تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 21 من 33 الأولىالأولى ... 111213141516171819202122232425262728293031 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 401 إلى 420 من 643

الموضوع: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

  1. #401
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (399)
    تفسير السعدى
    سورة القصص
    من الأية(23) الى الأية(29)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة القصص



    " ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير " (23)
    " وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ " مواشيهم, وكانوا أهل ماشية كثيرة " وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ " أي: دون تلك الأمة " امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ " غنمهما, عن حياض الناس, لعجزهما عن مزاحمة الرجال, وبخلهم, وعدم مروءتهم, عن السقي لهما.
    " قَالَ " لهما موسى " مَا خَطْبُكُمَا " أي: ما شأنكما بهذه الحالة.
    " قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ " أي: قد جرت العادة أنه لا يحصل لنا سقي حتى يصدر الرعاء مواشيهم, فإذا خلا لنا الجو, سقينا.
    " وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ " أي: لا قوة له على السقي, فليس فينا قوة, نقتدر بها, ولا لنا رجال, يزاحمون الرعاء.

    " فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير " (24)
    فرق لهما موسى عليه السلام ورحمهما " فَسَقَى لَهُمَا " غير طالب منهما الأجر, ولا له قصد, غير وجه اللّه تعالى.
    فلما سقي لهما, وكان ذلك وقت شدة حر, وسط النهار, بدليل قوله: " ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ " مستريحا لتلك الظلال بعد التعب.
    " فَقَالَ " في تلك الحالة, مسترزقا ربه " رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ " .
    أي: إني مفتقر للخير, الذي تسوقه إليَّ,, وتيسره لي.
    وهذا سؤال منه بحاله, والسؤال بالحال, أبلغ من السؤال بلسان المقال.
    فلم يزل في هذه الحالة, داعيا ربه متملقا.
    وأما المرأتان, فذهبتا إلى أبيهما, وأخبرتاه بما جرى.

    " فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين " (25)
    فأرسل أبوهما, إحداهما إلى موسى, فجاءته " تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ " .
    وهذا يدل على كرم عنصرها, وخلقها الحسن, فإن الحياء من الأخلاق الفاضلة, وخصوصا في النساء.
    ويدل على أن موسى عليه السلام, لم يكن فيما فعله من السقي, بمنزلة الأجير والخادم, الذي لا يستحى منه عادة, وإنما هو عزيز النفس, رأت من حسن خلقه, ومكارم أخلاقه, ما أوجب لها الحياء منه.
    " قَالَتِ " له: " إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا " أي: لا لِمَنٍّ عليك, بل أنت الذي ابتدأتنا بالإحسان, وإنما قصده أن يكافئك على إحسانك.
    فأجابها موسى.
    " فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ " من ابتداء السبب الموجب لهربه, إلى أن وصل إليه " قَالَ " مسكنا روعه, جابرا قلبه: " لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ " أي: ليذهب خوفك وروعك, فإن اللّه نجاك منهم, حيث وصلت إلى هذا المحل, الذي ليس لهم عليه سلطان.

    " قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين " (26)
    " قَالَتْ إِحْدَاهُمَا " أي: إحدى ابنتيه " يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ " أي: اجعله أجيرا عندك, يرعى الغنم ويسقيها.
    " إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ " أي: إن موسى, أولى من استؤجر, فإنه جمع القوة والأمانة, وخير أجير استؤجر, من جمعهما, القوة, والقدرة, على ما استؤجر عليه, والأمانة فيه بعدم الخيانة.
    وهذان الوصفان, ينبغي اعتبارهما في كل من يتولى للإنسان عملا, بإجارة أو غيرها.
    فإن الخلل لا يكون إلا بفقدهما, أو فقد إحداهما.
    وأما باجتماعهما, فإن العمل يتم ويكمل.
    وإنما قالت ذلك, لأنها شاهدت من قوة موسى عند السقي لهما, ونشاطه, ما عرفت به قوته, وشاهدت من أمانته وديانته, وأنه رحمهما في حالة, لا يرجى نفعهما, وإنما قصده بذلك, وجه اللّه تعالى.

    " قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين " (27)
    " قَالَ " صاحب مدين لموسى " إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي " أي تصير أجيرا عندي " ثَمَانِيَ حِجَجٍ " .
    أي: ثماني سنين.
    " فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ " تبرع منك, لا شيء واجب عليك.
    " وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ " فأحتم عشر السنين, وما أريد أن أستأجرك, لأكلفك أعمالا شاقة, وإنما استأجرتك, لعمل سهل يسير, لا مشقة فيه " سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ " فرغبه في سهولة العمل, وفي حسن المعاملة.
    وهذا يدل على أن الرجل الصالح, ينبغي له أن يحسن خلقه, مهما أمكنه, وأن الذي يطلب منه, أبلغ من غيره.

    " قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل " (28)
    " قَالَ " موسى عليه السلام - مجيبا له فيما طلبه منه -: " ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ " أي هذا الشرط, الذي أنت ذكرت, رضيت به, وقد تم فيما بيني وبينك.
    " أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ " سواء قضيت الثماني الواجبة, أم تبرعت بالزائد عليها " وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ " حافظ يراقبنا, ويعلم ما تعاقدنا عليه.
    وهذا الرجل, أبو المرأتين, صاحب مدين, ليس بشعيب النبي المعروف, كما اشتهر عند كثير من الناس, فإن هذا, قول لم يدل عليه دليل وغاية ما يكون, أن شعيبا عليه السلام, قد كانت بلده مدين, وهذه القضية, جرت في مدين, فأين الملازمة بين الأمرين؟ وأيضا, فإنه غير معلوم, أن موسى أدرك زمان شعيب, فكيف بشخصه؟!! ولو كان ذلك الرجل شعيبا, لذكره اللّه تعالى, ولسمته المرأتان.
    وأيضا فإن شعيبا, عليه الصلاة والسلام, قد أهلك اللّه قومه بتكذيبهم إياه.
    ولم يبق إلا من آمن به.
    وقد أعاذ اللّه المؤمنين به, أن يرضوا لبنتي نبيهم, بمنعهما عن الماء, وصد ماشيتهما, حتى يأتيهما رجل غريب, فيحسن إليهما, ويسقي ماشيتهما.
    وما كان شعيب, ليرضى أن يرعى موسى عنده, ويكون خادما له, وهو أفضل منه, وأعلى درجة, إلا أن يقال: هذا قبل نبوة موسى, فلا منافاة.
    وعلى كل حال, لا يعتمد على أنه شعيب النبي, بغير نقل صحيح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم, واللّه أعلم.

    " فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون " (29)
    " فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ " يحتمل أنه قضى الأجل الواجب, أو الزائد عليه, كما هو الظن بموسى, ووفائه, اشتاق إلى الوصول إلى أهله, ووالدته, وعشيرته, ووطنه.
    وظن من طول المدة, أنهم قد تناسوا ما صدر منه.
    " وَسَارَ بِأَهْلِهِ " قاصدا مصر " آنَسَ " أي: أبصر " مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ " وكان قد أصابهم البرد, وتاهوا الطريق.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #402
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (400)
    تفسير السعدى
    سورة القصص
    من الأية(30) الى الأية(37)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة القصص



    " فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين "(30)
    " فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ " فأخبر بألوهيته, وربوبيته.
    ويلزم من ذلك, أن يأمره بعبادته, وتألهه, كما صرح به في الآية الأخرى " فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي " .

    " وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين " (31)
    " وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ " فألقاها " فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ " تسعى سعيا شديدا, ولها سورة مُهِيلة " كَأَنَّهَا جَانٌّ " ذَكَرُ الحيات العظيم.
    " وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ " أي: يرجع, لاستيلاء الروع على قلبه.
    فقال اللّه له: " يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ " وهذا أبلغ ما يكون في التأمين, وعدم الخوف.
    قإن قوله: " أَقْبِلْ " يقتضي الأمر بإقباله, ويجب عليه الامتثال.
    ولكن قد يكون إقباله, وهو لم يزل في الأمر المخوف, فقال: " وَلَا تَخَفْ " أمر له بشيئين, إقباله, وأن لا يكون في قلبه خوف.
    ولكن يبقى احتمال, وهو أنه, قد يقبل وهو غير خائف, ولكن لا تحصل له الوقاية والأمن من المكروه, فلذلك قال: " إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ " فحينئذ اندفع المحذور من جميع الوجوه.
    فأقبل موسى عليه السلام, غير خائف, ولا مرعوب, بل مطمئنا, واثقا بخبر ربه, قد ازداد إيمانه, وتم يقينه.
    فهذه آية, أراه اللّه إياها, قبل ذهابه إلى فرعون, ليكون على يقين تام, فيكون أجرا له, وأقوى وأصلب.

    " اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين " (32)

    ثم أراه الآية الأخرى فقال: " اسْلُكْ يَدَكَ " أي: أدخلها " فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ " فسلكها وأخرجها, كما ذكر اللّه تعالى.
    " وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ " أي ضم جناحك وهو عضدك إلى جنبك ليزول عنك الرهب والخوف.
    " فَذَانِكَ " أي: انقلاب العصا حية, وخروج اليد بيضاء من غير سوء.
    " بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ " أي: حجتان قاطعتان من اللّه.
    " إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ " فلا يكفيهم مجرد الإنذار وأمر الرسول إياهم, بل لا بد من الآيات الباهرة, إن نفعت.

    " قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون " (33)
    " قَالَ " موسى عليه السلام, معتذرا من ربه, وسائلا له المعونة على ما حمله, وذاكرا له الموانع, التي فيه, ليزيل ربه ما يحذره منها.
    " رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا " أي: " فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِي وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا ءا " أي: معاونا ومساعدا " يُصَدِّقُنِي " فإنه مع تضافر الأخبار, يقوى الحق " إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ " .

    " قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون " (35)
    فأجابه اللّه إلى سؤاله فقال: " سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ " أي: نعاونك به ونقويك.
    ثم أزال عنه محذور القتل, فقال: " وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا " أي: تسلطا, وتمكنا من الدعوة, بالحجة, والهيبة الإلهية من عدوهما " فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا " .
    وذلك بسبب آياتنا, وما دلت عليه من الحق, وما أزعجت به من باشرها ونظر إليها.
    فهي التي بها حصل لكما السلطان, واندفع بها عنكم, كيد عدوكم, وصارت لكم أبلغ من الجنود, أولي الْعَدَدِ والْعُدَدِ.
    " أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ " وهذا وعد لموسى في ذلك الوقت, وهو وحده فريد, وقد رجع إلى بلده, بعد ما كان شريدا.
    فلم تزل الأحوال تتطور, والأمور تنتقل, حتى أنجز له موعوده, ومكنه من العباد والبلاد, وصار له ولأتباعه, الغلبة والظهور.

    " فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين " (36)
    فذهب موسى برسالة ربه " فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ " واضحات الدلالة على ما قال لهم, ليس فيها قصور, ولا خفاء.
    " قَالُوا " على وجه الظلم, والعلو, والعناد " مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى " كما قال فرعون في تلك الحال, التي ظهر فيها الحق, واستعلى على الباطل, واضمحل الباطل, وخضع له الرؤساء العارفون حقائق الأمور " إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ " (هذا, وهو الذكي غير الزكي الذي بلغ من المكر والخداع والكيد, ما قصه اللّه علينا وقد علم " مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " ولكن الشقاء غالب.
    " وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ " وقد كذبوا في ذلك, فإن اللّه أرسل يوسف, قبل موسى كما قال تعالى " وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ " .

    " وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون " (37)
    " وَقَالَ مُوسَى " حين زعموا أن الذي جاءهم به سحر وضلال, وأن ما هم عليه هو الهدى: " رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ " .
    أي: إذا لم تفد المقابلة معكم, وتبيين الآيات البينات, وأبيتم إلا التمادي في غيكم, واللجاج على كفركم, فاللّه تعالى العالم بالمهتدي وغيره, ومن تكون له عاقبة الدار, نحن أم أنتم " إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ " .
    فصار عاقبة الدار لموسى وأتباعه, والفلاح, والفوز.
    وصار لأولئك, الخسار, وسوء العاقبة والهلاك.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #403
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (401)
    تفسير السعدى
    سورة القصص
    من الأية(38) الى الأية(45)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة القصص



    " وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين " (38)
    " وَقَالَ فِرْعَوْنُ " متجرئا على ربه, ومموها على قومه السفهاء, ضعفاء العقول: " يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي " أي: أنا وحدي, إلهكم ومعبودكم.
    ولو كان ثَمَّ إله غيري, لعلمته.
    فانظر إلى هذا الورع التام من فرعون, حيث لم يقل " ما لكم من إله غيري " .
    وهذا, لأنه عندهم, العالم الفاضل, الذي مهما قال, فهو الحق, ومهما أمر, أطاعوه.
    فلما قال هذه المقالة, التي قد تحتمل أن ثَمَّ إلها غيره, أراد أن يحقق النفي, الذي جعل فيه ذلك الاحتمال, فقال لـ " هامان " : " فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ " ليجعل له لبنا من فخار.
    " فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا " أي: بناء عاليا " لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ " .
    ولكن سنحقق هذا الظن, ونريكم كذب موسى.
    فانظر هذه الجراءة العظيمة, على اللّه, التي ما بلغها آدمي.
    كذب موسى, وادَّعى أنه اللّه, ونفى أن يكون له علم بالإله الحق, وفعل الأسباب, ليتوصل إلى إله موسى, وكل هذا ترويج.
    ولكن العجب من هؤلاء الملأ, الذين يزعمون أنهم كبار المملكة, المدبرون لشئونها, كيف لعب هذا الرجل بعقولهم, واستخف أحلامهم, وهذا لفسقهم, الذي صار صفة راسخة فيهم.
    فسد دينهم, ثم تبع ذلك, فساد عقولهم, فنسألك اللهم, الثبات على الإيمان, وأن لا تزيغ قلوبنا, بعد إذ هديتنا, وأن تهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

    " واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون " (39)
    قال تعالى: " وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ " استكبروا على عباد اللّه, وساموهم سوء العذاب, واستكبروا على رسل اللّه, وما جاءوهم به من الآيات.
    فكذبوها, وزعموا أن ما هم عليه, أعلى منها وأفضل.
    " وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ " فلذلك تجرأوا.
    وإلا فلو علموا, وظنوا أنهم يرجعون إلى اللّه, لما كان منهم ما كان.


    " فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين " (40)
    " فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ " عندما استمر عنادهم وبغيهم " فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ " كانت شر العواقب وأخسرها عاقبة, أعقبتها العقوبة الدنيوية المستمرة, المتصلة بالعقوبة الأخروية.
    " وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون " (41)
    " وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ " أي جعلنا فرعون وملأه, من الأئمة, الذين يقتدي بهم, ويمشي خلفهم إلى دار الخزي والشقاء.
    " وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ " من عذاب اللّه, فهم أضعف شيء, عن دفعه عن أنفسهم, وليس لهم من دون اللّه, من ولي ولا نصير.

    " وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين " (42)

    " وَأَتْبَعْنَاهُ مْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً " أي: وأتبعناهم, زيادة في عقوبتهم وخزيهم, في الدنيا لعنة, يلعنون, ولهم عقد الخلق, الثناء القبيح, والمقت والذم.
    وهذا أمر مشاهد, فهم أئمة الملعونين في الدنيا, ومقدمتهم.
    " وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ " المبعدين, المستقذرة أفعالهم.
    الذين اجتمع عليهم مقت اللّه, ومقت خلقه, ومقت أنفسهم.

    " ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون " (43)
    " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ " وهو التوراة " مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى " الذين كان خاتمتهم, في الإهلاك العام, فرعون وجنوده.
    وهذا دليل على أنه بعد نزول التوراة, انقطع الهلاك العام, وشرع جهاد الكفار بالسيف.
    " بَصَائِرَ لِلنَّاسِ " أي: كتاب اللّه, الذي أنزله على موسى, فيه بصائر للناس, أي: أمور يبصرون بها, ما ينفعهم, وما يضرهم, فتقوم الحجة على العاصي, وينتفع بها المؤمن, فتكون رحمة في حقه, وهداية إلى الصراط المستقيم, ولهذا قال: " وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ " .
    ولما قص اللّه على رسوله, ما قص من هذه الأخبار الغيبية, نبه العباد, على أن هذا خبر إلهي محض, ليس للرسول, طريق إلى علمه, إلا من جهة الوحي, ولهذا قال:

    " وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين "(44)
    " وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ " أي: بجانب الطور الغربي " إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ " على ذلك, حتى يقال: إنه وصل إليك من هذا الطريق.
    " ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين "(45)
    " وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ " فاندرس العلم, ونسيت آياته.
    فبعثناك في وقت اشتدت الحاجة إليك, وإلى ما علمناك, وأوحينا إليك.
    " وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا " أي: مقيما " فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا " أي: تعلمهم, وتتعلم منهم, حتى أخبرت بما أخبرت, من شأن موسى في مدين.
    " وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ " أي: ولكن ذلك الخبر, الذي جئت به عن موسى, أثر من آثار إرسالنا إياك, وَوَحْيٌ لا سبيل لك إلى علمه, بدون إرسالنا.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #404
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (402)
    تفسير السعدى
    سورة القصص
    من الأية(46) الى الأية(51)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة القصص



    " وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون " (46)
    " وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا " موسى, وَأمرناه أن يأتي القوم الظالمين, ويبلغهم رسالتنا, ويريهم من آياتنا وعجائبنا, ما قصصنا عليك.
    والمقصود, أن الما جريات, التي جرت لموسى, عليه الصلاة والسلام, في هذه الأماكن, فقصصتها كما هي, من غير زيادة ولا نقص, لا يخلو من أحد أمرين.
    إما أن تكون حضرتها وشاهدتها, أو ذهبت إلى محالِّها, فتعلمتها من أهلها.
    فحينئذ قد لا يدل ذلك, على أنك رسول اللّه, إذ الأمور التي يخبر بها عن شهادة ودراسة, من الأمور المشتركه, غير المختصة بالأنبياء.
    ولكن هذا قد عُلِمَ وتُيُقِّن أنه ما كان وما صار.
    فأولياؤك وأعداؤك, يعلمون عدم ذلك.
    فتعين الأمر الثاني, وهو: أن هذا جاءك من قِبَلِ اللّه ووحيه وإرساله.
    فثبت بالدليل القطعي, صحة رسالتك, ورحمة اللّه بك للعباد, ولهذا قال: " وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ " أي: العرب, وقريش, فإن الرسالة عندهم, لا تعرف وقت إرسال الرسول وقبله بأزمان متطاولة.
    " لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ " تفصيل الخير, فيفعلونه, والشر فيتركونه.
    فإذا كنت بهذه المنزلة, كان الواجب عليهم, المبادرة إلى الإيمان بك, وشكر هذه النعمة, التي لا يقادر قدرها, ولا يدرك شكرها.
    وإنذاره للعرب, لا ينفي, أن يكون مرسلا لغيرهم, فإنه عربي, والقرآن الذي نزل عليه, عربي, وأول من باشر بدعوته, العرب.
    فكانت رسالته لهم أصلا, ولغيرهم تبعا, كما قال تعالى " أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ " " قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا " .

    " ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين "(47)
    " وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ " من الكفر والمعاصي " فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ " أي: فأرسلناك يا محمد, لدفع حجتهم, وقطع مقالتهم.

    " فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون " (48)
    " فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ " الذي لا شك فيه " مِنْ عِنْدِنَا " وهو القرآن, الذي أوحيناه إليك " قَالُوا " مكذبين له, ومعترضين بما ليس يعترض به: " لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى " أي أنزل عليه كتاب من السماء جملة واحدة.
    أي: فأما ما دام ينزل متفرقا, فإنه ليس من عند اللّه.
    وأي دليل في هذا؟ وأي شبهة أنه ليس من عند اللّه, حين نزل مفرقا؟ بل من كمال هذا القرآن, واعتناء اللّه بمن أنزل عليه, أن نزل متفرقا, ليثبت اللّه به فؤاد رسوله, ويحصل زيادة الإيمان للمؤمنين.
    " وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا " .
    وأيضا, فإن قياسهم على كتاب موسى, قياس قد نقضوه, فكيف يقيسونه على كتاب كفروا به, ولم يؤمنوا؟ ولهذا قال " أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا " أي: القرآن والتوراة, تعاونا في سحرهما, وإضلال الناس " وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ " .
    فثبت بهذا, أن القوم يريدون إبطال الحق, بما ليس ببرهان, وينقضونه بما لا ينقض, ويقولون الأقوال المتناقضة المختلفة, وهذا شأن كل كافر.
    ولهذا صرح أنهم كفروا بالكتابين والرسولين " وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ " .
    ولكن هل كفرهم بهما, كان طلبا للحق, واتباعا لأمر عندهم, خير منهما, أم مجرد هوى؟

    " قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين " (49)

    قال تعالى ملزما لهم بذلك: " قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا " أي من التوراة والقرآن " أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " ولا سبيل لهم, ولا لغيرهم, أن يأتوا بمثلهما, فإنه ما طرق العالم, منذ خلقه اللّه, مثل هذين الكتابين, علما, وهدى, وبيانا, ورحمة للخلق.
    وهذا من كمال الإنصاف من الداعي أن قال: مقصودي, الحق والهدى والرشد.
    وقد جئتكم بهذا الكتاب, المشتمل على ذلك, الموافق لكتاب موسى.
    فيجب علينا جميعا الإذعان لهما, واتباعهما, من حيث كونهما هدى وحقا.
    فإن جئتموني بكتاب من عند اللّه, هو أهدى منهما, اتبعته.
    وإلا, فلا أترك هدى وحقا قد علمته لغير هدى وحق.

    " فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين " (50)

    " فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ " فلم يأتوا بكتاب أهدى منهما " فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ " أي: فاعلم أن تركهم اتباعك, ليسوا ذاهبين إلى حق يعرفونه, ولا إلى هدى, وإنما ذلك مجرد اتباع لأهوائهم.
    " وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ " فهذا من أضل الناس, حيث عرض عليه الهدى, والصراط المستقيم, الموصل إلى اللّه وإلى دار كرامته, فلم يلتفت إليه, ولم يقبل عليه.
    ودعاه هواه إلى سلوك الطرق الموصلة إلى الهلاك والشقاء, فاتبعه, وترك الهدى.
    فهل أحد أضل ممن هذا وصفه؟!! ولكن ظلمه وعدوانه, وعدم محبته للحق, هو الذي أوجب له: أن يبقى على ضلاله ولا يهديه اللّه, فلهذا قال: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " أي: الذي صار الظلم لهم وصفا والعناد لهم نعتا, جاءهم الهدى فرفضوه, وعرض لهم الهوى, فتبعوه.
    سدوا على أنفسهم أبواب الهداية وطرقها, وفتحوا عليهم أبواب الغواية وسبلها.
    فهم في غيهم وظلمهم يعمهون, وفي شقائهم وهلاكهم, يترددون.
    وفي قوله: " فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ " دليل على أن كل من لم يستجب للرسول, وذهب إلى قول مخالف لقول الرسول, فإنه لم يذهب إلى هدى, وإنما ذهب إلى هوى.

    " ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون " (51)

    " وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ " أي: تابعناه وواصلناه, وأنزلناه شيئا فشيئا, رحمة بهم ولطفا " لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ " حين تتكرر عليهم آياته, وتنزل عليهم بيناته وقت الحاجة إليها.
    فصار نزوله متفرقا, رحمة بهم, فلم اعترضوا على ما هو من مصالحهم؟ فصل في ذكر بعض الفوائد والعبر في هذه القصة العجيبة فمنها أن آيات اللّه وعبره, وأيامه في الأمم السابقة, إنما يستفيد بها ويستنير, المؤمنون, فعلى حسب إيمان العبد, تكون عبرته.
    وإن اللّه تعالى إنما يسوق القصص, لأجلهم.
    وأما غيرهم, فلا يعبأ اللّه بهم, وليس لهم منها نور وهدى.
    ومنها: أن اللّه تعالى, إذا أراد أمرا, هيأ أسبابه, وأتى بها شيئا فشيئا بالتدريج, لا دفعة واحدة.
    ومنها: أن الأمة المستضعفة, ولو بلغت في الضعف ما بلغت, لا ينبغي لها أن يستولى عليها الكسل, عن طلب حقها, ولا الإياس من ارتقائها إلى أعلى الأمور, خصوصا إذا كانوا مظلومين, كما استنقذ اللّه, أمة بني إسرائيل, الأمة الضعيفة, من أسر فرعون وملإه, ومكنهم في الأرض, وملكهم بلادهم.
    ومنها: أن الأمة ما دامت ذليلة مقهورة, لا تأخذ حقها, ولا تتكلم به, لا يقوم لها أمر دينها ولا دنياها, ولا يكون لها إمامة فيه.
    ومنها: لطف اللّه بأم موسى, وتهوينه عليها المصيبة, بالبشارة, بأن اللّه سيرد إليها ابنها, ويجعله من المرسلين.
    ومنها: أن اللّه يقدر على عبده بعض المشاق, لينيله سرورا أعظم من ذلك, أو يدفع عنه شرا أكثر منه.
    كما قدر على أم موسى, ذلك الحزن الشديد, والهم البليغ, الذي هو وسيلة إلى أن يصل إليها ابنها, على وجه تطمئن به نفسها, وتقربه عينها, وتزداد به غبطة وسرورا.
    ومنها: أن الخوف الطبيعي من الخلق, لا ينافي الإيمان ولا يزيله, كما جرى لأم موسى, ولموسى من تلك المخاوف.
    ومنها: أن الإيمان يزيد وينقص.
    وأن من أعظم ما يزيد به الإيمان, ويتم به اليقين, الصبر عند المزعجات, والتثبيت من اللّه, عند المقلقات, كما قال تعالى.
    " لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ " أي: ليزداد إيمانها بذلك, ويطمئن قلبها.
    ومنها: أن من أعظم نعم اللّه عبده, وأعظم معونة للعبد على أموره, تثبيت اللّه إياه, وربط جأشه وقلبه عند المخاوف, وعند الأمور المذهلة, فإنه بذلك, يتمكن من القول الصواب, والفعل الصواب.
    بخلاف من استمر قلقه وروعه, وانزعاجه, فإنه يضيع فكره, ويذهل عقله, فلا ينتفع بنفسه في تلك الحال.
    منها: أن العبد - ولو عرف أن القضاء والقدر, ووعد اللّه نافذ لا بد منه - فإنه لا يهمل فعل الأسباب, التي أمر بها, ولا يكون ذلك منافيا لإيمانه بخبر اللّه.
    فإن اللّه قد وعد أم موسى, أن يرده عليها, ومع ذلك, اجتهدت في رده, وأرسلت أخته لتقصه وتطلبه.
    ومنها: جواز خروج المرأة في حوائجها, وتكليمها للرجال, من غير محذور, كما جرى لأخت موسى, وابنتي صاحب مدين.
    ومنها: جواز أخذ الأجرة على الكفالة والرضاع, والدلالة على من يفعل ذلك.
    ومنها: أن اللّه من رحمته بعبده الضعيف, الذي يريد إكرامه, أن يريه من آياته, ويشهده من بيناته, ما يزيد به إيمانه, كما رد الله موسى إلى أمه, لتعلم أن وعد اللّه حق.
    ومنها: أن قتل الكافر, الذي له عهد بعقد أو بعرف, لا يجوز.
    فإن موسى عليه السلام عدَّ قتله القبطي الكافر, ذنبا, واستغفر اللّه منه.
    ومنها: أن الذي يقتل النفوس بغير حق, يعد من الجبارين, الذين يفسدون في الأرض.
    ومنها: أن من قتل النفوس بغير حق, وزعم أنه يريد الإصلاح في الأرض, وتهييب أهل المعاصي, فإنه كاذب في ذلك, وهو مفسد كما حكى اللّه قول القبطي " إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ " على وجه التقرير له, لا الإنكار.
    ومنها: أن إخبار الرجل غيره بما قيل فيه, على وجه التحذير له, من شر, يقع, فيه, لا يكون ذلك نميمة - بل قد يكون واجبا - كما أخبر ذلك الرجل موسى, ناصحا له ومحذرا.
    ومنها: أنه إذا خاف القتل والتلف في الإقامة, فإنه لا يلقي بيده إلى التهلكة, ولا يستسلم لذلك, بل يذهب عنه, كما فعل موسى.
    ومنها: أنه عند تزاحم المفسدتين, إذا كان لا بد من ارتكاب إحداهما فإنه يرتكب الأخف منهما, والأسلم.
    كما أن موسى, لما دار الأمر بين بقائه في مصر, ولكنه يقتل, أو يذهب إلى بعض البلدان البعيدة, التي لا يعرف الطريق إليها, وليس معه دليل يدله غير ربه, ولكن هذه الحالة أرجى للسلامة من الأول, فتبعها موسى.
    ومنها: أن الناظر في العلم عند الحاجة إلى التكلم فيه, إذا لم يترجح عنده أحد القولين, فإنه يستهدي ربه, ويسأله أن يهديه الصواب من القولين, بعد أن يقصد بقلبه الحق, ويبحث عنه, فإن اللّه لا يخيب مَنْ هذه حاله.
    كما خرج موسى تلقاء مدين فقال: " عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ " .
    ومنها: أن الرحمة بالخلق, والإحسان على من يعرف ومن لا يعرف, من أخلاق: الأنبياء, وأن من الإحسان سقي الماشية الماء, وإعانة العاجز.
    ومنها استحباب الدعاء, بتبيين الحال وشرحها, ولو كان اللّه عالما لها.
    لأنه تعالى, يحب تضرع عبده وإظهار ذله ومسكنته, كما قال موسى: " رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ " .
    ومنها أن الحياء - خصوصا من الكرام - من الأخلاق الممدوحة.
    ومنها: المكافأة على الإحسان, لم يزل دأب الأمم السابقين.
    ومنها: أن العبد إذا عمل العمل للّه تعالى, ثم حصل له مكافأة عليه, من غير قصد بالقصد الأول, فإنه لا يلام على ذلك, كما قبل موسى مجازاة صاحب مدين, عن معروفه الذي لم يبتغ له, ولم يستشرف بقلبه على عوض.
    ومنها مشروعية الإجارة, وأنها تجوز على رعاية الغنم ونحوها, مما لا يقدر به العمل, وإنما مرده, العرف.
    ومنها أنه تجوز الإجارة بالمنفعة, ولو كانت المنفعة بضعا.
    ومنها أن خطبة الرجل لابنته الذي يتخيره, لا يلام عليه.
    ومنها: أن خير أجير وعامل يعمل للإنسان, أن يكون قويا أمينا.
    ومنها: أن من مكارم الأخلاق, أن يُحَسِّن خلقه, لأجيره, وخادمه, ولا يشق عليه بالعمل لقوله: " وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ " .
    ومنها: جواز عقد الإجارة وغيرها من العقود, من دون إشهاد لقوله: " وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ " .
    ومنها: ما أجرى اللّه على يد موسى من الآيات البينات, والمعجزات الظاهرة, من الحية, وانقلاب يده بيضاء من غير سوء, ومن عصمة اللّه لموسى وهارون, من فرعون, ومن الغرق.
    ومنها: أن من أعظم العقوبات أن يكون الإنسان إماما في الشر, وذلك بحسب معارضته لآيات اللّه وبيناته.
    كما أن من أعظم نعمة, أنعم اللّه بها على عبده, أن يجعله إماما في الخير هاديا مهديا.
    ومنها: ما فيها من الدلالة, على رسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم, حيث أخبر بذلك تفصيلا, وتأصيلا موافقا, قصه قصا, صدق به المرسلين; وأيد به الحق المبين, من غير حضور شيء من تلك الوقائع; ولا مشاهدة لموضع واحد من تلك المواضع; ولا تلاوة درس فيها شيئا من هذه الأمور; ولا مجالسة أحد من أهل العلم; إن هو إلا رسالة الرحمن الرحيم; ووحي أنزله عليه الكريم المنان; لينذر به قوما جاهلين; وعن النذر والرسل غافلين.
    فصلوات اللّه وسلامه; على من مجرد خبره ينبئ أنه رسول اللّه; ومجرد أمره ونهيه ينبه العقول النيرة; أنه من عند اللّه.
    كيف وقد تطابق على صحة ما جاء به; وصدقه خبر الأولين والآخرين.
    والشرع الذي جاء به من رب العالمين, وما جبل عليه من الأخلاق الفاضلة; التي لا تناسب; ولا تصلح إلا لأعلى الخلق درجة; والنصر المبين لدينه وأمته.
    حتى بلغ دينه; مبلغ الليل والنهار; وفتحت أمته معظم بلدان الأمصار; بالسيف والسنان, وقلوبهم بالعلم والإيمان.
    ولم تزل الأمم المعاندة; والملوك الكفرة; ترميه بقوس واحدة; وتكيد له المكايد; وتمكن لإطفائه; وإخفائه; وإخماده من الأرض وهو قد بهرها وعلاها.
    لا يزداد إلا نموا, ولا آياته وبراهينه, إلا ظهورا.
    وكل وقت من الأوقات, يظهر من آياته, ما هو عبرة لِلْعَالَمِينَ, وهداية لِلْعَالمِينَ, ونور وبصيرة للمتوسمين.
    والحمد للّه وحده.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #405
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (403)
    تفسير السعدى
    سورة القصص
    من الأية(52) الى الأية(58)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة القصص



    " الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون " (52)
    يذكر تعالى, عظمة القرآن, وصدقه, وحقه, وأن أهل العلم بالحقيقة, يعرفونه, ويؤمنون به, ويقرون بأنه الحق: " الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ " وهم أهل التوراة, والإنجيل, الذين لم يغيروا, ولم يبدلوا " هُمْ بِهِ " أي: بهذا القرآن, ومن جاء به " يُؤْمِنُونَ " .
    " وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين " (53)
    " وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ " استمعوا له, وأذعنوا و " قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا " لموافقته ما جاءت به الرسل, ومطابقته لما ذكر في الكتب, واشتماله على الأخبار الصادقة, والأوامر والنواهي الموافقة, لغاية الحكمة.
    وهؤلاء, الذين تفيد شهادتهم, وينفع قولهم, لأنهم لا يقولون ما يقولون, إلا عن علم وبصيرة, لأنهم أهل الخبرة, وأهل الكتب.
    وغيرهم لا يدل ردهم, ومعارضتهم للحق, على شبهة, فضلا عن الحجة, لأنهم ما بين جاهل فيه أو متجاهل معاند للحق.
    قال تعالي: " قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا " الآيات.
    وقوله " إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ " فلذلك ثبتنا على ما مَنَّ اللّه به علينا من الإيمان والإسلام, فصدقنا بهذا القرآن, آمنا بالكتاب الأول, والكتاب الآخر.
    وغيرنا ينقض تكذيبه بهذا الكتاب, إيمانه بالكتاب الأول.

    " أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون "(54)
    " أُولَئِكَ " الذين آمنوا بالكتابين " يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ " أجرا على الإيمان الأول, وأجرا على الإيمان الثاني.
    " بِمَا صَبَرُوا " على الإيمان, وثبتوا على العمل, فلم تزعزعهم عن ذلك, شبهة, ولا ثناهم عن الإيمان, رياسة ولا شهوة.
    ومن خصالهم الفاضلة, التي هي من آثار إيمانهم الصحيح, أنهم " وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ " أي: دأبهم وطريقتهم, الإحسان لكل أحد, حتى للمسيء إليهم, بالقول والفعل, يقابلونه بالقول الحميد, والفعل الجميل, لعلمهم بفضيلة هذا الخلق العظيم, وأنه لا يوفق له إلا ذو حظ عظيم.

    " وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين " (55)

    " وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ " من جاهل خاطبهم به, أعرضوا عنه, و " قَالُوا " مقالة عباد الرحمن أولي الألباب: " لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ " .
    أي: كُلٌّ سَيُجازَى بعمله, الذي عمله وحده, ليس عليه من وزر غيره شيء.
    ولزم من ذلك, أنهم يتبرءون مما عليه الجاهلون, من اللغو والباطل, والكلام الذي لا فائدة فيه.
    " سَلَامٌ عَلَيْكُمْ " أي لا تسمعون منا إلا الخير, ولا نخاطبكم بمقتضى جهلكم.
    فإنكم, وإن رضيتم لأنفسكم هذا المرتع اللئيم, فإننا ننزه أنفسنا عنه, ونصونها عن الخوض فيه.
    " لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ " من كل وجه.

    " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين " (56)
    يخبر تعالى أنك يا محمد - وغيرك من باب أولى - لا تقدر على هداية أحد, ولو كان من أحب الناس إليك.
    فإن هذا, أمر غير مقدور للخلق هداية للتوفيق, وخلق الإيمان في القلب, وإنما ذلك بيد اللّه تعالى, يهدي من يشاء, وهو أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه, ممن لا يصلح لها, فيبقيه على ضلاله.
    وأما إثبات الهداية للرسول في قوله تعالى: " وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " فتلك هداية البيان والإرشاد.
    فالرسول يبين الصراط المستقيم, ويرغب فيه, ويبذل جهده في سلوك الخلق له.
    وأما كونه يخلق في قلوبهم الإيمان, ويوفقهم بالفعل, فحاشا وكلا.
    ولهذا لو كان قادرا عليها, لهدى من وصل إليه إحسانه, ونصره, ومنعه من قومه, عمه أبا طالب, ولكنه أوصل إليه من الإحسان بالدعوة له للدين والنصح التام, ما هو أعظم مما فعله معه عمه, ولكن الهداية بيد اللّه.

    " وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون " (57)
    يخبر تعالى أن المكذبين من قريش, وأهل مكة, يقولون للرسول صلى اللّه عليه وسلم: " إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا " بالقتل والأسر, ونهب الأموال.
    فإن الناس قد عادوك وخالفوك, فلو تابعناك, لتعرضنا لمعاداة الناس كلهم, ولم يكن لنا بهم طاقة.
    وهذا الكلام منهم, يدل على سوء الظن باللّه تعالى, وأنه لا ينصر دينه, ولا يعلي كلمته.
    بل يمكن الناس من أهل دينه, فيسومونهم سوء العذاب, وظنوا أن الباطل سيعلو على الحق.
    قال اللّه - مبينا لهم حالة, هم بها دون الناس, وأن اللّه اختصهم بها فقال: " أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا " .
    أي: أولم نجعلهم متمكنين, ممكنين في حرم, يكثر المنتابون إليه, ويقصده الزائرون, قد احترمه القريب والبعيد, فلا يهاج أهله, ولا ينتقصون بقليل ولا كثير.
    والحال أن كل ما حولهم من الأماكن, قد حف بها الخوف من كل جانب, وأهلها غير آمنين ولا مطمئنين.
    فَلْيَحْمَدُوا ربهم على هذا الأمن التام, الذي ليس فيه غيرهم, وعلى الرزق الكثير, الذي يجيء إليهم من كل مكان, من الثمرات, والأطعمة, والبضائع, ما به يرتزقون ويتوسعون.
    ولْيَتَّبِعُوا هذا الرسول الكريم, ليتم لهم الأمن والرغد.

    " وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين " (58)
    وإياهم وتكذيبه, والبطر بنعمته, فيبدلوا من بعد أمنهم خوفا, وبعد عزهم ذلا, وبعد غناهم فقرا, ولهذا توعدهم بما فعل بالأمم قبلهم, فقال: " وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا " أي: فخرت بها, وألهتها, واشتغلت بها عن الإيمان بالرسل, فأهلكهم اللّه, وأزال عنهم النعمة, وأحل بهم النقمة.
    " فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا " لتوالي الهلاك والتلف عليهم, وإيحاشها من بعدهم.
    " وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ " للعباد, نميتهم, ثم يرجع إلينا جميع ما متعناهم به من النعم, ثم نعيدهم إلينا, فنجازيهم بأعمالهم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #406
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (404)
    تفسير السعدى
    سورة القصص
    من الأية(59) الى الأية(63)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة القصص



    " وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون "(59)
    ومن حكمته ورحمته, أن لا يعذب الأمم, بمجرد كفرهم, قبل إقامة الحجة عليهم, بإرسال الرسل إليهم, ولهذا قال: " وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى " أي بكفرهم وظلمهم " حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا " أي: في القرية والمدينة التي إليها يرجعون, ونحوها يترددون, وكل ما حولها ينتجعها, ولا تخفى عليهم أخبارها.
    " رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا " الدالة على صحة ما جاء به, وصدق ما دعا إليه.
    فيبلغ قوله قاصيهم ودانيهم.
    بخلاف بعث الرسل في القرى البعيدة, والأطراف النائية, فإن ذلك, مظنة الخفاء والجفاء, والمدن الأمهات, مظنة الظهور والانتشار, وفي الغالب أنهم أقل جفاء من غيرهم.
    " وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ " بالكفر والمعاصي, مستحقون للعقوبة.
    والحاصل, أن اللّه لا يعذب أحدا إلا بظلمه, وإقامة الحجة عليه.


    " وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون " (60)
    هذا حض منه تعالى لعباده, على الزهد في الدنيا, وعدم الاغترار بها, وعلى الرغبة في الأخرى, وجعلها مقصود العبد ومطلوبه.
    ويخبرهم أن جميع ما أوتيه الخلق, من الذهب, والفضة, والحيوانات والأمتعة, والنساء, والبنين, والمآكل, والمشارب, واللذات, كلها متاع الحياة الدنيا وزينتها.
    أي: يتمتع به وقتا قصيرا, متاعا قاصرا, محشوا بالمنغصات, ممزوجا بالغصص.
    ويتزين به زمانا يسيرا, للفخر والرياء, ثم يزول ذلك سريعا, وينقضي جميعا, ولم يستفد صاحبه منه إلا الحسرة والندم, والخيبة والحرمان.
    " وَمَا عِنْدَ اللَّهِ " من النعيم المقيم, والعيش السليم " خَيْرٌ وَأَبْقَى " أي: أفضل في وصفه وكميته, وهو دائم أبدا, ومستمر سرمدا.
    " أَفَلَا تَعْقِلُونَ " أي: أفلا تكون لكم عقول, بها تزنون أي الأمرين أولى بالإيثار, وأي الدارين أحق للعمل لها.
    فدل ذلك أنه بحسب عقل العبد, يؤثر الأخرى على الدنيا, وأنه ما آثر أحد الدنيا, إلا لنقص في عقله.
    ولهذا نبه العقول على الموازنة, بين عاقبة مؤثر الدنيا, ومؤثر الآخرة فقال:

    " أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين " (61)
    " أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ " أي: هل يستوي مؤمن, ساع للآخرة سعيها قد عمل على وعد ربه له, بالثواب الحسن, الذي هو الجنة, وما فيها من النعيم العظيم, فهو لاقيه, من غير شك, ولا ارتياب لأنه وعد من كريم, صادق الوعد, لا يخلف الميعاد, لعبد قام بمرضاته, وجانب سخطه.
    " كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " فهو يأخذ فيها, ويعطي, ويأكل ويشرب, ويتمتع كما تتمتع البهائم.
    قد اشتغل بدنياه عن آخرته, ولم يرفع بهدى الله رأسا, ولم ينقد للمرسلين.
    فهو لا يزال كذلك, لا يتزود من دنياه إلا الخسار والهلاك.
    " ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ " للحساب وقد علم أنه لم يقدم خيرا لنفسه, وإنما قدم جميع ما يضره, وانتقل إلى دار الأعمال.
    فما ظنكم بما يصير إليه؟ وما تحسبون ما يصنع به؟.
    فليختر العاقل لنفسه, ما هو أولى بالاختيار, وأحق الأمرين بالإيثار.

    " ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون " (62)
    هذا إخبار من اللّه تعالى, عما يسأل عنه الخلائق يوم القيامة, وأنه يسألهم عن أصول الأشياء, عن عبادة اللّه, وإجابة رسله فقال: " وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ " أي: ينادي من أشركوا به شركاء, يعبدونهم, ويرجون نفعهم, ودفع الضرر عنهم, فيناديهم, ليبين لهم عجزها, وضلالهم.
    " فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ " , وليس للّه شريك, ولكن ذلك بحسب زعمهم وافترائهم.
    ولهذا قال: " الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ " فأين هم, بذواتهم, وأين نفعهم وأين دفعهم؟ ومن المعلوم أنهم يتبين لهم في تلك الحال, أن الذي عبدوه, ورجوه باطل, مضمحل في ذاته, وما رجوا منه, فيقولون أي: يحكمون على أنفسهم بالضلالة والغواية.

    " قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون "(63)
    ولهذا " قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ " من الرؤساء والقادة, في الكفر والشر, مقرين بغوايتهم وإغوائهم: " رَبَّنَا هَؤُلَاءِ " التابعون " الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا " .
    أي: كلنا قد اشترك في الغواية, وحق عليه كلمة العذاب.
    " تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ " من عبادتهم, أي: نحن برآء منهم, ومن عملهم.
    " مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ " وإنما كانوا يعبدون الشياطين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #407
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (405)
    تفسير السعدى
    سورة القصص
    من الأية(64) الى الأية(75)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة القصص



    " وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون " (64)
    " وَقِيلَ " لهم: " ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ " على ما أملتم فيهم, من النفع.
    فأمروا بدعائهم في ذلك الوقت الحرج, الذي يضطر فيه العابد إلى من عبده.
    " فَدَعَوْهُمْ " لينفعوهم, أو يدفعوا عنهم من عذاب اللّه من شيء.
    " فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ " فعلم الذين كفروا, أنهم كانوا كاذبين, مستحقين للعقوبة.
    " وَرَأَوُا الْعَذَابَ " الذي سيحل بهم عيانا, بأبصارهم بعد ما كانوا مكذبين به, منكرين له.
    " لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ " أي: لما حصل عليهم ما حصل, ولهدوا إلى صراط الجنة, كما اهتدوا في الدنيا, ولكن لم يهتدوا, فلم يهتدوا.

    " ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين " (65)
    " وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ " , هل صدقتموهم, واتبعتموهم أم كذبتموهم وخالفتموهم؟
    " فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون " (66)
    " فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ " أي: لم يحيروا عن هذا السؤال جوابا, ولم يهتدوا إلى الصواب.
    ومن المعلوم; أنه لا ينجى في هذا الموضع; إلا التصريح بالجواب الصحيح; المطابق لأحوالهم; من أننا أجبناهم بالإيمان; والانقياد.
    ولكن لما علموا تكذيبهم لهم وعنادهم لأمرهم; لم ينطقوا بشيء.
    ولا يمكن أن يتساءلوا; ويتراجعوا بينهم; فبماذا يجيبون به; ولو كان كذبا.

    " فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين " (67)
    لما ذكر تعالى سؤال الخلق عن معبودهم; وعن رسلهم; ذكر الطريق, الذي ينجو به العبد, من عقاب اللّه تعالى, وأنه لا نجاة إلا لمن اتصف بالتوبة عن الشرك والمعاصي, وآمن باللّه فعبده, وآمن برسله, فصدقهم, وعمل صالحا; متبعا فيه للرسل.
    " فَعَسَى أَنْ يَكُونَ " من جمع هذه الخصال " مِنَ الْمُفْلِحِينَ " الناجحين بالمطلوب; الناجين من المرهوب.
    فلا سبيل إلى الفلاح بدون هذه الأمور.

    " وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون " (68)
    هذه الآيات; فيها عموم خلقه لسائر المخلوقات; ونفوذ مشيئته بجميع البريات; وانفراده باختيار من يختاره ويختصه; من الأشخاص; والأوامر والأزمان, والأماكن.
    وأن أحدا; ليس له من الأمر والاختيار شيء.
    وأنه تعالى; منزه عن كل ما يشركون به.
    من الشريك; والظهير والعوين; والولد; والصاحبة; ونحو ذلك; مما أشرك به المشركون.
    وأنه العالم بما أكنته الصدور, وما أعلنوه.
    وأنه وحده, المعبود المحمود; في الدنيا والآخرة; على ماله من صفات الجلال والجمال; وعلى ما أسداه إلى خلقه من الإحسان والإفضال.
    وأنه هو الحاكم في الدارين: في الدنيا; بالحكم القدري; الذي أثره جميع ما خلق وذرأ, والحكم الديني, الذي أثره جميع الشرائع, والأوامر والنواهي.
    وفي الآخرة يحكم بحكمه القدري والجزائي, ولهذا قال: " وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " فيجازي كلا منكم بعمله, من خير وشر.

    " قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون " (71)
    هذا امتنان من اللّه على عباده, يدعوهم به إلى شكره, والقيام بعبوديته وحقه, أن جعل لهم من رحمته, النهار ليبتغوا من فضل اللّه, وينتشروا لطلب أرزاقهم ومعايشهم, في ضيائه, والليل ليهدأوا فيه ويسكنوا, وتستريح أبدانهم وأنفسهم, من تعب التصرف في النهار, قهذا من فضله ورحمته بعباده.
    فهل أحد يقدر على شيء من ذلك؟ و " إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ " مواعظ اللّه وآياته, سماع فهم وقبول, وانقياد.
    و " إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ " مواقع العبر; ومواضع الآيات فتستنير في بصائركم, وتسلكوا الطريق المستقيم.
    وقال في الليل " أَفَلَا تَسْمَعُونَ " وفي النهار " أَفَلَا تُبْصِرُونَ " .
    لأن سلطان السمع في الليل, أبلغ من سلطان البصر, وعكسه النهار.
    وفي هذه الآيات, تنبيه إلى أن العبد ينبغي له أن يتدبر نعم اللّه عليه, ويستبصر فيها; ويقيسها بحال عدمها.
    فإنه إذا وازن بين حالة وجودها, وبين حالة عدمها; تنبه عقله لموضع المنة.
    بخلاف من جرى مع العوائد, ورأى أن هذا أمر, لم يزل مستمرا, ولا يزال.
    وعمى قلبه عن الثناء على اللّه, بنعمه, ورؤية افتقاره إليها في كل وقت.
    فإن هذا, لا يحدث له فكرة شكر, ولا ذكر.

    " ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون " (74)
    أي: ويوم ينادي اللّه المشركين به, العادلين به غيره, الذين يزعمون أن له شركاء, يستحقون أن يعبدوا, وينفعون ويضرون.
    فإذا كان يوم القيامة وأراد اللّه أن يظهر جراءتهم وكذبهم في زعمهم وتكذيبهم لأنفسهم " يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ " أي: بزعهم, لا بنفس الأمر كما قال: " وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ "

    " ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون " (75)
    فإذا حضروا, هم وإياهم, نزع اللّه " مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ " من الأمم المكذبة " شَهِيدًا " يشهد على ما جرى في الدنيا, من شركهم واعتقادهم, وهؤلاء بمنزلة المنتخبين.
    أي: انتخبنا من رؤساء المكذبين, من يتصدى للخصومة عنهم, والمجادلة عن إخوانهم, وهم على طريق واحد.
    فإذا برزوا للمحاكمة " فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ " أي: حجتكم ودليلكم, على صحة شرككم.
    هل أمرناكم بذلك؟ هل أمرتكم رسلي؟ هل وجدتم ذلك في شيء من كتبي؟ هل فيهم أحد يستحق شيئا من الإلهية؟ هل ينفعوكم, أو يدفعون عنكم من عذاب اللّه, أو يغنون عنكم؟ فليفعلوا, إذا كان فيهم أهلية, وليروكم, إن كان لهم قدرة.
    " فَعَلِمُوا " حينئذ, بطلان قولهم وفساده, و " أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ " تعالى: قد توجهت عليهم الخصومة, وانقطعت حجتهم, وأفلحت حجة اللّه.
    " وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ " من الكذب, والإفك, واضمحل, وتلاشى, وعدم.
    وعلموا أن اللّه قد عدل فيهم, حيث لم يضع العقوبة, إلا بمن استحقها, واستأهلها

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #408
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة 406)
    تفسير السعدى
    سورة القصص
    من الأية(76) الى الأية(82)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة القصص



    " إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين " (76)
    يخبر تعالى, عن حالة قارون, وما فعل, وفُعِلَ به ونُصِحَ ووُعِظَ, فقال: " إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى " أي: من بني إسرائيل, الذين فُضِّلوا على العالمين, وفاقوهم في زمانهم, وامتن اللّه عليهم بما امتن به, فكانت حالهم مناسبة للاستقامة.
    ولكن قارون هذا, انحرف عن سبيل قومه " فَبَغَى عَلَيْهِمْ " وطغى, بما أوتيه من الأمور العظيمة المطغية.
    " وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ " أي: كنوز الأموال شيئا كثيرا " مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ " والعصبة, من العشرة إلى التسعة إلى السبعة, ونحو ذلك.
    أي: حتى أن مفاتح خزائن أمواله, تثقل الجماعة القوية عن حملها, هذه المفاتيح, فما ظنك بالخزائن؟ " إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ " ناصحين له محذرين له عن الطغيان: " لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ " أي: لا تفرح بهذه الدنيا العظيمة, وتفتخر بها, وتلهيك عن الآخرة, فإن اللّه لا يحب الفرحين بها, المنكبين على محبتها.

    " وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين " (77)
    " وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ " أي: قد حصل عندك من وسائل الآخرة, ما ليس عند غيرك من الأموال, فابتغ بها, ما عند اللّه, وتصدق ولا تقتصر على مجرد نيل الشهوات, وتحصيل اللذات.
    " وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا " أي: لا نأمرك أن تتصدق بجميع مالك, وتبقى ضائعا, بل أنفق لآخرتك, واستمتع بدنياك, استمتاعا, لا يثلم دينك, ولا يضر بآخرتك.
    " وَأَحْسَنُ " إلى عباد اللّه " كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ " بهذه الأموال.
    " وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ " بالتكبر, والعمل بمعاصي اللّه والاشتغال بالنعم عن المنعم.
    " إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ " بل يعاقبهم على ذلك, أشد العقوبة.

    " قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون (78)

    " قَالَ " قارون - رادا لنصيحتهم, كافرا بنعمة ربه -: " إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي " أي: إنما أدركت هذه الأموال, بكسبي, ومعرفتي بوجوه المكاسب, وحذقي.
    أو على علم من اللّه بحالي, يعلم أني أهل لذلك, فلم تنصحوني على ما أعطاني اللّه؟ قال تعالى - مبينا أن عطاءه, ليس دليلا على حسن حالة المعطي.
    " أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا " فما المانع من إهلاك قرون أخرى, مع مُضِيِّ عادتنا, وسنتنا بإهلاك من هو مثله.
    وأعظم منه, إذا فعل ما يوجب الهلاك؟.
    " وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ " بل يعاقبهم اللّه, ويعذبهم على ما يعلمه منهم.
    فهم, وإن أثبتوا لأنفسهم حالة حسنة, وشهدوا لها بالنجاة, فليس قولهم مقبولا, وليس ذلك رادا عنهم من العذاب شيئا, لأن ذنوبهم غير خفية, فإنكارهم لا محل له.
    فلم يزل قارون مستمرا على عناده وبغيه, وعدم قبول نصيحة قومه, فرحا بطرا قد أعجبته نفسه, وغره ما أوتيه من الأموال.

    " فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم " (79)
    " فَخَرَجَ " ذات يوم " عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ " أي بحالة أرفع ما يكون من أحوال دنياه, قد كان له من الأموال ما كان, وقد استعد وتجمل بأعظم ما يمكنه.
    وتلك الزينة في العادة, من مثله, تكون هائلة, جمعت زينة الدنيا وزهرتها وبهجتها وغضارتها وفخرها.
    فرمقته في تلك الحالة العيون, وملأت بِزَّتُهُ القلوب, واختلبت زينته, النفوس.
    فانقسم فيه الناظرون قسمين, كل تكلم بحسب ما عنده من الهمة والرغبة.
    " قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا " أي: الذين تعلقت إرادتهم فيها, وصارت منتهى رغبتهم, ليس لهم إرادة في سواها.
    " يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ " من الدنيا ومتاعها وزهرتها " إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ " وصدقوا إنه لذو حظ عظيم, لو كان الأمر منتهيا إلى رغباتهم, وأنه ليس وراء الدنيا, دار أخرى, فإنه قد أعطي منها, ما به غاية التنعم بنعيم الدنيا, واقتدر بذلك على جميع مطالبه, فصار هذا الحظ العظيم, بحسب همتهم, وإن همة جعلت هذا غاية مرادها, ومنتهى مطلبها لَمِنْ أدنى الهمم, وأسفلها, وأدناها, وليس لها أدنى صعود إلى المرادات العالية, والمطالب الغالية.

    " وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون " (80)
    " وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ " الذين عرفوا حقائق الأشياء, ونظروا إلى باطن الدنيا, حين نظر أولئك إلى ظاهرها: " وَيْلَكُمْ " متوجعين مما تمنوا لأنفسهم, راثين لحالهم, منكرين لمقالهم.
    " ثَوَابُ اللَّهِ " العاجل, من لذة العبادة ومحبته, والإنابة إليه, والإقبال عليه.
    والآجل من الجنة, وما فيها, مما تشتهيه الأنفس, وتلذ الأعين " خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا " من هذا الذي تمنيتم ورغبتم فيه, فهذه حقيقة الأمر.
    ولكن ما كل من يعلم ذلك يقبل عليه, فما يُلَقَّى ذلك ويوفق له " إِلَّا الصَّابِرُونَ " الذين حبسوا أنفسهم على طاعة اللّه, وعن معصيته, وعلى أقداره المؤلمة, وصبروا على جواذب الدنيا وشهواتها, أن تشغلهم عن ربهم, وأن تحول بينهم, وبين ما خلقوا له.
    فهؤلاء الذين يؤثرون ثواب اللّه على الدنيا الفانية

    " فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين "(81)
    فلما انتهت بقارون حالة البغي والفخر, وازَّيَّنَتْت الدنيا عنده, وكثر بها إعجابه, بغته العذاب " فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ " جزاء من جنس عمله.
    فكما رفع نفسه على عباد اللّه, أنزله اللّه أسفل سافلين, هو وما اغتر به, من داره, و أثاثه, ومتاعه.
    " فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ " أي: جماعة, وعصبة, وخدم, وجنود " يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِين َ " أي: جاءه العذاب, فما نصر, ولا انتصر.

    " وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون "(82)
    " وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ " أي: الذين يريدون الحياة الدنيا, الذين قالوا: " يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ " .
    " يَقُولُونَ " متوجعين ومعتبرين, وخائفين من وقوع العذاب بهم: " وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ " أي: يضيق الرزق على من يشاء, فعلمنا حينئذ, أن بسطه لقارون, ليس دليلا على خير فيه, وأننا غالطون في قولنا: " إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ " .
    و " لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا " فلم يعاقبنا على ما قلنا, فلولا فضله ومنته " لَخَسَفَ بِنَا " .
    فصار هلاك قارون, عقوبة له, وعبرة وموعظة لغيره, حتى إن الذين غبطوه, سمعت كيف ندموا, وتغير فكرهم الأول.
    " وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ " أي: لا في الدنيا ولا في الآخرة.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #409
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة 407)
    تفسير السعدى
    سورة القصص
    من الأية(83) الى الأية(88)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة القصص


    " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين " (83)
    لما ذكر تعالى, قارون وما أوتيه من الدنيا, وما صار إليه عاقبة أمره, وأن أهل العلم قالوا: " ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا " رغب تعالى في الدار الآخرة, وأخبر بالسبب الموصل إليها فقال: " تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ " التي أخبر اللّه بها في كتبه وأخبرت بها رسله, التي جمعت كل نعيم, واندفع عنها كل مقدر ومنغص " نَجْعَلُهَا " دارا وقرارا " لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا " أي: ليس لهم إرادة فكيف العمل للعلو في الأرض, على عباد اللّه, والتكبر عليهم وعلى الحق " وَلَا فَسَادًا " وهذا شامل لجميع المعاصي.
    فإذا كانوا لا إرادة لهم في العلو في الأرض, ولا الفساد, لزم من ذلك, أن تكون إرادتهم مصروفة إلى اللّه, وقصدهم الدار الآخرة, وحالهم, التواضع لعباد اللّه, والانقياد للحق والعمل الصالح.
    وهؤلاء هم المتقون الذين لهم العاقبة الحسنى, ولهذا قال: " وَالْعَاقِبَةُ " أي حالة الفلاح والنجاح, التي تستقر وتستمر, لمن اتقى اللّه تعالى.
    وغيرهم - وإن حصل لها بعض الظهور والراحة - فإنه لا يطول وقته, ويزول عن قريب.
    وعلم من هذا الحصر في الآية الكريمة, أن الذين يريدون العلو في الأرض, أو الفساد, ليس لهم في الدار الآخرة, نصيب, ولا لهم منها, حظ.

    " من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون " (84)
    يخبر تعالى عن مضاعفة فضله, وتمام عدله فقال: " مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ " شرط فيها أن يأتي بها العامل, لأنه قد يعملها, ولكن يقترن بها ما لا تقبل منه, أو يبطلها, فهذا لم يجئ بالحسنة.
    والحسنة, اسم جنس يشمل جميع ما أمر اللّه به ورسوله, من الأقوال, والأعمال الظاهرة, والباطنة, المتعلقة بحقه تعالى, وحقوق العباد " فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا " أي: أعظم وأجل, وفي الآية الأخرى " فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا " .
    هذا التضعيف للحسنة, لا بد منه, وقد يقترن بذلك من الأسباب, ما تزيد به المضاعفة كما قال تعالى: " وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ " بحسب حال العامل وعمله, ونفعه, ومحله, ومكانه.
    " وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ " وهي كل ما نهى الشارع عنه, نَهْيَ تحريم.
    " فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " كقوله تعالى " مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ " :

    " إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين "(85)
    يقول تعالى " إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ " أي: نزله, وفرض فيه الأحكام, وبين فيه الحلال والحرام, وأمرك بتبليغه للعالمين, والدعوة لأحكامه, جميع المكلفين.
    لا يليق بحكمته, أن تكون هي الحياة الدنيا فقط, من غير أن يثاب العباد ويعاقبوا.
    بل لا بد أن يردك إلى معاد, يجازي فيه المحسنون بإحسانهم, والمسيئون بمعصيتهم.
    وقد بينت لهم الهدى, وأوضحت لهم المنهج.
    فإن تبعوك, فذلك حظهم وسعادتهم.
    وإن أبوا إلا عصيانك, والقدح بما جئت به من الهدى, وتفضيل ما معهم من الباطل على الحق, فلم يبق للمجادلة محل, ولم يبق إلا المجازاة على الأعمال من العالم بالغيب والشهادة, والحق والمبطل.
    ولهذا قال: " قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ " وقد علم أن رسوله هو المهتدي الهادي, وأن أعداءه هم الضالون المضلون.

    " وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين "(86)
    " وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ " أي: لم تكن متحريا لنزول هذا الكتاب عليك, ولا مستعدا له, ولا متصديا.
    " إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ " وبالعباد, فأرسلك بهذا الكتاب, الذي رحم به العالمين, وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون, وزكاهم, وعلمهم الكتاب والحكمة, وإن كانوا من قبل, لفي ضلال مبين.
    فإذا علمت أنه أنزل إليك رحمة منه, علمت, أن جميع ما أمر به, ونهى عنه, رحمة, وفضل من اللّه.
    فلا يكن في صدرك حرج من شيء منه, وتظن أن مخالفه, أصلح وأنفع.
    " فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ " أي: معينا لهم على ما هو, من شعب كفرهم.
    ومن جملة مظاهرتهم, أن يقال في شيء منه, إنه خلاف الحكمة والمصلحة والمنفعة.

    " ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين " (87)
    " وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ " بل أبلغها وأنفذها, ولا تبال بمكرهم ولا يخدعنك عنها, ولا تتبع أهواءهم.
    " وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ " أي اجعل الدعوة إلى ربك, منتهى قصدك وغاية عملك.
    فكل ما خالف ذلك, فارفضه, من رياء, أو سمعة, أو موافقة أغراض أهل الباطل, فإن ذلك داع إلى الكون معهم, ومساعدتهم على أمرهم ولهذا قال: " وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " لا في شركهم, ولا في فروعه وشعبه, التي هي حميع المعاصي.

    " ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون " (88)
    " وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ " بل أخلص للّه عبادتك, فإنه " لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ " فلا أحد يستحق أن يؤله, ويحب, ويعبد, إلا اللّه الكامل الباقي الذي " كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ " وإذا كان كل شيء سواه هالكا مضمحلا, فعبادة الهالك الباطل باطلة, ببطلان غايتها, وفساد نهايتها.
    " لَهُ الْحُكْمُ " في الدنيا والآخرة " وَإِلَيْهِ " لا إلى غيره " تُرْجَعُونَ " .
    فإذا كان ما سوى اللّه, باطلا هالكا, واللّه هو الباقي, الذي لا إله إلا هو, وله الحكم في الدنيا والآخرة, وإليه مرجع الخلائق كلهم, ليجازيهم بأعمالهم, تعَّين على من له عقل, أن يعبد اللّه وحده لا شريك له, ويعمل لما يقربه ويدنيه, ويحذر من سخطه وعقابه, وأن يقدم على ربه غير تائب, ولا مقلع عن خطإه وذنوبه.
    تم تفسير سورة القصص - وللّه الحمد والثناء والمجد دائما أبدا.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #410
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة 408)
    تفسير السعدى
    سورة العنكبوت
    من الأية(1) الى الأية(9)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة العنكبوت



    " أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون " (2)
    يخبر تعالى, عن تمام حكمته, وأن حكمته, لا تقتضي أن كل من قال " إنه مؤمن " وادعى لنفسه الإيمان, أن يبقوا في حالة, يسلمون فيها من الفتن والمحن, ولا يعرض لهم, ما يشوش عليهم إيمانهم وفروعه.
    فإنهم لو كان الأمر كذلك, لم يتميز الصادق من الكاذب, والحق من المبطل, ولكن سنته تعالى وعادته في الأولين, وفي هذه الأمه, أن يبتليهم بالسراء والضراء, والعسر واليسر, والمنشط والمكره, والغنى والفقر, وإدالة الأعداء عليهم في بعض الأحيان, ومجاهدة الأعداء بالقول والعمل, ونحو ذلك من الفتن, التي ترجع كلها, إلى فتنة الشبهات المعارضة للعقيدة, والشهوات المعارضة للإرادة.
    فمن كان عند ورود الشبهات, يثبت إيمانه ولا يتزلزل, ويدفعها بما معه من الحق.
    وعند ورود الشهوات الموجبة والداعية إلى المعاصي والذنوب, أو الصارفة عن ما أمر اللّه به ورسوله, يعمل بمقتضى الإيمان, ويجاهد شهوته, دل ذلك على صدق إيمانه وصحته.
    ومن كان عند ورود الشبهات تؤثر في قلبه, شكا وريبا, وعند اعتراض الشهوات, تصرفه إلى المعاصي أو تصدفه عن الواجبات, دل ذلك على عدم صحة إيمانه وصدقه.
    والناس في هذا المقام: درجات, لا يحصيها إلا اللّه, فمستقل ومستكثر.
    فنسأل اللّه تعالى, أن يثبتنا بالقول الثابت, في الحياة الدنيا وفي الآخرة, وأن يثبت قلوبنا على دينه.
    فالابتلاء والامتحان للنفوس, بمنزلة الكير, يخرج خبثها, وطيبها.

    " أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون " (4)
    أي: أحسب الذين همهم, فعل السيئات, وارتكاب الجنايات, أن أعمالهم ستهمل, وأن اللّه سيغفل عنهم, أو يفوتونه, فلذلك أقدموا عليها, وسهل عليهم عملها؟.
    " سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ " أي: ساء حكمهم, فإنه حكم جائر, لتضمنه إنكار قدرة اللّه وحكمته, وأن لديهم قدرة, يمتنعون بها من عقاب اللّه, وهم أضعف شيء وأعجزه.

    " من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم " (5)
    يعني: يا أيها الحب لربه المشتاق لقربه ولقائه, المسارع في مرضاته, أبشر بقرب لقاء الحبيب, فإنه آت, وكل ما هو آت, قريب.
    فتزود للقائه, وسر نحوه, مستصحبا الرجاء, مؤملا الوصول إليه.
    ولكن, ما كل من يَدَّعِي يُعْطَى بدعواه, ولا كل من تمنى, يعطى ما تمناه, فإن اللّه سميع للأصوات, عليم بالنيات.
    فمن كان صادقا في ذلك, أناله ما يرجو, ومن كان كاذبا, لم تنفعه دعواه.
    وهو العليم بمن يصلح لحبه, ومن لا يصلح.

    " ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين " (6)
    " وَمَنْ جَاهَدَ " نفسه وشيطانه, وعدوه الكافر, " فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ " لأن نفعه, راجع إليه, وثمرته, عائدة إليه.
    و " إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ " لم يأمرهم به, لينتفع به, ولا نهاهم عما نهاهم عنه, بُخْلًا منه عليهم.
    وقد علم أن الأوامر والنواهي, يحتاج المكلف فيها, إلى جهاد, لأن نفسه, تتثاقل بطبعها, عن الخير, وشيطانه ينهاه عنه, وعدوه الكافر يمنعه من إقامة دينه, كما ينبغي.
    وكل هذه, معارضات, تحتاج إلى مجاهدات وسعي شديد.

    " والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون " (7)
    يعني أن الذين منَّ اللّه عليهم بالإيمان والعمل الصالح, سيكفر اللّه عنهم سيئاتهم, لأن الحسنات يذهبن السيئات.
    " وَلَنَجْزِيَنَّ هُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ " وهي أعمال الخير, من واجبات, ومستحبات, فهي أحسن ما يعمل العبد, لأنه يعمل المباحات أيضا, وغيرها.

    " ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون "(8)
    أي: وأمرنا الإنسان, ووصيناه بوالديه حسنا, أي: ببرهما, الإحسان إليهما, بالقول والعمل, وأن يحافظ على ذلك, ولا يعقهما, ويسيء إليها, في قوله وعمله.
    " وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ " , وليس لأحد علم بصحة الشرك باللّه, وهذا تعظيم لأمر الشرك.
    " فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " فأجازيكم بأعمالكم.
    فبروا والديكم وقدموا طاعتهما, إلا على طاعة اللّه ورسوله, فإنها مقدمة على كل شيء.

    " والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين " (9)
    أي: من آمن باللّه, وعمل صالحا, فإن اللّه وعده, أن يدخله الجنة في جملة عباد اللّه الصالحين, مى النبيين, والصديقين, والشهداء, والصالحين, كل على حسب درجته, ومرتبته عند اللّه.
    فالإيمان الصحيح, والعمل الصالح, عنوان على سعادة صاحبه, وأنه من أهل الرحمن, ومن الصالحين من عباد اللّه.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #411
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة 409)
    تفسير السعدى
    سورة العنكبوت
    من الأية(10) الى الأية(16)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة العنكبوت



    " ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين " (10)
    لما ذكر تعالى, أنه لا بد أن يمتحن من ادَّعى الإيمان, ليظهر الصادق من الكاذب, بيَّن تعالى, أن من الناس فريقا, لا صبر لهم على المحن, ولا ثبات لهم على بعض الزلازل فقال: " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ " بضرب, أو أخذ مال, أو تعيير, ليرتد عن دينه, وليراجع الباطل.
    " جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ " أي: يجعلها صادَّة له عن الإيمان, والثبات عليه, كما أن العذاب صادٌّ عما هو سببه.
    " وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ " , لأنه موافق للهوى, فهذا الصنف من الناس من الذين قال اللّه فيهم,: " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ " .
    " أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ " حيث أخبركم بهذا الفريق, الذي حاله كما وصف لكم, فتعرفون بذلك, كمال علمه, وسعة حكمته.

    " وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين "(11)
    " وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ " أي: فلذلك قَدَّرَ مِحَنًا وابتلاء, ليظهر علمه فيهم, فيجازيهم بما ظهر منهم, لا بما يعلمه بمجرده, لأنهم قد يحتجون على اللّه, أنهم لو اْبتُلُوا, لَثَبتُوا.
    " وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون " (12)
    يخبر تعالى عن افتراء الكفار ودعوتهم للمؤمنين إلى دينهم, وفي ضمن ذلك, تحذير المؤمنين, من الاغترار بهم, والوقوع في مكرهم فقال: " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا " فاتركوا دينكم أو بعضه, واتبعونا في ديننا, فإننا نضمن لكم الأمر " وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ " .
    وهذا الأمر ليس بأيديهم, فلهذا قال: " وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ " لا قليل ولا كثير.
    فهذا التحمل, ولو رضي به صاحبه, فإنه لا يفيد شيئا, فإن الحق للّه واللّه تعالى, لم يمكن العبد من التصرف في حقه, إلا بأمره وحكمه, وحكمه " أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى " .
    ولما كان قوله " وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ " قد يتوهم منه أيضا, أن الكفار الداعين إلى كفرهم - ونحوهم ممن دعا إلى باطله - ليس عليهم إلا ذنبهم, الذي ارتكبوه, دون الذنب الذي فعله غيرهم, ولو كانوا متسببين فيه, قال محترزا عن هذا الوهم: " وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ "

    " وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون " (13)
    " وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ " أي: أثقال ذنوبهم التي عملوها " وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ " وهي الذنوب التي حصلت بسببهم, ومن جرائهم.
    فالذنب الذي فعله التابع, لكل من التابع والمتبوع, حصة منه حصلت هذا لأنه فعله وباشره.
    والمتبوع, لأنه تسبب في فعله ودعا إليه.
    كما أن الحسنة إذا فعلها التابع, له أجرها بالمباشرة وللداعي, أجره بالتسبب.
    " وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ " من الشر وتزيينه, وقولهم " وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ " .

    " ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون " (14)
    يخبر تعالى, عن حكمه وحكمته, في عقوبات الأمم المكذبة, وأن اللّه أرسل عبده ورسوله, نوحا عليه السلام, إلى قومه, يدعوهم إلى التوحيد, وإفراد اللّه بالعبادة, والنهي عن الأنداد, والأصنام.
    " فَلَبِثَ فِيهِمْ " نبيا داعيا " أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا " , وهو لا يَنِي بدعوتهم, ولا يفتر في نصحهم, يدعوهم ليلا ونهارا وسرا وجهارا, فلم يرشدوا, ولا اهتدوا.
    بلى استمروا على كفرهم وطغيانهم, حتى دعا عليهم نبيهم نوح, عليه الصلاة والسلام مع شدة صبره, وحلمه, واحتماله فقال: " رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا " .
    " فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ " أي: الماء الذي نزل من السماء بكثرة, ونبع من الأرض بشدة " وَهُمْ ظَالِمُونَ " مستحقون العذاب.

    " فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين " (15)
    " فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ " الذين ركبوا معه, أهله ومن آمن به.
    " وَجَعَلْنَاهَا " أي: السفينة, أو قصة نوح " آيَةً لِلْعَالَمِينَ " يعتبرون بها, على أن من كذب الرسل, آخر أمره, الهلاك, وأن المؤمنين, سيجعل اللّه لهم, من كل هم فرجا, ومن كل ضيق, مخرجا.
    وجعل اللّه أيضا السفينة, أي: جنسها آية للعالمين, يعتبرون بها رحمة ربهم, الذي قيض لهم أسبابها, ويسر لهم أمرها, وجعلها تحملهم, وتحمل متاعهم, من محل إلى محل, ومن قطر إلى قطر.

    " وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون "(16)
    يذكر تعالى, أنه أرسل خليله, إبراهيم عليه السلام إلى قومه, يدعوهم إلى الله.
    فقال لهم: " اعْبُدُوا اللَّهَ " أي: وحِّدوه, وأخلصوا له العبادة, وامتثلوا ما أمركم به.
    " وَاتَّقُوهُ " أن يغضب عليكم, فيعذبكم, وذلك بترك ما يغضبه من المعاصي.
    " ذَلِكُمْ " أي: عبادة الله وتقواه " خَيْرٌ لَكُمْ " من ترك ذلك.
    وهذا من باب إطلاق " أفعل التفضيل " بما ليس في الطرف الآخر منه شيء.
    فإن ترك عبادة الله, وترك تقواه, لا خير فيه بوجه, وإنما كانت عبادة الله وتقواه, خيرا للناس, لأنه لا سبيل إلى نيل كرامته, في الدنيا والآخرة, إلا بذلك.
    وكل خير يوجد في الدنيا والآخرة, فإنه من آثار عبادة الله وتقواه.
    " إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ " ذلك, فاعلموا الأمور, وانظروا, ما هو أولى بالإيثار.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #412
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة 410)
    تفسير السعدى
    سورة العنكبوت
    من الأية(17) الى الأية(24)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة العنكبوت


    " إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون "(17)
    فلما أمرهم بعبادة الله وتقواه, نهاهم عن عبادة الأصنام, وبيَّن لهم نقصها, وعدم استحقاقها للعبودية فقال: " إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا " تنحتونها, وتخلقونها بأيديكم, وتخلقون لها أسماء الآلهة, وتختلقون الكذب, بالأمر بعبادتها, والتمسك بذلك.
    " إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ " في نقصه, وأنه ليس فيه ما يدعو إلى عبادته.
    " لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا " فكأنه قيل: قد بان لنا أن هذه الأوثان مخلوقة ناقصة, لا تملك نفعا ولا ضرا, ولا موتا ولا حياة ولا نشورا, وأن من هذا وصفه, لا يستحق أدنى أدنى أدنى مثقال مثقال مثقال ذرة, من العبادة والتأله.
    والقلوب لا بد أن تطلب معبودا تألهه, وتسأله حوائجها.
    فقال - حاثا لهم على من يستحق العبادة - " فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ " فإنه هو الميسر له, المقدر, المجيب لدعوة من دعاه لمصالح دينه ودنياه.
    " وَاعْبُدُوهُ " وحده, لا شريك له, لكونه الكامل النافع, الضار, المتفرد بالتدبير.
    " وَاشْكُرُوا لَهُ " وحده, لكون جميع ما وصل ويصل إلى الخلق, من النعم, فمنه.
    وجميع ما اندفع, ويندفع من النقم عنهم, فهو الدافع لها.
    " إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " فيجازيكم على ما عملتم, وينبئكم بما أسررتم وأعلنتم.
    فاحذروا القدوم عليه, وأنتم على شرككم, وارغبوا فيما يقربكم إليه, ويثيبكم - عند القدوم - عليه.

    " أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير " (19)
    " أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ " يوم القيامة " إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ " .
    كما قال تعالى: " وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ " .

    " قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير " (20)
    " قُلْ " لهم, إن حصل معهم ريب وشك في الابتداء: " سِيرُوا فِي الْأَرْضِ " بأبدانكم وقلوبكم " فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ " فإنكم ستجدون أمما من الآدميين, لا تزال توجد شيئا فشيئا, وتجدون النبات والأشجار, كيف تحدث, وقتا بعد وقت, وتجدون السحاب والرياح ونحوها, مستمرة في تجددها.
    بل الخلق دائما, في بدء وإعادة.
    فانظر إليهم وقت موتتهم الصغرى - النوم - وقد هجم عليهم الليل بظلامه, فسكنت منهم الحركات, وانقطعت منهم الأصوات, وصاروا في فرشهم ومأواهم, كالميتين.
    ثم إنهم لم يزالوا على ذلك, طول ليلهم, حتى تنفلق الأصباح, فانتبهوا من رقدتهم, وبعثوا من موتتهم, قائلين " الحمد للّه الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور " .
    ولهذا قال: " ثُمَّ اللَّهُ " بعد الإعارة " يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ " وهي النشأة لا تقبل موتا, ولا نوما, وإنما هو الخلود والدوام, في إحدى الدارين.
    " إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " فقدرته تعالى, لا يعجزها شيء, وكما قدر بها على ابتداء الخلق, فقدرته على الإعادة, من باب أولى وأحرى.

    " يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون " (21)
    " يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ " أي: هو المنفرد بالحكم الجزائي, وهو: إثابة الطائعين, ورحمتهم, وتعذيب العاصين والتنكيل بهم.
    " وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ " أي: ترجعون إلى الدار, التي بها تجري عليكم أحكام عذابه ورحمته.
    فاكتسبوا في هذ الدار, ما هو من أسباب رحمته من الطاعات.
    وابتعدوا عن أسباب عذابه, وهي المعاصي.

    " وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير " (22)
    " وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ " أي: يا هؤلاء المكذبين, المتجرئين على المعاصي, لا تحسبوا أنه مغفول عنكم, أو أنكم معجزون للّه في الأرض, ولا في السماء.
    فلا تغرنكم قدرتكم, وما زينت لكم أنفسكم, وخدعتكم, من النجاة من عذاب الله فلستم بمعجزين الله, في جميع أقطار العالم.
    " وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ " يتولاكم, فيحصل لكم مصالح دينكم ودنياكم.
    " وَلَا نَصِيرٍ " ينصركم, فيدفع عنكم المكاره.

    " والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم " (23)
    يخبر تعالى, من هم الذين زال عنهم الخير, وحصل لهم الشر.
    وأنهم الذين كفروا به وبرسله, وبما جاءوهم به, وكذبوا بلقاء اللّه.
    فليس عندهم, إلا الدنيا, فلذلك أقدموا, على ما أقدموا عليه, من الشرك والمعاصي, لأنه ليس في قلوبهم, ما يخوفهم من عاقبة ذلك, ولهذا قال: " أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي " أي: فلذلك لم يعلموا سببا واحدا, يحصلون به الرحمة.
    وإلا, فلو طمعوا في رحمته, لعملوا لذلك أعمالا.
    والإياس من رحمة اللّه, من أعظم المحاذير, وهو نوعان.
    إياس الكفار منها, وتركهم كل سبب يقربهم منها.
    وإياس العصاة, بسبب كثرة جناياتهم, أو حشتهم, فملكت قلوبهم, فأحدث لها الإياس.
    " وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " أي: مؤلم موجع.
    وكأن هذه الآيات, معترضات, بين كلام إبراهيم لقومه, وردهم عليه, واللّه أعلم بذلك.

    " فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون " (24)
    أي: فما كان مجاوبة قوم إبراهيم لإبراهيم, حين دعاهم إلى ربه, قبول دعوته, والاهتداء بنصحه, ورؤية نعمة اللّه عليهم بإرساله إليهم.
    وإنما كان مجاوبتهم له, شر مجاوبة.
    " قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ " أشنع القتلات, وهم أناس مقتدرون, لهم السلطان, فألقوه في النار " فَأَنْجَاهُ اللَّهُ " منها.
    " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ " فيعلمون صحة ما جاءت به الرسل, وبِرَّهُمْ ونصحهم, وبطلان قول من خالفهم, وناقضهم, وأن المعارضين للرسل, كأنهم تواصوا وحث بعضهم بعضا, على التكذيب.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #413
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة 411)
    تفسير السعدى
    سورة العنكبوت
    من الأية(25) الى الأية(37)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة العنكبوت



    " وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين " (25)
    " وَقَالَ " لهم إبراهيم في جملة ما قاله, من نصحه: " إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " .
    أي: غاية ذلك, مودة في الدنيا ستنقطع وتضمحل.
    " ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا " أي: يتبرأ كل من العابدين والمعبودين, من الآخر " وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ " .
    فكيف تتعلقون بمن يعلم أنه سيتبرأ, من عابديه, ويلعنهم؟.
    وأن " وَمَأْوَاكُمُ " جميعا, العابدين والمعبودين " النَّارَ " .
    وليس أحد, ينصركم من عذاب اللّه, ولا يدفع عنهم عقابه.

    " فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم " (26)
    أي لم يزل إبراهيم عليه الصلاة والسلام, يدعو قومه, وهم مستمرون على عنادهم.
    إلا أنه آمن له بدعوته, لوط, الذي نبأءه اللّه, وأرسله إلى قومه كما سيأتي ذكره.
    " وَقَالَ " إبراهيم, حيى رأى أن دعوة قومه لا تفيدهم شيئا: " إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي " أي: هاجر أرض السوء, ومهاجر إلى الأرض المباركة, وهي الشام.
    " إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ " أي: الذي له القوة, وهو يقدر على هدايتكم.
    ولكنه " حَكِيمٌ " ما اقتضت حكمته ذلك.
    ولما اعتزلهم وفارقهم, وهم بحالهم, لم يذكر اللّه عنهم, أنه أهلكهم بعذاب.
    بل ذكر اعتزاله إياهم, وهجرته من بين أظهرهم.
    فأما ما يذكر في الإسرائيليات, أن اللّه تعالى فتح على قومه باب البعوض, فشرب دماءهم, وأكل لحومهم, وأتلفهم عن آخرهم, فهذا يتوقف الجزم به, على الدليل الشرعي, ولم يوجد.
    فلو كان اللّه استأصلهم بالعذاب, لذكره, كما ذكر إهلاك الأمم المكذبة.
    ولكن هل من أسرار ذلك, أن الخليل عليه السلام, من أرحم الخلق, وأفضلهم, وأحلمهم, وأجلهم, فلم يدع على قومه, كما دعا غيره, ولم يكن اللّه ليجري عليهم بسببه, عذابا عاما؟.
    ومما يدل على ذلك, أنه راجع الملائكة في إهلاك قوم لوط, وجادلهم, ودافع عنهم, وهم ليسوا قومه, واللّه أعلم بالحال.

    " ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين " (27)
    " وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ " أي: بعد ما هاجر إلى الشام " وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ " .
    فلم يأت بعده نبي, إلا من ذريته, ولا نزل كتاب, إلا على ذريته, حتى ختموا بابنه, محمد صلى اللّه عليه وسلم, وعليهم أجمعين.
    وهذا من أعظم المناقب والمفاخر, أن تكون مواد الهداية والرحمة, والسعادة, والفلاح, والفوز, في ذريَّته, وعلى أيديهم, اهتدى المهتدون, وآمن المؤمنون, وصلح الصالحون: " وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا " من الزوجة الجميلة, فائقة الجمال, والرزق الواسع, والأولاد, الذين بهم قرت عينه, ومعرفة اللّه ومحبته, والإنابة إليه.
    " وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ " بل وهو, ومحمد صلى اللّه عليه وسلم, أفضل الصالحين على الإطلاق, وأعلاهم منزلة, فجمع اللّه له, بين سعادة الدنيا والآخرة.

    " ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين " (28)
    تقدم أن لوطا عليه السلام, آمن لإبراهيم, وصار من المهتدين به.
    وقد ذكروا, أنه ليس من ذرية إبراهيم, وإنما هو ابن أخي إبراهيم.
    ققوله تعالى: " وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ " وإن كان عاما, فلا يناقض كون لوط, نبيا رسولا, وهو ليس من ذريته, لأن الآية, جيء بها, لسياق المدح والثناء, على الخليل, وقد أخبر أن لوطا, اهتدى على يديه, ومن اهتدى على يديه أكمل ممن اهتدى من ذريته بالنسبة إلى فضيلة الهادي, واللّه أعلم.
    فأرسل اللّه لوطا إلى قومه, وكانوا مع شركهم, قد جمعوا بين فعل الفاحشة في الذكور, وقطع السبيل, وفشو المنكرات, في مجالسهم.
    فنصحهم لوط, عن هذه الأمور, وبيَّن لهم, قبائحها في نفسها, وما تئول إليه من العقوبة البليغة, فلم يرعووا, ولم يذكروا.
    " فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ " .
    فأيس منهم نبيهم, وعلم استحقاقهم العذاب, وجزع من شدة تكذيبهم له, فدعا عليهم و " قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ " فاستجاب اللّه دعاءه, فأرسل الملائكة لإهلاكهم.
    فمروا بإبراهيم قبل ذلك, وبشروه بإسحق, ومن وراء إسحق يعقوب.
    ثم سألهم إبراهيم أين يريدون؟ فأخبروه أنهم يريدون إهلاك قوم لوط.
    فجعل يراجعهم, ويقول " إِنَّ فِيهَا لُوطًا " .
    فقالوا له: " لَنُنَجِّيَنَّه ُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ " ثم مضوا حتى أتوا لوطا.
    فساءه مجيئهم, وضاق بهم ذرعا, بحيث إنه لم يعرفهم, وظن أنهم من جملة الضيوف, أبناء السبيل, فخاف عليهم من قومه, فقالوا له: " لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ " وأخبروه أنهم رسل اللّه.
    " إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا " أي: عذابا " مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ " فأمروه أن يسري بأهله ليلا.
    فلما أصبحوا, قلب اللّه عليهم ديارهم, فجعل عاليها سافلها, وأمطر عليهم حجارة من سجيل متتابعة حتى أبادتهم وأهلكتهم, فصاروا سَمَرًا من الأسمار, وعبرة من العبر.

    " ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون "(35)
    " وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ " أي: تركنا من ديار قوم لوط, آثارا بينة لقوم يعقلون العبر بقلوبهم, فينتفعون بها.
    كما قال تعالى: " وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ " .

    " وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين " (36)
    أي وأرسلنا " وَإِلَى مَدْيَنَ " القبيلة المعروفة المشهورة " أَخَاهُمْ شُعَيْبًا " الذي أمرهم بعبادة اللّه وحده لا شريك له, والإيمان بالبعث ورجائه, والعمل له, ونهاهم عن الإفساد في الأرض, ببخس المكاييل والموازين, والسعي بقطع الطرق.
    " فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين "(37)
    " فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ " أي عذاب اللّه " فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ " .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #414
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة 412)
    تفسير السعدى
    سورة العنكبوت
    من الأية(38) الى الأية(44)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة العنكبوت


    " وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين " (38)


    أي: وكذلك ما فعلنا بعاد وثمود, وقد علمت قصتهم, وتبين لكم بشيء تشاهدونه بأبصاركم من مساكنهم, وآثارهم, التي بانوا عنها.
    وقد جاءتهم رسلهم بالآيات البينات, المفيدة للبصيرة فكذبوهم, وجادلوهم.
    " وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ " حتى ظنوا أنها أفضل, مما جاءتهم به الرسل.


    " وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين " (39)


    وكذلك قارون, وفرعون, وهامان, حين بعث اللّه إليهم موسى ابن عمران; بالآيات البينات; والبراهين الساطعات, فلم ينقادوا, واستكبروا في الأرض, على عباد اللّه, فأذلوهم, وعلى الحق, فردوه, فلم يقدروا على النجاء, حين نزلت بهم العقوبة.
    " وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ " اللّه, ولا فائتين, بل سلموا واستسلموا.

    " فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " (40)


    " فَكُلَا " من هؤلاء الأمم المكذبة " أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ " على قدره, وبعقوبة مناسبة له.
    " فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا " أي: عذابا يحصبهم, كقوم عاد, حين أرسل اللّه عليهم الريح العقيم, و " سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ " .
    " وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ " كقوم صالح, " وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ " كقارون.
    " وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا " كفرعون وهامان, وجنودهما.
    " وَمَا كَانَ اللَّهُ " أي: ما ينبغي ولا يليق به " لِيَظْلِمَهُمْ " لكمال عدله, وغناه التام, عن جميع الخلق " وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ " منعوها حقها, الذي هي بصدده, فإنها مخلوقة لعبادة اللّه وحده.
    فهؤلاء, وضعوها في غير موضعها, وشغلوها, بالشهوات والمعاصي, فضروها غاية الضرر, من حيث ظنوا, أنهم ينفعونها.


    " مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون " (41)


    هذا مثل ضربه اللّه, لمن عبد معه غيره, يقصد به التعزز والتَّقَوِّي; والنفع; وأن الأمر بخلاف مقصوده; فإن مثله; كمثل العنكبوت; اتخذت بيتا, يقيها من الحر, والبرد, والآفات.
    " وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ " أي: أضعفها وأوهاها " لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ " .
    فالعنكبوت من الحيوانات الضعيفة, وبيتها, من أضعف البيوت فما ازدادت باتخاذه, إلا ضعفا.
    كذلك هؤلاء, الذين يتخذون من دونه أولياء, فقراء, عاجزون, من جميع الوجوه.
    وحين اتخذوا الأولياء من دونه, يتعززون بهم, ويستنصرونهم, ازدادوا ضعفا إلى ضعفهم, ووهنا إلى وهنهم.
    فإن اتكلوا عليهم, في كثير من مصالحهم, وألقوها عليهم, تخلوا هم عنها.
    على أن أولئك سيقومون بها.
    فخذلوهم, فلم يحصلوا منهم على طائل, ولا أنالوهم من معونتهم, أقل نائل.
    فلو كانوا يعلمون حقيقة العلم, حالهم, وحال من اتخذوهم, لم يتخذوهم, ولتبرأوا منهم, ولتولوا الرب القادر الرحيم, الذي إذا تولاه عبده وتوكل عليه, كفاه مئونة دينه ودنياه, وازداد قوة إلى قوته, في قلبه وبدنه وحاله وأعماله.
    ولما بين نهاية ضعف آلهة المشركين, ارتقى من هذا, إلى ما هو أبلغ منه, وأنها ليست بشيء, بل هي مجرد أسماء سموها, وظنون اعتقدوها.
    وعند التحقيق, يتبين للعاقل بطلانها وعدمها, ولهذا قال:


    " إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم " (42)


    " إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ " أي: إنه تعالى يعلم - وهو عالم الغيب والشهادة - أنهم ما يدعون من دون اللّه شيئا موجودا, ولا إلها له حقيقة, كقوله تعالى " إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ " .
    وقوله " وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ " .
    " وَهُوَ الْعَزِيزُ " الذي له القوة جميعا, الذي قهر بها جميع الخلق.
    " الْحَكِيمُ " الذي يضع الأشياء مواضعها, الذي أحسن كل شيء خلقه, وأتقن ما أمره.

    " وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون " (43)


    " وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ " أي: لأجلهم ولانتفاعهم وتعليمهم لكونها من الطرق الموضحة للعلوم, لأنها تقرب الأمور المعقولة, بالأمور المحسوسة, فيتضح المعنى المطلوب بسببها, فهي مصلحة لعموم الناس.
    ولكن " وَمَا يَعْقِلُهَا " بفهمها وتدبرها, وتطبيقها على ما ضربت له, وعقلها في القلب.
    " إِلَّا الْعَالِمُونَ " أي: إلا أهل العلم الحقيقي, الذين وصل العلم إلى قلوبهم.
    وهذا مدح للأمثال, التي يضربها, وحثٌّ على تدبرها وتعقلها, ومدح لمن يعقلها.
    وأنه عنوان, على أنه من أهل العلم, فعلم أن من لم يعقلها, ليس من العالمين.
    والسبب في ذلك, أن الأمثال التي يضربها اللّه في القرآن, إنما هي للأمور الكبار, والمطالب العالية, والمسائل الجليلة.
    فأهل العلم, يعرفون أنها أهم من غيرها, لاعتناء اللّه بها, وحثه عباده على تعقلها, وتدبرها.
    فيبذلون جهدهم في معرفتها.
    وأما من لم يعقلها, مع أهميتها, فإن ذلك, دليل على أنه ليس من أهل العلم, لأنه إذا لم يعرف المسائل المهمة, فعدم معرفته غيرها, من باب أولى وأحرى.
    ولهذا, أكثر ما يضرب اللّه الأمثال في أصول الدين, ونحوها


    " خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين " (44)


    أي: هو تعالى, المنفرد بخلق السماوات, على علوها وارتفاعها وسعتها وحسنها وما فيها من الشمس والقمر والكواكب والملائكة.
    والأرض وما فيها من الجبال والبحار والبراري والقفار, والأشجار ونحوها.
    وكل ذلك خلقه بالحق, أي لم يخلقها عبثا, ولا سدى, ولا لغير فائدة.
    وإنما خلقها, ليقوم أمره وشرعه, ولتتم نعمته على عباده, وليروا من حكمته, وقهره وتدبيره, ما يدلهم على أنه وحده, معبودهم, ومحبوبهم, وإلههم.
    " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ " على كثير من المطالب الإيمانية, إذا تدبرها المؤمن, رأى ذلك فيها عيانا.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #415
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (413)
    تفسير السعدى
    سورة العنكبوت
    من الأية(45) الى الأية(50)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة العنكبوت


    " اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون " (45)
    يأمر تعالى بتلاوة وحيه, وتنزيله, وهو: هذا الكتاب العظيم.
    ومعنى تلاوته, اتباعه, بامتثال ما يأمر به, واجتناب ما ينهى عنه, والاهتداء بهداه, وتصديق أخباره, وتدبر معانيه, وتلاوة ألفاظه, فصار تلاوة لفظه جزء المعنى, وبعضه.
    وإذا كان هذا معنى تلاوة الكتاب, عل أن إقامة الدين كلها, داخلة في تلاوة الكتاب.
    فيكون قوله " وَأَقِمِ الصَّلَاةَ " من باب عطف الخاص على العام, لفضل الصلاة وشرفها, وآثارها الجميلة, وهي " إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ " .
    فالفحشاء, كل ما استعظم, واستفحش من المعاصي, التي تشتهيها النفوس.
    والمنكر: كل معصية تنكرها العقول والفطر.
    ووجه كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر, أن العبد المقيم لها, المتمم لأركانها وشروطها, وخشوعها, يستنير قلبه, ويتطهر فؤاده, ويزداد إيمانه, وتقوى رغبته في الخير, وتقل أو تنعدم, رغبته في الشر.
    فبالضرورة, مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه, تنهى عن الفحشاء والمنكر.
    فهذا من أعظم مقاصد الصلاة, وثمراتها.
    وثَمَّ في الصلاة, مقصود أعظم من هذا وأكبر, وهو: ما اشتملت عليه من ذكر اللّه, بالقلب, واللسان, والبدن.
    فإن اللّه تعالى, إنما خلق العباد, لعبادته, وأفضل عبادة تقع منهم الصلاة.
    وفيها من عبوديات الجوارح كلها, ما ليس في غيرها, ولهذا قال: " وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ " .
    ويحتمل أنه لما أمر بالصلاة ومدحها, أخبر أن ذكره تعالى, خارج الصلاة, أكبر من الصلاة كما هو قول جمهور المفسرين.
    لكن الأول, أولى, لأن الصلاة, أفضل من الذكر خارجها, ولأنها - كما تقدم - بنفسها من أكبر الذكر.
    " وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ " من خير وشر, فيجازيكم على ذلك, أكمل الجزاء, وأوفاه.
    " وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ "
    ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب, إذا كانت عن غير بصيرة من المجادل, أو بغير قاعدة مرضية, وأن لا يجادلوا, إلا بالتي هي أحسن, بحسن خلق ولطف ولين كلام, ودعوة إلى الحق, وتحسينه, ورد الباطل وتهجينه, بأقرب طريق موصل لذلك.
    وأن لا يكون القصد منها, مجرد المجادلة والمغالبة, وحب العلو, بل يكون القصد, بيان الحق, وهداية الخلق.
    " إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا " من أهل الكتاب, بأن ظهر من قصد المجادل منهم وحاله, أنه لا إرادة له في الحق, وإنما يجادل, على وجه المشاغبة والمغالبة.
    فهذا, لا فائدة في جداله, لأن المقصود منها ضائع.
    " وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ " أي: ولتكن مجادلتكم لأهل الكتاب مبنية على الإيمان.
    بما أنزل إليكم وأنزل إليهم, وعلى الإيمان برسولكم ورسولهم, وعلى أن الإله واحد.
    ولا تكن مناظرتكم إياهم, على وجه يحصل به القدح, في شيء من الكتب الإلهية, أو بأحد من الرسل, كما يفعله الجاهل عند مناظرة الخصوم, يقدح بجميع ما معهم, من حق وباطل, فهذا ظلم, وخروج عن الواجب, وآداب النظر.
    فإن الواجب, أن يرد ما مع الخصم من الباطل, ويقبل ما معه من الحق.
    ولا يرد الحق, لأجل قوله, ولو كان كافرا.
    وأيضا فإن بناء مناظرة أهل الكتاب, على هذا الطريق, فيه إلزام لهم, بالإقرار بالقرآن, وبالرسول, الذي جاء به.
    فإنه إذا تكلم في الأصول الدينية, والتي اتفقت عليها الأنبياء والكتب وتقررت عند المناظرين, وثبتت حقائقها عندهما, وكانت الكتب السابقة, والمرسلون, مع القرآن ومحمد صلى اللّه عليه وسلم, قد بينتها, ودلت, وأخبرت بها, فإنه يلزم التصديق بالكتب كلها, والرسل كلهم, وهذا من خصائص الإسلام.
    فأما أن يقال: نؤمن بما دل عليه الكتاب الفلاني, دون الكتاب الفلاني, وهو الحق الذي صدق ما قبله, فهذا ظلم وهوى.
    وهو يرجع إلى قومه بالتكذيب, لأنه إذا كذب القرآن الدال عليها, المصدق لما بين يديه, فإنه مكذب لما زعم أنه به مؤمن.
    وأيضا فإن كل طريق تثبت بها نبوة أي نبي كان, فإن مثلها.
    وأعظم منها, دالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم.
    وكل شبهة يقدح بها في نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم, فإن مثلها, أو أعظم منها, يمكن توجيهها إلى نبوة غيره.
    فإذا ثبت بطلانها في غيره, فثبوت بطلانها في حقه صلى اللّه عليه وسلم, أظهر وأظهر.
    وقوله " وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ " أي: منقادون مستسلمون لأمره.
    ومن آمن به, واتخذه إلها, وآمن بجميع كتبه, ورسله, وانقاد للّه واتبع رسله, فهو السعيد.
    ومن انحرف عن هذا الطريق, فهو الشقي.

    " وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون " (47)
    أي " وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ " يا محمد, هذا " الْكِتَابُ " الكريم, المبين كل نبأ عظيم.
    الداعي إلى كل خلق فاضل, وأمر كامل, المصدق للكتب السابقة, المخبر به الأنبياء الأقدمون.
    " فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ " فعرفوه حق معرفته, ولم يداخلهم حسد وهوى.
    " يُؤْمِنُونَ بِهِ " لأنهم تيقنوا صدقه, بما لديهم من الموافقات, وبما عندهم من البشارات, وبما تميزوا به, من معرفة الحسن والقبيح, والصدق والكذب.
    " وَمِنْ هَؤُلَاءِ " الموجودين " مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ " إيمانا عن بصيرة, لا عن رغبة ولا رهبة.
    " وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ " الذين دأبهم الجحود للحق, والعناد له.
    وهذا حصر لمن كفر به, أنه لا يكون من أحد, قصده متابعة الحق.
    وإلا, فكل من له قصد صحيح, فإنه لا بد أن يؤمن به, لما اشتمل عليه من البينات, لكل من له عقل, أو ألقى السمع وهو شهيد.

    " وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون " (48)
    ومما يدل على صحته, أنه جاء به هذا النبي الأمين, الذي عرف قومه صدقه, وأمانته, ومدخله ومخرجه, وسائر أحواله, وهو لا يكتب بيده خطا, بل ولا يقرأ خطا مكتوبا.
    فإتيانه به في هذه الحال, من أظهر البينات القاطعة, التي لا تقبل الارتياب, أنه من عند اللّه العزيز الحميد, ولهذا قال: " وَمَا كُنْتَ تَتْلُو " أي تقرأ " مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا " لو كنت بهذه الحال " لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ " فقالوا: تعلمه من الكتب السابقة, أو استنسخه منها.
    فأما وقد نزل على قلبك, كتابا جليلا, تحديت به الفصحاء البلغاء, الأعداء, الألداء أن يأتوا بمثله, أو بسورة من مثله, فعجزوا غاية العجز, بل ولا حدثتهم أنفسهم بالمعارضة, لعلمهم ببلاغته وفصاحته, وأن كلام أحد من البشر, لا يبلغ أن يكون مجاريا له أو على منواله, ولهذا قال: " بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ " إلى " الظَّالِمُونَ " .

    " بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون " (49)
    " بَلْ هُوَ " أي: هذا القرآن " آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ " لا خفيات.
    " فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ " وهم: سادة الخلق, وعقلاؤهم, وأولو الألباب منهم, والكمل منهم.
    فإذا كان آيات بينات, في صدور أمثال هؤلاء, كانوا حجة على غيرهم.
    وإنكار غيرهم, لا يضر, ولا يكون ذلك إلا ظلما, ولهذا قال: " وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ " لأنه لا يجحدها إلا جاهل, تكلم بغير علم: ولم يقتد بأهل العلم, ومن هو التمكن من معرفته على حقيقته, أو متجاهل, عرف أنه حق فعانده, وعرف صدقه, فخالفه.

    " وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين "(50)
    أي: واعترض هؤلاء الظالمون المكذبون للرسول, ولما جاء به, واقترحوا عليه, نزول آيات, عينوها كما قال اللّه عنهم: " وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا " الآيات.
    فتعيين الآيات, ليس عندهم, ولا عند الرسول صلى اللّه عليه وسلم, فإن في ذلك تدابير, مع اللّه, وأنه لو كان كذا, وينبغي أن يكون كذا, وليس لأحد من الأمر شيء.
    ولهذا قال: " قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ " إن شاء أنزلها, أو منعها " وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ " وليس لي مرتبة, فوق هذه المرتبة.
    وإذا كان القصد بيان الحق من الباطل, فإذا حصل المقصود - بأي طريق - كان اقتراح الآيات المعينات على ذلك, ظلما وجورا, وتكبرا على اللّه, وعلى الحق.
    بل لو قدر أن تنزل تلك الآيات, ويكون في قلوبهم, أنهم لا يؤمنون بالحق إلا بها كان ذلك ليس بإيمان, وإنما ذلك, شيء وافق أهواءهم, فآمنوا, لا لأنه حق, بل لتلك الآيات.
    فأي فائدة حصلت, في إنزالها على التقدير الفرضي؟

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #416
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (414)
    تفسير السعدى
    سورة العنكبوت
    من الأية(51) الى الأية(59)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة العنكبوت


    " أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون " (51)
    ولما كان المقصود بيان الحق, ذكر تعالى طريقه فقال: " أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ " في علمهم بصدقك, وصدق ما جئت به " أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ " .
    وهذا كلام مختصر, جامع فيه, من الآيات البينات, والدلالات الباهرات, شيء كثير.
    فإنه كما تقدم إتيان الرسول به بمجرده, وهو أمي, من أكبر الآيات على صدقه.
    ثم عجزهم عن معارضته, وتحديهم إياه, آية أخرى.
    ثم ظهوره, وبروزه جهرا علانية, يتلى عليهم, ويقال: هو من عند اللّه, قد أظهره الرسول, وهو في وقت قلَّ فيه أنصاره, وكثر مخالفوه وأعداؤه, فلم يخفه, ولم يثن ذلك عزمه.
    بل خرج به على رءوس الأشهاد, ونادى به, بين الحاضر والباد, بأن هذا كلام ربي.
    فهل أحد يقدر على معارضته, أو ينطق بمباراته أو يستطيع مجاراته.
    ثم هيمنته على الكتب المتقدمة, وتصحيحه للصحيح, ونَفْيُ ما أدخل فيها من التحريف, والتبديل.
    ثم هدايته لسواء السبيل, في أمره ونهيه.
    فما أمر بشيء, فقال العقل " ليته لم يأمر به " , ولا نهى عن شيء فقال العقل " ليته لم ينه عنه " .
    بل هو مطابق للعدل والميزان, والحكمة المعقولة لذوي البصائر, والعقول.
    ثم مسايرة إرشاداته, وهدايته, وأحكامه, لكل حال, وكل زمان, بحيث لا تصلح الأمور إلا به.
    فجميع ذلك, يكفي من أراد تصديق الحق, وعمل على طلب الحق.
    فلا كفى اللّه, من لم يكفه القرآن, ولا شفى اللّه, من لم يشفه الفرقان.
    ومن اهتدى به واكتفى, فإنه رحمة له وخير, فلذلك قال: " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ " وذلك لما يحصل فيه من العلم الكثير, والخير الغزير وتزكية القلوب والأرواح, وتطهير العقائد, وتكميل الأخلاق, والفتوحات الإلهية, والأسرار الربانية.

    " قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون " (52)

    " قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا " فأنا قد استشهدته.
    فإن كنت كاذبا, أَحَلَّ بي ما به تعتبرون.
    وإن كان إنما يؤيدني, وينصرني, وييسر لي الأمور, فلتكفكم, هذه الشهادة الجليلة من اللّه.
    فإن وقع في قلوبكم أن شهادته - وأنتم لم تسمعوه, ولم تروه - لا تكفي دليلا, فإنه " يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " .
    ومن جملة معلوماته, حالي وحالكم, ومقالي لكم.
    فلو كنت متقولا عليه, مع علمه بذلك, وقدرته على عقوبتي - لكان قدحا, في علمه, وقدرته, وحكمته كما قال تعالى " وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ " .
    " وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ " حيث خسروا الإيمان باللّه, وملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, وحيث فاتهم النعيم المقيم, وحيث حصل لهم في مقابلة الحق الصحيح, كل باطل قبيح, وفي مقابلة النعيم, كل عذاب أليم, فخسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.

    " ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون " (53)
    يخبر تعالى, عن جهل المكذبين للرسول, وما جاء به, وأنهم يقولون - استعجالا للعذاب, وزيادة تكذيب: " مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " ؟ يقول تعالى " وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى " مضروب لنزوله, ولم يأت بعد " لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ " بسبب تعجيزهم لنا, وتكذيبهم الحق.
    فلو آخذناهم بجهلهم, لكان كلامهم, أسرع لبلائهم وعقوبتهم.
    ولكن - مع ذلك - فلا يستبطئوا نزوله " وَلَيَأْتِيَنَّ هُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ " .
    فوقع كما أخبر اللّه تعالى, لما قدموا لـ " بدر " بطرين مفاخرين, ظانين أنهم قادرون على مقصودهم.
    فأذلهم اللّه, وقتل كبارهم, واستوعب جملة أشرارهم, ولم يبق فيهم بيت, إلا أصابته تلك المصيبة.
    فأتاهم العذاب, من حيث لم يحتسبوا, ونزل بهم, وهم لا يشعرون.

    " يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين "(54)
    هذا, وإن لم ينزل عليهم العذاب الدنيوي, فإن أمامهم العذاب الأخروي, الذي لا يخلص منهم أحد منه, سواء عوجل بعذاب الدنيا, أو أمهل.
    " وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ " ليس لهم عنها, معدل ولا منصرف.
    قد أحاطت بهم من كل جانب, كما أحاطت بهم ذنوبهم, وسيئاتهم, وكفرهم.
    وذلك العذاب, هو العذاب الشديد.

    " يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون " (55)
    " يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " فإن أعمالكم انقلبت عليكم عذابا, وشملكم العذاب, كما شملكم الكفر والذنوب.
    " يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون "(56)
    يقول تعالى: " يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا " وصدقوا رسولي " إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ " فإذا تعذرت عليكم عبادة ربكم في أرض, فارتحلوا منها إلى أرض أخرى, حيث كانت العبادة للّه وحده.
    فأماكن العبادة, ومواضعها, واسعة, والمعبود واحد, والموت لا بد أن ينزل بكم ثم ترجعون إلى ربكم, فيجازي من أحسن عبادته وجمع بين الإيمان والعمل الصالح بإنزاله الغرف العالية, والمنازل الأنيقة الجامعة, لما تشتهيه الأنفس, وتلذ الأعين, وأنتم فيها خالدون.
    فـ " نَعَمْ " تلك المنازل, في جنات النعيم " أَجْرُ الْعَامِلِينَ " للّه.

    " الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون "(59)
    " الَّذِينَ صَبَرُوا " على عبادة اللّه " وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ " في ذلك.
    فصبرهم على عبادة اللّه, يقتضي بذل الجهد والطاقة في ذلك, والمحاربة العظيمة للشيطان, الذي يدعوهم إلى الإخلال بشيء من ذلك.
    وتوكلهم, يقتضي شدة اعتمادهم على اللّه, وحسن ظنهم به, أن يحقق ما عزموا عليه من الأعمال, ويكملها.
    ونص على التوكل, وإن كان داخلا في الصبر, لأنه يحتاج إليه في كل فعل, وترك مأمور به, ولا يتم إلا به.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #417
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (415)
    تفسير السعدى
    سورة العنكبوت
    من الأية(60) الى الأية(69)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة العنكبوت




    " وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم " (60)
    أي: الباري تبارك وتعالى, قد تكفل بأرزاق الخلائق كلهم, قويهم, وعاجزهم.
    فكم " مِنْ دَابَّةٍ " في الأرض, ضعيفة القوى, ضعيفة العقل.
    " لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا " ولا تدخره, بل لم تزل, لا شيء معها من الرزق, ولا يزال اللّه يسخر لها الرزق, في كل وقت بوقته.
    " اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ " فكلكم عيال اللّه القائم برزقكم, كما قام بخلقكم وتدبيركم.
    " وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " فلا تخفى عليه خافية, ولا تهلك دابة من عدم الرزق, بسبب أنها خافية عليه.
    كما قال تعالى: " وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَه َا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ " :

    " ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون "(61)
    هذا استدلال على المشركين, المكذبين بتوحيد الإلهية والعبادة, وإلزام لهم, بما أثبتوه من توحيد الربوبية.
    فأنت لو سألتهم من خلق السماوات والأرض, ومن نزل من السماء ماء, فأحيا به الأرض بعد موتها, ومن بيده تدبير جميع الأشياء؟ " لَيَقُولُنَّ اللَّهُ " وحده, ولَاعْتَرَفُوا بعجز الأوثان, ومن عبدوه مع اللّه, عن شيء من ذلك.
    فاعجب لإفكهم, وكذبهم, وعدولهم إلى من أقروا بعجزه, وأنه لا يستحق أن يدبر شيئا.
    وسَجِّلْ عليهم عدم العقل, وأنهم السفهاء, ضعفاء الأحلام.
    فهل تجد أضعف عقلا, وأقل بصيرة, ممن أتى إلى حجر, أو قبر ونحوه وهو يدري أنه لا ينفع ولا يضر, ولا يخلق ولا يرزق - ثم صرف له خالص الإخلاص, وصافي العبادية, وأشركه مع الرب, الخالق الرازق, النافع الضار.
    و " قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ " الذي بين الهدى من الضلال, وأوضح بطلان ما عليه المشركون, ليحذره الموفقون.
    و " قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ " الذي خلق العالم العلوي والسفلي, وقام بتدبيرهم, ورزقهم, وبسط الرزق على من يشاء, وضيقه عمن يشاء, حكمة منه, ولعلمه بما يصلح عباده, وما ينبغي لهم.

    " وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون "(64)
    يخبر تعالى عن حالة الدنيا والآخرة, وفي ضمن ذلك, التزهيد في الدنيا والتشويق للأخرى فقال: " وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا " في الحقيقة " إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ " تلهو بها القلوب, وتلعب بها الأبدان, بسبب ما جعل اللّه فيها من الزينة واللذات, والشهوات الخالبة للقلوب المعرضة, الباهجة للعيون الغافلة, المفرحة للنفوس المبطلة الباطلة.
    ثم تزول سريعا, وتنقضي جميعا, ولم يحصل منها محبها, إلا على الندم والخسران.
    " وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ " أي: الحياة الكاملة, التي من لوازمها, أن تكون أبدان أهلها, في غاية القوة, وقواهم في غاية الشدة, لأنها أبدان وقوى, خلقت للحياة وأن يكون موجودا فيها, كل ما تكمل به الحياة, وتتم به اللذة, من مفرحات القلوب, وشهوات الأبدان, من المآكل, والمشارب, والمناكح; وغير ذلك, مما لا عين رأت.
    ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر.
    " لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ " لما آثروا الدنيا على الآخرة, ولو كانوا يعقلون لما رغبوا عن دار الحيوان, ورغبوا في دار اللهو واللعب.
    فدل ذلك, أن الذين يعلمون, لا بد أن يؤثروا الآخرة على الدنيا, لما يعلمونه من حالة الدارين.

    " فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون "(65)
    ثم ألزم تعالى, المشركين بإخلاصهم للّه, في حال الشدة, عند ركوب البحر, وتلاطم أمواجه, وخوفهم الهلاك, يتركون وقتذاك, أندادهم, ويخلصون الدعاء للّه وحده لا شريك له.
    فلما زالت عنهم الشدة, ونجى من أخلصوا له الدعاء إلى البر, أشركوا به, من لا نجاهم من شدة, ولا أزال عنهم مشقة.
    فهلا أخلصوا للّه الدعاء, في حال الرخاء والشدة, واليسر والعسر, ليكونوا مؤمنين حقا, مستحقين ثوابه, مندفعا عنهم عقابه.

    " ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون " (66)
    ولكن شركهم هذا بعد نعمتنا عليهم, بالنجاة من البحر, ليكون عاقبته الكفر, بما آتيناهم, ومقابلة النعمة بالإساءة, وليكملوا تمتعهم في الدنيا, الذي هو كتمتع الأنعام, ليس لهم همٌّ إلا بطونهم وفروجهم.
    " فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ " حين ينتقلون من الدنيا إلى الآخرة, شدة الأسف, وأليم العقوبة.

    " أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون " (67)
    ثم امتن عليهم بحرمه الآمن, وأنهم أهله, في أمن, وسعة ورزق, والناس من حولهم, يتخطفون ويخافون.
    فلا يعبدون الذي أطعمهم من جوع, وآمنهم من خوف.
    " أَفَبِالْبَاطِل ِ يُؤْمِنُونَ " وهو ما هم عليه, من الشرك, والأقوال, والأفعال الباطلة.
    " وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ " هم " يَكْفُرُونَ " فأين ذهبت عقولهم, وانسلخت أحلامهم حيث آثروا الضلال على الهدى, والباطل على الحق, والشقاء على السعادة وحيث كانوا أظلم الخلق.

    " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين "(68)
    " وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا " فنسب ما هو عليه من الضلال والباطل, إلى اللّه.
    " أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ " على يد رسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم.
    ولكن هذا الظالم العنيد, أمامه جهنم " أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ " يؤخذ بها منهم الحق, ويخزون بها, وتكون منزلهم الدائم, الذي لا يخرجون منه.

    " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين " (69)
    " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا " وهم الذين هاجروا في سبيل اللّه, وجاهدوا أعداءهم, وبذلوا مجهودهم في اتباع مرضاته.
    " لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا " أي: الطرق الموصلة إلينا, وذلك, لأنهم محسنون.
    " وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ " بالعون والنصر, والهداية.
    دل هذا, على أن أحرى الناس بموافقة الصواب, أهل الجهاد.
    وعلى أن من أحسن فيما أمر به, أعانه اللّه, ويسر له أسباب الهداية.
    وعلى أن من جد واجتهد في طلب العلم الشرعي, فإنه يحصل له من الهداية, والمعونة على تحصيل مطلوبه, أمور إلهية, خارجة عن مدرك اجتهاده, وتيسر له أمر العلم.
    فإن طلب العلم الشرعي, من الجهاد في سبيل اللّه, بل هو أحد نَوْعَي الجهاد, الذي لا يقوم به إلا خواص الخلق, وهو الجهاد بالقول, واللسان, للكفار, والمنافقين.
    والجهاد على تعليم أمور الدين, وعلى رد نزاع المخالفين للحق, ولو كانوا من المسلمين.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #418
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (416)
    تفسير السعدى
    سورة الروم
    من الأية(1) الى الأية(10)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الروم


    " الم " (1)


    كانت الفرس والروم, في ذلك الوقت, من أقوى دول الأرض.
    وكان يكون بينهما من الحروب والقتال, ما يكون بين الدول المتوازنة.
    وكانت الفرس مشركين, يعبدون النار.
    وكانت الروم, أهل كتاب, ينتسبون إلى التوراة والإنجيل, وهم أقرب إلى المسلمين من الفرس, فكان المسلمون يحبون غلبتهم, وظهورهم على الفرس.
    وكان المشركون, لاشتراكهم والفرس في الشرك, يحبون ظهور الفرس على الروم.
    فظهر الفرس على الروم, وغلبوهم غلبا لم يحط بملكهم, بل أدنى أرضهم.
    ففرح بذلك مشركوا مكة, وحزن المسلمون.
    فأخبرهم اللّه, ووعدهم أن الروم ستغلب الفرس.

    " في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون " (4)
    " فِي بِضْعِ سِنِينَ " تسع, أو ثمان, ونحو ذلك, مما لا يزيد على العشر, ولا ينقص عن الثلاث.
    وأن غلبة الفرس للروم, ثم غلبة الروم للفرس, كل ذلك بمشيئته وقدره ولهذا قال: " لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ " فليس الغلبة والنصر, لمجرد وجود الأسباب.
    وإنما هي, لا بد أن يقترن بها القضاء والقدر.
    " وَيَوْمَئِذٍ " أي: يوم يغلب الروم الفرس, ويقهرونهم " يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ " .
    أي: يفرحون بانتصارهم على الفرس, وإن كان الجميع كفارا, ولكن بعض الشر أهون من بعض, ويحزن يومئذ, المشركون.
    " وَهُوَ الْعَزِيزُ " الذي له العزة, التي قهر بها الخلائق أجمعين " يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء " .
    " الرَّحِيمِ " بعباده المؤمنين, حيث قيض لهم من الأسباب التي تسعدهم وتنصرهم, ما لا يدخل في الحساب

    " وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون " (6)
    وعد الله المؤمنين وعدا جازما لا يتخلف, بنصر الروم النصارى على الفرس الوثنيين, ولكن أكثر كفار (مكة) لا يعلمون أن ما وعد الله به حق,
    " يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون " (7)
    وإنما يعلمون ظواهر الدنيا وزخرفها, وهم عن أمور الآخرة, ما ينفعهم فيها غافلون, لا يفكرون فيها.
    " أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون " (8)
    أو لم يتفكر هؤلاء المكذبون برسل الله ولقائه في خلق الله إياهم, وأنه خلقهم, ولم يكونوا شيئا.
    ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا لاقامة العدل والثواب والعقاب, والدلالة على توحيده وقدرته, وأجل مسمى تنتهي إليه وهو يوم القيامة؟ كان كثيرا من الناس بلقاء ربهم لجاحدون منكرون; جهلا منهم بأن معادهم إلى الله بعد فنائهم, وغفلة منهم عن الآخرة.

    " أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " (9)
    أولم يسر هؤلاء المكذبون بالله الغافلون عن الآخرة في الأرض سير تأمل واعتبار, فيشاهدوا كيف كان جزاء الأمم الذين كذبوا برسل الله كعاد وثمود؟ وقد كانوا أقوى منهم أجساما, وأقدر على التمتع بالحياة حيث حرثوا الأرض وزرعوها, وبنوا القصور وسكنوها, فعمروا دنياهم أكثر مما عمر أهل (مكة) دنياهم, فلم تنفعهم عمارتهم ولا طول مدتهم, وجاءتهم رسلهم بالحجج الظاهرة والبراهين الساطعة, فكذبوهم فأهلكهم الله, ولم يظلمهم الله بذلك الإهلاك, وإنما ظلموا أنفسهم بالشرك والعصيان.
    " ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون " (10)
    ثم كانت عاقبة أهل السوء من الطغاة والكفرة أسوأ العواقب وأقبحها; لتكذيبهم بالله وسخريتهم بآياته التي أنزلها على رسله.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #419
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (417)
    تفسير السعدى
    سورة الروم
    من الأية(11) الى الأية(18)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الروم




    " الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون " (11)
    الله وحده هو المتفرد بإنشاء المخلوقات كلها, وهو القادر وحده على إعادتها مرة أخرى, ثم إليه يرجع جميع الخلق, فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
    " ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون " (12)
    ويوم تقوم الساعة ييئس المجرمون من النجاة من العذاب, وتصيبهم الحيرة فتنقطع حجتهم.
    " ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين " (13)
    ولم يكن للمشركين في ذلك اليوم من آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله شفعاء, بل إنها تتبرأ منهم, ويترؤون منها.
    فالشفاعة لله وحده, ولا تطلب من غيره.

    " ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون " (14)
    ويوم تقوم الساعة يفترق أهل الإيمان به وأهل الكفر,
    " فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون " (15)
    فأما المؤمنون بالله ورسوله, العاملون الصالحات فهم في الجنة, يكرمون ويسرون وينغمون.
    " وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون " (16)
    وأما الذين كفروا بالله وكذبوا بما جاءت به الرسل وأنكروا البعث بعد الموت, فأولئك في العذاب مقيمون; جزاء ما كذبوا به في الدنيا.
    " فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون " (17)
    فيا أيها المؤمنون سبحوا الله ونزهوه عن الشريك والصاحبة والولد, وصفوه بصفات الكمال بألسنتكم, وحققوا ذلك بجوارحكم كلها حين تمسون, وحين تصبحون, ووقت العشي, ووقت الظهيرة.
    " وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون " (18)
    وله - سبحانه- الحمد والثناء في السموات والأرض وفي الليل والنهار.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #420
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (418)
    تفسير السعدى
    سورة الروم
    من الأية(19) الى الأية(26)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الروم




    " يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون " (19)
    يخرج الله الحي من الميت كالإنسان من النطفة والطير من البيضة, ويخرج الميت من الحي, كالنطفة من الإنسان والبيضة من الطير.
    ويحيي الأرض بالنبات بعد يبسها وجفافها, ومثل هذا الإحياء تخرجون -أيها الناس- من قبوركم أحياء للحساب والجزاء.

    " ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون " (20)
    ومن آيات الله الدالة على عظمته وكمال قدرته أن خلق آباكم آدم من تراب, ثم أنتم بئر تتناسلون منتشرين في الأرض, تبتغون من فضل الله.
    " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " (21)
    ومن آياته الدالة على عظمته وكمال قدرته أن خلق لأجلكم من جنسكم -أيها الرجال- أزواجا; لتطمئن نفوسكم إليها وتسكن, وجعل بين المرأة وزوجها محبة وشفقة, إن في خلق الله ذلك لآيات دالة على قدرة الله ووحدانيته لقوم يتفكرون, ويتدبرون.
    " ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين " (22)
    ومن دلائل القدرة الربانية: خلق السموات وارتفاعها بغير عمد, وخلق الأرض مع اتساعها وامتدادها, واختلاف لغاتكم وتباين ألوانكم, إن في هذا لعبرة لكل ذي علم وبصيرة.
    " ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون " (23)
    ومن دلائل هذه القدرة أن جعل الله النوم راحة لكم في الليل أو النهار; إذ في النوم حصول الراحة وذهاب التعب, وجعل لكم النهار تنتشرون فيه لطلب الرزق, إن في ذلك لدلائل على كمال قدرة الله ونفوذ مشيئته لقوم يسمعون المواعظ سماع تأمل وتفكر واعتبار.
    " ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون " (24)
    ومن دلائل قدرته سبحانه أن يريكم البرق, فتخافون من الصواعق, وتطمعون في الغيث, وينزل من السحاب مطرا تحيا به الأرض بعد جدبها وجفافها, إن في هذا لدليلا على كمال قدرة الله وعظيم حكمته وإحسانه لكل من لديه عقل يهتدي به.
    " ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون " (25)
    ومن آياته الدالة على قدرته قيام الماء والأرض واستقرارهما وثباتهما بأمره, فلم تتزلزلا, ولم تسقط السماء على الأرض, ثم إذا دعاكم الله إلى البعث يوم القيامة, إذا أنتم تخرجون من القبور مسرعين.
    " وله من في السماوات والأرض كل له قانتون " (26)
    ولله وحده كل من في السموات والأرض من الملائكة والإنس والجن والحيوان والنبات والجماد, كل هؤلاء منقادون لأمره خاضعون لكماله.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •