الذخيرة للقرافي


كتاب «الذخيرة» للقرافي المالكي, كتاب مبتكر في الفقه المالكي, فروعه وأصوله، بدع من مؤلفات عصره، التي هي في الأعم اختصارات، أو شروح وتعليقات، وهو من أهم المصنفات في الفقه المالكي خلال القرن السابع الهجري، وآخر الأمهات في هذا المذهب، إذ لا نجد لكبار فقهاء المالكية المغاربة والمشارقة الذين عاصروا القرافي أو جاءوا بعده سوى مختصرات لم تهد أكثرها - على ما أدركت من شهرة وانتشار - أن كرست، عن غير قصد، تعقيد الفقه، وإفراغه من محتواه النظري الخصب، وأدلته الاجتهادية الحية، ليصبح في النهاية مجرد حك ألفاظ، ونقاش بارد يدور في حلقة مفرغة لا تنتج ولا تفيد.


وإذا كان المذهب المالكي تركز أكثر في الجناح الغربي من العالم الإسلامي، فإنه قطع أشواطا متميزة قبل أن يصل إلى تعقيدات عصر القرافي، فقد كانت القيروان بالنسبة لهذا الجناح الغربي منطلق إشراق الفقه المالكي وأفوله معا، ففيها نشر أسد ابن الفرات (ت/ 213هـــ) المدونة الأولى التي حوت سماعاته من مالك وغيره، وهي المعروفة بالأسدية، فأخذها سحنون عبدالسلام بن سعيد (ت/ 240هـــ)، وصححها على ابن القاسم، ورجع إلى القيروان بالمدونة الكبرى التي نسخت الأسدية، وجمعت ستا وثلاثين ألف مسألة، فانتشرت في أقطار المغرب والأندلس، وظلت ركيزة المذهب المالكي، ومرجع فقهائه طوال القرون الأولى.
وفي القيروان لاحظ أبومحمد عبدالله ابن أبي زيد القيرواني (ت/ 386هــــ) كسل الهمم عن إدراك مدونة سحنون، فاختصرها في «اختصار المدونة»، فحلّ الاختصار محل الأصل وأخمد ذكره، ثم اختصر أبوالقاسم البراذعي مختصر شيخه القيرواني، وسماه «التهذيب»، ثم جاء أبوعمرو بن الحاجب (ت/ 646هـــ) واختصر التهذيب، فزاده تعقيدا، وطم السيل مع خليل بن إسحاق (ت/ 749هــــ) الذي اختصر كتاب ابن الحاجب، فأصبح مختصر خليل هو المختصر الرابع في مسلسل مختصرات المدونة، وهو عبارة عن رموز لا تفهم إلا بشق النفس، يحفظه الطلاب عن ظهر قلب، ويقرأ أحزابا في جامع القرويين وغيره، ولا تفك رموزه إلا بالرجوع إلى عدة شروح وحواش وتعليقات.
وقد اعتمد القرافي في «الذخيرة» على نحو أربعين من تصانيف المذهب المالكي، وخص خمسة منها كمصادر أساسية يرجع إليها دائما، ويقارن بينها ويناقش، وكلها كتب مستقلة مبتكرة أصيلة، وهي: مدونة سحنون، والتفريغ لعبيدالله بن الجلاب البصري (ت/ 368هـــ)، ورسالة ابن أبي زيد القيرواني، والتلقين للقاضي عبدالوهاب البغدادي (ت/ 422هـــ)، والجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لعبدالله بن شاس المصري (ت/610هــــ).
وتميز «كتاب الذخيرة» بدقة التعبير، وسعة الأفق، وسلاسة الأسلوب، وجودة التقسيم والتبويب، الأمر الذي يضفي عليه من جهة أخرى طابع الجدة والحداثة، حتى لكأنه كتب في عصرنا الحاضر، بقلم أحد أعلام الفقه، وتظهر عبقرية مؤلف الذخيرة وموسوعيته في مزجه بين الفقه وأصوله، واللغة وقواعدها، والمنطق والفلسفة والحساب والجبر والمقابلة؛ في المواطن التي تقتضيها، وفي وضعه مصطلحات دقيقة ورموزا واضحة، تختصر أسماء الأشخاص والكتب التي يكثر تداولها في الذخيرة، تقليلا للحجم، فكلمة «الأئمة» تعني عنده الشافعي وأبا حنيفة وابن حنبل، و«ش» ترمز للشافعي، و«ح» لأبي حنيفة، و«الصحاح» تعني الموطأ وصحيحي البخاري ومسلم.
ونجد في «الذخيرة» داخل الأبواب والفصول والمباحث والفروع المعتادة عناوين فرعية، تضبط المعلومات الإضافية وتحددها وتبرزها، أمثال: تمهيد، تحقيق، تفريع، تنقيح، تحرير، تذييل، قاعدة، فائدة، نظائر...
ويمكن أن يعد من مميزات «الذخيرة» كذلك عناية المؤلف بإبراز أصول الفقه المالكي، فقد جعل القرافي من شرطه في كتابه تتبع الأصول في مختلف الأبواب، قائلا في المقدمة: «وبينت مذهب مالك رحمه الله في أصول الفقه، ليظهر علو شرفه في اختياره في الأصول، كما ظهر في الفروع، ويطلع الفقيه على موافقته لأصله أو مخالفته له».

أهمية مقدمة كتاب الذخيرة

يظهر شرف هذه المقدمة فيما تضمنته من المباحث التي لابد لطالب العلم أن يطلع عليها ويعيها قبل الولوج في علم الفقه الذي هو سلعة الفقيه الأولى.
وأول ما أوضحه الإمام القرافي في مطلع كتابه أن الفقه عماد الحق ونظام الخلق ووسيلة السعادة الأبدية، وأن من اشتغل به ساد، وذكر أن من أجل من عرف به، وأقربه إلى الحق طريقا: مذهب إمام دار الهجرة، وبين أدلته على هذا الاختيار.
كما أوضح سبب اشتغاله بتصنيف كتاب الذخيرة، وذلك أن الله عز وجل لما وهبه فضيلة كونه ناشئا مالكيا، رأى أن الواجب تعين عليه للقيام بحق المذهب بحسب الإمكان، فوجد رحمه الله أخيار علماء المالكية قد أتوا في كتبهم بالحكم الفائقة والألفاظ الرائقة والمعاني الباهرة والحجج القاهرة، غير أنهم يتبعون الفتاوى في مواطنها حيث كانت، ويتكلمون عليها أين وجدت، مع قطع النظر عن معاقد الترتيب، ونظام التهذيب، كشراح المدونة وغيرها، ومنهم من سلك الترتيب البديع وأجاد كابن شاس صاحب الجواهر الثمينة، لكنه مختصر قد لا يقنع طالب العلم المستزيد.
ومما نبه عليه القرافي في مقدمته المهمة أن الفقه وإن جل، إذا كان مفترقا، تبددت حكمته، وقلت طلاوته، وبعدت عند النفوس طلبته، وإذا رتبت الأحكام مخرجة على قواعد الشرع مبنية على مآخذها، نهضت الهمم حينئذ لاقتباسها، وأعجبت غاية الإعجاب بتقمص لباسها.
وبين أنه رحمه الله قدم مشهور المذهب على غيره من الأقوال، ليستدل الفقيه بتقديمه على مشهوريته، كما نبه على أنه اهتم بذكر مذاهب الفقه الأخرى غير المالكية، وذكر مآخذهم في كثير من المسائل، تكميلا للفائدة ومزيدا في الاطلاع.
وبين أنه أودع كتابه ما تحتاجه الأبواب من اللغة في الاشتقاق وغيره، وما تحتاجه من النحو، وأنه تكلم على الأحاديث بما تحتاجه من عزو وتوضيح إشكال أو جوابه فيه، أو إثارة فائدة منه.
ومن المهمات البالغات المذكورة في هذه المقدمة النفيسة، ما أشار إليه بقوله: «أودعته من أصول الفقه وقواعد الشرع وأسرار الأحكام وضوابط الفروع ما فتح الله علي به من فضله، مضافا لما أجد في كتب الأصحاب، بحسب الإمكان والتيسير».
وقد انقسمت المقدمة إلى مقدمتين:

إحداهما: في بيان فضيلة العلم وآدابه، ليكون ذلك معدنا وتقوية لطلابه.

والمقدمة الأخرى: في قواعد الفقه وأصوله، وما يحتاج إليه من نفائس العلم، مما يكون حلية للفقيه، وجنة للمناظر، وعونا على التحصيل.

وإنما بين مذهب مالك رحمه الله في أصول الفقه، ليظهر علو شرفه في اختياره في الأصول، كما ظهر في الفروع، ويطلع الفقيه على موافقتة لأصله، أو مخالفته له لمعارض أرجح منه، فيطلبه حتى يطلع على مدركه، ويطلع المخالفين في المناظرات على أصله.
المقدمة الأولى: في فضيلة العلم وآدابه، وفيها فصلان:

الفصل الأول في فضيلته من الكتاب والسنة والمعنى.

الفصل الثاني في آدابه.

المقدمة الثانية: وفيها ذكر ما يتعين أن يكون على خاطر الفقيه من أصول الفقه وقواعد الشرع واصطلاحات العلماء، حتى تخرج الفروع على القواعد والأصول، وذلك أن كل فقه لم يخرج على القواعد فليس بشيء.

واعتمد في هذه المقدمة على كتاب الإفادة للقاضي عبدالوهاب، وكتاب الإشارة للباجي، ومقدمة ابن القصار، وكتاب المحصول للفخر الرازي، ولخص جميع ذلك في مائة فصل وفصلين، في عشرين بابا، وسمى هذه المقدمة الأصولية النفيسة «تنقيح الفصول في علم الأصول»، وهي تحتوي على أبواب أصولية كثيرة
- هذا العرض مستفاد من مقدمة محقق الكتاب الدكتور محمد حجي.
منقول