سياسة تعليم الصبيان وآدابها
الحسين أكروم



لا غرو أن «رسالة آداب المتعلمين» لابن سحنون، تعتبر أولى المصنفات التي أفردت بالتصنيف في أصول التربية الإسلامية، عبر التاريخ، وعليها اتكأ من جاء بعده، كابن الجزار في كتابه «سياسة الصبيان»، والقابسي في «الرسالة المفصلة»، وابن مسكويه، والغزالي وغيرهم من كبار المربين، ذلك أن مدار اعتمادهم عليها يدور حول الأسس المنهجية للتدريس وقواعد طرائق التعليم الأولى، وهي ولاشك مرحلة حساسة ودقيقة، تؤسس لأهم فترات أصول التربية، وترسخ لقوانين تأديب الصبيان وتعليمهم، فدونك قول ابن الجزار القيرواني: «إن أكثر الناس إنما أتوا في سوء مذاهبهم من عادات الصبا، إذ لم يتقدمهم تأديب وإصلاح أخلاقهم وحسن سياستهم» (1).
تحتوي رسالة آداب المتعلمين على أبواب صغيرة، يتضح لمن تتبعها أن ابن سحنون يبدأ في شرح مضمون العنوان، ثم يعقبه بروايات مختلفة، غالبها آثار يرويها عن طريق أبيه، غالبا، وعن غيره، نادرا.
توجيهه لبعض الأعراف والعوائد السائدة في مناهج التربية
عرف الإمام القرطبي العادة بقوله: «كل خصلة حسنة ترضاها العقول، وتطمئن إليها النفوس» (2)، ولاشك أن الإمام ابن سحنون لم تطمئن نفسه إلى كثير من العوائد الدخيلة على طرائق التعليم، فنبه على عللها، محاولا قلع جذور تلك الأعراف الفاسدة من أساسها، مبقيا بعض الأعراف الحسنة، وقد سيجها بضوابط شرعية، وقبل بعض العادات الأخرى، بشروط صارمة.
أهم العوائد:
- منعه جعل الـمعلم عريفا بين الطلبة

مما لا امتراء فيه أن جعل العريف بين الصبيان أمر تعارف عليه كثير من المؤدبين، قديما وحديثا، وهو كما حده ابن فارس: «القيم بأمر قوم قد عرف عليهم» (3). فيكون معناه عند المربين: ذلك الذي يراقب الصبيان أثناء غياب المعلم؛ عارفا بأحوالهم، ملما بمقاصد شؤونهم، لكن ابن سحنون منع أن يكون الصبي عريفا؛ خشية اشتغاله بذلك، مما يلهيه عن مدارسة القرآن وتعليمه، فنظر بذلك إلى مصلحة الصبي قائلا: «وأحب للمعلم ألا يولي أحدا من الصبيان الضرب، ولا يجعل لهم عريفا منهم، إلا أن يكون الصبي الذي قد ختم وعرف القرآن، وهو مستغن عن التعليم، فلا بأس بذلك، وأن يعينه، فإن ذلك منفعة للصبي في تخريجه» (4). ونقل ابن سحنون في موضع آخر عن مالك جواز اتخاذ العريف شرط «أن تكون للصبي في ذلك منفعة» (5).
- إذا قارب الصبي الختمة فأخرجه والده

من الأعراف الحسنة في ثقافتنا الإسلامية العريقة إغداق الوصي أو ولي الصبي على المعلم ألوانا من النعم، وصنوفا من الإحسان، متى ختم ولده القرآن، لكن بعض الآباء يتعمدون إخراج الصبي قبل الختمة، كوسيلة للحيلولة دون إكرام المعلم، لكن ابن سحنون فطن إلى مكائدهم حين حسم المسألة قائلا: «أقضي له بالختمة. ثمّ لا أبالي أخرجه أم تركه» (6). فسد رحمه الله بذلك باب التحايل، وقضى على النوازع النفسية التي توسوس في صدور الناس.
ثم سئل ابن سحنون عما إذا حاجج أبو الصبي المعلم فقال: ابني لا يعلم القرآن. فأجاب: «إن قرأ الصبي القرآن في المصحف، وعرف حروفه، وأقام إعرابه؛ وجبت للمعلم الختمة، وإن لم يقرأه ظاهرا، لأنه قلّ صبي يستظهر القرآن أول مرة»، وهذا توجيه لطيف منه، رحمه الله، فكم من صبي ختم القرآن، وهو كما قال، أو دون ذلك بمديد المراحل.
ويظهر أن ابن سحنون فصل القول في موضع آخر، وكأنه تراجع عن موقفه الأول قائلا: «إذا استظهر الصبي القرآن كله كان له أكثر في العطية للمعلم ممن إذا قرأه نظرا، وإذا لم يتهجّ الصبي على ما يملى عليه، ولا يفهم حروف القرآن؛ لم يعط للمعلم شيء» (7). بل طلب ابن سحنون أن يؤدب ذلك المعلم، ويمنع من التعليم، إذا عرف بهذا وظهر تفريطه، فلم يعلق مناط الحكم على ضعف الصبي، ولا على قصور المعلم، بقدر ما راعى ما جرت به أعراف الكتاتيب القرآنية في القيروان، على طول النصف الأول من القرن الثالث الهجري.
- إبطال ابن سحنون عادة رمي الفواكـه في حفلة الختم

إن لحفلة ختم القرآن أعرافا حسنة وعادات محمودة، توارثها الخلف عن السلف، جيلا عن جيل، بيد أنها تختلف حسب الأعصار، بحكم تبدل العادات وتغير الأعراف، وتنوع التقاليد الاجتماعية، والتأثر بالـمنزع الخاص لكل مصر من الأمصار، كسؤال ابن سحنون عما يقع عند الختم من رمي بالفاكهة على الناس: هل يحل؟ فأجاب: «لا يحل، لأنه نهبة، وقد نهى رسول الله " صلى الله عليه وسلم" عن أكل طعام النهبة» (8).
قلت: إطلاق ابن سحنون الحرمة على مطلق النهبة فيه نظر، لأن النهي في الحديث (9) -إن قصد تلك النهبة التي أخذها الصحابة من غزوة خيبر- مقيد بحرمة نِعَمِ أهل الحرب، وأما النهبة التي يرمي بها الصبيان في الأفراح فجائزة متى تلقت العقول السليمة تلك العادة بالقبول، وهذا ما جعل الحافظ ابن حجر يجوّز بعض صور النهبة بقوله: «وأما النهبة المختلف فيها، فهو ما أذن فيه صاحبه وأباحه، وغرضه تساويهم، أو مقاربة التساوي، فإذا كان القوي منهم يغلب الضعيف، ولم تطب نفس صاحبه بذلك، فهو مكروه» (10).
ومهما يكن فإن النهبة تختلف من حال إلى حال، ومن ثم يدور الحكم مع العلة؛ وجودا وعدما، وصدق الإمام الشاطبي لما قال: «فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز» (11). نعم.. قد يكون ابن سحنون رأى تهارش العوام على تلك الفواكه، وربما انجر بهم الأمر أثناء التقاطها إلى ما لا ينبغي؛ فأطلق الحرمة درءا لما يؤول إليه ذلك، وإن كان لا يهم في هذه المقالة ما إذا كانت النهبة مندوبة أو محرمة، بقدر ما يسترعي انتباهنا نقل ابن سحنون عوائد أهل القيروان، وكيفيات احتفالاتهم المثيرة بعرس القرآن، مع رده لبعض تلك الأعراف (12)، وعرضها -بعد النظر والتأمل- على قاعدة «جلب المصالح ودرء المفاسد».
توجيه طرق التعليم وتقويم أساليبها عند ابن سحنون

رغم قصر رسالة ابن سحنون وصغر حجمها، لكنها مليئة بالفوائد، ومن تدبر ثناياها وجد أن صاحبها لم تقف به الهمة عند حد التنبيه على البدع التي تضر المتعلمين في تربيتهم، بل تعدى ذلك إلى إرشاد المعلمين إلى ضرورة مجانبة تعليم الناشئة لمسائل منهجية، قد تعيقهم عن الفهم الصحيح، فصفى، رحمه الله، طرق التعليم من كل الأساليب المنتشرة -يومها- في مختلف المدارس الشعبية بإفريقية، قصد تحسين تربيتهم، وترقية مواهبهم، علاوة على تخلية مناهج التعليم من كل المضار والمفاسد التي تعيق السير السليم للتعليم اللائق -يومها- بالمدارس القيروانية.
- كراهيته اختلاط الغلمان مع الـجواري في مكان واحد
لاشك أن أصل سد الذرائع قاعدة عظيمة، عمل شيوخ المالكية بها كثيرا، ووجهوا على وفقها عددا من المسائل والأحكام، لما يتولد عن ذلك من مفاسد متوقعة، مستبصرين مآلات الأحكام وآثارها، فدونك تفطُّن ابنِ سحنون لأبعاد الاختلاط حين قال: « وأكره للمعلم أن يعلم الجواري ويخلطهن مع الغلمان، لأن ذلك فساد لهن» (13). والكراهة -كما يعرف من له أدنى إلمام بمبادئ أصول الفقه- من أقسام الجواز، إذ قد تكون جائزة وتصير مباحة؛ متى انتفت المضار، وتحققت فيها المصالح الخالصة من أي مفاسد جزئية محتملة.
ولهذا اشترط ذلك أبوالحسن القابسي (ت403هـ) لما سئل عن حكم تعليم الأنـثى القرآن، وهل تتعداه إلى غيره؟ فأجـاب: «تعليم الأنثى القرآن حسن، ومن مصالحها، فأما أن تتعلم الترسل والشعر وما أشبهه، فهو مخوف عليها، وإنما تعلم ما يرجى لها صلاحه، ويؤمن عليها من فتنته، وسلامتها من تعلم الخط أنجى لها» (14). وربما هو أول من سبق إلى ضرورة تعليم الأنثى، وتبعه بعد ذلك مشاهير المربين، غير أن المتأخرين، وإن تساهل بعضهم في ذلك، فقد اشترطوا لذلك شروطا، من مثل الإمام الشاطبي، رحمه الله، حيث قيد ذلك بشروط صارمة (15)، أما بعض المناهج التربوية المعاصرة، فأطلقت ذلك، فوقع الاختلاط، فزلت قدم بعد ثبوتها.
مقـدار ضرب الصبيان وحدوده عند ابن سحنون
إن من تأمل سياسة تعليم الصبيان، والإشراف على تربيتهم يجدها عادة ما تفضي إلى تكاسل بعض الصبيان عن الحفظ، وتشاغل البعض بالخصومات فيما بينهم، وميلهم إلى المرح واللهو، مما يستوجب معه إيقاع ألوان من العقوبة عليهم، تختلف درجاتها حسب الوزر المرتكب، لأن الطفل إذا أهمل كما قال الغـزالي: « وإن عوّد الشر، وأهمل إهمال البهائم، شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيّم عليه، والوالي له» (16).
ومن هنا فصل ابن سحنون أنواع العقوبة، وحدودها بقوله: «ولا بأس أن يضربهم على منافعهم، ولا يجاوز بالأدب ثلاثا، إلا أن يأذن الأب في أكثر من ذلك، إذا آذى أحدا، ويؤدبهم على اللعب والبطالة، ولا يجاوز بالأدب عشرة، وأما على قراءة القرآن فلا يجاوز أدبه ثلاثا» (17). لكن القابسي لا يرى مانعا إن صعب مراس الطفل ومزاجه الزيادة على ما ذكر قائلا: «فلا بأس -إن شاء الله- من الزيادة على العشر ضربات» (18)، لأن الغرض من التأديب استصلاح حالهم، وتهذيب أحوالهم، وتقويم سلوكهم، ومن ثم كما قال ابن الجزار: «ينقل طبع الصبي المذموم إلى الطبع المحمود» (19).
ويبدو أن ابن سحنون، رحمه الله، جنح إلى مذهب المتساهلين في الضرب؛ قياسا مع مواقف غيره، ولا يبعد أن تكون سماحته تلك عرق قديم نزع إليه من توصية والده سحنون لمعلم ابنه محمد، لما أوصاه بحسن التعامل معه، والمبالغة في ملاطفته، ومن ثم تولدت فيه تلك الحنانة والرأفة واللين، في تربية الصبيان، قال سحنون لمربي ابنه المذكور: «لا تؤدبه إلا بالمدح ولطيف الكلام الطيب، ليس هو ممن يؤدب بالضرب والتعنيف، واتركه على نحلتي، فإني أرجو أن يكون نسيج وحده، وفريد أهل زمانه، وأخاف أن يكون عمره قصيرا (20). قلت: سبحان الله، هو كذلك، ولد سنة (202 ومات سنة 256هـ) ففراسة سحنون تجاه ابنه لم تخطئ.
ومن روائع تعليلات سلطان العلماء العز بن عبدالسلام لمقاصد ضرب الصبيان قوله: «وإذا تعلم الصبي ما ينبغي أن يتعلمه من غير زجر فلا يزجر، وإن لم يتعلم إلا بالزجر زجر، فإن لم ينجح فيه الزجر ضرب ضربا يحتمله مثله، وتغلب منه السلامة، وإن لم ينزجر إلا بالضرب المبرح حرم المبرح لأدائه إلى قتله، لأنه إنما جاز لكونه وسيلة إلى الإصلاح، فإن لم يحصل الإصلاح حرم، لأنه إضرار غير مفيد» (21). وهو تعليل وجيه، واستنباط حسن، وبراعة في استفراغ الجهد للوصول إلى تحقيق المناط الخاص في مقاصد الضرب.
2فلسفة.psd

| أسرة
الهوامش
(1) - سياسة الصبيان وتدبيرهم، لابن الجزار القيرواني، (ص، 135)، بتصرف يسير، تحقيق د. محمد الهيلة، نشر الدار التونسية، 1968م.
(2) - الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، (7/ 346)، تحقيق أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، نشر دار الكتب المصرية، القاهرة، الطبعة الثانية، (1964م).
(3) - معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، مادة «عرف»، تحقيق عبدالسلام محمد هارون، (4/ 282)، نشر دار الفكر، الطبعة الأولى، (1979م).
(4) - آداب المعلمين، (ص، 356)، تحقيق فؤاد أحمد الأهواني، نشر دار المعارف، الطبعة السادسة، (2002م).
(5) - آداب المعلمين، (ص، 363).
(6) - آداب المعلمين، لابن سحنون، (ص، 359).
(7) - آداب المعلمين، (ص، 364).
(8) - نفسه (ص، 357).
(9) - صحيح البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب ما يكره من المثلة والمصبورة والمجثمة، رقم الحديث (5516).
(10) - فتح الباري، لابن حجر (12/ 63).
(11) - الـموافقات (2/ 520)، تحقيق مشهور آل سلمان، نشر دار ابن عفان، الطبعة الأولى، 1997م.
(12) - ذكر ابن الحاج عددا من العوائد الفاسدة في عرس ختم القرآن، انظر المدخل (2/ 309-311)، نشر المكتبة التوفيقية، مصر.
(13) - آداب المعلمين، (ص، 361).
(14) - الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين، للإمام أبي الحسن القابسي (ص، 112-113).
(15) - انظر: فتاوى الإمام الشاطبي، (ص، 165)، جمع المرحوم الدكتور محمد أبوالأجفان، نشر مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الرابعة، 2004م.
(16) - إحياء علوم الدين، للغزالي، (3/ 72)، نشر دار المعرفة، بيروت.
(17) - آداب المعلمين، لمحمد بن سحنون، (ص، 354).
(18) - الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين، للقابسي، (ص، 113).
(19) - سياسة الصبيان وتدبيرهم، لابن الجزار القيرواني، (ص، 135)، بتصرف يسير.
(20) - رياض النفوس في طبقات علماء القيروان، لأبي بكر المالكي، (1/ 443-444)، نشر دار الغرب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1994م.
(21) - شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال، للعز بن عبدالسلام، (ص، 314)، تحقيق إياد خالد الطباع، دار الفكر، إعادة الطبعة الأولى، 2000م.