الهمة العالية




د. صالح سالم النهام



للعلم في شريعتنا مقام عظيم، فأهل العلم هم ورثة الأنبياء، وفضل العالم على العابد كما بين السماء والأرض؛ فعن قيس بن كثير قال: قدم رجل من المدينة على أبي الدرداء وهو بدمشق فقال: ما أقدمك يا أخي؟ فقال: حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أما جئت لحاجة؟ قال: لا . قال: أما قدمت لتجارة ؟! قال: لا . قال: ما جئت إلا في طلب هذا الحديثة قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر" (أخرجه الترمذي).
والعلماء أمناء الله على خلقه؛ لحفظهم الشريعة من تحريف المبطلين، وتأويل الجاهلين، ولذلك جعل الله تعالى التعويل في أمر الدين عليهم؛ قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النحل :43)، ولذا كان من رزق فقها في الدين فذاك الموفق على الحقيقة، فالفقه في الدين من أعظم المنن؛ عن ابن عباس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" (أخرجه الترمذي)، ومن شرف العلم وفضله أن كل من نسب إليه ؛ فرح بذلك، وإن لم يكن من أهله، وكل من دفع عنه ونسب إلى الجهل؛ عز عليه ونال ذلك من نفسه، وإن كان جاهلا حقيقة، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم سوغ الغبطة في امرين خيرين: بذل المال، وبذل العلم، وهذا لشرف الصنيعين، وحث الناس على التنافس في وجوه الخيرة عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها" (متفق عليه ).
والعلم لا ينال أبدا بالتمني والتكاسل، وإنما بالجد والاجتهاد، والتعب في تحصيله وضبطه وحفظه .. وعلو الهمة معنى عظيم؛ يدل على استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، وطلب المراتب السامية. مرضاة لله تعالى .. وكبير الهمة في العلم هو من لا يرضى بالدون أبدا، ويجاهد نفسه في سبيل الوصول إلى القمم العالية في تحصيل العلم ..
وإن من سمت الناجحين أولي الهمم العالية، الإصرار والعزيمة، فالآمال لا تتحقق إلا بهما، وإن من أشد القيود التي تحول بين الإنسان وبين تحقيق أهدافه فقدان العزم وخمول الهمة؛ فقد يضع الإنسان لنفسه أهدافا عالية، لكنه حينما يبدأ في العمل من أجل تنفيذها والوصول إليها يفاجأ بحجم الجهد الكبير الذي يتطلبه النجاح، فلا يصبر وتتحل عزيمته، فيترك أهدافه ويقعد عن العمل .. صحيح أن طريق النجاح ليس مفروشا بالورود والرياحين، ويحتاج إلى تعب وبذل لإدراكه، ولكن الإنسان حينما يذوق طعم النجاح تهون عليه كل لحظة تعب أمضاها في طريق النجاح العلمي، حتى يكون ذلك التعب أشهى إلى نفسه وألذ من طعم الراحة والدعة والسكون، وهذه سنة الله تعالى؛ أنه لا نجاح ولا إنجاز إلا بتعب وكفاح وهمة عالية، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت :69).