حريِة تداول المعلومات رؤيَة فقهيَة
د. عُمَر بن صَالح عُمَر ([1])
ملخص البحث:
لقد أولى الإسلامُ الكلمةَ المسموعة والمقروءة أهميةً كبرى وشأناً عظيماً، لما لها من أثر في نشر الفضائل، والحث على ترك الرذائل، والقدرة على تقويم الأفراد وإصلاح الجماعات، والعمل على استتباب الأمن والأمان بين الناس أجمعين.
وإبرازاً لحكم حرية تداول المعلومات وأهمتها، وتحديدًا لضوابطها الشرعية، جاءت هذه الدراسة: ((حرية تداول المعلومات: رؤية فقهية)) بعد المقدمة في ستة مطالب وخاتمة.
عرض المطلب الأول فرشاً تعريفياً لمصطلحات العنوان: ((حرية تداول المعلومات: رؤية فقهية)). وتناول المطلب الثاني أقسام المعلومات المراد تداولها. وأبرز المطلب الثالث أهمية حرية تداول المعلومات. وأصّل المطلب الرابع حرية تداول المعلومات من الناحية الشرعية. وحدد المطلب الخامس الضوابط المعتبرة لحرية تداول المعلومات. وبيّن المطلب السادس التدابير الوقائية لحرية تداول المعلومات. وجاءت الخاتمة في أهم النتائج المتوصل إليها.
وفي ضوء تلك النتائج خرجت هذه الدراسة بجملة من التوصيات تسهم في الالتزام بالضوابط الشرعية لحرية تداول المعلومات، والحد من التداول الفوضوي والمخل بالآداب.
المقدمة:
يشهد العالم – اليوم – انفتاحاً مصحوباً بثورة تكنولوجية، أصبحت المعلومة فيه – بشتى أنواعها وباختلاف توجهاتها – متداولة بين الناس، دون أن تحدها الحدود، أو تقفل دونها الأبواب، وبسهولة لم يسبق لها نظير. وما المعلومة إلا كلمات لفظاً ومعنى، مقروءة ومسموعة، وما الأفعال إلا ثمرة لتلك المعلومات. وتستمد المعلومة قوتها من نوعية موضوعها وجمال عرضها.
ولقد أولى الإسلامُ الكلمةَ المسموعة أو المقروءة أهميةً كبرى وشأنا عظيما؛ لما لها من أثر على نشر الفضائل، والحث على ترك الرذائل، والقدرة على تقويم الأفراد وإصلاح الجماعات، والعمل على استتباب الأمن والأمان بين الناس أجمعين، والسعي لغرس الوازع الديني الداخلي في نفوس المسلمين، وإيقاظ ضمائرهم النقية التي تحول بين أصحابها وبين ارتكاب المعاصي أو إشاعتها، أو تداول معلومات قد تلحق الضرر بالأفراد أو المجتمعات، قال سبحانه : (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً) [الإسراء : 36]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالا، يرفع الله بها درجات. وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقى لها بالا، يهوي بها في جهنم)) ([2])، فبالكلمة قد يصلح الله أقواماً، وقد تهوي بقوم آخرين إلى أسفل سافلين؛ ولما للكلمة من أهمية استخرت الله وعزمت على الكتابة في: (حرية تداول المعلومات: رؤية فقهية)).
أهمية الدراسة:
تتمثل أهمية دراسة: ((حرية تداول المعلومات: رؤية فقهية)) في كونها تأتي في ظروف خارجية تتكالب فيها الأمم على الأمة الإسلامية، وتتهمها بشتى الاتهامات. وفي ظروف داخلية تعيش فيها الأمة مرحلة مخاض لفرض الحريات، مع ما يعانيه أبناؤها من جهل بتعاليم دينهم السمحة، ومقاصد تشريعاته النبيلة، وعجزهم عن الدفاع عنها إلا من بعض الغيورين الذين لا يخلو منهم عصر، يسعون للملمة الشمل، وبيان تعاليم الدين القويم، ومحاولين أن يقدموا للبشرية حلولاً ناجحة لمشكلاتهم، وأسساً متينة لتنظيم علاقاتهم، وأحكاما مثلى لمعاملاتهم.
إشكالية الدراسة:
تتمثل إشكالية هذه الدراسة في الأسئلة الآتية: ما المقصود بحرية تداول المعلومات؟ وما حكم مشروعية حرية تداول المعلومات ؟ وما مدى أهمية تداول المعلومات وحريتها؟ وما هي الضوابط التي ينبغي أن تنضبط بها هذه الحرية؟
أهداف الدراسة:
تسعى هذه الدراسة إلى تحقيق جملة من الأهداف، منها:
بيان المراد بحرية تداول المعلومات.
إبراز أهمية حرية تداول المعلومات، والآثار المترتبة على انعدام هذه الحرية.
بيان الحكم الشرعي لحرية تداول المعلومات.
تحديد الضوابط الشرعية لحرية تداول المعلومات.
المساهمة في بناء شخصية المسلم شخصية وسطية متوازنة تخدم صالح العباد والبلاد.
منهج الدراسة:
نهجت الدراسة للتوصل إلى تحقيق أهدافها المنهج الاستقرائي والتحليلي، وذلك بتتبع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ذات العلاقة بتداول المعلومات، وتحليلها واستخلاص الأحكام الشرعية منها، مع ما ذكره الفقهاء من جزيئات تتعلق بتداول المعلومات بهدف الوصول إلى محددات أساسية تضبط مفهوم حرية تداول المعلومات، والعمل على صياغتها صياغة محكمة، وبأسلوب سلس سهل.
خطة الدراسة:
جاءت الدراسة بعد هذه المقدمة، في ستة مطالب وخاتمة.
عرض المطلب الأول تأصيل ((حرية تداول المعلومات: رؤية فقهية)) مفهومياً. وتحدث المطلب الثاني عن أقسام المعلومات المراد تداولها. وتحدث المطلب الثالث عن أهمية حرية تداول المعلومات. وتحدث المطلب الرابع عن تأصيل حرية تداول المعلومات شرعياً. وتحدث المطلب الخامس عن ضوابط تداول المعلومات. وتحدث المطلب السادس عن التدابير الوقائية والعلاجية لحرية تداول المعلومات. وجاءت الخاتمة في أهم النتائج المتوصل إليها وبعض التوصيات.
الدراسات السابقة:
الاهتمام بالإعلام ليس بالجديد، فقد كتب فيه الكُتَّاب من مختلف الديانات، ولكن فيما يتعلق بموضوع هذه الدراسة وهو: ((حرية تداول المعلومات: رؤية فقهية)) ، فلم أطلع على أية دراسة مشابهة إلا ما كان قريباً منها، مثل:
((الحرية الإعلامية في ضوء الإسلام)) للدكتور: سعود بن علي بن ثابت، ومما تناوله بالبحث: مفهوم الحرية، والأسس التي تقوم عليه الحرية الإعلامية في الرؤية الإسلامية، وضوابط الحرية الإعلامية. وأحسب أن الإضافة العلمية التي ستحققها هذه الدراسة تتمثل في: عرض الجانب الفقهي لتداول المعلومات، وضوابط هذا التداول، وإن كانت الدراسة تتفق ظاهراً مع ما ذكره صاحب الكتاب من مشروعية القول والمسؤولية الإعلامية، إلا أن الدراسة ركزت على الضوابط التي ينبغي مراعاتها في حرية تداول المعلومات من: مشروعية المعلومات، والمسؤولية، والتبين والتثبت، واعتبار مآلات تداول المعلومات.
((الحريات العامة وحقوق الإنسان)) للدكتور: أحمد سليم سعيفان، فقد تحدث فيه عن ((تنظيم ممارسة الحريات العامة)) وأشار فيه إلى النظام العقابي والزجري والوقائي، وهو ما ذكرته الدراسة في المطلب السادس: التدابير الوقائية والعلاجية لحرية تداول المعلومات، مضيفة المؤيدات التربوية والرقابية...
ومع ذلك فقد كانت الكتب الفقهية لا تخلو من إشارات وومضات أضاءت لي الطريق ويسرت لي – بعد عون الله – إتمام هذه الدراسة، سائلاً المولى أن تكون على الوجه الأكمل، كما أسأله – سبحانه – أن يأخذ بأيدينا في المضايق، ويكشف لنا وجوه المقاصد والحقائق، وأن يوفقنا لخدمة ديننا على الوجه الذي يرضي ربنا، ويعيد المجد والعزة لأمتنا، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
المطلب الأوَّل
تأصيل(( حرية تداول المعلومات: رؤية فقهية)) مفهومياً
يتوقف المراد من فهم ((حرية تداول المعلومات: رؤية فقهية)) على فهم كل من ((الحرية)) و ((التداول)) و((المعلومات)) و((الرؤية الفقهية)).
أولاً: الحرية. الحرية لغة: من ((حرّ)) و(الحاء والراء في المضاعف له أصلان؛ فالأول: ما خالف العبودية، وبرئ من العيب والنقص)) ([3]). ((والحُرّ بالضم: نقيض العبد، والجمع أحرار... وحرره: أعتقه ... وتحرير الولد: أن يفرده لطاعة الله، وخدمة المسجد، ومنه قوله تعالى: (إِذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [آل عمران: 35] ([4])، قال ابن عاشور: ((فكأنه حرر من أسر الدنيا وقيودها إلى حرية عبادة الله تعالى)) ([5]).
وأما الحرية اصطلاحاً: فهي من المصطلحات التي تعددت فيها المفاهيم، واختلفت فيها الآراء، وقد لاقت محاولات تحديد مصطلح ((الحرية)) فشلاً ذريعاً ([6])، قال ابن عاشور: ((إن موقف تحديد الحرية موقف صعب وحرج ودقيق على المشرع غير المعصوم، فواجب ولاة الأمور التريث فيه وعدم التعجيل؛ لأن ما زاد على ما يقتضيه درء المفاسد وجلب المصالح الحاجية من تحديد الحرية يعد ظلماً))([7]). وهذا ما دفع ببعض المفكرين إلى القول: ((بأنه لا يمكن تحديد مفهوم الحرية إلا ضمن علاقة الفرد بمجتمع إنساني منظم، فعرَّفُوا الحرية بأنها: ((قبول القيود التي تناسبك، وتناسب المنظومة الثقافية، وهي ذلك اللجام الذي تشد به نحو غاية اخترتها وأعطيتها قيمة، ولم تُفرض عليك فرضاً))([8]). وقيل: هي ((غياب الحواجز من وجه تحقيق الرغبات)) ([9])، وقريب من هذا قولهم: ((الحرية هي الخلوص من كل قيد والقدرة على فعل ما يشاء)) ([10]). وفي المقابل قيل: ((الحرية هي: سلطة وإمكان السيطرة على الذات، بموجبها يختار الإنسان بنفسه تصرفاته الشخصية، ويمارس نشاطه دون عوائق أو إكراه)) ([11]). وأما حرية الإعلام فهي: ((حرية تلقي الأخبار والمعلومات ونشرها عن طريق الصحافة والإذاعة والتلفاز والسينما))([12]).
و((إذا كانت الحرية هي أن تكون للإنسان الخيرة في أن يفعل ما يريد بشرط عدم الإضرار بالآخرين، فإنها في الإسلام: إرادة الإنسان وقدرته على ألا يكون عبداً لغير الله، إنها التخلص من الرغب والرهب إلا في الله)) ([13]). وهي أن تُعَبِّد نفسك لله وحده في توجهات قلبك، ومسار فكرك، في أقوالك وأفعالك، وفي القوانين التي تلتزمها في كافة مجالات الحياة، قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام : 162]. وإن كان مصطلح ((الحرية)) لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة، إلا أن الحرية في الإسلام حق مكفول لجميع البشر لا تنازل عليه، قال تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) [البقرة: 256]؛ فإذا جاء النهي عن إكراه الناس على الدين فمن باب أولى ألا يكرهوا على ما دون ذلك. واعتبرت الشريعة الإكراه عارضاً من عوارض الأهلية فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه)) ([14])، قال ابن العربي: ((والخبر وإن لم يصح سنده فإن معناه صحيح باتفاق العلماء)) ([15]). وجاء في الأثر: ((متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)) ([16]). والحرية أمر مرتبط بكرامة الإنسان، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء: 70]. والحرية من المصطلحات النسبية، فالنظرة إليها تختلف باختلاف الإيديولوجيات والعقائد؛ فالإسلامي يراها في إطار شريعته، والعلماني يراها في إطار غربيته؛ فعندما ينادي الغرب بحرية تداول المعلومات فإنما يريدون ترويج ثقافتهم ومبادئهم التي قد يكون الكثير منها مخالفاً للمبادئ الإسلامية. وأما إذا تعلق الأمر بتداول المعلومات الشرعية فقد يوصف صاحبها – عندهم – بالرجعية أو الإرهاب.
و((الحرية كلمة براقة لها عذوبة في الأفواه، ولذة في الأسماع، تَغنَّى بها الشعراء، ونادى بتحقيقها المصلحون، وزهقت من أجلها الأرواح)) ([17]). و((الحرية خاطر غريزي في النفوس البشرية، فيها نماء القوى الإنسانية من تفكير وقول وعمل، وبها تنطلق المواهب العقلية متسابقة في ميادين الابتكار والتدقيق. فلا يحق لها أن تسلِّم بقيد إلا قيداً يُدفع به عن صاحبها ضرٌ ثابت أو يُجلب به نفعٌ))([18]).
وهي ((حيلة الإنسان وزينة المدينة، فيها تنمو القوى، وتنطلق المواهب، وبصوبها تنبت فضائل الصدق والشجاعة والنصيحة بصراحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتتلاقح الأفكار، وتُورق أفنان العلوم)) ([19]). ولكن هل يراد بالحرية حرية مطلقة من كل قيد، وفعل ما يشاء؟ أم هي حرية لا تناهض الواجب والصالح العام؟ ولكن من الذي يحدد هذا الواجب والصالح العام؟ وما أكثر اختلافات العلماء والفلاسفة في تحديد هذا الأمر !! و ((الواجب عند الفلاسفة لا يمكن قبوله في التصور الإسلامي لأن الواجب – عندنا – ما أوجبه الشرع، والصالح العام ما كان مندرجاً في إطار مقاصد الشريعة)) ([20]).
ثانياً: التداول. التداول لغة: ((من دول، وتداولنا الأمر: أخذناه بالدٌوَل. وصار الفيء دُولة بينهم: أي يتداولونه مرة لهذا ومرة لهذا)) ([21]). والتداول اصطلاحاً: الحصول على الشيء وإيصاله للناس، وعدم احتكاره وتناقله فيما بينهم.
ثالثاً: المعلومات. المعلومة من العلم والعلم: ((إدراك الشيء على ما هو به)) ([22]) أي إدراكه كما هو في واقع الحال على حقيقته، بعيداً عن الظنون والأوهام والخيالات والتبديل والتحريف.
رابعاً: تداول المعلومات. تداول المعلومات يعني الحصول على المعلومة من أخبار وآراء، والسماح بنشرها وتبليغها للناس وتعميمها وإيصالها لمن يطلبها؛ سواء كانت معلومة شرعية أم اقتصادية أم سياسية، وسواء أكانت مشافهة أم كتابة، أو عن طريق إحدى وسائل الإعلام وفي هذا قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) [المائدة : 67]، وقال تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [القصص:67]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار)) ([23]). ولكن هل يشترط أن تكون هذه المعلومات صادقة وصحيحة وأن الأخبار ثابتة؛ مما يساعد تكوين رأي صائب ورؤية سديدة ؟ أم لا يشترط ذلك؟ الإجابة عن هذه الأسئلة يتكفل بها – بإذن الله – المطلب الخامس.
خامساً: رؤية فقهية. الرؤية لغة تعني: ((النظر بالعين وبالقلب، ولكنها في العين حقيقة، وفي القلب مجاز... والرأي : ما ارتآه الإنسان واعتقده)) ([24]). والرؤية تحمل معنى التروي وعدم التعجل بالجواب. والفقهية: نسبة للفقه، وهو في اللغة الفهم، وقيل: الفهم الدقيق. وفي الاصطلاح: ((العلم بالأحكام الشرعية المكتسب من أدلتها التفصيلية)) ([25]).
والرؤية الفقهية تعني: النظر الفقهي للمسألة. والرؤية تحمل معنى الشمولية، بعيدة عن المنهج التجزيئي، حيث تتحرك العملية الاستنباطية في جميع الاتجاهات لتأخذ بعين الاعتبار كل الجوانب ذات العلاقة بتداول المعلومات، مما يعطي للعملية الاستنباطية عمقا وأصالة ومواكبة للواقع.
سادساً: حرية تداول المعلومات رؤية فقهية. حرية تداول المعلومات عموماً تعني: ((قدرة الأفراد على الحصول على المعلومات والبيانات المطلوبة من المؤسسات الحكومية والاطلاع على السجلات ذات الصلة. وتوسع بعضهم ليدخل فيها حق الحصول على المعلومات والبيانات من المنظمات غير الحكومية، والشركات التي يشارك فيها مال عام، أو تقوم بتنفيذ مشاريع عامة، وكذلك حق الحصول على المعلومات من مؤسسات القطاع الخاص إذا كان ضرورياً لمصلحة عامة)) ([26]).
ولا يخفى أن تداول المعلومات يتأثر بالمذاهب العقيدية والفقهية والسياسية، وبمختلف الاتجاهات الفكرية والظروف الاجتماعية، ويؤثر فيها كذلك، مع ما في هذه الحرية من تشابك وتفاعل مع جملة الحريات، مثل: حرية العقيدة، وحرية الفكر، وحرية التعبير، وحرية الإعلام... وتشابك مثل هذه الحريات يزيد من حدة الخلاف في مفهوم حرية تداول المعلومات وضبطها. وإن عدم القدرة على التوازن بين مختلف هذه الحريات والحقوق الفردية والمجتمعية من ناحية، وحرية تداول المعلومات من ناحية أخرى قد يؤدي إلى صعوبة التوصل إلى مفهوم يحظى باتفاق مختلف الأطراف. وعليه فإن ما نعنيه بحرية تداول المعلومات في الرؤية الفقهية فهي: حق الفرد في الحصول على المعلومات ونشرها ضمن الالتزام بالمسؤولية والموضوعية والصدق ومراعاة المصلحة الشخصية العامة والخاصة بما يراعي خصوصيات الأفراد وكرامتهم.
المطلب الثاني
أقسام المعلومات المراد تداولها
تنقسم المعلومات المراد تداولها إلى عدة أقسام بعد اعتبارات؛ باعتبار حكمها، وباعتبار قصدها, وباعتبار إطلاق الحرية وتقييدها.
أقسام تداول المعلومات باعتبار المشروعية: تنقسم المعلومات – بهذا الاعتبار – إلى تداول محمود ومذموم ([27]).المحمود ما يرتبط به مصالح دينية أو دنيوية تحاول أن نرتقي بالإنسان إلى معالي الأمور، وتسمو به نحو القيم الإنسانية. وهذه المعلومات منها: ما هو فرض عين كالمعلومات الشرعية التي لا يعذر الجاهل بجهلها، ومنها: ما هو فرض كفاية، ومنها: ما هو فضيلة وليس فريضة: أما فرض الكفاية فهو تداول المعلومات التي لا يستغنى عنها في قوام أمور الدنيا كالطب إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان... وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين ... وأصول الصناعات هي كذلك من فروض الكفايات كالفلاحة والحياكة ... ومثل هذه العلوم بما فيها من معلومات توفر للأمة مقومات الاعتماد على الذات وعدم التبعية للغير في أي مجال من مجالات الحياة، وتحقق لها الكفاية في معاشها وأمنها: مما يكفل لها العزة والكرامة ... وأما ما يعد فضيلة لا فريضة فالتعمق في دقائق الحساب، وحقائق الطب، وغير ذلك مما يستغنى عنه، ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه ... والمذموم هو الذي يحاول التدني بالإنسان، وقصر توجهاته على شهوتي البطن والفرج، ويؤدي تداوله إلى الإضرار بالأفراد خاصة، أو يهدد الإنسانية عامة، أو يفسد محيط الإنسان البيئي. ومثل هذا يحرم تداوله مثل: التشكيك في القرآن أو الاستهزاء بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلم السحر، وعلم الشعوذة، أو التلاعب بالجينات، مما يؤثر على غذاء الإنسان أو سلامته جسداً وعقلاً ... وفي هذا الإطار ((يتوقع بعض الخبراء بالشأن الإعلامي أن مجموعة قليلة من الشركات العالمية سوف تسيطر على وسائل الإعلام، وبالتالي فإنها ستستبعد البشر من خلال ما تبثه من برامج قليلة القيمة ومعلومات رخيصة وتسلية)) ([28]).
ومن النصوص الشرعية المؤصلة لهذين القسمين: قول الله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ وَالْمُؤْمِنَات ِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) [محمد: 19]، فأفضل العلم: معرفة الله وما قرَّب إليه، وقوله تعالى: (فَيَتَعَلَّمُو َ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُون َ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [البقرة: 102]، و ((نفي الخَلاَق... دليل على أن تعاطي السحر جرمُ كفرٍ أو دونه، فلذلك لم يكن لمتعاطيه حظ من الخير في الآخرة، وإذا انتفى كل حظ من الخير ثبت الشر كله... والعلم المنفي عنهم هنا هو غير العلم المثبت لهم في قوله: (وَلَقَدْ عَلِمُوا) إلا أن الذي علموه هو أن مكتسب السحر ما له خلاق في الآخرة، والذي جهلوه هنا هو أن السحر شيء مذموم ...)) ([29]).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سلوا الله علما نافعا، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع))([30]).
وأما المباح : فتداول ما لا يؤدي إلى مفسدة أو ضياع مصلحة ضرورية أو حاجية أو تحسينية، مثل الأشعار التي لا سخف فيها، وتواريخ الأخبار وما يجري مجراه.
أقسام تداول المعلومات باعتبار قصدها: تنقسم المعلومات – بهذا الاعتبار – إلى ما يقصد منها الصالح العام من مصالح دينية ودنيوية، كنشر الفضيلة وأداء النصيحة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة، قلنا: لمن ؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم))([31])، فلا يكون القصد من هذا التداول الإضرار بالناس أو إثارة الفتنة، أو الحث على تكفير المخالفين وتبديعهم ما دام الاجتهاد في المسألة لا يخرج عن الضوابط الشرعية. ولا ينبغي أن يكون القصد – كذلك – هو التشهير والطعن أو التضليل باسم حرية التعبير، قال الله تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً) [الإسراء :53]، وقال صلى الله عليه وسلم :(( ... وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو على مناخرهم، إلا حصاد ألسنتهم))([32]).
وقد تكون المعلومة محايدة لا يراد بتداولها منفعة شخص أو حزب على حساب بعض الأشخاص أو الأحزاب بغرض التمويه على الناس أو تسخيرهم له أو التلاعب بعقولهم، ويُعبر عن مثل هذا ((بالإعلام الاستمالي أو التطويعي لتسخير الجماهير لتنفيذ سياسات معينة)) ([33]).
أقسام تداول المعلومات باعتبار إطلاق الحرية وتقييدها: تنقسم المعلومات بهذا الاعتبار إلى حرية مطلقة لا تحدها حدود ولا يضبطها ضابط، وإلى حرية مقيدة تضبطها ضوابط محددة، وهو ما سيتم الحديث عنه في المطلب الخامس: ضوابط حرية تداول المعلومات.
المطلب الثالث
أهمية حرية تداول المعلومات
حرية تداول المعلومات: حاجة شرعية واجتماعية، تقتضيها طبيعة المجتمع وكيانه، وتبدو أهميته فيما يأتي:
حرية تداول المعلومات أهم مظهر من مظاهر الكرامة الإنسانية التي ضمنها الله لعباده: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) [ الإسراء: 70] هذه الكرامة استحقها الإنسان لكونه إنساناً خلقه الله حراً تزداد كرامته بعلمه وعمله : (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:132].
اهتمام الشرعية الدولية لحقوق الإنسان بحق تداول المعلومات، حيث نص قرار الأمم المتحدة رقم: 59 (د-1) المتخذ في عام 1946 أن ((حرية تداول المعلومات من حقوق الإنسان الأساسية، وهي المعيار الذي تقاس به جميع الحريات التي تكرس الأمم المتحدة جهودها لحمايته)). كما نصت المادة (19) من حقوق الإنسان على أن ((لكل فرد الحق في حري الرأي والتعبير ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون تدخل، واستقاء المعلومات وتلقيها ونقلها من خلال آية وسائل بغض النظر عن الحدود)).
تعتبر المعلومات في الوقت الراهن مصدر قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية لارتباطها بمختلف أنشطة الناس، حتى أصبح الوعي بها مظهراً من مظاهر تقدم الأمة ورقيها. و((ما يزال التدفق الحر للمعلومات هو العمود الأساس لاقتصاد السوق الأمريكية وسيطرة الشركات الغربية على العالم، ومن ثم السيادة الإعلامية على العالم)) ([34]).
المعلومة لها تأثير إيجابي أو سلبي على الأفراد والمجتمعات تبعاً لنوعيتها فرب معلومة تُتداول فتكون سبباً في التقدم والرقي، ورب معلومة تكون سبباً في الانحطاط والتردي، نستشف هذه من أهمية الكلمة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله, لا يلقي لها بالا, يرفع الله بها درجات.وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم)) ([35]). ولتداول المعلومات تأثير على النفوس، خاصة إذا صيغت صياغة جيدة، وبأسلوب فصيح، فقد تقلب الحق باطلاً، والباطل حقاً، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً، ومما يستأنس به في هذا الشأن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار)) ([36]).
تداول المعلومات يسهم إلى حد كبير في تكوين رأي عام عالمي أو محلي. ولا يخفى ما للرأي العام من سلطة لها وزنها الكبير في التوجيه؛ إما لحراسة القيم الإسلامية ولمقاومة الشر والفساد، وإما لقمع الفضيلة ونشر الإلحاد وإشاعة الفاحشة.
تداول المعلومات يسهم في تعزيز مبدأ الشفافية، ويوسع في نطاق المساءلة القانونية والمجتمعية، وتُمكِّن المسلم من اتخاذ القرارات على بصيرة؛ فقد يُصرَّح – مثلا – بأن الاقتصاد بخير، والواقع أن الشعب يتضور جوعاً.
تداول المعلومات يسهم في محاربة احتكار المعلومات، وقد ((ارتبطت دراسة ظاهرة الاحتكار بدراسة الأخطار التي تتعرض لها دول العالم الثالث نتيجة فرض سياسة عدم التنظيم على هذه الدول؛ بما يؤدي إلى فتح أسواقها للشركات عابرة القارات؛ لكي تسيطر على وسائل الاتصال وعلى تدفق المعلومات إلى الجماهير في هذه الدول، حيث يرى نبيل علي أن الاحتكار والاندماج لهما بمنزلة نذير بنهاية حرية المعلومات، وأن دول العالم الثالث أوشكت أن تفقد استقلالها الإعلامي)) ([37]). ويرى ماكنير ((أن الرجال الذين يملكون وسائل الإعلام ويتحكمون فيها هم لاعبون أساسيون في الاقتصاديات الرأسمالية الدولية والمحلية، وهم يستخدمون وسائل الإعلام التي يسيطرون عليها في تدعيم هذه الاقتصاديات)) ([38]). ولا شك أن التعتيم الإعلامي وإحاطة المعلومات بسرية تامة وجه من أوجه إشاعة الفساد؛ وقد يزيد في ضعف الأمة، ويؤدي بها إلى نوع من التبعية الاقتصادية، فالغرب اليوم بأقماره الصناعية ((ينهبون بياناتنا الخام؛ ليعيدوا تصديرها لنا في صورة منتوجات معلوماتية نهائية أو يخفونها لوقت الحاجة بغرض شحذ أسلحتهم المعرفية لتكشف لهم عن مصادر قوتنا ومواضع ضعفنا، ونقاط التأثير الحساسة في جهازنا العصبي)) ([39]).
تداول المعلومات في الشريعة الإسلامية وجه من أوجه الحضارة؛ إذ أنه يسهم في بناء الشخصية المتوازنة، وتكوين المجتمع المسلم المتكافل.
تداول المعلومات المشروعة يسهم في نشر الثقافة الإسلامية، ويساعد على الوحدة الفكرية بين المسلمين، وعلى التقريب بينهم، ويساعدهم على تخطي الخلافات الفقهية القديمة لا سيماً وبخاصة إذا كانت هذه الخلافات حبيسة ظروف معينة!
يُعد التداول للمعلومات المشروعة المُوَجّهَ للعقول، والمرشد لها لإيجاد الحلول للمشكلات المختلفة، والهادية؛ لها تحديد الأحكام الشرعية لما استجد من القضايا.
المطلب الرابع
تأصيل حرية تداول المعلومات شرعياً
إن المسلم يترفع عن تداول قول الزور؛ حرصاً منه على الاتصاف بصفات عباد الرحمن في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاما) [الفرقان: 72]، كما يترفع عن ثلب الناس، ونشر عوراتهم، أو التجسس عليهم، واختلاس الصور لهم؛ لأنه يعلم – تمام العلم – أن الله تعالى نهى عن إيذاء المسلم بأي نوع من أنواع الإيذاء، وتوعد على ذلك في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) [الأحزاب: 58]. وعليه يكون منطلق تداول المعلومات في الشريعة الإسلامية منطلقاً شرعياً أخلاقياً, يحرص على تكوين شخصية إسلامية سوية متوازنة, فما وافق الشرع والأخلاق فمرحباً به، ولا مانع من تداوله، وما خالف ذلك فالشرع يمنعه ولا يجيز تداوله.
ولبيان هذا الأمر يمكن القول: بأن المعلومات تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: معلومات تتعلق بالعبادات وغيرها من المعاملات الواجب معرفة أحكامها، فيكون تداولها مأموراً به إذا أُخلصت النية، قال صلى الله عليه وسلم : ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل إمرئ ما نوى)) ([40]) ، وقال: ((من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)) ([41]). وقد تعددت الأدلة الآمرة بنشر العلم وطلبه – وهو نوع من أنواع تداول المعلومات – سواء في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
-
من الكتاب:
قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [المائدة : 67].
وقوله تعالى : (فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) [الكهف: 65 -66].
وقوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104].
وقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران: 110].
ومن السنة:
قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لِيُبَلِّغ الشاهِدُ الغائِبَ؛ فإنّ الشاهدَ عَسَى أن يُبَلِّغَ مَن هُو أوْعى لهُ مِنهُ)) ([42])، و(أوعى) أي: أحفظ، من الوعي وهو: الحفظ والفهم ... وقوله : (ليبلغ الشاهد)، أي الحاضرً في المجلس الغائبَ عنه، والمراد منه إما تبليغ القول المذكور، أو تبليغ جميع الأحكام ... وقال ابن بطال: كل من خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ العلم من كان في زمنه فالتبليغ عليه متعين، وأما من بعدهم فالتبليغ عليهم فرض كفاية. قلت:فيه نظر, فقد ذكر أبو بكر بن العربي أن التبليغ عن النبي صلى الله عليه وسلم فرض كفاية إذا قام به واحد سقط عن الباقين([43]) .
وحديث محمد بن جبير بن مُطْعم عن أبيه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالْخَيْفِ من مِنًى فقال: ((نَضَّرَ الله امْرَأً سمع مقالتي فَوَعَاهَا، ثُمَّ أَدَّهَا إلى من لم يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهَ لا فقه له، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلى من هو أَفْقَهُ منه. ثَلاثٌ لَا يَغِلُّ عليهم قَلْبُ المُؤْمِنِ: إِخلاَصُ العًمًل، وَالنَّصِيحَةُ لِوَلِيَّ الأَمْر، وَلُزُومُ الْجَمَاعةِ، فإن دعْوَتَهُمْ تَكُونُ من وَرَائِهِ)) ([44])، ((ففي هذا الحديث دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم لمن سمع كلامه ووعاه وبلغه بالنضرة، وهي البهجة ونضارة الوجه وتحسينه. ولو لم يكن في فضل العلم إلا هذا وحده لكفى به شرفًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لمن سمع كلامه ووعاه وحفظه وبلغه. وهذه هي مراتب العلم: أولها وثانيها سماعه وعقله، فإذا سمعه وعاه بقلبه أي عقله واستقر في قلبه كما يستقر الشيء الذي يوعى في وعائه ولا يخرج منه)) ([45]).
وحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: ((إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثاً، ثم يتلو: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة : 159-160]، إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون )) ([46]) .
وفي إطار التنديد باحتكار العلم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يحدث به كمثل الذي يكنز فلا ينفق منه)) ([47])
القسم الثاني: معلومات تتعلق بأمور العادات والمباحات الدنيوية، فهذه تنقسم إلى: ما كان وسيلة إلى عبادة وقربة لا تتم العبادة إلا به، فحكم تداوله حكم تلك العبادة، لأن ((ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)). ومعلومات ليست وسائل إلى العبادات؛ وهذه تنقسم إلى: ما تخدم المصالح الدنيوية ولا تلحق أضرارا بالناس أو بالبيئة المحيطة بهم، فهذه لا يحرم تداولها مثل: تداول المعلومات المتعلقة بالصنائع، ((والصنائع في النوع الإنساني كثيرة لكثرة الأعمال المتداولة في العمران ... كالفلاحة والبناء والخياطة والنجارة والحياكة ، والتوليد والكتابة والوِراقة والطب)) ([48]) . ومثل هذه الصنائع لابد من علم ، إذ ((الصناعة هي ملكة في أمر عملي فكري)) ([49]). وأما ما يلحق أضرارا بالناس أو بالبيئة المحيطة بهم، فهذا يحرم تداوله، مثل الكهانة والسحر ونحوهما مما نهى الشرع عنه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم ((من آتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)) ([50])، فسؤال العرافين لا يجوز، وتصديقهم يورث الكفر، قال صلى الله عليه وسلم : ((من آتى كاهنا فصدقه بما قال، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ([51]) ، وقال سبحانه وتعالى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُون َ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُون َ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [البقرة : 102].
وخلاصة القول: إن الأصل في تداول المعلومات: الإباحة ما دامت المعلومة مشروعة لا تنجر عنها مفسدة، قال الله تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً) [الإسراء: 53]، ولا فرق بين المعلومة المتداولة مشافهة أو مكتوبة أو مسموعة، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالصدع بالحق فقال : (وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف: 29]، فليحرص المسلم على تبليغ الحق كحرصه على تحصيله، و((الساكت عن الحق شيطان أخرس)) واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم ((أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر)) ([52]).
المطلب الخامس
ضوابط تداول المعلومات
الإسلام دين الحرية والكرامة الإنسانية، وتشمل هذه الحرية: حرية التنقل، وحق الأمن، وحرية النقد، وحرية التعبير، وحرية تداول المعلومات جزء من حرية التعبير. وقد كفل الإسلام الحرية للناس جميعاً، ولا أدل على ذلك مما جاء في كتاب الله من إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران : 110]، فكثيراً ما كان أفراد الأمة يوجهون النصيحة (النقد) للخلفاء، وشتان بين فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين ما ينادي به دعاة الحرية المطلقة؛ مما أدى إلى الفوضى وشيوع الفساد وتفكك العلاقات الأسرية. و(( الإسلام أعطى الإنسان الحرية وقيدها بالفضيلة؛ حتى لا تنحرف، وبالعدل حتى لا يجور، وبالحق حتى لا ينزلق مع الهوى، وبالخير والإيثار؛ حتى لا تستبد به الأنانية، وبالبعد عن الضرر؛ حتى لا تستشري فيه غرائز الشر)) ([53]). والحرية بدون ضوابط مثلها كمثل السيارة التي لا فرامل لها، لا يمكن التحكم فيها.
ومن الناس: من يرى فتح باب الحرية على مصراعيه بدون قيد ولا حجب. ومهم من يرى منع تداول المعلومات إلا فيما تراه الحكومات وتصرح به. وتقاس حرية تداول المعلومات في أي مجتمع بقدرة أفراده على الحصول على المعلومات والبيانات المطلوبة من المؤسسات الحكومية أو من غيرها من المؤسسات، ولكن هل هي حرية مطلقة أم حرية مقيدة؟ يقول (( ميريل)): ((إن الحرية غير المقيدة مستحيلة، ولا يمكن أن تكون الصحافة حرة من كل شيء ؛ من المسؤولية والأخلاقيات والشعب والعواطف، إنها بذلك تصبح لا شيء)) ([54]) ؛ ولذلك فقد تصاعدت الشكوى في المجتمع الأمريكي أكثر من غيره نتيجة التمادي الهائل في استخدام التكنولوجيا الحديثة في التهجم على خصوصيات المواطنين، وتزيد أحياناً في نشر وإذاعة أدق الأسرار الشخصية عبر الإذاعات والصحف؛ بحثاً عن الإثارة والانتشار، وبِاسْم حرية الصحافة والإعلام ([55]). وقال ابن عاشور: ((وقد تعرض أفراد البشر وجماعاته من جراء التصرف بالحرية دون اتزان إلى كوارث لحقت الأشخاص، وتشاجر حدث بين الجماعات، فاستيقظ جمهورهم لواجب تعديل استعمال صاحب الحرية حريته، وعلى التواضع بينهم على تمييز ما يُطلق عنانُه، وما يُشدٌ عقالُه، وتقدير ذلك)) ([56]).
والرؤية الفقهية في نظرتها إلى حرية تداول المعلومات وسط بين الإفراط والتفريط، وقد منّ الله على هذه الأمة بأن جعلها وسطا في كل شيء، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : 143]، ولا أدل على هذه الوسطية من تحريمه كتم العلم – والمعلومات نوع من العلم – ومنع في المقابل إشاعته بدون ضابط لمن لا يستحقه، يدل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ((من كتم علما ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار))([57])، وقوله صلى الله عليه وسلم :(( كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما يسمع([58])))، ودعا إلى حرية تداول المعلومات حرية مقيدة بالأطر الشرعية التي وضعها الإسلام، ومنضبطة بتعاليمه التي لا يجوز للمسلم تجاوزها؛ ذلك بأن في تجاوزها مفسدة كبيرة تؤدي إلى الضياع والفوضى، وتؤلب الناس بعضهم على بعض، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم)) ([59]).
ومن الضوابط التي ينبغي مراعاتها في حرية تداول المعلومات ما يأتي: مشروعية المعلومات، المسؤولية، الدقة، التبين والتثبت ، واعتبار مآلات تداول المعلومات.
يتبع