السنوات الذهبية في حياة المرأة


تهاني الشروني



كان المقال السابق خطابا موجها إلى الأم لترعى ابتنها وتتفقد أحوالها في السنوات السابقة لمراهقتها، ونتعرض الآن لمرحلة هامة من العمر يستولي على الإنسان فيها شعور إتمام رسالته، وتفرغه من مسؤولياته.. وهي سنوات تعاني أيضًا من الإهمال رغم أهميتها القصوى، فهي السنوات الذهبية في حياة المرأة إن أحسنت اغتنامها، وأدركت طبيعتها، وهي بدايات ربيع العمر.

ولهذه المرحلة خصائص، منها:
أولًا: أن أحدًا لا يستطيع أن يحسب لهذه المرحلة عددًا من السنين فهي غالبا ما تبدأ عندما تنهى الأم مسؤولياتها الأسرية، وينغمس كل فرد من أفراد أسرتها التي لطالما رعتها وانشغلت بها، ينغمس كل فرد في حياته الأسرية الخاصة به، وينفض الجميع من حولها.. كل له اهتماماته وأولوياته فهذه سنة الله في خلقه.
ثانيًا: من علامات بدء هذه المرحلة أن تتشعب الأسرة الأولى إلى أسر صغيرة، وتبدأ كل أسرة في وضع قواعدها الخاصة بها، والتي تعينها على الاستقلال والاستمرارية.. فها هو الابن تزوج وأصبح ربًا لأسرة جديدة، وعلى عاتقه من المسؤوليات ما تجعله يلهث في صراع مع الوقت لتوفير احتياجات ومطالب أسرته المادية والمعنوية والاجتماعية.
والابنة المتزوجة تعدت مرحلة الاحتياج إلى الأم، وأصبحت مسؤولة مسؤولية كاملة عن أسرتها الجديدة، التي دبت فيها الحياة وأصبح الأطفال في مراحلهم الدراسية المختلفة يحتاجون كل الوقت للعناية بهم وتفقد أحوالهم، وأصبح ما يربط الأبناء ـ الذين صاروا آباء وأمهات ـ بوالديهم مجرد زيارات خاطفة، كثيرًا ما تكون لبث همومهم والبحث عندهم عن الدعم والنصح والمؤازرة، ويظلون بحاجة حتى في هذه المرحلة إلى أن ينهلوا من عطاء الأم والأب.
وتحضرني قصة رمزية قصيرة تحكى أن طفلًا صغيرًا كان كل يوم يأتي ليلعب بجانب شجرة يحبها وتحبه، ويتعلق بأغصانها ويسعد بظلها وثمارها، ومع مرور الأيام كبر هذا الطفل ولم يعد يأتي ليلعب مع الشجرة كما كان يفعل، وحزنت الشجرة وصبرت نفسها بأنه كان يأتى على فترات متباعدة يجلس إلى جوارها، وذات يوم جاءها ولكنها رأته حزينًا، فسألته عن سبب حزنه، فأخبرها بأنه يحتاج مالا ليبدأ حياته الجديدة، فأخبرنه أن بإمكانه أن يأخذ من ثمارها ويبيعها ليحصل على المال، وكل ما طلبته منه ألا ينقطع عن زيارتها، وبالفعل أخذ الثمار وذهب وباعها وكسب وبدأ تجارته، ولكنه انشغل كثيرًا عن الشجرة، وتطاولت الأيام وهي تشتاق إلى رؤياه والإحساس به، ثم جاء مرة يستظل بظلها ولكنه كان حزينًا أيضًا، وأخبرها أنه يريد الحصول على بعض الأخشاب ليدفئ بها منزله، فأشارت عليه أن يأخذ من أغصانها، ففعل.. ولكنها ترجته ألا ينسى زيارتها، ولكن مشاغله ازدادت، ونسي زيارتها طويلا، فذبلت الشجرة، وهدها الفراق، ثم مر بها بعد حين وكان كعادته معها حزينا، وعندما استفسرت عن حزنه أخبرها أنه يريد أن يكون له مركب يبحر به ليزيد من رزقه فأشارت عليه أن يأخذ جزعها ويصنع منه مركبا ودعت له ألا يحزن.
إن هذه القصة ما هي إلا تصوير للعلاقة بين الأم وأبنائها، فهي دائما في عطاء وتفهم وتفاني، وهم – إلا من رحم ربي- لا يتوقفون إلا للأخذ وبث الأحزان، لا يتذكرونها إلا إذا كثرت الهموم، وهي كل ما ترجوه منهم أن يصلوها، وأن تراهم سعداء أقوياء مستبشرين.
وهمسة في أذن الأم: علمي أولادك أن يبروك، فأنت معطاءة حنونة، ولكن عليهم هم أيضًا أن يكونوا بارين محسنين لطفاء.. وازني بين عطفك عليهم وبين حقك في أن يدركوا تغيرات المرحلة، وواجبهم نحوك في الاحتواء وإدخال السرور عليك.
ثالثًا: هذه المرحلة غالبا ما تكون الأم فيها قادرة على العناية بنفسها بعض الشئ، فهي مرحلة تسبق مرحلة الضعف الذي يصبح الإنسان فيه غالبا محتاجًا لمن حوله، ويعود كالطفل الصغير، فاغتنمي هذه المرحلة ولا تضيعيها فيما لا ينفع، وتزودي فيها بالقرب من الله، والإكثار من ذكره، وعمل الصالحات التي قد لا يمكنك القيام بها فيما بعد من طول القيام في الصلاة، والصيام، والحج والعمرة، وصلة الأرحام، وعيادة المرضى، وحضور مجالس العلم، وغيرها من الأعمال التي تحتاج إلى قوة بدنية، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ : حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ ، وَشَبَابَكَ قَبْلَ هَرِمِكَ ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ).