الأزبكية.. بِركة محاطة بالقصور والحدائق

تحقيق: هالة عبدالحافظ - إشراق أحمد
خلدت الأزبكية، اسم منشئها الأمير التركي أزبك الذي كان قائدًا للجيش في عهد السلطان قايتباي (872هـ-901هـ) ولهذا ارتبط اسم أزبك بالمنطقة فصارت تعرف بالأزبكية وقد أنشأ الأمير أزبك عددًا من المنشآت الدينية والمدنية، التي تطل على البركة وكان من ضمنها قصره الفخم، ومسجده الذي عرف باسمه.

وكان أيضًا من بين القصور العديدة التي أنشئت في حي الأزبكية قصر الشيخ عبدالله الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر وكان بقصره كثير من التحف النفيسة والكتب المجلدة الفاخرة. «الوعي الإسلامي» زارت السور وجاءتكم بهذه التفاصيل.

عندما ننصت لصوت التاريخ يحكي لنا عن هذه المنطقة نعرف أنه في سنة 881هـ (حوالى 1460م) قيض الله للبركة أميرًا هماما وقائدًا شجاعًا، ومحاربًا مغوارًا هو الأمير أزبك الخازندار، قد أمضى شطرًا كبيرًا من حياته في الكفاح والنضال، وجمع ثروة طائلة، فأراد أن يركن إلى الراحة، ويخلد إلى الهدوء والسكينة، ويتمتع باللهو والسرور.

ففكر أول ما فكر في أن يبني له قصرًا ضخمًا يجمع كل وسائل الترف والنعيم التي عُرفت في عصره، وقد وقع اختياره على بركة بطن البقرة التي قُدِّر لها أن تحمل اسمه فيما بعد، وكانت هذه البركة قد أصبحت أثرًا بعد عين، فقام أزبك بحفرها وتعميقها وبنى حولها، كما شيد مسجدًا وصفه المؤرخون بأنه بلغ النهاية في الجمال والفخامة، وأقبل الأعيان والأمراء من كل صوب على البناء في هذه البقعة الجميلة حتى نشأت في مدة وجيزة مدينةٌ قائمة بذاتها.
وقد سكنها بعض فقهاء المسلمين كشيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني، وقاض القضاة أبي الجيعان، والدشطوطي، وجلال الدين البكري وغيرهم ممن لا يحصيهم العد.
وكان الشعراء حينما يصفون بركة الأزبكية وحدائقها يقفون طويلًا أمام المناظر الطبيعية المختلفة، ولما دخل الفرنسيون مدينة القاهرة، وقع اختيارهم على الأزبكية لتكون مقرًا لهم ومقامًا.
وفي سنة 1835م أمر محمد علي بردم البركة، ثم غرس مكانها حديقة واسعة وفي عصر الخديوي إسماعيل، حدثت تغييرات مهمة في خريطة الأزبكية، فقد أزيلت الحدائق وحولت إلى شوارع وميادين، وأقيمت في أمكنة منها المباني الفخمة، وظلت الحديقة التي غرست مكان البركة كما هي.
سور الأزبكية
وعلى السور الجنوبي منها أنشئ ما عرف بسور الأزبكية حيث السياحة الداخلية والخارجية واستعراض الكتب.
إذا مررت يومًا بجوار محطة مترو أنفاق العتبة بمنطقة وسط البلد، سيلفت انتباهك أناس من مختلف الأعمار، صغارًا وكبارًا، فتيات وشبابًا، نساءً ورجالًا.. وقد انتشروا في ثلاثة ممرات متتالية ويجمعهم هدف واحد وهو البحث عن كتاب أو مجلة في ما يقرب من 132 مكتبة صغيرة تضمها هذه الممرات المعروفة باسم «سور الأزبكية».. والتي تعتبر المقصد الرئيسي لكل طالب علم أو قاصد ثقافة أو راغب في المعرفة.
إذا كانت منطقة «وسط البلد» في العاصمة المصرية القاهرة ذات دور محوري بالنسبة إلى المثقفين بما تمثله من زخم إعلامي وثقافي ومعرفي، وبما تحفل به من مئات الأمكنة الفريدة التي ينساب من بين جدرانها عبق التاريخ ووهج الإبداع، وزخم التجارب الإنسانية، أماكن تتنفس إبداعًا متجددًا ممزوجًا برائحة عصور مختلفة، فإن «سور الأزبكية» الذي يتفرع من هذه المنطقة يعتبر بمثابة القلب في الجسد بالنسبة إلى كل مثقف أو راغب في السير على دروب المعرفة.
مقصد ثقافي
ويعتبر سور الأزبكية من أقدم المقاصد الثقافية غير الرسمية التي تتميز فيها القاهرة، يتوافد عليه أناس من مختلف الثقافات والأعمار، ما بين أدباء وسياسيين ومعلمين وطلاب وهواة، كل يمهد طريقه نحو الثقافة بأشكالها المختلفة، فيجد كل منهم ضالته في هذا المكان الجامع لمختلف الأذواق والثقافات، حيث تحتوي مكتباته العديدة على كل ما يبحث عنه القاصد من كتب دينية وسياسية وتاريخية وعلمية وأدبية ومنوعة.
يعود إنشاء هذا السوق إلى عام 1933 حينما أستأجر المعلم أحمد الحكيم كشكًا من البلدية بإيجار شهري قدره 240 قرشا ونشر بضاعته من الكتب على جزء من سور الأزبكية، وهكذا ولدت مكتبات سور الأزبكية.
لكن ليس هذا هو السبب الوحيد للذهاب إلى سور الأزبكية، فقد حرص أصحاب المكتبات منذ سنوات بعيدة على أن يوفروا الكتب القديمة والنادرة بشكل خاص، والتي أعيا البحث عنها الطالبين في المكتبات الكبرى والرسمية، فلا يجدونها إلا لدى مكتبات السور، وحتى في حال وجودها في المكتبات الكبرى فإن أسعارها في سور الأزبكية تكون أقل كثيرًا من أسعار المكتبات ودور النشر المعروفة، كل ذلك جعله مقصدًا دائمًا للزائرين ومن يبحثون عمّا يروي ظمأهم للمعرفة والثقافة، لذلك وعلى مدى سنوات طويلة ظل السور مقصدًا للعائلات الساعية إلى بث روح الثقافة في نفوس أبنائها، وكذلك أصبح مركزًا لتشكيل ثقافة جيل أثرى عالم الثقافة العربية بشكل عام أمثال نجيب محفوظ وعباس العقاد وتوفيق الحكيم وغيرهم.
كتب قديمة ونادرة
تحت لافتة كُتب عليها «89 سور الأزبكية»، ووسط زخم من الكتب القديمة جلس سمير أبوالعلا أو «عم سمير»، الذي أكد أنه ورث هذه المهنة منذ أكثر من ثلاثين عامًا، والرجل يعود بذاكرته إلى أربعينيات القرن الماضي أيام «رغد العيش» -على حد وصفه-، عندما كانت الكتب معلقة على سور حديقة الأزبكية أمام مبنى الأوبرا القديم، وتُباع على أنغام حفلات كوكب الشرق أم كلثوم، والموسيقار محمد عبدالوهاب.. وتراوده تلك الذكريات الجميلة بما فيها من وفود الزبائن من مختلف الجنسيات، والطبقات، والفئات، والأعمار، مشيدًا بمستوى العلاقات والتعاملات الراقية التي كانت تجمع البائعين بالزبائن طوال العام، والتي كانت أقرب إلى علاقة الصداقة منها إلى علاقة بائع ومشترٍ كما أصبح الحال في هذه الأيام.
وتوقّف «عم سمير» بالزمن قليلا لوصف الواقع الذي عايشه مع سور الأزبكية قائلا: «انتقلنا أكثر من مرة، الأولى إلى كوبري الأزهر في منطقة الدرَّاسة، والأخيرة إلى مترو العتبة، وكنا في الأصل نستخدم سور حديقة الأزبكية في عرض كتبنا، لكن مع أعمال التطوير والتغيير التي شهدتها المنطقة اضطررنا إلى التنقل، حتى عدنا أخيرا إلى منطقة مترو العتبة».
وتكسو نبرة صوت «عم سمير» حالة من الحسرة على الخسائر التي حلت به وبزملائه؛ نتيجة الانتقال المتكرر للسور قائلًا: عانينا من الانتقال المتكرر، خاصة حينما انتقلنا إلى كوبري الأزهر، وعانينا كثيرًا من الخسائر؛ نظرًا إلى ابتعاد المكان، لكن بعد عودتنا إلى منطقة وسط البلد بدأنا نستعيد نشاطنا الثقافي مرة أخرى، وعاد إلينا زبائن الأيام الماضية التي لا تعوّض أبدًا؛ لتعود العلاقات الجميلة التي كوّنها السور في أيام ازدهاره.
وعن سوق القراءة، قال بصوت لا يخلو من الأمل: على الرغم من أن الكتاب فقد قيمته نتيجة غلاء المعيشة، فإن السور فيه إبداعات وإصدارات عديدة وقديمة، وعلينا أن نضع دعائم أساسية للثقافة لدى الجيل الجديد، فالشباب ليس كلهم عازفون عن القراءة بل النسبة التي نتمناها غير موجودة ونأمل أن تتغير خاصة بعد ثورات الربيع العربي.
وعلى الرغم من تراجع الإقبال على سوق الكتب فإن لـ«عم سمير» وجهة نظر خاصة، حيث رأى أن هذا شيء طبيعي إلى حد كبير في ظل السيطرة الإلكترونية، التي تستغل طاقة الشباب بأشكال عديدة، بالإضافة إلى التعليم وقواعده التي تقوم بدورها في توجيه الأطفال إلى الوسائط الأخرى غير القراءة، بجانب التربية ذاتها، فلابد أن نربي أبناءنا على القراءة.
ولا تغيب مكتبات سور الأزبكية كل عام عن معرض الكتاب الدولي بالقاهرة، وعنه قال: «سور الأزبكية في معرض الكتاب هذا العام ظهر وسط جميع دور النشر في كل المخيمات الثقافية بارزًا، وواقفًا على قدميه، حتى إن أول ما تطأ قدم الزائرين أرض المعارض، تتوجه إلى مخيم سور الأزبكية، وأول ما يبحثون عنه كتابًا يكون بين أسواره».
وعن حال السور بعد التغيرات التي شهدتها مصر، قال عم سمير: «لاحظت هذا العام إقبالًا كبيرًا على الكتب السياسية والتاريخية والقانونية والأدبية، وكانت العناوين التي تحمل أي شيء عن الثورة هي التي تلفت أنظار الجميع، وكانت الأكثر إقبالًا عليها، إلى جانب كتب عن الأدب السياسي، والأدب الساخر، والكتب التعليمية، والروايات العالمية، بالإضافة إلى الكتب الدينية والثقافية والسياسية محمد عمارة، محمد حسنين هيكل، وغيرها من الكتب، فاليوم الرغبة في المعرفة جامحة، الجميع يريد معرفة كل ما يدور حولهم من أمور سياسية وقانونية وفي مختلف المجالات».
المراجع
1 - في ربوع الأزبكية محمد سيد كيلاني.

2- موسوعة القاهرة 1000 عام مكتبة الإنجلو.
3- تاريخ الجبرتي.
4- حي الأزبكية مقالة الأهرام الصادر 31/1/1969م، بقلم د.حسين عبدالعليم عليوة.