تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 29 من 33 الأولىالأولى ... 192021222324252627282930313233 الأخيرةالأخيرة
النتائج 561 إلى 580 من 643

الموضوع: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

  1. #561
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله


    الحلقة (558)
    تفسير السعدى
    سورة الطور
    من الأية(17)
    الى الأية(28)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الطور

    { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ } 17 { فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ } 18 { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } 19 { مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ }20


    لما ذكر تعالى عقوبة المكذبين، ذكر نعيم المتقين، ليجمع بين الترغيب والترهيب، فتكون القلوب بين الخوف والرجاء، فقال: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ } لربهم، الذين اتقوا سخطه وعذابه، بفعل أسبابه من امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
    { فِي جَنَّاتٍ } أي: بساتين، قد اكتست رياضها من الأشجار الملتفة، والأنهار المتدفقة، والقصور المحدقة، والمنازل المزخرفة، { وَنَعِيمٍ } [وهذا] شامل لنعيم القلب والروح والبدن، { فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } أي: معجبين به، متمتعين على وجه الفرح والسرور بما أعطاهم الله من النعيم الذي لا يمكن وصفه، ولا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين، ووقاهم عذاب الجحيم، فرزقهم المحبوب، ونجاهم من المرهوب، لما فعلوا ما أحبه الله، وجانبوا ما يسخطه ويأباه.
    { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ } أي: مما تشتهيه أنفسكم، من [أصناف] المآكل والمشارب اللذيذة، { هَنِيئَاً } أي: متهنئين بتلك المآكل والمشارب على وجه الفرح والسرور والبهجة والحبور.
    { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي: نلتم ما نلتم بسبب أعمالكم الحسنة، وأقوالكم المستحسنة.
    { مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ } الاتكاء: هو الجلوس على وجه التمكن والراحة والاستقرار، والسرر: هي الأرائك المزينة بأنواع الزينة من اللباس الفاخر والفرش الزاهية.
    ووصف الله السرر بأنها مصفوفة، ليدل ذلك على كثرتها، وحسن تنظيمها، واجتماع أهلها وسرورهم، بحسن معاشرتهم، ولطف كلام بعضهم لبعض، فلما اجتمع لهم من نعيم القلب والروح والبدن ما لا يخطر بالبال، ولا يدور في الخيال، من المآكل والمشارب [اللذيذة]، والمجالس الحسنة الأنيقة، لم يبق إلا التمتع بالنساء اللاتي لا يتم سرور بدونهن، فذكر الله أن لهم من الأزواج أكمل النساء أوصافاً وخلقاً وأخلاقاً، ولهذا قال: { وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } وهن النساء اللواتي قد جمعن من جمال الصورة الظاهرة وبهاءها، ومن الأخلاق الفاضلة، ما يوجب أن يحيرن بحسنهن الناظرين، ويسلبن عقول العالمين، وتكاد الأفئدة أن تطيش شوقاً إليهن، ورغبة في وصالهن، والعِين: حسان الأعين مليحاتها، التي صفا بياضها وسوادها.

    { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُم ْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } 21 { وَأَمْدَدْنَاهُ م بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } 22 { يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } 23 { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } 24 { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } 25 { قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِيۤ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } 26 { فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ } 27 { إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ }28


    وهذا من تمام نعيم أهل الجنة، أن ألحق الله [بهم] ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان أي: الذين لحقوهم بالإيمان الصادر من آبائهم، فصارت الذرية تبعاً لهم بالإيمان، ومن باب أولى إذا تبعتهم ذريتهم بإيمانهم الصادر منهم أنفسهم، فهؤلاء المذكورون، يلحقهم الله بمنازل آبائهم في الجنة وإن لم يبلغوها، جزاءً لآبائهم، وزيادةً في ثوابهم، ومع ذلك، لا ينقص الله الآباء من أعمالهم شيئاً، ولما كان ربما توهم متوهم أن أهل النار كذلك، يلحق الله بهم أبناءهم وذريتهم، أخبر أنه ليس حكم الدارين حكماً واحداً، فإن النار دار العدل، ومن عدله تعالى أن لا يعذب أحداً إلا بذنب، ولهذا قال: { كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } أي: مرتهن بعمله، فلا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يحمل على أحد ذنب أحد. هذا اعتراض من فوائده إزالة الوهم المذكور. وقوله: { وَأَمْدَدْنَاهُ م } أي: أمددنا أهل الجنة من فضلنا الواسع ورزقنا العميم، { بِفَاكِهَةٍ } من العنب والرمان والتفاح، وأصناف الفواكه اللذيذة الزائدة على ما به يتقوتون، { وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } من كل ما طلبوه واشتهته أنفسهم، من لحم الطير وغيرها.
    { يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً } أي: تدور كاسات الرحيق والخمر عليهم، ويتعاطونها فيما بينهم، وتطوف عليهم الولدان المخلدون بأكواب وأباريق وكأسٍ { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } أي: ليس في الجنة كلام لغو، وهو الذي لا فائدة فيه ولا تأثيم، وهو الذي فيه إثم ومعصية، وإذا انتفى الأمران، ثبت الأمر الثالث، وهو أن كلامهم فيها سلام طيب طاهر، مسر للنفوس، مفرح للقلوب، يتعاشرون أحسن عشرة، ويتنادمون أطيب المنادمة، ولا يسمعون من ربهم، إلا ما يقر أعينهم، ويدل على رضاه عنهم [ومحبته لهم].
    { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ } أي: خدم شباب { كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } من حسنهم وبهائهم، يدورون عليهم بالخدمة وقضاء ما يحتاجون إليه، وهذا يدل على كثرة نعيمهم وسعته، وكمال راحتهم.
    { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } عن أمور الدنيا وأحوالها.
    { قَالُوۤاْ } في [ذكر] بيان الذي أوصلهم إلى ما هم فيه من الحبرة والسرور: { إِنَّا كُنَّا قَبْلُ } أي: في دار الدنيا { فِيۤ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } أي: خائفين وجلين، فتركنا من خوفه الذنوب، وأصلحنا لذلك العيوب.
    { فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا } بالهداية والتوفيق، { وَوَقَانَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ } أي: العذاب الحار الشديد حره.
    { إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ } أن يقينا عذاب السموم، ويوصلنا إلى النعيم، وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة أي: لم نزل نتقرب إليه بأنواع القربات، وندعوه في سائر الأوقات، { إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ } فمن برّه بنا ورحمته إيانا، أنالنا رضاه والجنة، ووقانا سخطه والنار.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #562
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله


    الحلقة (559)
    تفسير السعدى
    سورة الطور
    من الأية(29)
    الى الأية(43)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الطور
    { فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ } 29 { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } 30 { قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِي نَ } 31 { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـٰذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } 32 { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ } 33 { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } 34 { أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَالِقُونَ } 35 { أَمْ خَلَقُواْ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ } 36 { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ ٱلْمُصَيْطِرُون َ } 37 { أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } 38 { أَمْ لَهُ ٱلْبَنَاتُ وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ } 39 { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } 40 { أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } 41 { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ ٱلْمَكِيدُونَ } 42 { أَمْ لَهُمْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }43


    يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يذكر الناس، مسلمهم وكافرهم، لتقوم حجة الله على الظالمين، ويهتدي بتذكيره الموفقون، وأنه لا يبالي بقول المشركين المكذبين وأذيتهم وأقوالهم التي يصدون بها الناس عن اتباعه، مع علمهم أنه أبعد الناس عنها، ولهذا نفى عنه كل نقص رموه به، فقال: { فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } أي: مَنِّه ولطفه، { بِكَاهِنٍ } أي: له رَئِيٌّ من الجن، يأتيه بأخبار بعض الغيوب، التي يضم إليها مائة كذبة، { وَلاَ مَجْنُونٍ } فاقد للعقل، بل أنت أكمل الناس عقلاً، وأبعدهم عن الشياطين، وأعظمهم صدقاً، وأجلهم وأكملهم، وتارة { يَقُولُونَ } فيه: إنه { شَاعِرٌ } يقول الشعر، والذي جاء به شعر، والله يقول:{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ } [يس: 69]. { نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } أي: ننتظر به الموت، فسيبطل أمره، [ونستريح منه]، { قُلْ } لهم جواباً لهذا الكلام السخيف: { تَرَبَّصُواْ } أي: انتظروا بي الموت، { فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِي نَ } نتربص بكم، أن يصيبكم الله بعذاب من عنده، أو بأيدينا.
    { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـٰذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } أي: أهذا التكذيب لك، والأقوال التي قالوها؟ هل صدرت عن عقولهم وأحلامهم؟ فبئس العقول والأحلام، التي أثرت ما أثرت، وصدر منها ما صدر. فإن عقولاً جعلت أكمل الخلق عقلاً مجنوناً، وأصدق الصدق وأحق الحق كذباً وباطلاً، لَهِيَ العقول التي ينزه المجانين عنها، أم الذي حملهم على ذلك ظلمهم وطغيانهم؟ وهو الواقع، فالطغيان ليس له حد يقف عليه، فلا يستغرب من الطاغي المتجاوز الحد كل قول وفعل صدر منه. { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ } أي: تقول محمد القرآن، وقاله من تلقاء نفسه؟ { بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ } فلو آمنوا، لم يقولوا ما قالوا.
    { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } أنه تقوله، فإنكم العرب الفصحاء، والفحول البلغاء، وقد تحداكم أن تأتوا بمثله، فتصدق معارضتكم أو تقروا بصدقه، وأنكم لو اجتمعتم، أنتم والإنس والجن، لم تقدروا على معارضته والإتيان بمثله، فحينئذ أنتم بين أمرين: إما مؤمنون به، مهتدون بهديه، وإما معاندون متبعون لما علمتم من الباطل.
    { أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَالِقُونَ } وهذا استدلال عليهم، بأمر لا يمكنهم فيه إلا التسليم للحق، أو الخروج عن موجب العقل والدين، وبيان ذلك: أنهم منكرون لتوحيد الله، مكذبون لرسوله، وذلك مستلزم لإنكار أن الله خلقهم.
    وقد تقرر في العقل مع الشرع، أن الأمور لا يخلو من أحد ثلاثة أمور: إما أنهم خلقوا من غير شيء أي: لا خالق خلقهم، بل وجدوا من غير إيجاد ولا موجد، وهذا عين المحال.
    أم هم الخالقون لأنفسهم، وهذا أيضاً محال، فإنه لا يتصور أن يوجدوا أنفسهم.
    فإذا بطل [هذان] الأمران، وبان استحالتهما، تعين [القسم الثالث] أن الله الذي خلقهم، وإذا تعين ذلك، علم أن الله تعالى هو المعبود وحده، الذي لا تنبغي العبادة ولا تصلح إلا له تعالى.
    وقوله: { أَمْ خَلَقُواْ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } وهذا استفهام يدل على تقرير النفي أي: ما خلقوا السماوات والأرض، فيكونوا شركاء لله، وهذا أمر واضح جداً.
    ولكن المكذبين { لاَّ يُوقِنُونَ } أي: ليس عندهم علم تام، ويقين يوجب لهم الانتفاع بالأدلة الشرعية والعقلية.
    { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ ٱلْمُصَيْطِرُون َ } أي: أعند هؤلاء المكذبين خزائن رحمة ربك، فيعطون من يشاؤون ويمنعون من يريدون؟ أي: فلذلك حجروا على الله أن يعطي النبوة عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، وكأنهم الوكلاء المفوضون على خزائن رحمة الله، وهم أحقر وأذل من ذلك، فليس في أيديهم لأنفسهم نفع ولا ضر، ولا موت ولا حياة ولا نشور.
    { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [الزخرف: 32].
    { أَمْ هُمُ ٱلْمُصَيْطِرُون َ } أي: المتسلطون على خلق الله وملكه، بالقهر والغلبة؟ ليس الأمر كذلك، بل هم العاجزون الفقراء، { أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } أي: ألهم اطلاع على الغيب، واستماع له بين الملأ الأعلى، فيخبرون عن أمور لا يعلمها غيرهم؟ { فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم } المدعي لذلك { بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } وأنّى له ذلك؟ والله تعالى عالم الغيب والشهادة، فلا يظهر على غيبه [أحداً] إلا من ارتضى من رسول يخبره بما أراد من علمه. وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل وأعلمهم وإمامهم، وهو المخبر بما أخبر به، من توحيد الله، ووعده، ووعيده، وغير ذلك من أخباره الصادقة، والمكذبون هم أهل الجهل والضلال والغي والعناد، فأيُّ المخبرين أحق بقبول خبره؟ خصوصاً والرسول صلى الله عليه وسلم قد أقام من الأدلة والبراهين على ما أخبر به، ما يوجب أن يكون خبره عين اليقين وأكمل الصدق، وهم لم يقيموا على ما ادعوه شبهة، فضلاً عن إقامة حجة. وقوله: { أَمْ لَهُ ٱلْبَنَاتُ } كما زعمتم { وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ } فتجمعون بين المحذورين؟ جعلكم له الولد، واختياركم له أنقص الصنفين؟ فهل بعد هذا التنقص لرب العالمين غاية أو دونه نهاية؟ { أَمْ تَسْأَلُهُمْ } يا أيها الرسول { أَجْراً } على تبليغ الرسالة، { فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } ليس الأمر كذلك، بل أنت الحريص على تعليمهم، تبرعاً من غير شيء، بل تبذل لهم الأموال الجزيلة، على قبول رسالتك، والاستجابة [لأمرك و] دعوتك، وتعطي المؤلفة قلوبهم [ليتمكن العلم والإيمان من قلوبهم]. { أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } ما كانوا يعلمونه من الغيوب، فيكونون قد اطلعوا على ما لم يطلع عليه رسول الله، فعارضوه وعاندوه بما عندهم من علم الغيب؟ وقد علم أنهم الأمة الأمية، الجهال الضالون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي عنده من العلم أعظم من غيره، وأنبأه الله من علم الغيب على ما لم يُطْلِعْ عليه أحداً من الخلق، وهذا كله إلزام لهم بالطرق العقلية والنقلية على فساد قولهم، وتصوير بطلانه بأحسن الطرق وأوضحها وأسلمها من الاعتراض، وقوله: { أَمْ يُرِيدُونَ } بقدحهم فيك وفيما جئتهم به { كَيْداً } يبطلون به دينك، ويفسدون به أمرك؟ { فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ ٱلْمَكِيدُونَ } أي: كيدهم في نحورهم، ومضرته عائدة إليهم، وقد فعل الله ذلك - ولله الحمد - فلم يُبْقِ الكفار من مقدورهم من المكر شيئاً إلا فعلوه، فنصر الله نبيه ودينه عليهم، وخذلهم وانتصر منهم.

    { أَمْ لَهُمْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ } أي: ألهم إله يدعى ويرجى نفعه، ويخاف من ضره، غير الله تعالى؟ { سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } فليس له شريك في الملك، ولا شريك في الوحدانية والعبادة، وهذا هو المقصود من الكلام الذي سيق لأجله، وهو بطلان عبادة ما سوى الله وبيان فسادها بتلك الأدلة القاطعة، وأن ما عليه المشركون هو الباطل، وأن الذي ينبغي أن يعبد ويُصلى له ويسجد ويخلص له دعاء العبادة ودعاء المسألة، هو الله المألوه المعبود، كامل الأسماء والصفات، كثير النعوت الحسنة، والأفعال الجميلة، ذو الجلال والإكرام، والعزّ الذي لا يرام، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الكبير الحميد المجيد.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #563
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله


    الحلقة (560)
    تفسير السعدى
    سورة الطور
    من الأية(44)
    الى الأية(49)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الطور
    { وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } 44 { فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ } 45 { يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }46


    يقول تعالى في [ذكر] بيان أن المشركين المكذبين بالحق الواضح، قد عتوا [عن الحق] وعسوا على الباطل، وأنه لو قام على الحق كل دليل لما اتبعوه، ولخالفوه وعاندوه، { وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ سَاقِطاً } أي: لو سقط عليهم من السماء من الآيات الباهرة كسف أي: قطعٌ كبارٌ من العذاب { يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } أي: هذا سحاب متراكم على العادة أي: فلا يبالون بما رأوا من الآيات ولا يعتبرون بها، وهؤلاء لا دواء لهم إلا العذاب والنكال، ولهذا قال: { فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ } وهو يوم القيامة الذي يصيبهم [فيه] من العذاب والنكال، ما لا يقادر قدره، ولا يوصف أمره.
    { يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } أي: لا قليلاً ولا كثيراً، وإن كان في الدنيا قد يوجد منهم كيد يعيشون به زمناً قليلاً، فيوم القيامة يضمحل كيدهم، وتبطل مساعيهم، ولا ينتصرون من عذاب الله { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }.
    { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } 47 { وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } 48 { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ ٱلنُّجُومِ }49


    لما ذكر [الله] عذاب الظالمين في القيامة، أخبر أن لهم عذاباً دون عذاب يوم القيامة، وذلك شامل لعذاب الدنيا، بالقتل والسبي والإخراج من الديار، ولعذاب البرزخ والقبر، { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي: فلذلك أقاموا على ما يوجب العذاب، وشدة العقاب.
    ولما بين تعالى الحجج والبراهين على بطلان أقوال المكذبين، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يعبأ بهم شيئاً، وأن يصبر لحكم ربه القدري والشرعي بلزومه والاستقامة عليه، ووعده الله بالكفاية بقوله: { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } أي: بمرأى منا وحفظ، واعتناء بأمرك، وأمره أن يستعين على الصبر بالذكر والعبادة، فقال: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } أي: من الليل.
    ففيه الأمر بقيام الليل، أو حين تقوم إلى الصلوات الخمس، بدليل قوله: { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ ٱلنُّجُومِ } أي: آخر الليل، ويدخل فيه صلاة الفجر، والله أعلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #564
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله


    الحلقة (561)
    تفسير السعدى
    سورة النجم
    من الأية(1)
    الى الأية(18)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة النجم
    { وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ } 1 { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ } 2 { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } 3 { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } 4 { عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } 5 { ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ } 6 { وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } 7 { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ } 8 { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } 9 { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } 10 { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } 11 { أَفَتُمَارُونَه ُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ } 12 { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ } 13 { عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ } 14 { عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ } 15 { إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ } 16 { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } 17 { لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ }18


    يقسم تعالى بالنجم عند هُوِيِّه أي: سقوطه في الأفق في آخر الليل عند إدبار الليل وإقبال النهار، لأن في ذلك من آيات الله العظيمة، ما أوجب أن أقسم به، والصحيح أن النجم، اسم جنس شامل للنجوم كلها، وأقسم بالنجوم على صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي الإلهي، لأنّ في ذلك مناسبة عجيبة، فإن الله تعالى جعل النجوم زينة للسماء، فكذلك الوحي وآثاره زينة للأرض، فلولا العلم الموروث عن الأنبياء، لكان الناس في ظلمة أشد من الليل البهيم. والمقسم عليه، تنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الضلال في علمه، والغيِّ في قصده، ويلزم من ذلك أن يكون مهتدياً في علمه، هادياً، حسن القصد، ناصحاً للأمة، بعكس ما عليه أهل الضلال من فساد العلم، وفساد القصد، وقال { صَاحِبُكُمْ } لينبههم على ما يعرفونه منه، من الصدق والهداية، وأنه لا يخفى عليهم أمره، { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } أي: ليس نطقه صادراً عن هوى نفسه، { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } أي: لا يتبع إلا ما أوحى الله إليه من الهدى والتقوى، في نفسه وفي غيره. ودلّ هذا على أن السنة وحي من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى:{ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } [النساء: 113] وأنه معصوم فيما يخبر به عن الله تعالى وعن شرعه، لأن كلامه لا يصدر عن هوى، وإنما يصدر عن وحي يوحى، ثم ذكر المعلم للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو جبريل [عليه السلام]، أفضل الملائكة [الكرام] وأقواهم وأكملهم، فقال: { عَلَّمَهُ [شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ] } أي: نزل بالوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام، { شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } أي: شديد القوة الظاهرة والباطنة، قوي على تنفيذ ما أمره الله بتنفيذه، قوي على إيصال الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنعه من اختلاس الشياطين له، أو إدخالهم فيه ما ليس منه، وهذا من حفظ الله لوحيه، أن أرسله مع هذا الرسول القوي الأمين.
    { ذُو مِرَّةٍ } أي: قوة، وخلق حسن، وجمال ظاهر وباطن. { فَٱسْتَوَىٰ } جبريل عليه السلام { وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } أي: أفق السماء الذي هو أعلى من الأرض، فهو من الأرواح العلوية، التي لا تنالها الشياطين ولا يتمكنون من الوصول إليها. { ثُمَّ دَنَا } جبريل من النبي صلى الله عليه وسلم، لإيصال الوحي إليه.
    { فَتَدَلَّىٰ } عليه من الأفق الأعلى { فَكَانَ } في قربه منه { قَابَ قَوْسَيْنِ } أي: قدر قوسين، والقوس معروف، { أَوْ أَدْنَىٰ } أي: أقرب من القوسين، وهذا يدل على كمال المباشرة للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وأنه لا واسطة بينه وبين جبريل عليه السلام.
    { فَأَوْحَىٰ } الله بواسطة جبريل عليه السلام { إِلَىٰ عَبْدِهِ } محمد صلى الله عليه وسلم { مَآ أَوْحَىٰ } أي: الذي أوحاه إليه من الشرع العظيم، والنبأ المستقيم.
    { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } أي: اتفق فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم ورؤيته على الوحي الذي أوحاه الله إليه، وتواطأ عليه سمعه وقلبه وبصره، وهذا دليل على كمال الوحي الذي أوحاه الله إليه، وأنه تلقاه منه تلقياً لا شك فيه ولا شبهة ولا ريب، فلم يكذب فؤاده ما رأى بصره، ولم يشك بذلك. ويحتمل أن المراد بذلك ما رأى صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، من آيات الله العظيمة، وأنه تيقنه حقاً بقلبه ورؤيته، هذا [هو] الصحيح في تأويل الآية الكريمة، وقيل: إن المراد بذلك رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء، وتكليمه إياه، وهذا اختيار كثير من العلماء رحمهم الله، فأثبتوا بهذا رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا، ولكن الصحيح القول الأول، وأن المراد به جبريل عليه السلام، كما يدل عليه السياق، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى جبريل في صورته الأصلية [التي هو عليها] مرتين، مرة في الأفق الأعلى، تحت السماء الدنيا كما تقدم، والمرة الثانية فوق السماء السابعة ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ } أي: رأى محمد جبريل مرة أخرى، نازلاً إليه. { عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ } وهي شجرة عظيمة جداً، فوق السماء السابعة، سميت سدرة المنتهى، لأنه ينتهي إليها ما يعرج من الأرض، وينزل إليها ما ينزل من الله، من الوحي وغيره، أو لانتهاء علم الخلق إليها أي: لكونها فوق السماوات والأرض، فهي المنتهى في علوها، أو لغير ذلك، والله أعلم. فرأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل في ذلك المكان، الذي هو محل الأرواح العلوية الزاكية الجميلة، التي لا يقربها شيطان ولا غيره من الأرواح الخبيثة. عند تلك الشجرة { جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ } أي: الجنة الجامعة لكل نعيم، بحيث كانت محلاً تنتهي إليه الأماني، وترغب فيه الإرادات، وتأوي إليها الرغبات، وهذا دليل على أن الجنة في أعلى الأماكن، وفوق السماء السابعة.
    { إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ } أي: يغشاها من أمر الله، شيء عظيم لا يعلم وصفه إلا الله عز وجل.
    { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } أي: ما زاغ يمنة ولا يسرة عن مقصوده { وَمَا طَغَىٰ } أي: وما تجاوز البصر، وهذا كمال الأدب منه صلوات الله وسلامه عليه، أن قام مقاماً أقامه الله فيه، ولم يقصر عنه ولا تجاوزه ولا حاد عنه، وهذا أكمل ما يكون من الأدب العظيم، الذي فاق فيه الأولين والآخرين، فإن الإخلال يكون بأحد هذه الأمور: إما أن لا يقوم العبد بما أمر به، أو يقوم به على وجه التفريط، أو على وجه الإفراط، أو على وجه الحيدة يميناً وشمالاً، وهذه الأمور كلها منتفية عنه صلى الله عليه وسلم. { لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ } من الجنة والنار، وغير ذلك من الأمور التي رآها صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #565
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله


    الحلقة (562)
    تفسير السعدى
    سورة النجم
    من الأية(19)
    الى الأية(26)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة النجم
    { أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ } 19 { وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ } 20 { أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ } 21 { تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } 22 { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى ٱلأَنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلْهُدَىٰ } 23 { أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ } 24 { فَلِلَّهِ ٱلآخِرَةُ وٱلأُولَىٰ }25


    لما زكَّى تعالى ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، والأمر بعبادة الله وتوحيده، ذكر بطلان ما عليه المشركون من عبادة من ليس له من أوصاف الكمال شيء، ولا تنفع ولا تضر، وإنما هي أسماء فارغة عن المعنى، سمّاها المشركون هم وآباؤهم الجهّال الضّلال، ابتدعوا لها من الأسماء الباطلة التي لا تستحقها، فخدعوا بها أنفسهم وغيرهم من الضلال، فالآلهة التي بهذه الحال، لا تستحق مثقال ذرة من العبادة، وهذه الأنداد التي سموها بهذه الأسماء، زعموا أنها مشتقة من أوصاف هي متصفة بها، فسموا " اللات " من " الإله " المستحق للعبادة، و " العزى " من " العزيز " و " مناة " من " المنّان " ، إلحاداً في أسماء الله وتجرياً على الشرك به، وهذه أسماء متجردة عن المعاني، فكل من له أدنى مسكة من عقل، يعلم بطلان هذه الأوصاف فيها. { أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ } أي: أتجعلون لله البنات بزعمكم، ولكم البنون؟ { تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } أي: ظالمة جائرة، [وأيُّ ظلم أعظم من قسمة] تقتضي تفضيل العبد المخلوق على الخالق؟ [تعالى عن قولهم علواً كبيراً].
    وقوله: { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } أي: من حجة وبرهان على صحة مذهبكم، وكل أمر ما أنزل الله به من سلطان، فهو باطل فاسد، لا يتخذ ديناً، وهم - في أنفسهم - ليسوا بمتبعين لبرهان، يتيقنون به ما ذهبوا إليه، وإنما دلّهم على قولهم، الظن الفاسد، والجهل الكاسد، وما تهواه أنفسهم من الشرك، والبدع الموافقة لأهويتهم، والحال أنه لا موجب لهم يقتضي اتباعهم الظن، من فقد العلم والهدى، ولهذا قال تعالى: { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلْهُدَىٰ } أي: الذي يرشدهم في باب التوحيد والنبوة، وجميع المطالب التي يحتاج إليها العباد، فكلها قد بيّنها الله أكمل بيان وأوضحه، وأدله على المقصود، وأقام عليه من الأدلة والبراهين، ما يوجب لهم ولغيرهم اتباعه، فلم يبق لأحد عذر ولا حجة من بعد البيان والبرهان، وإذا كان ما هم عليه، غايته اتباع الظن، ونهايته الشقاء الأبدي والعذاب السرمدي، فالبقاء على هذه الحال، من أسفه السفه، وأظلم الظلم، ومع ذلك يتمنون الأماني، ويغترون بأنفسهم.
    ولهذا أنكر تعالى على من زعم أنه يحصل له ما تمنى وهو كاذب في ذلك، فقال: { أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ * فَلِلَّهِ ٱلآخِرَةُ وٱلأُولَىٰ } فيعطي منهما من يشاء، ويمنع من يشاء، فليس الأمر تابعاً لأمانيهم، ولا موافقاً لأهوائهم.
    { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ ٱللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىٰ }26


    يقول تعالى منكراً على من عبد غيره من الملائكة وغيرهم، وزعم أنها تنفعه وتشفع له عند الله يوم القيامة: { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ } من الملائكة المقربين، وكرام الملائكة، { لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً } أي: لا تفيد من دعاها وتعلق بها ورجاها، { إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ ٱللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىٰ } أي: لا بد من اجتماع الشرطين: إذنه تعالى في الشفاعة، ورضاه عن المشفوع له.
    ومن المعلوم المتقرر، أنه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجه الله، موافقاً فيه صاحبه الشريعة، فالمشركون إذاً لا نصيب لهم من شفاعة الشافعين، وقد سدوا على أنفسهم رحمة أرحم الراحمين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #566
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله


    الحلقة (563)
    تفسير السعدى
    سورة النجم
    من الأية(27)
    الى الأية(32)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة النجم
    { إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ ٱلْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ ٱلأُنْثَىٰ } 27 { وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً } 28 { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } 29 { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱهْتَدَىٰ }30


    يعني أن المشركين بالله المكذبين لرسله، الذين لا يؤمنون بالآخرة، وبسبب عدم إيمانهم بالآخرة تجرؤوا على ما تجرؤوا عليه، من الأقوال، والأفعال المحادة لله ولرسوله، من قولهم: " الملائكة بنات الله " ، فلم ينزهوا ربهم عن الولادة، ولم يكرموا الملائكة ويجلوهم عن تسميتهم إياهم إناثاً، والحال أنه ليس لهم بذلك علم، لا عن الله، ولا عن رسوله، ولا دلّت على ذلك الفطر والعقول، بل العلم كله دال على نقيض قولهم، وأن الله منزه عن الأولاد والصاحبة، لأنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأن الملائكة كرام مقربون إلى الله، قائمون بخدمته{ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6] والمشركون إنما يتبعون في ذلك القول القبيح، وهو الظن الذي لا يُغني من الحق شيئاً، فإن الحق لا بد فيه من اليقين المستفاد من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة. ولما كان هذا دأب هؤلاء المذكورين أنهم لا غرض لهم في اتباع الحق، وإنما غرضهم ومقصودهم، ما تهواه نفوسهم، أمر الله رسوله بالإعراض عمن تولى عن ذكره، الذي هو الذكر الحكيم، والقرآن العظيم، والنبأ الكريم، فأعرض عن العلوم النافعة، ولم يرد إلا الحياة الدنيا، فهذا منتهى إرادته، ومن المعلوم أن العبد لا يعمل إلا للشيء الذي يريده، فسعيهم مقصور على الدنيا ولذاتها وشهواتها، كيف حصلت حصَّلوها، وبأي: طريق سنحت ابتدروها، { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ } أي: هذا منتهى علمهم وغايته، وأما المؤمنون بالآخرة، المصدقون بها، أولو الألباب والعقول، فهمتهم وإرادتهم للدار الآخرة، وعلومهم أفضل العلوم وأجلها، وهو العلم المأخوذ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، ممن لا يستحق ذلك فيكله إلى نفسه، ويخذله، فيضل عن سبيل الله، ولهذا قال تعالى: { لْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱهْتَدَىٰ } فيضع فضله حيث يعلم المحل اللائق به.
    { وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى } 31 { ٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ إِلاَّ ٱللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ }32


    يخبر تعالى أنه مالك الملك، المتفرد بملك الدنيا والآخرة، وأن جميع من في السماوات والأرض ملك لله، يتصرف فيهم تصرف الملك العظيم، في عبيده ومماليكه، ينفذ فيهم قدره، ويجري عليهم شرعه، ويأمرهم وينهاهم، ويجزيهم على ما أمرهم به ونهاهم [عنه]، فيثيب المطيع، ويعاقب العاصي، ليجزي الذين أساؤوا العمل السيئات من الكفر فما دونه بما عملوا من أعمال الشر بالعقوبة البليغة. { وَيِجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } في عبادة الله تعالى، وأحسنوا إلى خلق الله، بأنواع المنافع { بِٱلْحُسْنَى } أي: بالحالة الحسنة في الدنيا والآخرة، وأكبر ذلك وأجله رضا ربهم، والفوز بنعيم الجنة.
    ثم ذكر وصفهم فقال: { ٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ } أي: يفعلون ما أمرهم الله به من الواجبات، التي يكون تركها من كبائر الذنوب، ويتركون المحرمات الكبار، كالزنا، وشرب الخمر، وأكل الربا، والقتل، ونحو ذلك من الذنوب العظيمة، { إِلاَّ ٱللَّمَمَ } وهي الذنوب الصغار، التي لا يصر صاحبها عليها، أو التي يلم بها العبد، المرة بعد المرة، على وجه الندرة والقلة، فهذه ليس مجرد الإقدام عليها مخرجاً للعبد من أن يكون من المحسنين، فإن هذه مع الإتيان بالواجبات وترك المحرمات، تدخل تحت مغفرة الله التي وسعت كل شيء، ولهذا قال: { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ } فلولا مغفرته لهلكت البلاد والعباد، ولولا عفوه وحلمه لسقطت السماء على الأرض، ولما ترك على ظهرها من دابة. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:
    " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن، ما اجتنبت الكبائر " ، [وقوله:] { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } أي: هو تعالى أعلم بأحوالكم كلها، وما جبلكم عليه، من الضعف والخور، عن كثير مما أمركم الله به، ومن كثرة الدواعي إلى بعض المحرمات، وكثرة الجواذب إليها، وعدم الموانع القوية، والضعف موجود مشاهد منكم حين أنشاكم الله من الأرض، وإذ كنتم في بطون أمهاتكم، ولم يزل موجوداً فيكم، وإن كان الله تعالى قد أوجد فيكم قوة على ما أمركم به، ولكن الضعف لم يزل، فلعلمه تعالى بأحوالكم هذه، ناسبت الحكمة الإلهية والجود الرباني، أن يتغمدكم برحمته ومغفرته وعفوه، ويغمركم بإحسانه، ويزيل عنكم الجرائم والمآثم، خصوصاً إذا كان العبد مقصوده مرضاة ربه في جميع الأوقات، وسعيه فيما يقرب إليه في أكثر الآنات، وفراره من الذنوب التي يتمقت بها عند مولاه، ثم تقع منه الفلتة بعد الفلتة، فإن الله تعالى أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، أرحم بعباده من الوالدة بولدها، فلا بدّ لمثل هذا أن يكون من مغفرة ربه قريباً، وأن يكون الله له في جميع أحواله مجيباً، ولهذا قال تعالى: { فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ } أي: تخبرون الناس بطهارتها على وجه التمدح. { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ } [فإن التقوى، محلها القلب، والله هو المطلع عليه، المجازي على ما فيه من برّ وتقوى، وأما الناس، فلا يغنون عنكم من الله شيئاً].


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #567
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله


    الحلقة (564)
    تفسير السعدى
    سورة النجم
    من الأية(33)
    الى الأية(62)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة النجم
    { أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي تَوَلَّىٰ } 33 { وَأَعْطَىٰ قَلِيلاً وَأَكْدَىٰ } 34 { أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ } 35 { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ } 36 { وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ } 37 { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } 38 { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } 39 { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ } 40 { ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ } 41 { وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ } 42 { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ } 43 { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } 44 { وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } 45 { مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ } 46 { وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُخْرَىٰ } 47 { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ } 48 { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ } 49 { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ } 50 { وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَىٰ } 51 { وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ } 52 { وَٱلْمُؤْتَفِكَ ةَ أَهْوَىٰ } 53 { فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ } 54 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ } 55 { هَـٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلأُوْلَىٰ } 56 { أَزِفَتِ ٱلآزِفَةُ } 57 { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ كَاشِفَةٌ } 58 { أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ } 59 { وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ } 60 { وَأَنتُمْ سَامِدُونَ } 61 { فَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ وَٱعْبُدُواْ }62


    إلى آخر السورة يقول تعالى: { أَفَرَأَيْتَ } قبح حالة من أمر بعبادة ربه وتوحيده، فتولى عن ذلك وأعرض عنه؟ فإن سمحت نفسه ببعض الشيء، القليل، فإنه لا يستمر عليه، بل يبخل ويكدى ويمنع. فإن المعروف ليس سجية له وطبيعة، بل طبعه التولِّي عن الطاعة، وعدم الثبوت على فعل المعروف، ومع هذا، فهو يزكِّي نفسه، وينزلها غير منزلتها التي أنزلها الله بها. { أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ } الغيب ويخبر به، أم هو متقول على الله، متجرئ على الجمع بين الإساءة والتزكية كما هو الواقع، لأنه قد علم أنه ليس عنده علم من الغيب، وأنه لو قُدر أنه ادّعى ذلك فالإخبارات القاطعة عن علم الغيب التي على يد النبي المعصوم، تدلّ على نقيض قوله، وذلك دليل على بطلانه. { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ } هذا المدعي { بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ * وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ } أي: قام بجميع ما ابتلاه الله به، وأمره به من الشرائع وأصول الدين وفروعه، وفي تلك الصحف أحكام كثيرة من أهمها ما ذكره الله بقوله: { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } أي: كل عامل له عمله الحسن والسيئ، فليس له من عمل غيره وسعيهم شيء، ولا يتحمل أحد عن أحدٍ ذنباً، { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ } في الآخرة فيميز حسنه من سيئه، { ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ } أي: المستكمل لجميع العمل الحسن الخالص بالحسنى، والسيئ الخالص بالسَّوأى، والمشوب بحسبه، جزاءً تقرّ بعدله وإحسانه الخليقة كلها، وتحمد الله عليه، حتى إن أهل النار ليدخلون النار، وإن قلوبهم مملوءة من حمد ربهم، والإقرار له بكمال الحكمة ومقت أنفسهم، وأنهم الذين أوصلوا أنفسهم وأوردوها شر الموارد، وقد استدل بقوله تعالى: { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } من يرى أن القُرَبَ لا يفيد إهداؤها للأحياء ولا للأموات قالوا لأن الله قال: { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } فوصول سعي غيره إليه مناف لذلك، وفي هذا الاستدلال نظر، فإن الآية إنما تدلّ على أنه ليس للإنسان إلا ما سعى بنفسه، وهذا حق لا خلاف فيه، وليس فيها ما يدل على أنه لا ينتفع بسعي غيره، إذا أهداه ذلك الغير له، كما أنه ليس للإنسان من المال إلا ما هو في ملكه وتحت يده، ولا يلزم من ذلك، أن لا يملك ما وهبه له الغير من ماله الذي يملكه. وقوله: { وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ } أي: إليه تنتهي الأمور، وإليه تصير الأشياء والخلائق بالبعث والنشور، وإلى الله المنتهى في كل حال، فإليه ينتهي العلم والحكم، والرحمة وسائر الكمالات، { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ } أي: هو الذي أوجد أسباب الضحك والبكاء، وهو الخير والشر، والفرح والسرور والهم [والحزن]، وهو سبحانه له الحكمة البالغة في ذلك، { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } أي: هو المنفرد بالإيجاد والإعدام، والذي أوجد الخلق وأمرهم ونهاهم، سيعيدهم بعد موتهم، ويجازيهم بتلك الأعمال التي عملوها في دار الدنيا، { وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ } فسر الزوجين بقوله: { ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } وهذا اسم جنس شامل لجميع الحيوانات، ناطقها وبهيمها، فهو المنفرد بخلقها، { مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ } وهذا من أعظم الأدلة على كمال قدرته وانفراده بالعزة العظيمة، حيث أوجد تلك الحيوانات، صغيرها وكبيرها من نطفة ضعيفة من ماء مهين، ثم نماها وكملها، حتى بلغت ما بلغت، ثم صار الآدمي منها إما إلى أرفع المقامات في أعلى عليين، وإما إلى أدنى الحالات في أسفل سافلين.
    ولهذا استدل بالبداءة على الإعادة، فقال: { وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُخْرَىٰ } فيعيد العباد من الأجداث، ويجمعهم ليوم الميقات، ويجازيهم على الحسنات والسيئات، { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ } أي: أغنى العباد بتيسير أمر معاشهم من التجارات وأنواع المكاسب، من الحرف وغيرها، وأقنى أي: أفاد عباده من الأموال بجميع أنواعها، ما يصيرون به مقتنين لها، ومالكين لكثير من الأعيان، وهذا من نعمه على عباده أن جميع النعم منه تعالى، وهذا يوجب للعباد أن يشكروه، ويعبدوه وحده لا شريك له، { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ } وهي النجم المعروف بالشعرى العبور، المسماة بالمرزم، وخصها الله بالذكر، وإن كان رب كل شيء، لأن هذا النجم مما عُبد في الجاهلية، فأخبر تعالى أن جنس ما يعبده المشركون مربوب مدبر مخلوق، فكيف تتخذ إلهاً مع الله. { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ } وهم قوم هود عليه السلام، حين كذبوا هوداً، فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية، { وَثَمُودَ } قوم صالح عليه السلام، أرسله الله إلى ثمود فكذبوه، فبعث الله إليهم الناقة آية، فعقروها وكذبوه، فأهلكهم الله تعالى، { فَمَآ أَبْقَىٰ } منهم أحداً، بل أهلكهم الله عن آخرهم، { وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ } من هؤلاء الأمم، فأهلكهم الله وأغرقهم في اليم، { وَٱلْمُؤْتَفِكَ ةَ } وهم قوم لوط عليه السلام { أَهْوَىٰ } أي: أصابهم الله بعذاب ما عذب به أحداً من العالمين، قلب أسفل ديارهم أعلاها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل، ولهذا قال: { فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ } أي: غشيها من العذاب الأليم الوخيم ما غشى أي: شيء عظيم لا يمكن وصفه. { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ } أي: فبأي: نعم الله وفضله تشك أيها الإنسان؟ فإن نعم الله ظاهرة لا تقبل الشك بوجه من الوجوه، فما بالعباد من نعمة إلا منه تعالى، ولا يدفع النقم إلا هو. { هَـٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلأُوْلَىٰ } أي: هذا الرسول القرشي الهاشمي محمد بن عبد الله، ليس ببدع من الرسل، بل قد تقدمه من الرسل السابقين، ودعوا إلى ما دعا إليه، فلأي شيء تنكر رسالته؟ وبأي حجة تبطل دعوته؟ أليست أخلاقه [أعلا] أخلاق الرسل الكرام، أليست دعوته إلى كل خير والنهي عن كل شر؟ ألم يأت بالقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد؟ ألم يهلك الله من كذب من قبله من الرسل الكرام؟ فما الذي يمنع العذاب عن المكذبين لمحمد سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغرّ المحجّلين؟ { أَزِفَتِ ٱلآزِفَةُ } أي: قربت القيامة، ودنا وقتها، وبانت علاماتها، { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ كَاشِفَةٌ } أي: إذا أتت القيامة وجاءهم العذاب الموعود به.

    ثم توعد المنكرين لرسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، المكذبين لما جاء به من القرآن الكريم، فقال: { أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ }؟ أي: أفمن هذا الحديث الذي هو خير الكلام وأفضله وأشرفه تتعجبون منه، وتجعلونه من الأمور المخالفة للعادة الخارقة للأمور [والحقائق] المعروفة؟ هذا من جهلهم وضلالهم وعنادهم، وإلا فهو الحديث الذي إذا حدث صدق، وإذا قال قولاً فهو القول الفصل الذي ليس بالهزل، وهو القرآن العظيم، الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، الذي يزيد ذوي الأحلام رأياً وعقلاً، وتسديداً وثباتاً، وإيماناً ويقيناً والذي ينبغي العجب من عقل من تعجّب منه، وسفهه وضلاله. { وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ } أي: تستعملون الضحك والاستهزاء به، مع أن الذي ينبغي أن تتأثر منه النفوس، وتلين له القلوب، وتبكي له العيون، سماعاً لأمره ونهيه، وإصغاءً لوعده ووعيده، والتفاتاً لأخباره الحسنة الصادقة { وَأَنتُمْ سَامِدُونَ } أي: غافلون عنه، لاهون عن تدبره، وهذا من قلة عقولكم وأديانكم، فلو عبدتم الله وطلبتم رضاه في جميع الأحوال لما كنتم بهذه المثابة التي يأنف منها أولو الألباب، ولهذا قال تعالى: { فَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ وَٱعْبُدُواْ } الأمر بالسجود لله خصوصاً، ليدل ذلك على فضله، وأنه سر العبادة ولبها، فإن لبها الخشوع لله والخضوع له، والسجود هو أعظم حالة يخضع بها العبد، فإنه يخضع قلبه وبدنه، ويجعل أشرف أعضائه على الأرض المهينة موضع وطء الأقدام. ثم أمر بالعبادة عموماً، الشاملة لجميع ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #568
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله


    الحلقة (565)
    تفسير السعدى
    سورة القمر
    من الأية(1)
    الى الأية(8)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة القمر
    { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } 1 { وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } 2 { وَكَذَّبُواْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } 3 { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ ٱلأَنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } 4 { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ }5


    يخبر تعالى أن الساعة وهي القيامة اقتربت وآن أوانها، وحان وقت مجيئها، ومع ذلك، فهؤلاء المكذبون لم يزالوا مكذبين بها، غير مستعدين لنزولها، ويريهم الله من الآيات العظيمة الدالة على وقوعها ما يؤمن على مثله البشر، فمن أعظم الآيات الدالة على صحة ما جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، أنه لما طلب منه المكذبون أن يريهم من خوارق العادات ما يدل على [صحة ما جاء به و] صدقه، أشار صلى الله عليه وسلم إلى القمر بإذن الله تعالى، فانشق فلقتين، فلقة على جبل أبي قبيس، وفلقة على جبل قعيقعان، والمشركون وغيرهم يشاهدون هذه الآية الكبرى الكائنة في العالم العلوي، التي لا يقدر الخلق على التمويه بها والتخييل، فشاهدوا أمراً ما رأوا مثله، بل ولم يسمعوا أنه جرى لأحد من المرسلين قبله نظيره، فانبهروا لذلك، ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، ولم يرد الله بهم خيراً، ففزعوا إلى بهتهم وطغيانهم، وقالوا: سحرنا محمد، ولكن علامة ذلك أنكم تسألون من قدم إليكم من السفر، فإنه وإن قدر على سحركم، لا يقدر أن يسحر من ليس مشاهداً مثلكم، فسألوا كل من قدم، فأخبرهم بوقوع ذلك، فقالوا: { سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } سحرنا محمد وسحر غيرنا، وهذا من البهت، الذي لا يروج إلا على أسفه الخلق وأضلهم عن الهدى والعقل، وهذا ليس إنكاراً منهم لهذه الآية وحدها، بل كل آية تأتيهم، فإنهم مستعدون لمقابلتها بالباطل والرد لها، ولهذا قال: { وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ } ولم يعد الضمير على انشقاق القمر فلم يقل: وإن يروها بل قال: { وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ } وليس قصدهم اتباع الحق والهدى، وإنما قصدهم اتباع الهوى، ولهذا قال: { وَكَذَّبُواْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ } كقوله تعالى:{ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ } [القصص: 50] فإنه لو كان قصدهم اتباع الهدى، لآمنوا قطعاً، واتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم، لأنه أراهم الله على يديه من البينات والبراهين والحجج القواطع، ما دلّ على جميع المطالب الإلهية، والمقاصد الشرعية، { وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } أي: إلى الآن، لم يبلغ الأمر غايته ومنتهاه، وسيصير الأمر إلى آخره، فالمصدق يتقلب في جنات النعيم، ومغفرة الله ورضوانه، والمكذب يتقلب في سخط الله وعذابه، خالداً مخلداً أبداً. وقال تعالى - مبيناً أنهم ليس لهم قصد صحيح، ولا اتباع للهدى -: { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ ٱلأَنبَآءِ } أي: الأخبار السابقة واللاحقة والمعجزات الظاهرة { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } أي: زاجر يزجرهم عن غيهم وضلالهم، وذلك { حِكْمَةٌ } منه تعالى { بَالِغَةٌ } أي: لتقوم حجته على المخالفين، ولا يبقى لأحد على الله حجة بعد الرسل، { فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ } كقوله تعالى:{ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } [يونس: 97].
    { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ ٱلدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ } 6 { خُشَّعاً أَبْصَٰرُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } 7 { مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ يَقُولُ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ }8


    يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: قد بان أن المكذبين لا حيلة في هداهم، فلم يبق إلا الإعراض عنهم والتولي عنهم، [فقال:] { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } وانتظر بهم يوماً عظيماً وهولاً جسيماً، وذلك حين { يَدْعُ ٱلدَّاعِ } إسرافيل عليه السلام { إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ } أي: إلى أمر فظيع تنكره الخليقة، فلم تر منظراً أفظع ولا أوجع منه، فينفخ إسرافيل نفخة، يخرج بها الأموات من قبورهم لموقف القيامة، { خُشَّعاً أَبْصَٰرُهُمْ } أي: من الهول والفزع الذي وصل إلى قلوبهم، فخضعت وذلت، وخشعت لذلك أبصارهم.
    { يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ } وهي القبور، { كَأَنَّهُمْ } من كثرتهم، وروجان بعضهم ببعض { جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } أي: مبثوث في الأرض، متكاثر جداً، { مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ } أي: مسرعين لإجابة النداء الداعي، وهذا يدل على أن الداعي يدعوهم ويأمرهم بالحضور لموقف القيامة، فيلبون دعوته، ويسرعون إلى إجابته، { يَقُولُ ٱلْكَافِرُونَ } الذين قد حضر عذابهم: { هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } كما قال تعالى
    { عَلَى ٱلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } [المدثر: 10] [مفهوم ذلك أنه يسيرٌ سهلٌ على المؤمنين].


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #569
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله


    الحلقة (566)
    تفسير السعدى
    (سورة القمر)
    من (9)الى (22)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدى
    تفسير سورة القمر

    { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ } 9 { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ } 10 { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } 11 { وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى ٱلمَآءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } 12 { وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } 13 { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ } 14 { وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } 15 { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } 16 { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }17


    لما ذكر تبارك وتعالى حال المكذبين لرسوله، وأن الآيات لا تنفع فيهم، ولا تجدي عليهم شيئاً، أنذرهم وخوَّفهم بعقوبات الأمم الماضية المكذبة للرسل، وكيف أهلكهم الله وأحلَّ بهم عقابه. فذكر قوم نوح، أول رسول بعثه الله إلى قوم يعبدون الأصنام، فدعاهم إلى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فامتنعوا من ترك الشرك وقالوا:{ وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } [نوح: 23]. ولم يزل نوح يدعوهم إلى الله ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، فلم يزدهم ذلك إلا عناداً وطغياناً، وقدحاً في نبيهم، ولهذا قال هنا: { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ } لزعمهم أن ما هم عليه وآباؤهم من الشرك والضلال هو الذي يدلّ عليه العقل، وأن ما جاء به نوح عليه الصلاة والسلام جهل وضلال، لا يصدر إلا من المجانين، وكذبوا في ذلك، وقلبوا الحقائق الثابتة شرعاً وعقلاً، فإن ما جاء به هو الحق الثابت، الذي يرشد العقول النيرة المستقيمة، إلى الهدى والنور والرشد، وما هم عليه جهل وضلال مبين، [وقوله:] { وَٱزْدُجِرَ } أي: زجره قومه وعنفوه عندما دعاهم إلى الله تعالى، فلم يكفهم - قبحهم الله - عدم الإيمان به، ولا تكذيبهم إياه، حتى أوصلوا إليه من أذيتهم ما قدروا عليه، وهكذا جميع أعداء الرسل، هذه حالهم مع أنبيائهم، فعند ذلك دعا نوح ربه [فقال:] { أَنِّي مَغْلُوبٌ } لا قدرة لي على الانتصار منهم، لأنه لم يؤمن من قومه إلا القليل النادر، ولا قدرة لهم على مقاومة قومهم، { فَٱنتَصِرْ } اللهم لي منهم، وقال في الآية الأخرى:{ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً } [نوح: 26] الآيات، فأجاب الله سؤاله، وانتصر له من قومه، قال تعالى: { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } أي: كثير جداً متتابع، { وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً } فجعلت السماء ينزل منها من الماء شيء خارق للعادة، وتفجرت الأرض كلها، حتى التنور الذي لم تجر العادة بوجود الماء فيه، فضلاً عن كونه منبعاً للماء، لأنه موضع النار. { فَالْتَقَى ٱلمَآءُ } أي: ماء السماء والأرض { عَلَىٰ أَمْرٍ } من الله له بذلك، { قَدْ قُدِرَ } أيّ: قد كتبه الله في الأزل وقضاه، عقوبة لهؤلاء الظالمين الطاغين، { وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } أي: ونجينا عبدنا نوحاً على السفينة ذات الألواح والدسر أي: المسامير [التي] قد سمرت [بها] ألواحها وشد بها أسرها، { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } أي: تجري بنوح ومن آمن معه، ومن حمله من أصناف المخلوقات برعاية من الله، وحفظ [منه] لها عن الغرق [ونظرٍ]، وكلائه منه تعالى، وهو نعم الحافظ الوكيل، { جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ } أي: فعلنا بنوح ما فعلنا من النجاة من الغرق العام، جزاء له حيث كذبه قومه وكفروا به فصبر على دعوتهم، واستمر على أمر الله، فلم يرده عنه راد، ولا صده عنه صاد، كما قال [تعالى] عنه في الآية الأخرى:
    { قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } الآية [هود: 48]. ويحتمل أن المراد: أنا أهلكنا قوم نوح، وفعلنا بهم ما فعلنا من العذاب والخزي، جزاءً لهم على كفرهم وعنادهم، وهذا متوجه على قراءة من قرأها بفتح الكاف، { وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أي: ولقد تركنا قصة نوح مع قومه آية يتذكر بها المتذكرون، على أن من عصى الرسل وعاندهم أهلكه الله بعقاب عام شديد، أو أن الضمير يعود إلى السفينة وجنسها، وأن أصل صنعتها تعليم من الله لعبده نوح عليه السلام، ثم أبقى الله تعالى صنعتها وجنسها بين الناس ليدلّ ذلك على رحمته بخلقه وعنايته، وكمال قدرته، وبديع صنعته، { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }؟ أي: فهل من متذكر للآيات، مُلقٍ ذهنه وفكرته لما يأتيه منها، فإنها في غاية البيان واليسر؟ { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } أي: فكيف رأيت أيها المخاطب عذاب الله الأليم وإنذاره الذي لا يُبْقي لأحد عليه حجة. { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أي: ولقد يسرنا وسهلنا هذا القرآن الكريم، ألفاظه للحفظ والأداء، ومعانيه للفهم والعلم، لأنه أحسن الكلام لفظاً، وأصدقه معنى، وأبينه تفسيراً، فكل من أقبل عليه يسر الله عليه مطلوبه غاية التيسير، وسهله عليه، والذكر شامل لكل ما يتذكر به العاملون من الحلال والحرام، وأحكام الأمر والنهي، وأحكام الجزاء والمواعظ والعبر، والعقائد النافعة والأخبار الصادقة، ولهذا كان علم القرآن حفظاً وتفسيراً، أسهل العلوم، وأجلّها على الإطلاق، وهو العلم النافع الذي إذا طلبه العبد أعين عليه، قال بعض السلف عند هذه الآية: هل من طالب علم فيُعان [عليه]؟ ولهذا يدعو الله عباده إلى الإقبال عليه والتذكر بقوله: { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }.
    { كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } 18 { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ } 19 { تَنزِعُ ٱلنَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } 20 { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } 21 { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }22


    " وعاد " هي القبيلة المعروفة باليمن، أرسل الله إليهم هوداً عليه السلام يدعوهم إلى توحيد الله وعبادته، فكذبوه،فأرسل الله عليهم { رِيحاً صَرْصَراً } أي: شديدة جداً، { فِي يَوْمِ نَحْسٍ } أي: شديد العذاب والشقاء عليهم، { مُّسْتَمِرٍّ } عليهم سبع ليال وثمانية أيامٍ حسوماً، { تَنزِعُ ٱلنَّاسَ } من شدتها، فترفعهم إلى جو السماء، ثم تدفعهم بالأرض فتهلكهم، فيصبحون { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } أي: كأن جثثهم بعد هلاكهم مثل جذوع النخل الخاوي الذي أصابته الريح فسقط على الأرض، فما أهون الخلق على الله إذا عصوا أمره، { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } كان [والله] العذاب الأليم، والنذارة التي ما أبقت لأحد عليه حجة، { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } كرر تعالى ذلك رحمة بعباده وعناية بهم، حيث دعاهم إلى ما يصلح دنياهم وأخراهم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #570
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (567)
    تفسير السعدى
    (سورة القمر)
    من (23)الى (40)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدى
    تفسير سورة القمر
    { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِٱلنُّذُرِ } 23 { فَقَالُوۤاْ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } 24 { أَءُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } 25 { سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ ٱلْكَذَّابُ ٱلأَشِرُ } 26 { إِنَّا مُرْسِلُواْ ٱلنَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَٱرْتَقِبْهُمْ وَٱصْطَبِرْ } 27 { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ ٱلْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ } 28 { فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ } 29 { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } 30 { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ ٱلْمُحْتَظِرِ } 31 { وَلَقَد يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }32


    أي كذبت ثمود وهم القبيلة المعروفة المشهورة في أرض الحجر، نبيهم صالحاً عليه السلام، حين دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأنذرهم العقاب إن هم خالفوه، فكذبوه واستكبروا عليه، وقالوا - كِبْراً وتيهاً -: { أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ } أي: كيف نتبع بشراً، لا ملكاً منّا، لا من غيرنا، ممن هو أكبر عند الناس منّا، ومع ذلك فهو شخص واحد { إِنَّآ إِذاً } أي: إن اتبعناه وهو بهذه الحال { لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } أي: إنا لضالون أشقياء، وهذا الكلام من ضلالهم وشقائهم، فإنهم أنفوا أن يتبعوا رسولاً من البشر، ولم يأنفوا أن يكونوا عابدين للشجر والحجر والصور { أَءُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا } أي: كيف يخصّه الله من بيننا وينزل عليه الذكر؟ فأي مزية خصّه من بيننا؟ وهذا اعتراض من المكذبين على الله، لم يزالوا يدلون به، ويصولون ويجولون ويردون به دعوة الرسل، وقد أجاب الله عن هذه الشبهة بقول الرسل لأممهم:{ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [إبراهيم: 11] فالرسل مَنَّ الله عليهم بصفات وأخلاق وكمالات، بها صلحوا لرسالات ربهم والاختصاص بوحيه، ومن رحمته وحكمته أن كانوا من البشر، فلو كانوا من الملائكة لم يمكن البشر أن يتلقوا عنهم، ولو جعلهم من الملائكة لعَاجَل الله المكذبين لهم بالعقاب العاجل. والمقصود بهذا الكلام الصادر من ثمود لنبيهم صالح، تكذيبه، ولهذا حكموا عليه بهذا الحكم الجائر، فقالوا: { بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } أي: كثير الكذب والشر، فقبحهم الله ما أسفه أحلامهم وأظلمهم، وأشدهم مقابلة للصادقين الناصحين بالخطاب الشنيع، لا جرم عاقبهم الله حين اشتد طغيانهم، فأرسل الله الناقة التي هي من أكبر النعم عليهم، آية من آيات الله، ونعمة يحتلبون من ضرعها ما يكفيهم أجمعين، { فِتْنَةً لَّهُمْ } أي: اختباراً منه لهم وامتحاناً { فَٱرْتَقِبْهُمْ وَٱصْطَبِرْ } أي: اصبر على دعوتك إياهم، وارتقب ما يحل بهم، أو ارتقب هل يؤمنون أو يكفرون؟ { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ ٱلْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ } أي: وأخبرهم أن الماء أي: موردهم الذي يستعذبونه، قسمة بينهم وبين الناقة، لها شرب يوم ولهم شرب يوم آخر معلوم، { كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ } أي: يحضره من كان قسمته، ويحظر على من ليس بقسمة له. { فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ } الذي باشر عقرها، الذي هو أشقى القبيلة { فَتَعَاطَىٰ } أي: انقاد لما أمروه به من عقرها { فَعَقَرَ } { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } كان أشد عذاب، أرسل الله عليهم صيحة ورجفة أهلكتهم عن آخرهم، ونجى الله صالحاً ومن آمن معه، { وَلَقَد يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }.

    { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِٱلنُّذُرِ } 33 { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ } 34 { نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ } 35 { وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِٱلنُّذُرِ } 36 { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ } 37 { وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ } 38 { فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ } 39 { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ }40


    أي: { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ } لوطاً عليه السلام، حين دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن الشرك والفاحشة التي ما سبقهم بها أحد من العالمين، فكذبوه واستمروا على شركهم وقبائحهم، حتى إن الملائكة الذين جاؤوه بصورة أضياف حين سمع بهم قوم لوط، جاؤوهم مسرعين، يريدون إيقاع الفاحشة فيهم، لعنهم الله وقبحهم، وراودوه عنهم، فأمر الله جبريل عليه السلام، فطمس أعينهم بجناحه، وأنذرهم نبيهم بطشة الله وعقوبته { فَتَمَارَوْاْ بِٱلنُّذُرِ } { وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ } قلب الله عليهم ديارهم، وجعل أسفلها أعلاها، وتتبعهم بحجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك للمسرفين، ونجى الله لوطاً وأهله من الكرب العظيم، جزاءً لهم على شكرهم لربهم، وعبادته وحده لا شريك له.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #571
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (568)
    تفسير السعدى
    (سورة القمر)
    من (41)الى (55)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدى
    تفسير سورة القمر
    { وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ ٱلنُّذُرُ } 41 { كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ } 42 { أَكُفَّٰرُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَٰئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي ٱلزُّبُرِ } 43 { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } 44 { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } 45 { بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ } 46 { إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } 47 { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ } 48 { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } 49 { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ } 50 { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } 51 { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ } 52 { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } 53 { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } 54 { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ }55


    أي: { وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ } أي: فرعون وقومه { ٱلنُّذُرُ } فأرسل الله إليهم موسى الكليم، وأيده بالآيات الباهرات، والمعجزات القاهرات، وأشهدهم من العبر ما لم يشهد عليه أحداً غيرهم، فكذبوا بآيات الله كلها، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فأغرقهم في اليم هو وجنوده. والمراد من ذكر هذه القصص تحذير [الناس و] المكذبين لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: { أَكُفَّٰرُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَٰئِكُمْ } أي: هؤلاء الذين كذبوا أفضل الرسل، خير من أولئك المكذبين، الذين ذكر الله هلاكهم وما جرى عليهم؟ فإن كانوا خيراً منهم، أمكن أن ينجوا من العذاب، ولم يصبهم ما أصاب أولئك الأشرار، وليس الأمر كذلك، فإنهم إن لم يكونوا شراً منهم، فليسوا بخير منهم، { أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي ٱلزُّبُرِ } أي: أم أعطاكم الله عهداً وميثاقاً في الكتب التي أنزلها على الأنبياء، فتعتقدون حينئذ أنكم الناجون بإخبار الله ووعده؟ وهذا غير واقع، بل غير ممكن عقلاً وشرعاً، أن تكتب براءتهم في الكتب الإلهية المتضمنة للعدل والحكمة، فليس من الحكمة نجاة أمثال هؤلاء المعاندين المكذبين، لأفضل الرسل وأكرمهم على الله، فلم يبق إلا أن يكون بهم قوة ينتصرون بها، فأخبر تعالى أنهم يقولون: { نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } قال تعالى مبيناً لضعفهم، وأنهم مهزومون: { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } فوقع كما أخبر، هزم الله جمعهم الأكبر يوم بدر، وقتل من صناديدهم وكبرائهم ما ذلوا به، ونصر الله دينه ونبيه وحزبه المؤمنين. ومع ذلك، فلهم موعد يجمع به أولهم وآخرهم، ومن أصيب في الدنيا منهم، ومن متع بلذاته، ولهذا قال: { بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ } الذي يحازون به، ويؤخذ منهم الحق بالقسط، { وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ } أي: أعظم وأشق، وأكبر من كل ما يتوهم، أو يدور بالبال. { إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ } أي: الذين أكثروا من فعل الجرائم، وهي الذنوب العظيمة من الشرك وغيره، من المعاصي { فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } أي: هم ضالون في الدنيا، ضُلاَّلٌ عن العلم، وضلال عن العمل، الذي ينجيهم من العذاب، ويوم القيامة في العذاب الأليم، والنار التي تتسعر بهم، وتشتعل في أجسامهم، حتى تبلغ أفئدتهم. { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ } التي هي أشرف ما بهم من الأعضاء، وألمها أشد من ألم غيرها، فيهانون بذلك ويخزون، ويقال لهم: { ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ } أي: ذوقوا ألم النار وأسفها وغيظها ولهبها. { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } وهذا شامل للمخلوقات والعوالم العلوية والسفلية، أن الله تعالى وحده خلقها لا خالق لها سواه، ولا مشارك له في خلقها، وخلقها بقضاء سبق به علمه، وجرى به قلمه، بوقتها ومقدارها، وجميع ما اشتملت عليه من الأوصاف، وذلك على الله يسير، فلهذا قال: { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ } فإذا أراد شيئاً قال له كن فيكون كما أراد، كلمح البصر، من غير ممانعة ولا صعوبة.
    { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ } من الأمم السابقين الذين عملوا كما عملتم، وكذبوا كما كذبتم { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أي: متذكر يعلم أن سنة الله في الأولين والآخرين واحدة، وأن حكمته كما اقتضت إهلاك أولئك الأشرار، فإن هؤلاء مثلهم، ولا فرق بين الفريقين. { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ } أي: كل ما فعلوه من خير وشر مكتوب عليهم في الكتب القدرية { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } أي: مسطر مكتوب، وهذا حقيقة القضاء والقدر، وأن جميع الأشياء كلها، قد علمها الله تعالى، وسطرها عنده في اللوح المحفوظ، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ } لله، بفعل أوامره وترك نواهيه، الذين اتقوا الشرك والكبائر والصغائر. { فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } أي: في جنات النعيم، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من الأشجار اليانعة، والأنهار الجارية، والقصور الرفيعة، والمنازل الأنيقة، والمآكل والمشارب اللذيذة، والحور الحسان، والروضات البهية في الجنان، ورضوان الملك الديان، والفوز بقربه، ولهذا قال: { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } فلا تسأل بعد هذا عما يعطيهم ربهم من كرامته وجوده، ويمدهم به من إحسانه ومنته، جعلنا الله منهم، ولا حرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #572
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله


    الحلقة (569)
    تفسير السعدى
    (سورة الرحمن)
    من (1)الى (13)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدى
    تفسير سورة الرحمن

    { ٱلرَّحْمَـٰنُ } 1 { عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } 2 { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ } 3 { عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } 4 { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } 5 { وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } 6 { وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ } 7 { أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ } 8 { وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ } 9 { وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } 10 { فِيهَا فَاكِهَةٌ وَٱلنَّخْلُ ذَاتُ ٱلأَكْمَامِ } 11 { وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ } 12 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }13


    هذه السورة الكريمة الجليلة، افتتحها باسمه " الرَّحْمَنُ " الدال على سعة رحمته، وعموم إحسانه، وجزيل بره، وواسع فضله، ثم ذكر ما يدل على رحمته وأثرها الذي أوصله الله إلى عباده من النعم الدينية والدنيوية [والآخروية وبعد كل جنس ونوع من نعمه، ينبه الثقلين لشكره، ويقول: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ]. فذكر أنه { عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } أي: علم عباده ألفاظه ومعانيه، ويسرها على عباده، وهذا أعظم منة ورحمة رحم بها عباده، حيث أنزل عليهم قرآناً عربياً بأحسن ألفاظ، وأحسن تفسير، مشتمل على كل خير، زاجر عن كل شر. { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ } في أحسن تقويم، كامل الأعضاء، مستوفي الأجزاء، محكم البناء، قد أتقن البديع تعالى البديع خلقه أيّ إتقان، وميّزه على سائر الحيوانات. بأن { عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } أي: التبيين عما في ضميره، وهذا شامل للتعليم النطقي والتعليم الخطي، فالبيان الذي ميز الله به الآدمي على غيره من أجلّ نعمه، وأكبرها عليه. { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } أي: خلق الله الشمس والقمر، وسخرهما يجريان بحساب مقنن، وتقدير مقدر، رحمة بالعباد، وعناية بهم، وليقوم بذلك من مصالحهم ما يقوم، وليعرف العباد عدد السنين والحساب. { وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } أي: نجوم السماء، وأشجار الأرض، تعرف ربها وتسجد له، وتطيع وتخشع، وتنقاد لما سخرها له من مصالح عباده ومنافعهم، { وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا } سقفها للمخلوقات الأرضية، ووضع الله الميزان أي: العدل بين العباد، في الأقوال والأفعال، وليس المراد به الميزان المعروف وحده، بل هو كما ذكرنا، يدخل فيه الميزان المعروف، والمكيال الذي تكال به الأشياء والمقادير، والمساحات التي تضبط بها المجهولات، والحقائق التي يفصل بها بين المخلوقات، ويقام بها العدل بينهم، ولهذا قال: { أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ } أي: أنزل الله الميزان، لئلا تتجاوزوا الحد في الميزان، فإن الأمر لو كان يرجع إلى عقولكم وآرائكم، لحصل من الخلل ما الله به عليم، ولفسدت السماوات والأرض. { وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ } أي: اجعلوه قائماً بالعدل، الذي تصل إليه مقدرتكم وإمكانكم، { وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ } أي: لا تنقصوه وتعملوا بضده، وهو الجور والظلم والطغيان، { وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا } الله على ما كانت عليه من الكثافة والاستقرار واختلاف [أوصافها و] أحوالها { لِلأَنَامِ } أي: للخلق، لكي يستقروا عليها، وتكون لهم مهاداً وفراشاً يبنون بها، ويحرثون ويغرسون ويحفرون ويسلكون سبلها فجاجاً، وينتفعون بمعادنها وجميع ما فيها، مما تدعو إليه حاجتهم، بل ضرورتهم. ثم ذكر ما فيها من الأقوات الضرورية، فقال: { فِيهَا فَاكِهَةٌ } وهي جميع الأشجار التي تثمر الثمرات التي يتفكه بها العباد، من العنب والتين والرمان والتفاح، وغير ذلك، { وَٱلنَّخْلُ ذَاتُ ٱلأَكْمَامِ } أي: ذات الوعاء الذي ينفلق عن القنوان التي تخرج شيئاً فشيئاً حتى تتم، فتكون قوتاً يؤكل ويدخر، يتزود منه المقيم والمسافر، وفاكهة لذيذة من أحسن الفواكه، { وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ } أي: ذو الساق الذي يداس، فينتفع بتبنه للأنعام وغيرها، ويدخل في ذلك حب البر والشعير والذرة [والأرز] والدخن، وغير ذلك، { وَٱلرَّيْحَانُ } يحتمل أن المراد بذلك جميع الأرزاق التي يأكلها الآدميون، فيكون هذا من باب عطف العام على الخاص، ويكون الله قد امتنّ على عباده بالقوت والرزق، عموماً وخصوصاً، ويحتمل أن المراد بالريحان، الريحان المعروف، وأن الله امتنَّ على عباده بما يسره في الأرض من أنواع الروائح الطيبة، والمشام الفاخرة، التي تسر الأرواح، وتنشرح لها النفوس.
    ولما ذكر جملة كثيرة من نعمه التي تشاهد بالأبصار والبصائر، وكان الخطاب للثقلين، الإنس والجن، قررهم تعالى بنعمه، فقال: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي: فبأي نعم الله الدينية والدنيوية تكذبان؟ وما أحسن جواب الجن حين تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة، فما مر بقوله: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } إلا قالوا ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد، فهذا الذي ينبغي للعبد إذا تليت عليه نعم الله وآلاؤه، أن يقرّ بها ويشكر، ويحمد الله عليها.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #573
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (570)
    تفسير السعدى
    (سورة الرحمن)
    من (14)الى (23)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدى
    تفسير سورة الرحمن
    { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ } 14 { وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } 15 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }16


    وهذا من نعمه تعالى على عباده، حيث أراهم [من] آثار قدرته وبديع صنعته، أن { خَلَقَ } أبا الإنس وهو آدم عليه السلام { مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ } أي: من طين مبلول، قد أحكم بله وأتقن، حتى جف، فصار له صلصلة وصوت يشبه صوت الفخار الذي طبخ على النار، { وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ } أي: أبا الجن، وهو إبليس اللعين { مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } أي: من لهب النار الصافي، أو الذي قد خالطه الدخان، وهذا يدل على شرف عنصر الآدمي المخلوق من الطين والتراب، الذي هو محل الرزانة والثقل والمنافع، بخلاف عنصر الجان وهو النار، التي هي محل الخفة والطيش والشر والفساد. ولما بين خلق الثقلين ومادة ذلك، وكان ذلك منّةً منه [تعالى] على عباده، قال: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.

    { رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ } 17 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }18


    أي: هو تعالى ربُّ كل ما أشرقت عليه الشمس والقمر، والكواكب النيرة، وكل ما غربت عليه، [وكل ما كانا فيه] فهي تحت تدبيره وربوبيته، وثناهما هنا لإرادة العموم مشرقي الشمس شتاءً وصيفاً، ومغربها كذلك.
    { مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ } 19 { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } 20 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 21 { يَخْرُجُ مِنْهُمَا ٱلُّلؤْلُؤُ وَٱلمَرْجَانُ } 22 { فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }23


    المراد بالبحرين: البحر العذب، والبحر المالح، فهما يلتقيان كلاهما، فيصب العذب في البحر المالح، ويختلطان ويمتزجان، ولكن الله تعالى جعل بينهما برزخاً من الأرض، حتى لا يبغي أحدهما على الآخر، ويحصل النفع بكل منهما، فالعذب منه يشربون وتشرب أشجارهم وزروعهم، والملح به يطيب الهواء ويتولد الحوت والسمك، واللؤلؤ والمرجان، ويكون مستقراً مسخراً للسفن والمراكب، ولهذا قال: { وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِي ٱلْبَحْرِ... }.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #574
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله


    الحلقة (571)
    تفسير السعدى
    (سورة الرحمن)
    من (24)الى (35)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدى
    تفسير سورة الرحمن
    { وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } 24 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }25


    أي: وسخر تعالى لعباده السفن الجواري، التي تمخر البحر وتشقه بإذن الله، التي ينشئها الآدميون، فتكون من كبرها وعظمها كالأعلام، وهي الجبال العظيمة، فيركبها الناس، ويحملون عليها أمتعتهم وأنواع تجاراتهم، وغير ذلك مما تدعو إليه حاجتهم وضرورتهم، وقد حفظها حافظ السماوات والأرض، وهذه من نعم الله الجليلة، فلذلك قال: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
    { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } 26 { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } 27 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }28


    أي: كل من على الأرض، من إنس وجن، ودوابّ، وسائر المخلوقات، يفنى ويموت ويبيد ويبقى الحي الذي لا يموت { ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } أي: ذو العظمة والكبرياء والمجد، الذي يعظم ويبجل ويجل لأجله، والإكرام الذي هو سعة الفضل والجود، والداعي لأن يكرم أولياءه وخواص خلقه بأنواع الإكرام، الذي يكرمه أولياؤه ويجلونه، [ويعظمونه] ويحبونه، وينيبون إليه ويعبدونه، { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.

    { يَسْأَلُهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } 29 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }30


    أي: هو الغني بذاته عن جميع مخلوقاته، وهو واسع الجود والكرم، فكل الخلق مفتقرون إليه، يسألونه جميع حوائجهم، بحالهم ومقالهم، ولا يستغنون عنه طرفة عين ولا أقل من ذلك، وهو تعالى { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } يغني فقيراً، ويجبر كسيراً، ويعطي قوماً، ويمنع آخرين، ويميت ويحيي، ويرفع ويخفض، لا يشغله شأن عن شأن، ولا تغلطه المسائل، ولا يبرمه إلحاح الملحين، ولا طول مسألة السائلين، فسبحان الكريم الوهاب، الذي عمت مواهبه أهل الأرض والسماوات، وعمّ لطفه جميع الخلق في كل الآنات واللحظات، وتعالى الذي لا يمنعه من الإعطاء معصية العاصين، ولا استغناء الفقراء الجاهلين به وبكرمه، وهذه الشؤون التي أخبر أنه تعالى كل يوم هو في شأن، هي تقاديره وتدابيره التي قدرها في الأزل وقضاها، لا يزال تعالى يمضيها وينفذها في أوقاتها التي اقتضته حكمته، وهي أحكامه الدينية التي هي الأمر والنهي، والقدرية التي يجريها على عباده مدة مقامهم في هذه الدار، حتى إذا تمت [هذه] الخليقة وأفناهم الله تعالى، وأراد تعالى أن ينفذ فيهم أحكام الجزاء، ويريهم من عدله وفضله وكثرة إحسانه، ما به يعرفونه ويوحدونه، نقل المكلفين من دار الابتلاء والامتحان إلى دار الحيوان. وفرغ حينئذ لتنفيذ هذه الأحكام، التي جاء وقتها، وهو المراد بقوله: { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ... }.
    { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ } 30 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }31


    أي: سنفرغ لحسابكم ومجازاتكم بأعمالكم التي عملتموها في دار الدنيا.
    { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ } 32 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }33


    أي: سنفرغ لحسابكم ومجازاتكم بأعمالكم التي عملتموها في دار الدنيا.
    { يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } 34 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }35


    أي: إذا جمعهم الله في موقف القيامة، أخبرهم بعجزهم وضعفهم، وكمال سلطانه، ونفوذ مشيئته وقدرته، فقال معجزاً لهم: { يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي: تجدون منفذاً مسلكاً تخرجون به عن ملك الله وسلطانه، { فَٱنفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } أي: لا تخرجون عنه إلا بقوة وتسلط منكم، وكمال قدرة، وأنّى لهم ذلك، وهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً؟! ففي ذلك الموقف لا يتكلم أحد إلا بإذنه، ولا تسمع إلا همساً، وفي ذلك الموقف يستوي الملوك والمماليك، والرؤساء والمرؤوسون، والأغنياء والفقراء.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #575
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (572)
    تفسير السعدى
    (سورة الرحمن)
    من (36)الى (46)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدى
    تفسير سورة الرحمن
    { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ } 36 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }37


    ثم ذكر ما أعد لهم في ذلك الموقف العظيم، فقال: { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ [وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي: يرسل عليكما] لهب صاف من النار.
    { وَنُحَاسٌ } وهو اللهب، الذي قد خالطه الدخان، والمعنى أن هذين الأمرين الفظيعين يرسلان عليكما يا معشر الجن والإنس، ويحيطان بكما فلا تنتصران، لا بناصر من أنفسكم، ولا بأحد ينصركم من دون الله. ولما كان تخويفه لعباده نعمة منه عليهم، وسوطاً يسوقهم به إلى أعلى المطالب وأشرف المواهب، امتنَّ عليهم، فقال: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.

    { فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَٱلدِّهَانِ } 38 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 39 { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } 40 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }41


    { فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ } [أي] يوم القيامة من شدة الأهوال، وكثرة البلبال، وترادف الأوجال، فانخسفت شمسها وقمرها، وانتثرت نجومها، { فَكَانَتْ } من شدة الخوف والانزعاج { وَرْدَةً كَٱلدِّهَانِ } أي: كانت كالمهل والرصاص المذاب ونحوه { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } أي: سؤال استعلام بما وقع، لأنه تعالى عالم الغيب والشهادة والماضي والمستقبل، ويريد أن يجازي العباد بما علمه من أحوالهم، وقد جعل لأهل الخير والشر يوم القيامة علامات يعرفون بها، كما قال تعالى:{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [آل عمران: 106].

    { يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِي وَٱلأَقْدَامِ } 42 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }43


    وقال هنا: { يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِي وَٱلأَقْدَامِ } أي: فيؤخذ بنواصي المجرمين وأقدامهم، فيلقون في النار ويسحبون فيها، وإنما يسألهم تعالى سؤال توبيخ وتقرير بما وقع منهم، وهو أعلم به منهم، ولكنه تعالى يريد أن تظهر للخلق حجته البالغة، وحكمته الجليلة.

    { هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } 44 { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } 45 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }46


    أي: يقال للمكذبين بالوعد والوعيد حين تسعر الجحيم: { هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } فليهنهم تكذيبهم بها، وليذوقوا من عذابها ونكالها وسعيرها وأغلالها، ما هو جزاء لتكذيبهم، { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا } أي: بين أطباق الجحيم ولهبها { وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } أي: ماء حار جداً قد انتهى حرّه، وزمهرير قد اشتدّ برده وقره، { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ولما ذكر ما يفعل بالمجرمين، ذكر جزاء المتقين الخائفين، فقال:


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #576
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله


    الحلقة (573)
    تفسير السعدى
    (سورة الرحمن)
    من (47)الى (79)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدى
    تفسير سورة الرحمن
    { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } 47 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 48 { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } 49 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 50 { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } 51 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 52 { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } 53 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 54 { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى ٱلْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } 55 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 56 { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } 57 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 58 { كَأَنَّهُنَّ ٱلْيَاقُوتُ وَٱلْمَرْجَانُ } 59 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 60 { هَلْ جَزَآءُ ٱلإِحْسَانِ إِلاَّ ٱلإِحْسَانُ } 61 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 62 { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } 63 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 64 { مُدْهَآمَّتَانِ } 65 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 66 { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } 67 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 68 { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } 69 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 70 { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } 71 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 72 { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي ٱلْخِيَامِ } 73 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 74 { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } 75 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 76 { مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } 77 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 78 { تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ }79


    { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } إلى آخر السورة.
    أي: وللذي خاف ربه وقيامه عليه، فترك ما نهى عنه، وفعل ما أمره به، له جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وبنيانهما وما فيهما، إحدى الجنتين جزاء على ترك المنهيات، والأخرى على فعل الطاعات، ومن أوصاف تلك الجنتين أنهما { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } [أي: فيهما من ألوان النعيم المتنوعة نعيم الظاهر والباطن ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر] أن فيهما الأشجار الكثيرة الزاهرة ذوات الغصون الناعمة، التي فيها الثمار اليانعة الكثيرة اللذيذة، أو ذواتا أنواع وأصناف من جميع أصناف النعيم وأنواعه جمع فن، أي: صنف. وفي تلك الجنتين { عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } يفجرونها على ما يريدون ويشتهون، { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ } من جميع أصناف الفواكه { زَوْجَانِ } أي: صنفان، كل صنف له لذّة ولون، ليس للنوع الآخر. { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } هذه صفة فرش أهل الجنة وجلوسهم عليها، وأنهم متكئون عليها، [أي:] جلوس تمكن واستقرار [وراحة]، كجلوس من الملوك على الأسرة، وتلك الفرش، لا يعلم وصفها وحسنها إلا الله عز وجل، حتى إن بطائنها التي تلي الأرض منها، من إستبرق، وهو أحسن الحرير وأفخره، فكيف بظواهرها التي تلي بشرتهم؟! { وَجَنَى ٱلْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } الجنى هو الثمر المستوي أي: وثمر هاتين الجنتين قريب التناول، يناله القائم والقاعد والمضطجع.
    { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ } أي: قد قصرن طرفهن على أزواجهن، من حسنهم وجمالهم، وكمال محبتهن لهم، وقصرن أيضاً طرف أزواجهن عليهن، من حسنهن وجمالهن ولذة وصالهن، { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } أي: لم ينلهن قبلهم أحد من الإنس والجن، بل هن أبكار عرب، متحببات إلى أزواجهن، بحسن التبعل والتغنج والملاحة والدلال، ولهذا قال: { كَأَنَّهُنَّ ٱلْيَاقُوتُ وَٱلْمَرْجَانُ } وذلك لصفائهن وجمال منظرهن وبهائهن، { هَلْ جَزَآءُ ٱلإِحْسَانِ إِلاَّ ٱلإِحْسَانُ } أي: هل جزاء من أحسن في عبادة الخالق ونفع عبيده، إلا أن يحسن إليه بالثواب الجزيل، والفوز الكبير، والنعيم المقيم، والعيش السليم، فهاتان الجنتان العاليتان للمقربين، { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } من فضة بنيانهما وآنيتهما وحليتهما وما فيهما لأصحاب اليمين، وتلك الجنتان { مُدْهَآمَّتَانِ } أي: سوداوان من شدة الخضرة التي هي أثر الري. { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ }. أي: فوارتان، { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ } من جميع أصناف الفواكه، وأخصها النخل والرمان، اللذان فيهما من المنافع ما فيهما، { فِيهِنَّ } أي: في الجنات كلها { خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } أي: خيرات الأخلاق حسان الأوجه، فجمعن بين جمال الظاهر والباطن، وحسن الخَلْقِ والخُلُق، { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي ٱلْخِيَامِ } أي: محبوسات في خيام اللؤلؤ، قد تهيأن وأعددن أنفسهن لأزواجهنَّ، ولا ينفي ذلك خروجهنَّ في البساتين ورياض الجنة، كما جرت العادة لبنات الملوك ونحوهنَّ [المخدرات] الخفرات، { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ } أي: أصحاب هاتين الجنتين، متكأهم على الرفرف الأخضر، وهي الفرش التي فوق المجالس العالية، التي قد زادت على مجالسهم، فصار لها رفرفة من وراء مجالسهم، لزيادة البهاء وحسن المنظر، { وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } العبقري: نسبة لكل منسوج نسجاً حسناً فاخراً، ولهذا وصفها بالحسن الشامل، لحسن الصنعة وحسن المنظر، ونعومة الملمس، وهاتان الجنتان دون الجنتين الأوليين، كما نص الله على ذلك بقوله: { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } وكما وصف الأوليين بعدة أوصاف لم يصف بها الأخريين، فقال في الأوليين: { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } وفي الأخريين: { عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } ومن المعلوم الفرق بين الجارية والنضاخة.

    وقال في الأوليين: { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } ولم يقل ذلك في الأخريين. وقال في الأوليين: { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } وفي الأخريين { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } وقد علم ما بين الوصفين من التفاوت. وقال في الأوليين: { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى ٱلْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } ولم يقل ذلك في الأخيرتين، بل قال: { مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ }. وقال في الأوليين، في وصف نسائهم وأزواجهم: { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } وقال في الأخريين: { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي ٱلْخِيَامِ } وقد علم التفاوت بين ذلك. وقال في الأوليين: { هَلْ جَزَآءُ ٱلإِحْسَانِ إِلاَّ ٱلإِحْسَانُ } فدلّ ذلك أن الأوليين جزاء المحسنين، ولم يقل ذلك في الأخريين. ومجرد تقديم الأوليين على الأخريين، يدل على فضلهما. فبهذه الأوجه يعرف فضل الأوليين على الأخريين، وأنهما معدّتان للمقربين من الأنبياء، والصديقين، وخواصّ عباد الله الصالحين، وأن الأخريين معدتان لعموم المؤمنين، وفي كل من الجنات [المذكورات] ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وفيهنّ ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وأهلها في غاية الراحة والرضا والطمأنينة وحسن المأوى، حتى إن كلاً منهم لا يرى أحداً أحسن حالاً منه، ولا أعلى من نعيمه [الذي هو فيه].
    ولما ذكر سعة فضله وإحسانه، قال: { تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } أي: تعاظم وكثر خيره، الذي له الجلال الباهر، والمجد الكامل، والإكرام لأوليائه.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #577
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله


    الحلقة (574)
    تفسير السعدى
    (سورة الواقعة)
    من (1)الى (26)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدى
    تفسير سورة الواقعة
    { إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } 1 { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } 2 { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } 3 { إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ رَجّاً } 4 { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } 5 { فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } 6 { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } 7 { فَأَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } 8 { وَأَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ } 9 { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ } 10 { أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ } 11 { فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } 12 { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ }13


    يخبر تعالى بحال الواقعة التي لا بد من وقوعها، وهي القيامة التي { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } أي: لا شك فيها، لأنها قد تظاهرت عليها الأدلة العقلية والسمعية، ودلّت عليها حكمته تعالى، { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } أي: خافضة لأناس في أسفل سافلين، رافعة لأناس في أعلى عليين، أو خفضت بصوتها فأسمعت القريب، ورفعت فأسمعت البعيد.
    { إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ رَجّاً } أي: حركت واضطربت، { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } أي: فتتت، { فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } فأصبحت الأرض ليس عليها جبل ولا معلم، قاعاً صفصفاً، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، { وَكُنتُمْ } أيها الخلق { أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } أي: انقسمتم ثلاث فرق بحسب أعمالكم الحسنة والسيئة، ثم فصل أحوال الأزواج الثلاثة، فقال: { فَأَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } تعظيم لشأنهم، وتفخيم لأحوالهم، { وَأَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ } أي: الشمال، { مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ } تهويل لحالهم.
    { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ * أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ } أي: السابقون في الدنيا إلى الخيرات، هم السابقون في الآخرة لدخول الجنات. أولئك الذين هذا وصفهم، المقربون عند الله، في جنات النعيم، في أعلى عليين، في المنازل العاليات، التي لا منزلة فوقها. وهؤلاء المذكورون { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ } أي: جماعة كثيرون من المتقدمين من هذه الأمة وغيرهم.

    { وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } 14 { عَلَىٰ سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ } 15 { مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ }16


    { وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } وهذا يدل على فضل صدر هذه الأمة في الجملة على متأخريها، لكون المقربين من الأولين أكثر من المتأخرين، والمقربون هم خواص الخلق، { عَلَىٰ سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ } أي: مرمولة بالذهب والفضة، واللؤلؤ، والجوهر، وغير ذلك من [الحلي] الزينة، التي لا يعلمها إلا الله تعالى، { مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا } أي: على تلك السرر، جلوس تمكن وطمأنينة وراحة واستقرار.
    { مُتَقَابِلِينَ } وجه كل منهم إلى وجه صاحبه، من صفاء قلوبهم، وحسن أدبهم، وتقابل قلوبهم.
    { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } 17 { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } 18 { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ } 19 { وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ } 20 { وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } 21 { وَحُورٌ عِينٌ } 22 { كَأَمْثَالِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ } 23 { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } 24 { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً } 25 { إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً }26


    { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } أي: يدور على أهل الجنة للخدمة وقضاء حوائجهم، ولدان صغار الأسنان، في غاية الحسن والبهاء،{ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } [الطور: 24] أي: مستور، لا يناله ما يغيره، مخلوقون للبقاء والخلد، لا يهرمون ولا يتغيرون، ولا يزيدون على أسنانهم، ويدورون عليهم بآنية شرابهم { بِأَكْوَابٍ } وهي التي لا عرى لها، { وَأَبَارِيقَ } الأواني التي لها عرى، { وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } أي: من خمر لذيذ المشرب، لا آفة فيها، { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا } أي: لا تصدعهم رؤوسهم كما تصدع خمرة الدنيا رأس شاربها. ولا هم عنها ينزفون، أي: لا تنزف عقولهم، ولا تذهب أحلامهم منها، كما يكون لخمر الدنيا. والحاصل: أن جميع ما في الجنة من أنواع النعيم الموجود جنسه في الدنيا، لا يوجد في الجنة فيه آفة، كما قال تعالى:{ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } [محمد: 15] وذكر هنا خمر الجنة، ونفى عنها كل آفة توجد في الدنيا. { وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ } أي: مهما تخيروا، وراق في أعينهم، واشتهته نفوسهم، من أنواع الفواكه الشهية، والجنى اللذيذ، حصل لهم على أكمل وجه وأحسنه، { وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } أي: من كل صنف من الطيور يشتهونه، ومن أي جنس من لحمه أرادوا، وإن شاؤوا مشوياً، أو طبيخاً، أو غير ذلك. { وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ } أي: ولهم حور عين، والحوراء: التي في عينها كحل وملاحة، وحسن وبهاء، والعين: حسان الأعين وضخامها وحسن العين في الأنثى، من أعظم الأدلة على حسنها وجمالها. { كَأَمْثَالِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ } أي: كأنهن اللؤلؤ الأبيض الرطب الصافي البهي، المستور عن الأعين والريح والشمس، الذي يكون لونه من أحسن الألوان، الذي لا عيب فيه بوجه من الوجوه، فكذلك الحور العين، لا عيب فيهن [بوجه]، بل هن كاملات الأوصاف، جميلات النعوت. فكل ما تأملته منها لم تجد فيه إلا ما يسر الخاطر ويروق الناظر، وذلك النعيم المعد لهم { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } فكما حسنت منهم الأعمال، أحسن الله لهم الجزاء، ووفر لهم الفوز والنعيم. { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً } أي: لا يسمعون في جنات النعيم كلاماً يلغى، ولا يكون فيه فائدة، ولا كلاماً يؤثم صاحبه، { إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً } أي: إلا كلاماً طيباً، وذلك لأنها دار الطيبين، ولا يكون فيها إلا كل طيب، وهذا دليل على حسن أدب أهل الجنة في خطابهم فيما بينهم، وأنه أطيب كلام، وأسره للنفوس، وأسلمه من كل لغوٍ وإثم، نسأل الله من فضله.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #578
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (575)
    تفسير السعدى
    (سورة الواقعة)
    من (27)الى (57)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدى
    تفسير سورة الواقعة
    { وَأَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ } 27 { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } 28 { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } 29 { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } 30 { وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ } 31 { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ } 32 { لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } 33 { وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } 34 { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً } 35 { فَجَعَلْنَاهُنّ َ أَبْكَاراً } 36 { عُرُباً أَتْرَاباً } 37 { لأَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } 38 { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ } 39 { وَثُلَّةٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ }40


    ثم ذكر نعيم أصحاب اليمين، فقال: { وَأَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ } أي: شأنهم عظيم، وحالهم جسيم، { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } أي: مقطوع ما فيه من الشوك والأغصان [الرديئة] المضرة، مجعول مكان ذلك الثمر الطيب، وللسدر من الخواص، الظل الظليل، وراحة الجسم فيه، { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } والطلح معروف، وهو شجر [كبار] يكون بالبادية، تنضد أغصانه من الثمر اللذيذ الشهي، { وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ } أي: كثير من العيون والأنهار السارحة، والمياه المتدفقة، { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } أي: ليست بمنزلة فاكهة الدنيا تنقطع في وقت من الأوقات، وتكون ممتنعة [أي: متعسرة] على مبتغيها، بل هي على الدوام موجودة، وجناها قريب يتناوله العبد على أي حال يكون، { وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } أي: مرفوعة فوق الأسرة ارتفاعاً عظيماً، وتلك الفرش من الحرير والذهب واللؤلؤ وما لا يعلمه إلا الله. { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً } أي: إنا أنشأنا نساء أهل الجنة نشأةً غير النشأة التي كانت في الدنيا، نشأةً كاملةً لا تقبل الفناء، { فَجَعَلْنَاهُنّ َ أَبْكَاراً } صغارهن وكبارهن، وعموم ذلك يشمل الحور العين ونساء أهل الدنيا، وأن هذا الوصف - وهو البكارة - ملازم لهن في جميع الأحوال، كما أن كونهن { عُرُباً أَتْرَاباً } ملازم لهن في كل حال، والعروب: هي المرأة المتحببة إلى بعلها بحسن لفظها، وحسن هيئتها ودلالها وجمالها [ومحبتها]، فهي التي إن تكلمت سبت العقول، وود السامع أن كلامها لا ينقضي، خصوصاً عند غنائهن بتلك الأصوات الرخيمة والنغمات المطربة، وإن نظر إلى أدبها وسمتها ودلها ملأت قلب بعلها فرحاً وسروراً، وإن برزت من محل إلى آخر، امتلأ ذلك الموضع منها ريحاً طيباً ونوراً، ويدخل في ذلك الغنجة عند الجماع. والأتراب اللاتي على سن واحدة، ثلاث وثلاثين سنة، التي هي غاية ما يتمنى ونهاية سن الشباب، فنساؤهم عرب أتراب، متفقات مؤتلفات، راضيات مرضيات، لا يَحزَنَّ ولا يُحزِنَّ، بل هن أفراح النفوس، وقرة العيون، وجلاء الأبصار.
    { لأَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } أي: معدات لهم مهيئات، { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } أي: هذا القسم من أصحاب اليمين عدد كثير من الأولين، وعدد كثير من الآخرين.
    { وَأَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ } 41 { فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ } 42 { وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ } 43 { لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ } 44 { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } 45 { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلْحِنثِ ٱلْعَظِيمِ } 46 { وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } 47 { أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ } 48 { قُلْ إِنَّ ٱلأَوَّلِينَ وَٱلآخِرِينَ } 49 { لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } 50 { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا ٱلضِّآلُّونَ ٱلْمُكَذِّبُونَ } 51 { لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ } 52 { فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ } 53 { فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْحَمِيمِ } 54 { فَشَارِبُونَ شُرْبَ ٱلْهِيمِ } 55 { هَـٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ ٱلدِّينِ } 56 { نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ }57


    { وَأَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلْحِنثِ ٱلْعَظِيمِ * وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ }. المراد بأصحاب الشمال [هم:] أصحاب النار، والأعمال المشئومة، فذكر [الله] لهم من العقاب، ما هم حقيقون به، فأخبر أنهم { فِي سَمُومٍ } أي: ريح حارة من حر نار جهنم، يأخذ بأنفاسهم، وتقلقهم أشد القلق، { وَحَمِيمٍ } أي: ماء حار يقطع أمعاءهم، { وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ } أي: لهب نار يختلط بدخان، { لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ } أي: لا برد فيه ولا كرم، والمقصود أن هناك الهم والغم، والحزن والشر، الذي لا خير فيه، لأن نفي الضد إثبات لضده. ثم ذكر أعمالهم التي أوصلتهم إلى هذا الجزاء، فقال: { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } أي: قد ألهتهم دنياهم، وعملوا لها، وتنعموا وتمتعوا بها، فألهاهم الأمل عن إحسان العمل، فهذا الترف الذي ذمهم الله عليه، { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلْحِنثِ ٱلْعَظِيمِ } أي: وكانوا يفعلون الذنوب الكبار ولا يتوبون منها، ولا يندمون عليها، بل يصرون على ما يسخط مولاهم، فقدموا عليه بأوزار كثيرة [غير مغفورة]. وكانوا ينكرون البعث، فيقولون استبعاداً لوقوعه: { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ } أي: كيف نبعث بعد موتنا وقد بلينا، فكنا تراباً وعظاماً؟ [هذا من المحال] { أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ } قال تعالى جواباً لهم ورداً عليهم: { قُلْ إِنَّ ٱلأَوَّلِينَ وَٱلآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } ، أي: قل إن متقدم الخلق ومتأخرهم، الجميع سيبعثهم الله ويجمعهم لميقات يوم معلوم، قدّره الله لعباده، حين تنقضي الخليقة، ويريد الله تعالى جزاءهم على أعمالهم التي عملوها في دار التكليف. { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا ٱلضِّآلُّونَ } عن طريق الهدى، التابعون لطريق الردى، { ٱلْمُكَذِّبُونَ } بالرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الحق والوعد والوعيد، { لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ } وهو أقبح الأشجار وأخسها، وأنتنها ريحاً، وأبشعها منظراً، { فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ } والذي أوجب لهم أكلها - مع ما هي عليه من الشناعة - الجوع المفرط، الذي يلتهب في أكبادهم وتكاد تنقطع منه أفئدتهم. هذا الطعام الذي يدفعون به الجوع، وهو الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.
    وأما شرابهم، فهو بئس الشراب، وهو أنهم يشربون على هذا الطعام من الماء الحميم الذي يغلي في البطون شرب الإبل الهيم أي: العطاش، التي قد اشتد عطشها، أو [أن الهيم] داء يصيب الإبل، لا تروى معه من شراب الماء. { هَـٰذَا } الطعام والشراب { نُزُلُهُمْ } أي: ضيافتهم { يَوْمَ ٱلدِّينِ } وهي الضيافة التي قدموها لأنفسهم، وآثروها على ضيافة الله لأوليائه. قال تعالى:
    { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ ٱلْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } [الكهف: 107-108]. ثم ذكر الدليل العقلي على البعث، فقال: { نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ } أي: نحن الذين أوجدناكم بعد أن لم تكونوا شيئاً مذكوراً، من غير عجز ولا تعب، أفليس القادر على ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ بلى إنه على كل شيء قدير، ولهذا وبَّخهم على عدم تصديقهم بالبعث، وهم يشاهدون ما هو أعظم منه وأبلغ.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #579
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (576)
    تفسير السعدى
    (سورة الواقعة)
    من (58)الى (70)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدى
    تفسير سورة الواقعة
    { أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ } 58 { ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَالِقُونَ } 59 { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } 60 { عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَـٰلَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ } 61 { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ }62


    أي: أفرأيتم ابتداء خلقتكم من المني الذي تمنون، فهل أنتم خالقون ذلك المني وما ينشأ منه؟ أم الله تعالى الخالق الذي خلق فيكم من الشهوة وآلتها من الذكر والأنثى، وهدى كلاًّ منهما لما هنالك، وحبب بين الزوجين، وجعل بينهما من المودة والرحمة ما هو سبب للتناسل. ولهذا أحالهم الله تعالى على الاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الأخرى، فقال: { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } أن القادر على ابتداء خلقكم، قادر على إعادتكم.
    { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ } 63 { ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } 64 { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } 65 { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ } 66 { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ }67


    وهذا امتنان منه على عباده، يدعوهم به إلى توحيده وعبادته والإنابة إليه، حيث أنعم عليهم بما يسره لهم من الحرث للزروع والثمار، فتخرج من ذلك من الأقوات والأرزاق والفواكه، ما هو من ضروراتهم وحاجاتهم ومصالحهم، التي لا يقدرون أن يحصوها، فضلاً عن شكرها، وأداء حقها، فقررهم بمنته، فقال: { ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } أي: أأنتم أخرجتموه نباتاً من الأرض؟ أم أنتم الذين نميتموه؟ أم أنتم الذين أخرجتم سنبله وثمره حتى صار حباً حصيداً وثمراً نضيجاً؟ أم الله الذي انفرد بذلك وحده، وأنعم به عليكم؟ وأنتم غاية ما تفعلون أن تحرثوا الأرض وتشقوها وتلقوا فيها البذر، ثم بعد ذلك لا علم عندكم بما يكون بعد ذلك، ولا قدرة لكم على أكثر من ذلك ومع ذلك، فنبههم على أن ذلك الحرث معرض للأخطار لولا حفظ الله وإبقاؤه لكم بلغةً ومتاعاً إلى حين، فقال: { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ } أي: الزرع المحروث وما فيه من الثمار { حُطَاماً } أي: فتاتاً متحطماً، لا نفع فيه ولا رزق، { فَظَلْتُمْ } أي: فصرتم بسبب جعله حطاماً، بعد أن تعبتم فيه وأنفقتم النفقات الكثيرة { تَفَكَّهُونَ } أي: تندمون وتحسرون على ما أصابكم، ويزول بذلك فرحكم وسروركم وتفكهكم، فتقولون: { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ } أي: إنا قد نقصنا وأصابتنا مصيبة اجتاحتنا. ثم تعرفون بعد ذلك من أين أتيتم، وبأي سبب دهيتم، فتقولون: { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } فاحمدوا الله تعالى حيث زرعه الله لكم، ثم أبقاه وكمله لكم، ولم يرسل عليه من الآفات ما به تحرمون نفعه وخيره.
    { أَفَرَءَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِي تَشْرَبُونَ } 68 { ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ } 69 { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ }70


    لما ذكر تعالى نعمته على عباده بالطعام، ذكر نعمته عليهم بالشراب العذب الذي منه يشربون، وأنهم لولا أن الله يسره وسهله، لما كان لكم سبيل إليه، وأنه الذي أنزله من المزن، وهو السحاب والمطر، ينزله الله تعالى فيكون منه الأنهار الجارية على وجه الأرض وفي بطنها، ويكون منه الغدران المتدفقة، ومن نعمته أن جعله عذباً فراتاً تسيغه النفوس، ولو شاء لجعله ملحاً أجاجاً مكروهاً للنفوس. لا ينتفع به { فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ } الله تعالى على ما أنعم به عليكم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #580
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله


    الحلقة (577)
    تفسير السعدى
    (سورة الواقعة)
    من (71)الى (87)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدى
    تفسير سورة الواقعة
    { أَفَرَأَيْتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ } 71 { أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِئُونَ } 72 { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ } 73 { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ }74


    وهذه نعمة تدخل في الضروريات التي لا غنى للخلق عنها، فإن الناس محتاجون إليها في كثير من أمورهم وحوائجهم، فقررهم تعالى بالنار التي أوجدها في الأشجار، وأن الخلق لا يقدرون أن ينشؤوا شجرها، وإنما الله تعالى الذي أنشأها من الشجر الأخضر، فإذا هي نار توقد بقدر حاجة العباد، فإذا فرغوا من حاجتهم، أطفؤوها وأخمدوها. { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً } للعباد بنعمة ربهم، وتذكرة بنار جهنم التي أعدها الله للعاصين، وجعلها سوطاً يسوق به عباده إلى دار النعيم، { وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ } أي: [المنتفعين أو] المسافرين وخص الله المسافرين لأن نفع المسافر بذلك أعظم من غيره، ولعل السبب في ذلك، لأن الدنيا كلها دار سفر، والعبد من حين ولد فهو مسافر إلى ربه، فهذه النار، جعلها الله متاعاً للمسافرين في هذه الدار، وتذكرة لهم بدار القرار، فلما بيّن من نعمه ما يوجب الثناء عليه من عباده وشكره وعبادته، أمر بتسبيحه وتحميده، فقال: { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } أي: نزه ربك العظيم، كامل الأسماء والصفات، كثير الإحسان والخيرات، واحمده بقلبك ولسانك، وجوارحك، لأنه أهل لذلك، وهو المستحق لأن يُشكر فلا يُكفر، ويُذكر فلا يُنسى، ويُطاع فلا يُعصى.
    { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } 75 { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } 76 { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } 77 { فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } 78 { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } 79 { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } 80 { أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } 81 { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } 82 { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ } 83 { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } 84 { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ } 85 { فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } 86 { تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }87


    أقسم تعالى بالنجوم ومواقعها أي: مساقطها في مغاربها، وما يحدِث الله في تلك الأوقات، من الحوادث الدالة على عظمته وكبريائه وتوحيده، ثم عظم هذا المقسم به، فقال: { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } وإنما كان القسم عظيماً، لأن في النجوم وجريانها، وسقوطها عند مغاربها، آيات وعبراً لا يمكن حصرها، وأما المقسم عليه، فهو إثبات القرآن، وأنه حق لا ريب فيه، ولا شك يعتريه، وأنه كريم أي: كثير الخير، غزير العلم، فكل خير وعلم، فإنما يستفاد من كتاب الله ويستنبط منه، { فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } أي: مستور عن أعين الخلق، وهذا الكتاب المكنون هو اللوح المحفوظ أي: إن هذا القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ، معظم عند الله وعند ملائكته في الملأ الأعلى. ويحتمل أن المراد بالكتاب المكنون، هو الكتاب الذي بأيدي الملائكة الذين ينزلهم الله بوحيه وتنزيله، وأن المراد بذلك أنه مستور عن الشياطين، لا قدرة لهم على تغييره، ولا الزيادة والنقص منه واستراقه، { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } أي: لا يمس القرآن إلا الملائكة الكرام، الذين طهرهم الله تعالى من الآفات والذنوب والعيوب، وإذا كان لا يمسه إلا المطهرون، وأن أهل الخبث والشياطين، لا استطاعة لهم، ولا يدان إلى مسه، دلت الآية بتنبيهها، على أنه لا يجوز أن يمس القرآن إلا طاهر، كما ورد بذلك الحديث، ولهذا قيل أن الآية خبرٌ بمعنى النهي أي: لا يمس القرآن إلا طاهرٌ. { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي: إن هذا القرآن الموصوف بتلك الصفات الجليلة هو تنزيل رب العالمين، الذي يربي عباده بنعمه الدينية والدنيوية، ومن أجلّ تربية ربّى بها عباده، إنزاله هذا القرآن، الذي قد اشتمل على مصالح الدارين، ورحم الله به العباد رحمة لا يقدرون لها شكوراً، ومما يجب عليهم أن يقوموا به ويعلنوه ويدعوا إليه ويصدعوا به، ولهذا قال: { أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } أي: أفبهذا الكتاب العظيم والذكر الحكيم أنتم تدهنون أي: تختفون وتدلسون خوفاً من الخلق وعارهم وألسنتهم؟ هذا لا ينبغي ولا يليق، إنما يليق أن يداهن بالحديث الذي لا يثق صاحبه منه. وأما القرآن الكريم، فهو الحق الذي لا يغالب به مغالب إلا غلب، ولا يصول به صائل إلا كان العالي على غيره، وهو الذي لا يداهن به ولا يختفى، بل يصدع به ويعلن. وقوله: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } أي: تجعلون مقابلة منة الله عليكم بالرزق التكذيب والكفر لنعمة الله، فتقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وتضيفون النعمة لغير مسديها وموليها، فهلا شكرتم الله تعالى على إحسانه، إذ أنزله الله إليكم ليزيدكم من فضله، فإن التكذيب والكفر داع لرفع النعم وحلول النقم. { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ } أي: فهلا إذا بلغت الروح الحلقوم، وأنتم تنظرون المحتضر في هذه الحالة، والحال أنا نحن أقرب إليه منكم، بعلمنا وملائكتنا، ولكن لا تبصرون، { فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } أي: فهلا إذا كنتم تزعمون، أنكم غير مبعوثين ولا محاسبين ومجازين، ترجعون الروح إلى بدنها { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وأنتم تقرون أنكم عاجزون عن ردها إلى موضعها، فحينئذ إما أن تقروا بالحق الذي جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم، وإما أن تعاندوا وتعلم حالكم وسوء مآلكم.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •