السبق الإسلامي في حماية البيئة الطبيعية للمدن
د. يحيى حسن وزيري



عندما نذكر أرض الله الحرام، فإننا نعني بذلك مساحات محددة من مكة المكرمة (وينطبق ذلك أيضا على المدينة المنورة)، وذلك طبقا لما ورد وجاء ذكره في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
ويروى أن أول من نصب حدود الحرم إبراهيم عليه السلام، ثم إن قريشا قلعوها في زمن النبي " صلى الله عليه وسلم" ، فشق ذلك عليه، ثم إنهم أعادوها وجددها النبي " صلى الله عليه وسلم" (1)، فقد روى أبونعيم عن ابن عباس "رضي الله عنه" ، أن النبي " صلى الله عليه وسلم" : بعث عام الفتح أسدا الخزاعي فجدد أنصاب الحرم، وكان إبراهيم وضعها يريه إياها جبريل» (2).
ويخبرنا القرآن الكريم عن حرمة مكة المكرمة في قول الله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (القصص:57)، وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (العنكبوت:67)، كما يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (النمل:91)، كما يوضح القرآن الكريم في موضع آخر حرمة الصيد على المحرم في قول الله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (المائدة:96).
ويوضح الرسول " صلى الله عليه وسلم" المعاني الجليلة الواردة في الآيات القرآنية الكريمة السابقة، في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الحج عن حرمة مكة (3): عن ابن عباس "رضي الله عنه" قال: قال رسول الله " صلى الله عليه وسلم" يوم الفتح: «لا هجرة ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» وقال يوم الفتح: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها. فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال: إلا الإذخر».
فالحديث الشريف ينهى بوضوح عن قطع أشجار الحرم ونباته، وإن كانت شوكا، كما ينهى عن تنفير صيد الحرم، فما بالنا بصيده، وهو ما يشير إلى أهمية المحافظة على البيئة الطبيعية لمكة المكرمة بكل عناصرها النباتية والحيوانية.
كما أنه يحرم القتال بمكة المكرمة، ففي الصحيحين: أن عمرو بن سعيد لما أراد بعث الناس إلى مكة لقتال ابن الزبير، قال له أبوشريح: «يا أيها الأمير أحدثك حديثا سمعته أذناي ووعاه قلبي، أنه " صلى الله عليه وسلم" قال: إن مكة حرّمها الله ولم يحرّمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله فيها، فقولوا: إن الله عزوجل أذن لرسوله، ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب».
وجدير بالذكر هنا أن نوضح أن الرسول " صلى الله عليه وسلم" ، قد حرّم المدينة المنورة وقرر حدود الأرض الحرام بها، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه (4)، عن أنس "رضي الله عنه" عن النبي " صلى الله عليه وسلم" قال: «المدينة حرم من كذا إلى كذا، لا يقطع شجرها، ولا يحدث فيها حدث، من أحدث حدثا، فعليه لعنة الله والملائكة، والناس أجمعين»، والحدث: الأمر الحادث المنكر الذي ليس بمعتاد ولا معروف في السنة، وأما المحدِث فيروى بكسر الدال (وهو فاعل الحدث) لا بفتحها وهو الأمر المبتدع نفسه.
كما روى الإمام مسلم في صحيحه (5)، عن رافع بن خديج "رضي الله عنه" قال: قال رسول الله " صلى الله عليه وسلم" : «إن إبراهيم حرم مكة، وأنا أحرم ما بين لابتيها». (يريد المدينة). و«اللابّة»: الحرة، وهي الأرض ذات الحجارة السود، والمدينة بين حرتين.
وبذلك يتضح لنا سبق المنهج الإسلامي من خلال القرآن والسنة الصحيحة في حماية البيئة الطبيعية للمدن، وهو بذلك قد سبق ما يعرف اليوم بنظام «المحميات الطبيعية» بتحريمه الصيد أو قطع الأشجار في مكة والمدينة، ولا يظن أحد أنني أذهب بالحديث بعيدا عن السبب الذي سيق من أجله وهو تقديس هذه الأماكن، وأن تبقى بقعا آمنة يأمن كل مخلوق فيها على نفسه، غير أن هذا الأمر يجعل موضوع المحميات الطبيعية غير غريب أيضا عن الحس الإسلامي.
مما سبق يمكن أن نحدد الأحكام المتعلقة بالأرض الحرام والتي تتصل ببيئتها وحدودها، فيما يلي (6):
1- تحريم تنفير الصيد بمكة وقتله، ويستثنى من ذلك الفواسق الخمس لحديث رسول الله " صلى الله عليه وسلم" .
2- تحريم قطع الشجر والشوك والخلى، ويستثنى من ذلك نبات الإذخر لحديث الرسول " صلى الله عليه وسلم" .
3- تحريم أخذ لقطة الحرم إلا للتعريف.
ومن الأشياء المهمة أيضا التي تتعلق بالحرم المكي هو تحريم القتال وسفك الدماء فيه، فقد روى الإمام البخاري عن أبي شريح "رضي الله عنه" ، عن النبي " صلى الله عليه وسلم" (7): «فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بِهَا دما ».
ولم يأذن الله لرسوله " صلى الله عليه وسلم" وللمسلمين بقتال فيها، إلا إذا ابتدرهم الكافرون بالقتال، قال تعالى: { وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} (البقرة:191).
وبناء على ما سبق فإننا إذا ما عقدنا مقارنة مع القوانين الوضعية بشأن المحميات الطبيعية، وما ورد في القرآن والسنة بشأن أحكام الحرم المكي، يتضح لنا سبق وتميز المنهج الإسلامي في هذا الصدد.
فإذا أخذنا القانون المصري في هذا الشأن كنموذج، فقد صدر القانون رقم 102 لسنة 1983م في شأن المحميات الطبيعية بمصر، لتوفير الحماية للموارد الطبيعية والتنوع البيولوجي، وللحفاظ على الاتزان البيئي (8)، نجد أن المادة الأولى من هذا القانون تعرف المحمية الطبيعية على أنها: «مساحة من الأرض أو المياه الساحلية أو الداخلية تتميز بما تضمه من كائنات حية، أو نباتات، أو حيوانات، أو أسماك، أو ظواهر طبيعية ذات قيمة ثقافية، أو علمية، أو سياحية، أو جمالية». أما المادة الثانية من نفس القانون فتضع ضوابط التعامل مع تلك المحميات كما يلي: «يحظر القيام بأعمال، أو تصرفات، أو أنشطة، أو إجراءات من شأنها تدمير أو إتلاف أو تدهور البيئة الطبيعية، أو الإضرار بالحياة البرية أو البحرية أو النباتية أو المساس بمستواها الجمالي بمنطقة المحمية».
أي إن قانون المحميات الطبيعية في مصر يحظر تدمير أو إتلاف الحياة البرية (الحيوانات)، أو البحرية (الأسماك)، أو النباتية، وهو ما سبق إليه المنهج الإسلامي (القرآن والسنة) بحوالي أربعة عشر قرنا من الزمان، بل وتفوّق على القانون الوضعي ليس في قتل صيد البر فقط بل وتنفيره أيضا، ووصل نهيه بالنسبة للحياة النباتية بعدم قطع الشوك وليس فقط الأشجار الموجودة في أرض الله الحرام، بل وتحريم القتال وسفك الدماء.
وفي المادة السابعة من قانون المحميات الطبيعية بمصر عقوبات تتراوح ما بين الغرامة المالية والحبس، لمن لم يلتزم بما ورد في مواد القانون، وفي هذا الشأن أيضا نجد أن علماء المسلمين أوجبوا إيقاع عقوبة على من يقطع شجر الحرم.
فقد قال الواقدي (9): «لما أرادت قريش البنيان قالوا لقصي: كيف نصنع بشجر الحرم؟ فنهاهم وحذرهم في قطعها وخوفهم من العقوبة في ذلك، فكان أحدهم يحوق بالبنيان حول الشجرة حتى تحصل في منزله، قال: وأول من رخص في قطع شجر الحرم في البنيان عبدالله بن الزبير، حين ابتنى دورا بقعيقعان (جبل بمكة)، لكنه جعل دية كل شجرة بقرة، وكان يروى عن عمر أنه قطع دوحة كانت في دار أسد بن عبدالعزى، وكانت تنال أطرافها ثياب الطائفين بالكعبة، وذلك قبل أن يوسع المسجد، فقطعها عمر "رضي الله عنه" ، ووادها (دفع ديتها) ببقرة».
وقال النووي (10): «اتفق العلماء على تحريم قطع أشجار مكة التي لا يستنبتها الآدميون في العادة، وعلى تحريم قطع خلاها وهو الرطب من الكلأ، واختلفوا في ضمان الشجر إذا قطع، فقال مالك: يأثم ولا فدية، وقال الشافعي وأبوحنيفة: عليه الفدية، وأوجب أبوحنيفة القيمة، والشافعي في الكبيرة بقرة والصغيرة شاة، وكذا جاء عن ابن عباس».
الخلاصة:

سيظل المنهج الإسلامي سبّاقا ومهيمنا على القوانين التي يضعها البشر في كل زمان ومكان، وهو ما ظهر في دراستنا هذه التي تناولت سبق القرآن والسنة في حماية البيئة الطبيعية للحرمين الشريفين، واستخدام مصطلح «الأرض الحرام»، وهو مصطلح شرعي تتعلق به أحكام وواجبات شرعية، ولكن في نفس الوقت يسهم بطريقة مباشرة في الحفاظ على البيئة الطبيعية للحرمين الشريفين، وكذلك الارتقاء بالتربية البيئية للمسلمين زوار الأماكن المقدسة في الحرمين الشريفين، وتهذيب سلوكهم في التعامل مع البيئة النباتية والحيوانية لأرض الله الحرام، مما ينعكس على سلوكهم بصفة عامة في بقاع الأرض المختلفة.
الهوامش

(1) بدر الدين الزركشي، إعلام الساجد بأحكام المساجد، ص 63.
(2) انظر كتاب: الإصابة في تمييز الصحابة 1/183.
(3) انظر صحيح مسلم: (باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام).
(4) انظر صحيح البخاري: (كتاب فضائل المدينة).
(5) انظر صحيح مسلم: (كتاب الحج).
(6) البلد الحرام فضائل وأحكام، إعداد كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى (1423هـ)، ص43 وما بعدها.
(7) انظر صحيح البخاري: (باب لا يحل القتال بمكة).
(8) يمكن الاطلاع على القانون المصري الخاص بالمحميات الطبيعية على شبكة الإنترنت.
(9) بدر الدين الزركشي، إعلام الساجد بأحكام المساجد، ص 155.
(10) بدر الدين الزركشي، إعلام الساجد بأحكام المساجد، ص 226 ومابعدها.