سلطة ولي الامر في تقييد المباح (1)



الأصل في الأنظمة التي تأتي على وفق الاحتياط للمصلحة أن تكون داخل دائرة المباح، فالمصالح المعتبرة كدليل مشروعية، ذات حدين، حد متعلق بتصرفات الإمام، وحد متعلق في المتصرف فيه، فهي من جهة أساس يستند إليه ولي الأمر في تقييد المباح، وهي من الجهة الأخرى ضابط يستند إليه ولي الأمر في عدم تجاوز ما يباح له فعله (2).


وقد عبر الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله (3) عن تقييد المباح باصطلاحات متعددة منها: «إيقاف العمل المباح» و«منع المباح» و«تقييد المباح» و«تعطيل المباح» و«الامتناع عن المباح» وجميعها تتفق في المعنى الذي هو ترجيح أحد طرفي الإباحة؛ حيث إن المباح ليس مباحا بإطلاق؛ لأن تناوله أو الإحجام عنه تتعلق به حقوق الآخرين، ولابد من مراعاتها، مما يستوجب منع المباح تارة والأمر به تارة أخرى، بحسب ما يؤول إليه التناول أو الإحجام، بحسب الحال والمكان والزمان.

وهذا المنع أو الأمر، ليس على سبيل الدوام، فهو مؤقت باستمرار الحاجة أو الضرورة الداعية لترجيح أحد طرفي الإباحة، وهكذا فإن تقييد المباح هو ترجيح بعض الخيارات لأسباب معقولة ومؤقتة، على سبيل الأمر أو الحث، ما لم يوجد مانع شرعي من نص خاص أو قاعدة كلية أو ضابط (4).
وبذلك يدخل في دائرة المباح تغير الأحكام بتغير الحال والمكان والزمان، وفق ضوابط التغير الشرعية، فعندما يتخلف مقصود الحكم الشرعي عنه، سواء المندوب أو الواجب أو المكروه أو المحرم، لزم ولي الأمر وهو المنوط به بحكم الولاية العامة صيانة تحقيق المقاصد الشرعية الخمسة ورعايتها، وأعلاها حفظ الدين، بأن يتدخل بتصرف يعيد تحقيق المقصود الشرعي من الحكم.
تقييد المباح تفرضه السياسة الشرعية لا الهوى والتسلط:
وهذا التصرف من قبل ولي الأمر يعد من أمور السياسة الشرعية؛ فولي الأمر وهو يقيد الإباحة لا يقيدها بالهوى والتشهي، بل بالنظر والاحتياط المشروع والسبيل الأجود لمصلحة الرعية؛ ولذا لابد أن يلاحظ مدى مشروعية تناولها، من خلال موافقة قصد المكلف في التناول لقصد الشارع في التشريع، فإذا وافقها كان استعماله مشروعا، وإن كان على خلاف ذلك كان مطلوب الترك (5).
وليس في ذلك أي تغيير للأحكام الشرعية، فهما خارج نطاق التخيير، ولابد من الامتثال للشرع، فتسن الأنظمة للأمر باللازم في الواجبات والحث عليها، واستحداث المرغبات لها، وعقوبة تاركها، وللأمر باللازم في ترك المحرمات والتحذير منها وعقوبة فاعلها؛ قال الشاطبي: «ومن كلامه – يقصد عمر بن عبدالعزيز - الذي عني به ويحفظه العلماء، وكان يعجب مالكا جدا، وهو أن قال: «سن رسول الله " صلى الله عليه وسلم" وولاة الأمر من بعده سننا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفه، من عمل بها مهتد، ومن انتصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا»، وبحق ما كان يعجبهم; فإنه كلام مختصر، جمع أصولا حسنة من السنة» (6).
وبناء عليه يكون حمل مقولة عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: «تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور»، على مقتضى الأصول المضمنة في أثر عمر بن عبدالعزيز: أن سنة ولاة الأمر وعملهم تفسير لكتاب الله وسنة رسوله " صلى الله عليه وسلم" وسلم، لقوله: «الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله»، وهو أصل مقرر في غير هذا الموضع، فقد جمع كلام عمر بن عبدالعزيز رحمه الله أصولا حسنة وفوائد مهمة، وهو قول الشاطبي (7).
ما هو المباح الذي يمكن تقييده؟
إلا أن هذا المباح ليس مطلقا في كل مباح، بل هو فقط فيما جعل للإمام فيه حق التصرف بالمصلحة المعتبرة، وفي كل أمر هو من اختصاصه، وضمن مسؤوليته، بحيث يباح له فعله، فيخرج بذلك جميع المباحات التي ليست من اختصاصه، ومنها على سبيل المثال خصوصيات الناس، فلا يحق للإمام أن يلزم الناس بشرب القهوة دون الشاي، أو شخصا بزواج فلانة دون علانة، أو مثل ذلك (8). والدليل على تقييد المباح لمصلحة معتبرة من فعله " صلى الله عليه وسلم" ؛ حيث نهى عن ادخار لحوم الأضاحي وعلل ذلك بالدافة، وهم الأعراب الفقراء الذين يفدون على المدينة، ثم أذن في ذلك فقال " صلى الله عليه وسلم" : «ألا فكلوا وتصدقوا وادخروا» (9)، ومن فعل الصحابة منع سيدنا عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" بعض الصحابة من السفر خارج المدينة (10)؛ فقد كان يرى جواز منع بعض الأشخاص من السفر؛ لحاجته إلى استشارتهم في الملمات والنوازل، وذلك لاحتياج الأمة لهم، وحرصه عليهم، حيث يخشى بذهابهم فقدان البديل لهم، وخاصة بعد مقتلة القراء، وكذلك لدرء بعض المفاسد التي تنتج من انتشارهم في البلاد، كظهور التعصب بين الناس للصحابي المقيم في مدينته في مقابل باقي الصحابة، مما يبث الأحزاب والفرق بين المسلمين (11).
الفرق بين المنع من بعض أفراد المباح والمنع من جنس المباح:
وللمكلف أن يمنع نفسه من بعض أفراد المباح متى دعت الحاجة إليه، وليس له أن يمنع نفسه من جنس المباح، فإذا لم يجز ذلك للمكلف فهو من باب أولى غير جائز للإمام؛ فليس له أن يسن نظاما أو أمرا أو غير ذلك مما من شأنه أن يمنع جنس مصلحة على عموم المكلفين، بل له فقط أن يمنع الفرد من أفراد المصالح، ذلك أن جنس المصلحة متى ثبت بالدليل الشرعي؛ لم يصح منع جنسه بأي حال، فقد أخرج الإمام البخاري في «صحيحه» بسنده عن حميد بن أبي حميد الطويل أنه سمع أنس بن مالك "رضي الله عنه" يقول: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي " صلى الله عليه وسلم" يسألون عن عبادة النبي " صلى الله عليه وسلم" فلما أخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي " صلى الله عليه وسلم" قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله " صلى الله عليه وسلم" إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني.
فلا يصح أن يأتي تقييد المباح على سبيل النسخ بإبطال حكم سابق بحكم لاحق؛ فذلك من اختصاصه " صلى الله عليه وسلم" ، وقد انقطع النسخ بانقطاع الوحي بوفاته " صلى الله عليه وسلم" ، وأما منع الفرد من أفراد المباح في حالة معينة، ولوقت معين، فجائز بضوابطه.
ومن طبيعة الأنظمة المعمول بها في كل دولة تقييد ما تدخل عليه من المباحات، وهذا التقييد معدود في أعمال السياسة الشرعية التي يقوم بها ولاة الأمر، فهي إجراء مؤقت تدعو له الضرورات أو الحاجات، من أجل المحافظة على قصد المباح إذا تعرض للنسيان أو التناسي، أو عارضتها عادات أو ممارسات تعود على المباح بالنقض، ولاسيما متى تعلق المباح بحق الآخرين؛ إذ الأصل في مشروعيته اعتبار حقوق الآخرين؛ وبزوال سبب المشروعية ترفع الإباحة (12)، وهو من أنواع العمل بمبدأ أن لولي الأمر تقييد المباح -عند من يقرره من أهل العلم- لمصلحة عامة لا خاصة، والمقصود اختياره أحد أفراد المباح الذي جاز فعله أو تركه أصلا، مع إلزام الناس بهذا الاختيار؛ سواء بمنعهم من فعله، أو بإلزامهم به، وهذه المباحات وإن كانت مساحة تقبل التوجيه نحو الخير أو نحو الشر حسب إرادة المتناول لها، فإن الله عزوجل لم يرد بها إلا الخير؛ ولهذا فإن كل تصرف في المباح بما يحقق المقاصد الشرعية من جعلها مباحة يعد من مظاهر النهوض بمسؤولية خلافة (13) الإنسان في الأرض، ومن باب أولى خلافة الحكام على الناس.
وعلى الجملة فالمباح – كغيره من الأفعال – له أركان وشروط وموانع ولواحق تراعى؛ والترك في هذا كله كالفعل، فترك الفعل فعل؛ فكما أنه إذا تسبب الفرد للفعل كان مسؤولا عن تسببه، كذلك إذا تسبب إلى الترك كان مسؤولا عنه، فالمسؤولية تنفي الإطلاق في التصرف، وتقيد الحرية بما يؤول إليه التناول (14)، وعلى هذا فيجوز لولي الأمر – وقد يجب – التدخل لاتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية المباح، ومنع الضرر أو الحرج المترتب على تناوله؛ إما بمنع الناس مما يرى أن في عدم تقييد إباحته ضررا بالمجتمع، أو إيجاب ما يرى أن في الأمر به دفعا لمفسدة أو جلبا لمصلحة لعموم الناس، أو وضع طريقة مفصلة لتناول المباح، تذهب مفاسد التناول وتحول دون إساءة الاستخدام، وما يتخذه ولي الأمر من إجراءات في سبيل ذلك يكون ملزما واجب الطاعة (15)، فكل تقييد لمباح يحقق مصلحة عامة معتبرة، اختاره الإمام والتزمه في سن الأنظمة أو إصدار الأوامر والتعليمات وغيرها من الوسائل الإدارية؛ وجب على الأمة أن تطيعه فيه.
ومن الأمثلة على ذلك: إعادة تنظيم عمر بن عبدالعزيز رحمه الله للجانب الإجرائي في رد المظالم إلى أهلها، فرفع جميع القيود والشروط التي أضافها من سبقوه من الولاة لإثبات المظلوم لمظلمته، ثم خفف ما تبقى منها؛ بحيث يكون جانب الاحتياط باتجاه عدم تفويت مصلحة المتظلم، وذلك بالتيسير وعدم التشدد في طلب البينة القاطعة من المتظلمين، في زمن كثر فيه غشم الولاة، فكان يكتفي بأيسر من ذلك، وإذا عرف وجه مظلمة الرجل ردها عليه، ولم يكلفه تحقيق البينة (16)، عملا بقاعدة: «إذا ضاق الأمر اتسع» (17)، فمتى كان الخصم أحد الجهات الحكومية أو المسؤولين فيها؛ فقد تكون بينة المتظلم من المتعذر تحصيلها، وذلك لوجودها لدى خصمه، كما هو الحال في غالب التظلمات من تصرفات أو إجراءات الجهات الحكومية والعامة، أو تلك المتعلقة بعقود الإذعان، فيتعسر على المتظلمين الحصول على البينة؛ فيضيق بهم الحال، ويقع عليهم الحرج الكبير، فبعض التراتيب الإدارية قد تؤدي إلى تعثر العمل الحكومي وامتناع المحاسبة على التقصير؛ لذا ينبغي ألا يقام نظام الحكومة على ضوابط ملتوية، يعز على القائمين بالأمر أن يقوموا به، وعلى المحاسبين أن يحاسبوا ويعينوا من جاء منه الخلل والفساد (18).
ولأجل ذلك، أوسع عمر على الناس بتخفيف شروط البينة الكافية لإصدار قراره في المظلمة لرفع مفسدة قطع البينة عن صاحبها، والاحتياط لحقوق الناس، ومراعاة فارق الحال بين الخصمين، وتعظيم فرص ومصلحة رد الحقوق إلى أهلها.
تقييد ولي الأمر للمباح منوط بمصلحة الرعية:
ولي الأمر الأكبر هو المخول بسن الأنظمة التي تقيد المباح، وفق ما تقتضيه أحكام الشريعة السمحة. ولكن مع ذلك يبقى موقف تحديد المساحة الحرة وتقييدها موقفا صعبا وحرجا ودقيقا على الإنسان غير المعصوم، والتريث في هذا الأمر وعدم الاستعجال فيه من الإحسان؛ لأن ما زاد عما يقتضيه الحال من درء أو رفع لمفسدة، أو من جلب لمصلحة وتكثيرها؛ يعد تجاوزا للحد المشروع، وتجاوز الحد غير مشروع، وبخاصة أن تلك الأمور يصعب على عامة الناس في أكثر أحوالهم إدراك كامل الأمر، ولا يرون سوى الجزء اليسير المتعلق بمصالحهم الشخصية، قال الفاروق "رضي الله عنه" لما حمى الربذة: «وايم الله إنهم – أهل الربذة – ليرون أني ظلمتهم، إنها بلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عنهم من بلادهم شبرا»، فتأكيده "رضي الله عنه" الكلام بالقسم مؤذن بأن لهم شبهة قوية ناتجة عن نظرة جزئية في أن الخليفة ظلمهم، وحاشاه "رضي الله عنه" من ذلك! والحاصل أنه قد يترتب على الحاكم تكلفة سياسية حتى في احتياطه للتوسعة على عموم المسلمين (19).
والحريات تتسع بمقدار اتساع الأنظمة كيفا، والإقلال منها كما، وتتسع الأنظمة وتقل كميتها بمقدار ما يجعل الناس في تناولهم للمصالح التي يحتاط لها النظام والمفاسد التي يقيدها؛ موافقة لمقاصد الشارع من التشريع، ثم بحسب نمو أسباب التمدن والشعور بالمسؤولية، وبذلك يتأكد أن تقييد المباح بالأنظمة، وما يدخل في حكمها ليس إلا تدبيرا سياسيا شرعيا مؤقتا، يحفظ المجتمع والدولة من أسباب الفرقة والضعف والانحلال (20).
تقييد المباح مؤقت وليس أبديا:
والأصل التأقيت في تقييد المباح؛ لأن التقييد السلبي والإيجابي الذي يترتب على سن الأنظمة عمل اجتهادي، يهدف إلى جلب مصلحة ودفع مضرة؛ لذا فهو أمر عارض أصل الإباحة، فيزول بزوال مبرراته، أضف إلى ذلك أن كثرة تقييد المباح بتبني الإمام لأحكام اجتهادية لتصدر الأنظمة على وفقها، سيؤدي إلى تقييد الاجتهاد في المسائل الاجتهادية التي صدر فيها النظام، وفي ذلك إضعاف لفكر ونظر المعنيين بتطبيق النظام (21). وقد ناقش ابن القيم هذه المسألة، وبين أن التقييدات تصرفات سياسية صادرة عن الخلفاء، ساسوا بها الأمة، ثم تساءل في سبيل إثبات تعلقها بالمصالح المتغيرة، فقال: «هل هي من الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة، أم من السياسات الجزئية التابعة للمصالح فتتقيد بها زمانا ومكانا؟» (22)، وقد أجاب ابن عاشور عن هذ التساؤل فبين أن ذلك موكول لنظر المجتهد سدا وفتحا، بأن يراقبوا مدة اشتمال الفعل على عارض فساد فيمنعوه، فإذا ارتفع عارض الفساد أرجعوا الفعل إلى حكمه الأصلي (23)، ويأتي كلام ابن القيم وابن عاشور مقتضيا التوسعة والموافقة لمقولة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز يرحمه الله «تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور»، فأما التوسيع فمن جهة دخول السياسات التي يحدثها الخلفاء في قول عمر بن عبدالعزيز يرحمه الله «تحدث للناس أقضية»، ودخول الفساد في قوله «ما أحدثوا من الفجور»، وإشارة ابن القيم إلى سياسة تقييد المباح أنها من السياسات الجزئية التابعة للمصالح، فتتقيد بها زمانا ومكانا، وتصريح ابن عاشور بمراقبة مدة اشتمال الفعل للفساد العارض يأتي على سبيل الموافقة لقول عمر: «بقدر».
والأصل في الأنظمة أن تكون مؤقتة، وجواز تدخل الدولة بالمنع والإلزام مشروط بأن يكون مؤقتا في الأفعال التي الأصل فيها عدم إيجابها على الرعية، أو عدم منعهم من إتيانها، وعلى أن يكون التدخل في أحوال مخصوصة فقط (24)، والتأقيت المقصود هنا لا يحدد بزمن معين، وإنما بقاء العمل بالنظام ببقاء ما يبرره وبقاء أمر ولي الأمر به، وذلك – بحساب الزمن – قد يطول وقد يقصر، والمحدد لذلك طبيعة العارض، ومن ثم يكون من المهم تحديد مدى العارض زمنا ووقتا، وهذا صراط دقيق لا غنى عنه لمن تصدى لمهمة الإفتاء، ومن باب أولى يتأكد لمن تصدر مسؤولية الحكم، وما يقتضيه ذلك من اجتهاد في سياسة أمر الناس (25).
فتقييد المباح بسن الأنظمة ليس أمرا يكثر استخدامه في إطار السنة المالية الواحدة التي تعمل بها الدول اليوم، وليس من الأمور الاعتيادية؛ لذا فسن الأنظمة يعد تدبيرا سياسيا استثنائيا، استدعاه الواقع المتغير بتغير الضرورات والحاجات، وهذا يكشف عن لزوم حضور الواقع في فكر ولاة الأمر، ولزوم متابعة مدى التزام الناس في إتيان مصالحهم، وفق الأنظمة على الوجه المشروع للتصرف في المباحات، كما يكشف عن المرونة التي تتجلى في الشريعة من خلال مراعاة إلغاء النظام والعودة إلى أصل الإباحة بزوال مصلحة تقييدها (26)، لكي لا تتراكم الأنظمة فتشق على الناس وتوقعهم في حرج، دون مصلحة تعود لهم أو للدولة جراء ذلك.
تقييد المباح احتياط للمصالح المعتبرة:
وبناء على ما تقدم، يكون تقييد المباح احتياطا للمصالح المعتبرة بإطلاقها وتكثيرها ومنع دخول المفاسد عليها، وهذا عند التحقيق أحد أدوات وإجراءات مراعاة تغير وسائل وطرق المصالح المعتبرة بتغير وسائلها وطرقها المعاصرة، بحيث تؤول المصالح والأنظمة المرعية إلى صيانة الشريعة، وتجديد العمل بثوابت هذا الدين الحنيف، وحمايتها بكل وسيلة مشروعة. مع التأكيد على أن تدخل الدولة إنما أبيح لإقرار الشرع له، وليس نابعا عن مجرد تصور الدولة للمصلحة العامة، أو مسايرة للرأي العام، أو غير ذلك (27).
ومن الأمثلة على تغير الطريق إلى مصلحة التعليم الشرعي، ما نقل عن تغير موقف علماء الأمة من كراهية تدوين العلم الشرعي في كتب؛ لأجل سد الذريعة إلى مفسدة، وهي كما نقل الشاطبي في كتابه الاعتصام «الخوف من الاتكال على الكتب استغناء بها عن الحفظ والتحصيل، وإما على ما كان رأيا دون ما كان نقلا من كتاب أو سنة»، إلى أن قرر الشاطبي: «اتفاق الناس بعد ذلك على تدوين الجميع لما ضعف الأمر، وقل المجتهدون في التحصيل، فخافوا على الدين الدروس جملة» (28)، ويمثل الخوف على انقطاع العلم جملة انقطاع الطريق إلى المصلحة، والذي ترتب عليه حدوث مفسدة واقعة، وكانت تلك مقابل سد الذريعة لأجل مفسدة متوقعة.

الهوامش
(1) مبحث مجتزأ من بحث واسع منشور بعنوان: «سياسة عمر بن عبدالعزيز في سن الأنظمة بناء على قوله: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور» للدكتور عبدالعزيز بن سطام بن عبدالعزيز آل سعود.
(2) منقول بتصرف من: سلطة ولي الأمر في تقييد المباح للدكتور البشير بن المكي عبداللاوي (ص:195).
(3) كشف المغطى لابن عاشور (ص: 179)، والدريني، خصائص التشريع الإسلامي، (ص:311).
(4) عبداللاوي، نفس المرجع، ص 78-79.
(5) عبداللاوي، سلطة ولي الأمر في تقييد المباح، (المرجع السابق، ص:81).
(6) انظر، الاعتصام للشاطبي 1/ 144.
(7) المرجع السابق: 1 /146-147.
(8) ياسين بن علي، فقه تقييد المباح، مجلة الزيتونة.
(9) صحيح مسلم.
(10) تاريخ الطبري 2/679، وانظر تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 39/302.
(11) السبيعي، إبراهيم عبدالله البديوي (2007م)، المنع من السفر كعقوبة تعزيرية في الشريعة الإسلامية...، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة الكويت، العدد 17، العام 2007م.
(12) ينظر، عبداللاوي، سلطة ولي الأمر في تقييد المباح، (مرجع سابق ص:82).
(13) بتصرف، عبداللاوي، سلطة ولي الأمر في تقييد المباح، (نفس المرجع ص: 136).
(14) نفس المرجع، ص: 103، والشاطبي، الموافقات، 1/ 116.
(15) ينظر: الملكية في الشريعة الإسلامية لعلي الخفيف، ص: 102-103.
(16) انظر: طبقات ابن سعد 5/ 252.
(17) الأشباه والنظائر للسيوطي (ص:83).
(18) بتصرف، تدوين الدستور الإسلامي للمودودي (ص:59‏).
(19) ينظر: أصول النظام الاجتماعي لابن عاشور، (ص: 177-178)، وبتصرف، عبداللاوي، سلطة ولي الأمر في تقييد المباح، (مرجع سابق، ص: 174).
(20) ينظر، اللاوي، سلطة ولي الأمر في تقييد المباح، (نفس المرجع، ص:83)، والدريني، خصائص التشريع الإسلامي، هامش، (ص:276)، نقلا عن أقوم المسالك، (ص:305).
(21) بتصرف، التشريع وسن القوانين في الدولة الإسلامية لمحمد بن أحمد وسامي صالح (ص:38).
(22) ينظر، ابن القيم، الطرق الحكمية، (ص:18).
(23) ينظر، ابن عاشور، أصول النظام الاجتماعي، (مرجع سابق، ص:163)، وينظر، اللاوي، سلطة ولي الأمر في تقييد المباح، (مرجع سابق، ص: 151).
(24) السيادة وثبات الأحكام في النظرية السياسية الإسلامية لمحمد بن أحمد وسامي صالح (ص:49).

(25) ينظر: الاجتهاد وقضايا العصر، مرجع سابق، ص: 286
(26) سلطة ولي الأمر في تقييد المباح، ص:158، 160.
(27) السيادة وثبات الأحكام في النظرية السياسية الإسلامية، مرجع سابق، (ص:‏‏93‏‏).
(28) الاعتصام للشاطبي 1/ 230.
منقول