتهر غيره في أنحاء عديدة من عالمنا العربي في هذا الفن. وهكذا نرى أن العرب سبقوا الكثير من الأمم في التنبيه إلى إمكانية التصغير ليدفعوا التفكير الإنساني في القرن العشرين إلى تطوير هذه الفكرة، فاستغل النهضة الصناعية وما توافر من أجهزة إليكترونية ليصل إلى نتائج مذهلة في فن التصغير، الذي يعتبر شريان حياة شبكات التجسس في العالم، وقد قرر أخيرا الناشر الكندي روبرت تشابلن أن يصدر نسخة مطبوعة من كتاب «تيني تيد فروم تيرن أب تاون»، وهو الكتاب الذي تم تسجيله عام 2012م في موسوعة جينيس للأرقام القياسية كأصغر كتاب في العالم، حيث تتطلب قراءته نوعية خاصة من أجهزة المايكروسكوب التقليدية، إذ تمت كتابته عبر الأشعة الأيونية المركزة على 30 صفيحة معدنية متناهية الصغر، وتم وضعها جميعها على رقاقة إلكترونية صغيرة، مع العلم أن كل الأحرف في الكتاب تم «نقشها» على سطر يبلغ حجمه 42 نانومتر (النانومتر يساوي واحدا على المليون من المليمتر).