تاج العروس.. من جواهر القاموس



الحمد لله القائل: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الزمر: 28)، ومن هذا المنطلق، يجب رعاية هذا الوعاء، وتعهده الفاعل والمتخصص، حتى لا تضيع في مهب التداخلات الحضارية والثقافية المختلفة. فكيف إذا كانت هذه اللغة هي لغة القرآن، وبيان الرسول الكريم " صلى الله عليه وسلم" ، فواجب إحاطة اللغة العربية برعاية فائقة، تهدف أولا إلى صيانتها، ومن ثم الارتقاء بها، لتكون بحق اللغة العبقرية التي لا يستغنى عنها في وضع فروع المعرفة المختلفة في إطارها، وقد تصدى الكثيرون لدراسة عميقة لتراكيب اللغة واشتقاقاتها، ولكن سعة اللغة العربية وصعوبة الإحاطة بها يحتمان مزيدا من الجهد، تصديقا لمن قال: كلام العرب لا يحيط به إلا نبي.
وإن أحد أهم كنوز تراثنا «معجم تاج العروس» للزبيدي، الذي شرح به القاموس المحيط. وقبل عرض ما جاء في مقدمة التاج، ينبغي علينا أن نستعرض أهم سمات منهج «القاموس المحيط» لمؤلفه مجد الدين الفيروز آبادي، ومنها: أنه:
1- اتبع في ترتيب المواد نظام القافية الذي ابتكره الجوهري.
2- اهتم بالترتيب الداخلي للمواد، ففصل معاني كل صيغة من زميلتها في الاشتقاق، وقدم الصيغ المجردة على المزيدة، وأخر الأعلام.
3- اتبع مبدأ الإيجاز، فحذف الشواهد على اختلاف أنواعها.
4- اعتمد اعتمادا كليا على المعجمين «المحكم» لابن سيده، و«العباب» للصاغاني.
5- حاول استقصاء المواد اللغوية وصيغها ومعانيها المختلفة.
6 - اعتنى بذكر الأعلام. وبخاصة المحدثين والفقهاء، وأسماء المدن والبقاع، واعتنى بذكر الفوائد الطبية، كما اعتنى أيضا بالألفاظ الاصطلاحية في العلوم المختلفة.
7- كتب بالحبر الأحمر كل الكلمات التي زادها على الجوهري.
8- اهتم بضبط الكلمات، هربا من تصحيف النساخ.
9- استعمل رموزا خاصة، لتدل على أشياء معينة، وذلك إمعانا في الاختصار، نحو: م: معروف، ع: موضع، ج: جمع، هـ: قرية، د: بلد(1).

قطوف من مقدمة الزبيدي في كتابه «تاج العروس»
بعد حمد الله تعالى، والصلاة على نبيه الكريم وآله وصحبه، بين الزبيدي رحمه الله أن التصنيف مضمار خطير، وقال عن اجتهاده فيه:
«وقد تصديت للانصباب في هذا المضمار تصدي القاصد بذرعه، الرابع على ظلعه، فتدبرت فنون العلم التي أنا كائن بصدد تكميلها، وقائم بإزاء خدمتها وتحصيلها، فصادفت أصلها الأعظم الذي هو اللغة العربية، خليقة بالميل في صغو الاعتناء بها، والكدح في تقويم عنادها، وإعطاء بداهة الوكد وعلالته إياها، وكان فيها كتاب القاموس المحيط، للإمام مجد الدين الشيرازي أجل ما ألف في الفن، لاشتماله على كل مستحسن، من قصارى فصاحة العرب العرباء، وبيضة منطقها وزبدة حوارها، والركن البديع إلى ذرابة اللسان، وغرابة اللسن، حيث أوجز لفظه وأشبع معناه، وقصر عبارته، وأطال مغزاه، لوح فأغرق في التصريح، وكنى فأغنى عن الإفصاح، وقيد من الأوابد ما أعرض، واقتنص من الشوارد ما أكثب، إذ ارتبط في قرن ترتيب حروف المعجم ارتباطا جنح فيه إلى وطء منهاج أبين من عمود الصبح، غير متجانف للتطويل عن الإيجاز، وذلك أنه بوبه، فأورد في كل باب من الحروف ما في أوله الهمز، ثم قفى على أثره بما في أوله الباء، وهلم جرا، إلى منتهى أبواب الكتاب، فقدم في باب الهمزة إياها مع الألف عليها مع الباء، وفي كل باب إياها مع الألف على الباءين، وهلم جرا، إلى ما انتهى فصول الأبواب، وكذلك راعى النمط في أوساط الكلم وأواخرها، وقدم اللاحق فاللاحق، ولما كان إبرازه في غاية الإيجاز، وإيجازه عن حد الإعجاز، تصدى لكشف غوامضه ودقائقه رجال من أهل العلم، شكر الله سعيهم، وأدام نفعهم، فمنهم من اقتصر على شرح خطبته التي ضربت بها الأمثال، وتداولها بالقبول أهل الكمال، كالمحب ابن الشحنة، والقاضي أبي الروح عيسى ابن عبد الرحيم الكجراتي، ومنهم ومنهم...».
ثم قال: «ومن أجمع ما كتب عليه مما سمعت ورأيت شرح شيخنا الإمام اللغوي أبي عبد الله محمد بن الطيب بن محمد الفاسي، المتولد بفاس سنة 1110هـ، والمتوفى بالمدينة المنورة سنة 1170هـ، وهو عمدتي في هذا الفن، والمقلد جيدي العاطل بحلي تقريره المستحسن، وشرحه هذا عندي في مجلدين ضخمين، فلما آنست من تناهي فاقة الأفاضل إلى استكشاف غوامضه، والغوص على مشكلاته.... قرعت ظنبوب اجتهادي، واستسعيت يعبوب اعتنائي، في وضع شرح عليه، ممزوج العبارة، جامع لمواده بالتصريح في بعض وفي البعض بالإشارة، واف ببيان ما اختلف من نسخه، والتصويب لما صح منها من صحيح الأصول، حاو لذكر نكته ونوادره، والكشف عن معانيه والإنباه عن مضاربه ومآخذه بصريح النقول، والتقاط أبيات الشواهد له، مستمدا ذلك من الكتب التي يسر الله تعالى بفضله وقوفي عليها، وحصل الاستمداد عليه منها، ونقلت بالمباشرة لا بالوسائط عنها، لكن على نقصان في بعضها نقصا متفاوتا بالنسبة إلى القلة والكثرة، وأرجو منه سبحانه الزيادة عليها».
ثم ذكر أصوله التي اعتمد عليها، ومن أهمها: كتاب الصحاح للجوهري، والتهذيب للأزهري، والمحكم لابن سيده، وتهذيب الأبنية والأفعال لابن القطاع، ولسان العرب لابن منظور، وتهذيب التهذيب للتنوخي، وكتاب الغريبين لأبي عبيد الهروي، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير الجزري، وكفاية المتحفظ لابن الأجدابي وشروحها، وفصيح ثعلب، وشروحه الثلاثة: لأبي جعفر اللبلي، وابن درستويه، والتدميري، وفقه اللغة، والمضاف والمنسوب، كلاهما لأبي منصور الثعالبي، والعباب والتكملة على الصحاح، كلاهما للرضي الصاغاني، وغيرها كثير جدا ذكرها كلها..
ثم قال: «ولم آل جهدا في تحري الاختصار، وسلوك سبيل التنقية والاختيار، وتجريد الألفاظ عن الفضلات التي يستغنى عنها في حط اللثام عن وجه المعنى عند ذوي الأفكار».

مشتملات مقدمة التاج: مقدمة كتاب تاج العروس مشتملة على عشرة مقاصد:
المقصد الأول في بيان أن اللغة هل هي توقيفية أو اصطلاحية؟
المقصد الثاني في سعة لغة العرب.
المقصد الثالث في عدة أبنية الكلام.
المقصد الرابع في المتواتر من اللغة والآحاد.
المقصد الخامس في بيان الأفصح.
المقصد السادس في بيان المطرد والشاذ والحقيقة والمجاز والمشترك والأضداد والمترادف والمعرب والمولد.
المقصد السابع في معرفة آداب اللغوي.
ولأهمية ما جاء فيه أورده بلفظه:

قال السيوطي في المزهر: أول ما يلزمه الإخلاص وتصحيح النية، ثم التحري في الأخذ عن الثقات، مع الدأب والملازمة عليهما، وليكتب كل ما رآه ويسمعه، فذلك أضبط له، وليرحل في طلب الغرائب والفوائد، كما رحل الأئمة، وليعتن بحفظ أشعار العرب، مع تفهم ما فيها من المعاني واللطائف، فإن فيها حكما ومواعظ وآدابا يستعان بها على تفسير القرآن والحديث. وإذا سمع من أحد شيئا فلا بأس أن يتثبت فيه، وليترفق بمن يأخذ عنه، ولا يكثر عليه، ولا يطول بحيث يضجر، ثم إنه إذا بلغ الرتبة المطلوبة صار يدعى الحافظ، ووظائفه في هذا العلم أربعة: أحدها وهي العليا الإملاء، كما أن الحفاظ من أهل الحديث أعظم وظائفهم الإملاء، وقد أملى حفاظ اللغة من المتقدمين الكثير، فأملى أبوالعباس ثعلب مجالس عديدة في مجلد ضخم، وأملى ابن دريد مجالس كثيرة، رأيت منها مجلدا، وأملى أبومحمــد القاســم بــن الأنبــاري وولــده أبو بكر ما لا يحصى، وأملى أبوعلي القالي خمس مجلدات وغيرهم، وطريقتهم في الإملاء كطريقة المحدثين، يكتب المستملي أول القائمة: مجلس أملاه شيخنا فلان، بجامع كذا، في يوم كذا، ويذكر التاريخ، ثم يورد المملي بإسناده كلاما عن العرب والفصحاء، فيه غريب يحتاج إلى التفسير، ثم يفسره، ويورد من أشعار العرب وغيرها بأسانيده، ومن الفوائد اللغوية بإسناد وغير إسناد مما يختاره، وقد كان هذا في الصدر الأول فاشيا كثيرا، ثم ماتت الحفاظ، وانقطع إملاء اللغة من دهر مديد، واستمر إملاء الحديث.

المقصد الثامن وفيه أنواع:

النوع الأول في بيان مراتب اللغويين، وفيه فرعان:

الأول في بيانه أئمة اللغة من البصريين، وبيان أسانيدهم ووفياتهم وكناهم.

الفرع الثاني: في بيان أئمة اللغة من الكوفيين، وبيان أسانيدهم وألقابهم ووفياتهم.
النوع الثاني: في بيان أول من صنف في اللغة، وهلم جرا.
المقصد التاسع في ترجمة المؤلف الفيروزآبادي.
المقصد العاشر في أسانيدنا المتصلة إلى المؤلف.

هامش

(1) مستفاد من مقدمة المحقق علي شيري.
منقول