التنبيه على انتهاء وقت العشاء، والإسفار في الفجر
الحمد لله الذي يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب السموات ورب الأرضين ورب العرش العظيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بالآيات والذكر الحكيم، الذي يهدي به من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط المستقيم ، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أفضل صلاة وأفضل تسليم، وبعد.
فإن الله تعالى جعل الصلاة على المؤمنين كتابا مؤقتا، فقال تعالى: { إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً }النساء-103.
وقال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً }الإسراء-78.
وقال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ }هود-114.
كما وقَّت النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على وجه التفصيل، في غير موضع من سنته الكريمة.
فعنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرِوٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ نَبِيَّ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَقْتُ اَلظُّهْرِ إِذَا زَالَتْ اَلشَّمْسُ, وَكَانَ ظِلُّ اَلرَّجُلِ كَطُولِهِ مَا لَمْ يَحْضُرْ اَلْعَصْرُ, وَوَقْتُ اَلْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ اَلشَّمْسُ, وَوَقْتُ صَلَاةِ اَلْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبْ اَلشَّفَقُ, وَوَقْتُ صَلَاةِ اَلْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اَللَّيْلِ اَلْأَوْسَطِ, وَوَقْتُ صَلَاةِ اَلصُّبْحِ مِنْ طُلُوعِ اَلْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُعْ اَلشَّمْسُ" .أخرجه مسلم.
وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل عليه السلام فقال: قم فصله فصلى الظهر حين زالت الشمس، ثم جاءه العصر فقال: قم فصله فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم جاءه المغرب فقال قم فصله فصلى المغرب حين وجبت الشمس ثم جاءه العشاء فقال قم فصله فصلى العشاء حين غاب الشفق ثم جاءه الفجر فقال قم فصله فصلى الفجر حين برق الفجر أو قال سطع الفجر ثم جاءه من الغد للظهر فقال قم فصله فصلى الظهر حين صار ظل كل شيء مثله ثم جاءه العصر فقال قم فصله فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه ثم جاءه المغرب وقتا واحدا لم يزل عنه ثم جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل أو قال ثلث الليل فصلى العشاء ثم جاءه حين أسفر جدا فقال له قم فصله فصلى الفجر ثم قال: "ما بين هذين وقت". رواه احمد والنسائي والترمذي بنحوه، وصححه الألباني.
فالشريعة الإسلامية أعطت وقت الصلاة أهمية عظيمة، حتى أصبح الوقت آكد شروط الصلاة، وجعل الشرع قبول الصلاة منوطا بالمحافظة على وقتها، كما جعل أحب العمل إلى الله الصلاة على وقتها، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: الصلاة على وقتها. قلت: ثم أي؟ قال : بر الوالدين. قلت: ثم أي قال: الجهاد في سبيل الله. قال: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني. أخرجه البخاري ومسلم.
ولما كان أمر الوقت بهذه المثابة من الأهمية وجدت من المناسب التنبيه على أمرين يقع فيهما كثير من الناس: الأول: انتهاء وقت العشاء، والثاني: الإسفار بالفجر.
أولا: التنبيه على وقت صلاة العشاء:
انتشر بين كثير من الناس أن وقت العشاء ممتد إلى طلوع الفجر، حتى جاء في عبارة كثير من الناس : "أن الليل كله عشاء"، وهذا - وإن كان قولا معتمدا لجمع كبير من أهل العلم - إلا أن النظر في أدلة الكتاب والسنة يؤكد على أن هذا القول بحاجة إلى إعادة نظر، وأن الأقرب إلى الصواب أن وقت العشاء ينتهي بانتصاف الليل، يدل لذلك ما يأتي:
أولا: قوله تعالى: { أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً }الإسراء-78.
وقد فسر غسق الليل بظلامه، وأشد ما يكون إذا انتصف الليل.
ثانيا: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما المتقدم، وفيه: "وَوَقْتُ صَلَاةِ اَلْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اَللَّيْلِ اَلْأَوْسَطِ". أخرجه مسلم.
وهذا الحديث نص في المسألة، فهو صريح في أن العشاء ينتهي وقتها بانتصاف الليل.
ثالثا: حديث جبريل السابق في إمامته برسول الله صلى الله عليه وسلم: وفيه أنه صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليوم التالي العشاء حين ذهب ثلث الليل أو نصفه، وقال: "له ما بين هذين وقت". رواه احمد والنسائي والترمذي بنحوه، وصححه الألباني.
وقد وقع نظيره من كلام النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وهذا يعني أن أداء العشاء في غير الوقت المحدد في الحديث ليس في وقتها.
الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه).أخرجه أحمد والترمذي بسند صحيح.
الخامس: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العتمة فلم يخرج حتى مضى نحو من شطر الليل فقال: ( خذوا مقاعدكم ) فأخذنا مقاعدنا فقال: ( إن الناس قد صلوا وأخذوا مضاجعهم وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة ولولا ضعف الضعيف وسقم السقيم لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل ).أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي بسند صحيح.
السادس: أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم المتواتر عنه أنه إما أن يصلي العشاء في أول وقتها أو في ثلث الليل أو نصفه، ولم يحفظ عنه أنه كان يؤخر العشاء إلى ما بعد نصف الليل.
فهذه النصوص وغيرها كثير جدا تدل بالقول الصريح أو بالفعل على أن وقت العشاء ينتهي بانتصاف الليل، وليس بطلوع الفجر.
أما دليل من قال بأن صلاة العشاء ينتهي وقتها بطلوع الفجر، فليس لهم إلا ما يأتي:
الأول: حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى).أخرجه مسلم.
وفي هذا دليل على أن أوقات الصلوات يتبع بعضها بعضا، فإذا خرج وقت صلاة دخل وقت الأخرى، فإذا خرج وقت العشاء دخل وقت الفجر، مما يدل على أنه متصل به.
الثاني: فعن عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَعْتَمَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ بِالْعَشَاءِ, حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اَللَّيْلِ, ثُمَّ خَرَجَ, فَصَلَّى, وَقَالَ: "إِنَّهُ لَوَقْتُهَا لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي" أخرجه مُسْلِمٌ.
وهذا يدل على أنه صلى بعد ما ذهب عامة الليل، أي: بعد منتصف الليل.
يتبع