آثار الربا الاقتصادية
د. عبدالمجيد عبدالله عبدالمجيد دية ([*])
ملخص البحث:
القرآن معجز من كل الوجوه، ومن هذه الوجوه: الإعجاز التشريعي، فالقرآن جاء بتشريعات لإصلاح الفرد والمجتمع، ودفع المفاسد عنهم، ومن هذه التشريعات: تحريم الربا ([1]).
إن القرآن الكريم قد حرم الربا، ومنع الناس من التعامل به؛ لما فيه من الظلم وأكل أموال الناس بالباطل؛ وهذا ما كان يدركه المسلمون في صدر الإسلام، واما اليوم: فإن العلماء والخبراء والاقتصاديين يدركون أضرار الربا ومفاسده؛ تبعا لتطور العمليات الاقتصادية ومنها: سوء توزيع الثروة، وهدر الموارد الاقتصادية، وضعف التنمية الاقتصادية والاستثمار، والتضخم، والبطالة وغيرها، كل هذا يدل على ان هذا التشريع معجز، وانه من عند الله، ولا يستطيع البشر ان يأتوا بمثله.
مقدمة:
حديث القرآن عن الربا مخيف، ويتضمن الوعيد والتهديد الشديدين للذين يتعاملون به في كل زمان، حتى وصل الترهيب منه إلى أن الله - عز وجل- يحارب الذين لا يتركونه، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ الله ورَسُولِهِ وإن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ) ([2]).
وبين القرآن اسباب تحريم الربا، ويمكن إيجازها فيما يلي:
الربا ظلم: تبين الآيات الكريمة ان حق الإنسان ان يأخذ رأس ماله دون زيادة، فالزيادة على النقود - مقابل الأجل - حرام. وكان هذا التحريم حتى لا يظلم المربي ولا يظلم، أي يظلم الآخرين بالزيادة على رأس ماله مقابل الأجل، وان لا يظلم هو إذا زاد الآخرون عليه، ودليل هذا قوله تعالى: (وإن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ) ([3]).
قال ابن عباس وقتادة: لا تظلمون ولا تظلمون، اي لا تزيدون فتأخذون باطلا لا يحل لكم، ولا تنقصون من اموالكم ([4]).
الربا أكل لأموال الناس بالباطل: إن الله حرم الربا على اليهود، فأخذوه بأنواع الحيل، وكلوا أموال الناس بالباطل دون وجه حق؛ بسبب الربا وغيره ([5]).
ودليل ذلك قوله تعالى: (وأَخْذِهِمُ الرِّبَا وقَدْ نُهُوا عَنْهُ وأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) ([6]).
ومن صور أكل أموال الناس بالباطل: ما كان عليه الجاهليون قبل الإسلام، فعندما كان يحل الأجل يزيد في المال إذا لم يستطع القضاء، وهكذا حتى يصير القليل كثيرا مضاعفا ([7]).
وهذا معنى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً واتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ([8]).
فالمرابون يحصلون على ثمرة جهود الناس؛ حتى تزيد اموالهم، فهم يعطون اموالهم؛ حتى يعطوا أكثر منها، ولكن الله - عز وجل- لا يضاعفها، ولا يؤجر عليها ([9]).
وبهذا المعنى يقول الله - عز وجل-: (وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِندَ الله وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ) ([10]).
وبين القرآن نتائج الربا وعقوبته في الدنيا والآخرة، ومنها أن الربا لا يزيد عند الله لا في كميته ولا في بركته، يل ينقصه الله تعالى، ودليل ذلك قوله تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا ويُرْبِي الصَّدَقَاتِ واللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ) ([11]).
يقول ابن عباس: يمحق الله الربا أي ينقصه ([12]).
وبين القرآن عقوبة الذين يكلون الربا، وهي ان الله لا يحبهم بل يكرههم، ووصفهم بالكفر والإثم، وهم الذين يستحلون أكل الربا واطعامه ([13]).
وبين القرآن حالهم يوم القيامة، حيث يقومون من قبورهم كالمجانين والمصروعين، ويعذبون في النار لعدم انتهائهم عن التعامل بالربا، حيث يقول الحق - جل في علاه -: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ ومَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)([14]).
هذا بالنسبة للعقوبات الإلهية في الآخرة، وأما في الدنيا فإن الربا مخالفة شرعية، وللحاكم المسلم أن يوقع عقوبة تعزيرية عليها، فيمنع الذين يرتكبون المحرمات من إمامة الناس، حيث يكره الاقتداء بهم، ويصادر الحاكم بعض أموالهم، فيرد عين الربا إلى أهله إذا كان قائما، ومثله أو قيمته إذا كان مستهلكا، فقد تكون العقوبة حبسا أو غرامة مالية ونحوها. ومن وظائف المحتسب أنه ينهى عن المنكرات. ومنها: المنكرات الاقتصادية، كالعقود المحرمة، مثل الربا ([15]).
هذا حديث القرآن عن الربا، حديث عن أسبابه ونتائجه وعقوبته، والمسلمون في عصر الرسالة انتهوا عن التعامل به؛ لأن الله حرمه، إيمانا منهم وتصديقا بما جاء به العليم الخبير، وكانوا يعرفون من أسباب تحريمه: أنه ظلم وكل لأموال الناس بالباطل، وأن الله يمحقه، ولم يكونوا يدركون الحكم والأسرار لهذا التشريع العظيم، وكيف يصل الربا إلى هذا الظلم والمحق، وما هي اثاره الاجتماعية والاقتصادية على الفرد والمجتمع؛ لأن ثقافتهم وفكرهم الاقتصادي لا يؤهلهم لمعرفة مفاسد الربا واثاره على الاقتصاد، كما هو الحال اليوم.
إن آثار الربا واضراره ومفاسده - التي اكتشفها الناس اليوم نتيجة تطور العمليات الاقتصادية وتعقدها - تؤكد ان تشريع الله في الربا معجز، ولا يستطيع احد ان يأتي بمثله، مما يدل دلالة قاطعة على ان هذا التشريع من عند الله العليم الخبير، وليس من عند محمد –صلى الله عليه وسلم - ولا صحابته؛ لعدم مقدرتهم على معرفة وإدراك كثير من حكم واسرار هذه التشريع، وهذا وجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم، وهو الإعجاز التشريعي في باب الربا.
وبناء على ما سبق فإن الهدف من هذا البحث هو: بيان الآثار الاقتصادية للربا، وجمع الشواهد والأدلة والبراهين عليها من واقعنا المعاصر وتحليلها ودرأستها، مما يؤكد ان التعامل بالربا فيه مفاسد كثيرة، وان منع التعامل به فيه مصالح كثيرة للفرد والمجتمع، وهذا يثبت ويبين حقيقة الإعجاز الذي جاء به القرآن في هذا الجانب من التشريع.
وساتناول هذا الموضوع في المباحث التالية:
المبحث الأول: سوء توزيع الثروة.
المبحث الثاني: هدر الموارد الاقتصادية.
المبحث الثالث: ضعف التنمية الاقتصادية والاستثمار.
المبحث الرابع: التضخم.
المبحث الخامس: البطالة.
ثم الخاتمة واهم نتائج البحث.
المبحث الأول
سوء توزيع الثروة
تتركز عملية الإقراض بفائدة ([16]) (الإقراض الربوي) على الأشخاص القادرين على تقديم ضمانات تسديد القروض وفوائدها، وهو ما يؤدي إلى تركز ثروة البلاد في أيدي عدد قليل من الأشخاص ([17]).
وتأييدا لهذا المعنى يقول الدكتور شاخت - الألماني الجنسية، والمدير السابق لبنك الرايخ الألماني -: "إنه بعملية رياضية غير متناهية يتضح ان جميع مال الأرض صائر إلى عدد قليل جدا من المرابين؛ ذلك لأن المرابي يربح دائما في كل عملية، بينما المدين معرض للربح والخسارة، ومن ثم فإن المال كله في النهاية لابد بالحساب الرياضي ان يصير إلى الذي يربح دائما" ([18]).
ومن مظاهر سوء توزيع الثروة تسخير العمل لحساب رأس المال، حيث يقوم الإنتاج على عنصرين: العمل والمال، والعمل هو الأساس الأول؛ لأنه هو الذي يوجد المال في الأصل، وموجب ذلك ان يتحمل كل من العنصرين نصيبه من الربح والخسارة، فإذا أشركنا صاحب المال في الربح، وجب ان يشترك في الخسارة النازلة، غير ان الفائدة تهدم هذا النظام الطبعي، وتسخر العمل لحساب رأس المال؛ لأن المنتج - وهو المدين دائما - يضمن للمرابي رأس ماله، ونصيبه من الربح، دون ان يشارك هذا الأخير في الخسارة النازلة ([19]).
أما في الإسلام: فإن الحكمة الواضحة من تحريم الربا هي تحقيق الاشتراك العادل بين المال والعمل، وتحمل المخاطرة ونتائجها بشجاعة ومسؤولية، وهذا هو عدل الإسلام، فلم يتحيز إلى العمل ضد رأس المال، ولا إلى رأس المال ضد العمل "لأنه يمثل عدل الله الذي لا ينحاز إلى فريق ضد فريق ([20]).
وبناء على ما سبق فإن الذين يتركز عندهم المال فئتان:
الفئة الأولى: المرابون الذين يقرضون المال ويربحون دائما.
والفئة الثانية: الأشخاص الأغنياء المقترضون القادرون على تقديم ضمانات تسديد قروضهم.
وهذا يؤدي إلى تداول المال بين المرابين والأغنياء القادرين على تقديم ضمانات؛ مما يجعل المال متداولا بين هؤلاء، وهو مخالف لمنهج الإسلام.
ويمكنني تحليل ومناقشة ما ذهب إليه الاقتصاديون بما يلي:-
إنني ارى في الواقع الذي نعيش فيه، وباستقراء كثير من المعاملات المالية التي رأيتها والملاحظة والمشاهدة أن الدائنين هم صغار المدخرين من امثال المتقاعدين، والأرامل، وكبار السن، وصغار اصحاب رؤوس الأموال، وغيرهم.... وهؤلاء يضعون اموالهم في البنوك التجارية مقابل سعر فائدة قليل جدا (4%) مثلا، وهذه النسبة لا تكاد تغطي نسبة التضخم، ويقوم صغار المدخرين بهذا الأمر؛ لأن البنوك وشركات المال والائتمان عبارة عن أوعية لاجتذاب المدخرات من الغالبية العظمى من الناس، وهؤلاء ليس عندهم القدرة على الاستثمار في مشروعات صغيرة أو كبيرة. واما المدينون فهم كبار المستثمرين، حيث يقرضهم البنك التجاري حسب قاعدة الملائمة المالية، فالأكثر غنى يأخذ قروضا ربوية أكثر، ويكون سعر الفائدة اعلى قليلا (6%) مثلا، والفرق بين سعري الفائدة هو ربح البنك المضمون.
ونلاحظ من هذا التعليل - الذي يتفق مع واقع المعاملات التي نعرفها- ان المستثمر الكبير (الغني) استفاد من الأموال بما يلي:
استثمرها في مشروعات - إسكان او صناعة - وحصل على ارباح قد تصل إلى 200% احيانا.
ردها بعد مدة من الزمن بأقل من قيمتها الشرائية الحقيقية، فإذا كان المبلغ المقترض يشتري عشر سلع، فإن المبلغ نفسه يشتري سبع سلع عن السداد او الرد.
ونستنتج من التحليل السابق ما يلي:
الفقراء يزدادون فقرا؛ لأن الفائدة التي اخذوها لا تغطي نسبة التضخم.
الأغنياء يزدادون غنى؛ لأن الأرباح التي حققوها اعلى بكثير من نسبة الفائدة، فالأرباح - هنا - لا توزع بطريقة عادلة، بعكس النظام الإسلامي الذي يشرك العمل والجهد مع رأس المال؛ ليأتي بالربح الذي يوزع بطريقة عادلة.
الفجوة بين الأغنياء والفقراء - على مستوى الشعوب وعلى مستوى الدول - تزداد يوما بعد يوم.
إن منهج الإسلام يقوم على توزيع المال بين الناس، وتداوله وحركته بينهم؛ ولذلك جعل الإسلام علة توزيع الفيء -كأحد مصادر المال في الإسلام - على المستحقين منع تركز المال في أيدي الأغنياء فقط، بل يتداول بين الناس؛ لقوله تعالى: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ) ([21]).
إن الطريقة الإسلامية يهمها ان يكون الأشخاص القائمون على المشاريع من اهل الأمانة والخبرة والالتزام، وهذا يؤدي إلى تحقيق العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة والدخل بين الناس ([22]).
ومن امثلة هذا النظام - في تراثنا الإسلامي -: المضاربة، حيث يكون رأس المال من طرفي وهو رب المال، والجهد من الطرف الآخر وهو المضارب، والربح بينهما حسب الاتفاق، والخسارة على رأس المال، ويخسر المضارب جهده ([23]).
هذه المعاملة تغني عن الاقتراض بفائدة؛ لأن المضارب يحصل على المال دون اقتراض، ورب المال يحصل على الربح دون إقراض، فرب المال لا يربح دائما، والمضارب لا يخسر دائما، وانما المشاركة في الربح والخسارة، مما يؤدي إلى عدالة في توزيع الثروة، وهو ما كان في المجتمع الإسلامي.
إن رب المال - في نظام المشاركة الإسلامي - لا يطلب ضمانات؛ لأنه هو الضامن للمال، بحيث يتحمل خسرانه إذا وقع مقابل تحمل العامل ضياع عمله ([24]).
وإن في المشاركة عدالة في توزيع العائد بما يسهم في عدم تراكم الثروة تراكما مخلا، كما يحول دون إهدار الطاقات البشرية الإنتاجية، ويغلب المصلحة العامة، وهو امر غير وارد في حساب المؤسسة المالية التي تقرض بالربا ([25]).
وهذه المقارنة منطقية تقبلها العقول السليمة، فلو قسمنا الناس إلى فئتين: فئة تقرض بفائدة، وفئة تقترض بفائدة، فأما التي تقرض فتربح دائما، واما التي تقترض فهي معرضة للربح والخسارة، فإذا تم تداول كمية من المال بين هاتين الفئتين، فإن هذه الكمية صائرة إلى الذين يربحون دائما؛ لأنهم يسترجعون رأس مالهم مضافا إليه الفائدة، اما الفئة الأخرى فهي معرضة للخسارة، واغلب الظن انها ستحصل ولو لمرة واحدة، فيتم تسخير جهدهم وعملهم لخدمة رأس مال الفئة الأولى.
ويمكن توضيح ذلك في الشكل التالي:
المقرضون (ثلاثة أشخاص) المقرضون (ثلاثة أشخاص)
احتمال الربح 100% احتمال الربح 50%
احتمال الخسارة صفر %احتمال الخسارة 50%
لا يشاركون في الخسارة 1- يربح أو يخسر
يسترجع رأس ماله مضافا إليه الفائدة 2- تم تسخير عمل هؤلاء وجهودهم لخدمة رأس مال المقرض.
فالمعقول - بعد هذا البيان، وبعد هذه الافتراضات -: انه إذا كانت كمية المال محدودة، فإنها صائرة إلى الذي يربح دائما؛ لأنه ضمن ان يعود له رأس ماله فضافا إليه الفائدة، ولا يتحمل خسارة، اما المقترضون فإنهم يخضعون لاحتمالات الربح والخسارة، مما يبعد احتمال تركز المال عندهم، بل يتركز المال عند المقرضين.
وبناء على ما سبق لا يمكن لنظام الفائدة أن يعالج مشكلة الفقر أو يصلح الدول الفقيرة، فالنزيف مستمر من الفقراء إلى اصحاب المال، واصحاب المال تزيد اموالهم زيادة مستمرة، فالأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرا، ومديونية الدول الفقيرة في ازدياد، وفوائد هذه الديون في ازدياد ايضا، واضرب مثالا على هذا مديونية: بلدي الأردن وفوائدها في الجدول التالي:
جدول رقم (1) يبين مديونية الأردن وفوائدها ([26])
(الرصيد القائم للدين العام الخارجي، وخدمة الدين العام الخارجي)
نلاحظ من البيانات المتعلقة بالدين العام الخارجي زيادة رصيده في سنة 2005 عنه في سنة 2000، وهذا دليل على ان المديونية تزيد ولا تنقص بالرغم من سداد الأقساط والفوائد، فالدولة كلها -افرادا ومؤسسات - تعمل من اجل سداد الفوائد الربوية ولا تستطيع، وهذه ثمرة من ثمار الفوائد المحرمة، وهو ان الدول الفقيرة تزداد فقرا ومديونية، والدول الغنية تزداد غنى وتزداد ديونها على الدول الفقيرة.
خدمة الدين العام الخارجي الدين العام الخارجي بالمليون دينار السنة المجموع فوائد أقساط 594.4 265.1 329.8 5043.5 2000 571.8 237.2 334.6 4969.8 2001 566.7 207.6 359.1 5350.4 2002 943.3 221.7 721.6 5391.8 2003 654.2 178.4 475.8 5348.8 2004 212.2 59.7 152.5 5139.7 2005
وسبب الزيادة في رصيد الدين العام الخارجي هو ان الحكومة تقترض باستمرار لأغراض اقتصادية، او لخدمة الدين العام، فيكون هذا الرصيد بالقروض الجديدة مطروحا منه الأقساط. وهناك سبب اخر هو عجز الحكومة عن سداد الأقساط والفوائد لسنة مثلا، فتترتب على ذلك فوائد جديدة على الأقساط والفوائد غير المسددة على صورة فوائد مركبة، مما يسبب زيادة في رصيد الدين العام الخارجي، وهذا ما وضحته جداول متعددة اخرى صدرت عن البنك المركزي الأردني ووزارة المالية، فالاقتراض في النظام الربوي اكثر من الأقساط والفوائد التي تسدد غالبا. وفي كثير من الأحيان فإن الاقتراض لا يذهب إلى دعم الدخل القومي.
ونلاحظ - ايضا - من البيانات التي تتعلق بخدمة الدين العام الخارجي أنه بالرغم من دفع الأقساط والفوائد إلا ان رصيد الدين العام يزيد وتبقى الدولة مدينة، وتخضع لإملاءات الدول الغنية المقرضة، وهو نوع من انواع الاستعمار والاستعباد الفكري والاقتصادي والاجتماعي، ولكن في ثوب جديد.
إنه الظلم، واكل اموال الناس بالباطل الذي نص عليه القرآن الكريم، وهذا وجه من وجوه إعجاز هذا التشريع الخالد الذي جاء به القرآن الكريم.
المبحث الثاني
هدر الموارد الاقتصادية
ينتج هذا عند الإقراض بفائدة لأموال لا يتم توجيهها إلى انشطة ومشاريع ذات جدوى ومنفعة حقيقية لحياة الناس ([27]).
فيتم توجيه الاقتصاد وجهة منحرفة من مشروعات صناعية وتجارية إلى نواد للقمار والفساد؛ بما يعود بالضرر على المجتمع، وكذلك تشجيع الناس على المغامرة والإسراف؛ بتسهيل وضع المال في ايدي المغامرين والجهلة والمسرفين ([28])، فيتم توجيه الأموال احيانا إلى مشاريع ليست ذات جدوى ومنفعة حقيقية، بسبب تسهيل وضع المال في ايدي اناس لا يستغلونها الاستغلال الأمثل، وذلك بسبب عدم توافر الخبرة الفنية الكافية عندهم، او ان يكونوا من المسرفين المبذرين السفهاء؛ وذلك لأن الإقراض بفائدة لا يشترط توجيه الأموال إلى مشاريع ذات منفعة حقيقية لحياة الناس غالبا، فيؤدي هذا إلى هدر الموارد الاقتصادية.
أما في الطريقة الإسلامية فإن هدر الموارد الاقتصادية ينتفي؛ لأن الأموال ينبغي ان توظف في مشاريع ذات منفعة حقيقية لحياة الناس وللدورة الاقتصادية في البلاد. فالأموال في النظام الإسلامي لا تمنح كقرض لا يعلم إلى ان اين يتجه؟ إلى سلع استهلاكية، او متع ترفيهية، او ادوات كمالية ([29]).
وفي المقابل: فإن عدم توافر الخبرة لدى مقترض لا تتوافر لديه المتطلبات العلمية والإمكانات الفنية يؤدي إلى تبديد ثروة المجتمع ([30]).
إن أموال البنوك الإسلامية - مثلا - إذا شاركت في عملية استيراد فهي أموال حقيقية، وليست ائتمانا مخلوقا ولا إضافة لكمية النقود المتداولة، وهي تنزل إلى السوق سلعا مطلوبة، فإذا بيعت استرد البنك الإسلامي أموالا أكثر مما دفع ([31]).
ودليل ذلك: ما نشاهده اليوم عند كثير من الناس الذين يقترضون بالفائدة من اجل ادوات منزلية كمالية: كالثلاجات والغسالات والتلفزيونات والفضائيات، أو سلع استهلاكية: كالطعام والشراب ونحوه، وخلويات وسيارات وحواسيب للترف والترفيه، وأننى أرى ان الناس ينفقون ملايين الدنانير الأردنية مثلا على كلام في الخلويات لا ينفع، بل كثير منه يضر، وهكذا في كثير من السلع.
إن التمويل الربوي يؤدي إلى سهولة المداينات دون اي ارتباط بالنشاط الاقتصادي الفعلي، وهذا - بدوره - يؤدي إلى نتيجتين هما:
تفاقم المديونية؛ نظرا لعدم وجود كوابح ذاتية تمنع منه.
استفحال الإنفاق الاستهلاكي؛ لأن نسبة كبيرة من القروض الفردية ستوجه إلى الحاجات الآنية على حساب الاحتياجات المستقبلية، وهذا يعني اختلال انماط الإنفاق في المجتمع، مما يجعل الأفراد اكثر اعتمادا على الديون لتسيير حياتهم اليومية، وكلما كانت آليات الإقراض النقدي اكثر تيسيرا كلما ازداد اعتماد الأفراد عليها، ويصبح الأمر مثل كرة الثلج لا تزداد مع التدحرج إلا ضخامة ([32]).
ومثال ذلك فيما إذا اشترى شخص ثلاجة لأجل بمائة وخمسين دينارا، فمنفعة الثلاجة يقابلها الزيادة في الثمن للأجل، وهذا نشاط اقتصادي فعلي وهو البيع لأجل. اما إذا اقترض شخص مائة دينار على ان يردها مائة وخمسين دينارا، فمنفعة المائة دينار يقابلها الزيادة على النقد بسبب الأجل، وهذه المنفعة قد لا يقابلها ما ينتفع به المدين، فقد يسدد دينا، او ينفق على أهله، او يتوسع في الاستهلاك كشراء المكولات والمشروبات ونحوها، وهذا هو القرض لأجل.
ودليل ذلك: ان التداول النافع للسلع من المصالح الكلية، وهو الذي يجعل السلعة متاحة لأكثر الناس انتفاعا بها، ويؤدي إلى تحريك السوق ([33]).
وبالنظر في المثال السابق يمكننا التفريق بين الربح والربا بما يلي:
الزيادة في البيع والتجارة هي مقابل تملك السلعة والتصرف فيها، وتحمل مخاطرها، اما الزيادة في الربا فهي اجرة على مجرد التأجيل، وأجرة النقود لا تجوز؛ لأنه ينتفع بها بزوال عينها.
الزيادة في البيع والتجارة هي زيادة في معاوضة صحيحة بين شيئين مختلفي الأغراض والمنافع، فتكون الزيادة في مقابل منفعة مقصودة ومطلوبة في البدل المقابل.
اما الدين فلا معاوضة فيه على الحقيقة؛ لأن بدليه من جنس واحد؛ ولأنه واجب الرد بمثله من جنسه بلا زيادة ولا نقصان، فكانت الزيادة فيه بغير عوض يقابلها ([34]).
إن الشيء المبيع يؤخذ ربحه مرة واحدة، ومع ذلك فالغالب ان يستمر نفعه مددا تطول او تقصر، على العكس من الربا فالدين يستهلك مرة واحدة، في حين يستمر الربا في سلسلة لا تنقطع ([35]).
البيع والتجارة تتضمنان مخاطرة من وجهين:
أولهما: مخاطرة انخفاض السعر، أو كساد السلعة وبوارها حينما يريد بيعها.
وثانيهما: مخاطرة الهلاك والتلف، فترة بقائها في حوزته.
ورأس مال الربا لا مخاطرة فيه، بل هو دين مضمون في الذمة، واجب الرد بمثله، فلا يتعرض لأية مخاطرة ([36]).
وبالتأمل العميق في اراء الاقتصاديين السابقة حول اثر الربا في هدر الموارد الاقتصادية (المال والأرض والعمل) فإنني ارى ان هناك فروقا جوهرية بين نظام الإقراض بفائدة والنظام الإسلامي في استغلال هذه الموارد، يمكن توضيحها في الجدول التالي رقم (2):
جدول رقم (2) يبين الفرق بين نظام الإقراض بفائدة والنظام الإسلامي
من حيث استغلال الموارد
إن هذه الفروق التي فهمتها من كلام الاقتصاديين قد ثبتت لدي بالاستقراء، من مشاهداتي في الواقع، واطلاعي على احوال الناس، ومعاملاتهم واقتراضهم، ونحوها، مما يؤكد هذا الأثر ويثبته بالاستقراء، حيث رأيت من يسدد راتبه كاملا اقساطا للقروض التي اخذها من البنوك المختلفة لتجديد سيارته او حاسوبه او اثاث بيته ونحوه.
النظام الإسلامي
نظام الإقراض بفائدة
الأموال توجه إلى مشاريع إنتاجية؛ لاشتراط ذلك. لا يتم توجيه الأموال المقترضة إلى مشاريع إنتاجية؛ لعدم اشتراط ذلك. 1- الأموال تستغل في مشاريع بعد دراسة الجدوى
الاقتصادية لها.تسهيل وضع الأموال في ايدي اناس لا يستغلونها الاستغلال الأمثل؛ لأنها لا تعتمد على بيانات ودراسات. 2- الاهتمام بالسلع الرأسمالية، والقطاعات الإنتاجية والمشاريع الاستثمارية. تتجه الأموال المقترضة إلى سلع استهلاكية
وترفيهية وكمالية.3-
وهذا الأثر الخطير يحدث اليوم في أكثر الدول تقدما من الناحية الاقتصادية (امريكا مثلا)، حيث ساعدت بطاقات الائمان في زيادة الاقتراض، ومن ثم الاستهلاك، فغرق المواطن الأمريكي في الديون، ولقد شاهدت برنامجا على شاشة الجزيرة الفضائية فيه من يقوم بقص بطاقات الائتمان واتلافها في اجتماع عام، لأنها تساهم في إثقال كاهله بالديون، وتحوله إلى التوسع الجنوني في الاستهلاك. وشاهدت موقفا مماثلا من الكنيسة ورجالها وروادها تجاه هذا الأمر.
ولأجل الحد من الآثار السلبية للاقراض بفائدة تقوم البنوك المركزية احيانا بتقليص الإقراض في بعض الجوانب والقطاعات، او بتحديد اقساط الاقتراض بنسبة 40% من الراتب مثلا؛ لأن التوسع في الإقراض يبتعد عن اهداف التنمية الاقتصادية الحقيقية، ويبدد المال في قطاعات خدمية واستهلاكية غير إنتاجية، مما دفع بعض الاقتصاديين الغربيين إلى وصف هذا الاستهلاك بالاستهلاك الإجرامي.
فالإسلام يعطي لكل نوع من انواع رأس المال لونا مناسبا من المكافأة (الربح):
يعطي رأس المال البشري (العمل) اجرا ثابتا او مشاركة (شركة اعمال مثلا)، ويعطي رأس المال المثلي (الإقراضي) ربحا بالمشاركة دون الأجر الثابت، ويعطي رأس المال القيمي (الإيجاري) اجرا دون مشاركة، مثل اجرة ادوات الإنتاج كالمحراث والآلات الزراعية ونحوها. كل ذلك بما يحفظ العدالة ويدفع إلى الإحسان ([37]).
إن الإسلام لا يعطي رأس المال المثلي (الإقراضي) اجرا مسبقا (فائدة مسبقة)، إنما يعطي اجرا لاحقا عن طريق المشاركة " لأن الإسلام يريد ان يضع البشر فوق المادة، وان يحميهم من سلطة رأس المال الجامد، وان لا يعطي هذا النوع من رأس المال المادي إمكانات النمو بمعزل عن اي عمل او جهد شخصي لمالكه ([38]).
إن المال لا يلد المال بذاته، والنقود لا تلد نقودا، إنما ينمو المال بالعمل وبذل الجهد ([39]).
ومن البراهين على ذلك: الأمثلة الكثيرة في النظام الاقتصادي الإسلامي، ومنها: بيع المرابحة، فبدل ان يقترض بفائدة ثم يشتري بالقرض سلعة، فإن المشتري يشتري السلعة مرابحة نسيئة، فيؤدي إلى تداول نافع للسلعة، وهذا ما حصل في تاريخنا الإسلامي وحتى اليوم، وئجندت بهذا مساوئ النظام الربوي.
ومن الأمثلة أيضا: المساقاة، وهي مشروعة عند جمهور العلماء، وثبتت مشروعيتها بسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وصورتها: ان يدفع الرجل إلى اخر ارضا وشجرا، ويعمل الآخر فيها بماله، على ان يكون الثمر بينهما على ما اتفقوا عليه ([40]).
وبالتأمل في هذه المعاملة المالية نرى ان صاحب الأرض يستغني عن الاقتراض بفائدة، وان صاحب المال يستغني عن الإقراض بفائدة، وإنما يلتقي المال والجهد والأرض والشجر، ويكون الثمر بينهما، وبالتالي يوظف المال في مشاريع ذات منفعة حقيقية، وهو ما حدث فعلا في التاريخ الإسلامي.
يتبع