تقريب تأصيل ابن دقيق العيد حول علاقة النص الشرعي

بالمقصود منه من خلال شرحه على "عمدة الأحكام"
د. لخضر بوغفور - أكاديمي جزائري

قد ينقدح في ذهن البعض أنّ ربط أحكام الشارع بمقاصده وحِكمه مطلب سهل المنال إذا ما وقف على بعض مسلّماته النّظرية وكلّياته الجليّة، ولكن ما إن يسبر هذا المسلك على حقيقته وينظر في دقائقه ومتعلّقاته وتطبيقاته ويستحضر انتشار الحِكم وخفاءها في جملة واسعة من الأحكام حتّى يدرك خطأ تصوّره الأوّل، قال ابن تيمية: «اعلم أنّ تعليق الأحكام بالأسباب المقتضية حصول المصالح من الأحكام أمر مضبوط، فأمّا الحِكم والمصالح فإنّ تعليق الأحكام بها عسير؛ لكونها قد تكون خفيّة، وقد تكون غير مضبوطة»(1).

وقال عبدالله دراز: «لابدّ من النّظر المطلق في مقاصد الشّرع بواسطة الكلّيات، ولابدّ من تتبّع النّصوص أيضًا مع ذلك وهي الجزئيات، وبالأمرين معًا تصدر من النّاظر صور صحيحة الاعتبار عند الشّارع، وما أصعب هذا العمل!!...»(2).
ومن ثمّ فحريٌّ بالنّاظر- علاوة على استعانته بربّه جل جلاله واستنزاله السداد منه- أن يستفرغ قصارى جهده في ضبط هذا المقام عسى أن يتجاوز هذا العسر بأمان ويستقيم نظره المقاصدي ويقترب من إصابة حكم الله عز وجل في المسألة التي يعالجها «على وجه لا يخلّ فيه المعنى بالنصّ، ولا بالعكس؛ لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض»(3).
ومن أفضل وسائل تحقيق هذه الغاية الجليلة وقوفُ الناظر على ما رقمه بعض العلماء الراسخين الذين أمّوا هذا المسلك وبرعوا فيه، ومن أبرزهم الإمام المجدّد ابن دقيق العيد، الذي قال فيه الذهبي: «له يد طولى في الأصول والمعقول، وخبرة بعلل المنقول»(4).
وقال فيه أيضا ابن الزملكاني: «إليه المنتهى في التّحقيق والتدقيق، والغوص على المعاني»(5).

ومن ثَمّ تشكلّت فكرة هذا البُحيث في تتبّع جملة من إشاراته الرشيقة وتقريراته الرصينة التي فرّقها في شرحه على «عمدة الأحكام»، والتي هَدف من خلالها إلى تقريب علاقة النّصوص والأحكام الشرعية بالمقاصد المرعيّة وضبط بعض حدودها، ولا غرو في ذلك فهو القائل: «لست أنكر على من اعتبر أصل المصالح، لكن الاسترسال فيها وتحقيقها يحتاج إلى نظر شديد...»(6).

وإخال أنّ إبراز مثل هذه الإشارات لهذا الإمام ولغيره من النّظار الكبار يسهم في إثراء الرصيد التأصيلي لجانب الضبط والإحكام في هذا العلم الجليل. وتعظم الحاجة إلى طرق هذا الموضوع بالنّظر إلى شيوع ظاهرة المراعاة المغلوطة للمقاصد في الأمّة خصوصًا في وقتنا المعاصر(7).

وقد جاء هذا البحث في تمهيد وفروع ثلاثة وخاتمة على النّحو التالي: تمهيد الفرع الأوّل: ما رجحت فيه كفّة الوقوف مع ظاهر النصّ.
الفرع الثاني: ما رجحت فيه كفّة مراعاة مقصود الشارع.
الفرع الثالث: ما له صلة بهما جميعا. خاتمة وقد اعتمدت في منهج دراستي هذه على تتبّع التأصيلات المقاصدية الذي ذكرها ابن دقيق العيد متعلّقة بموضوعنا، ثمّ قسّمتها بحسب ما سبق في الخطّة.
ورتّبتها داخل الفرع الواحد بحسب ورودها في كتابه مع جمع ما اتّحد معناه في موضع واحد، ثمّ ذكرت المناسبة التي جاءت في سياقها، وعلّقت عليها من خلال تجلية مضامينها وتقريب مقاصدها وذكر بعض الزيادات عليها. تمهيد نقف قليلا في مطلع هذه البحث لنحرِّر مصطلح مقاصد الشّارع حتّى يستقيم لنا تصوّر التأصيلات الآتية ونعرف ارتباطها جميعا مع موضوعنا بغضّ النّظر عن النّوع التي تندرج تحته.
مقاصد الشّارع في الأصل هي مراداته من أفعاله ومن شرعه(8)، والذي يعنينا منها في مسارنا الفقهي مراداتُه من أحكامه الشرعيّة، وتحتها نوعان جليلان(9):
النّوع الأوّل: مقاصد الشّارع من خطابه الشّرعي، وهي الأحكام الشّرعية والمعاني التي قصدها الشّارع الحكيم من ألفاظ خطابه الشّرعي. وما قرّره علماء الأصول فيما يتعلّق بدلالات الألفاظ خير معين على ضبط هذا النّوع. ومثال هذا النّوع ما يأتي طَرْقُه في التأصيلين الأوليين من كون الأمر النّبوي بغسل ولوغ الكلب هل يناط بقصد الشارع إلى الجمع بين المطهِّرين أو يناط بقصده الزيادة في التنظيف بالتراب؟
النّوع الثّاني: مقاصد الشّارع من مدلول خطابه الشّرعي، وقد أشار بعض المتقدّمين إلى حقيقتها، ومن هؤلاء ابن تيمية الذي يمكننا أن نستلّ من كلامه(10) التّعريف التّالي:
«الغايات الحميدة والعواقب الحميدة التي ترمي إليها الأحكام الشّرعيّة».
فحينما يقرّر النّاظر مقاصد النصّ الشرعي من آية قرآنية أو حديث نبوي بطريقة النّوع الأوّل ينتقل إلى استجلاء ما وراءها من مصلحة مجلوبة أو مفسدة مدفوعة بطريقة النّوع الثاني.
ومثالها ما يأتي طَرْقُه في التأصيل الرابع من كون الصلاة الوسطى التي أكِّد على المحافظة عليها، هل هي صلاة الفجر باعتبار مشقّة مجيئها في حال النّوم أم هي صلاة العصر باعتبار مشقّة مجيئها في وقت اشتغال النّاس بالمعاش؟ وكما ترى جليّا هما نوعان متكاملان لا يرشد نظر الفقيه إلاّ بملاحظتهما جميعًا، ولربّما عظمت عناية البعض بالنّوع الثاني وقصّروا في تحقيق النّوع الأوّل فزلّت فهومهم وشذّوا عن الجادّة.
والآن نلج إلى تأصيلات ابن دقيق العيد ذات الصلة بهذين النّوعين:
الفرع الأوّل: ما رجحت فيه كفّة الوقوف مع ظاهر النصّ.
التأصيلان الأوليان:
1- «النصّ إذا ورد بشيء معيّن، واحتمل معنى يختصّ بذلك الشيء لم يجز إلغاء النصّ، واطّراح خصوص المعيّن فيه»(11).
2- «المعاني المستنبطة إذا لم يكن فيها سوى مجرّد المناسبة، فليست بذلك الأمر القوي، فإذا وقعت فيها الاحتمالات، فالصواب اتّباع النصّ»(12).
أوردهما ابن دقيق في صدد حديثه عن مسألة هل يتعيّن التراب في غسل ولوغ الكلب أم لا؟ حيث اعتمدهما في ترجيح الرأي الأوّل بناء على احتمال قصد الشارع للجمع بين مطهِّرين الماء والتراب.
وهو احتمال يزاحم بشدّة احتمال قصد الشارع زيادة التنظيف بالتراب الذي اعتمد عليه من جوّز قيام الصابون والأشنان(13) مقامه.
وفي هذين التأصيلين إشارة إلى ضابط مهمّ في مجال بحثنا، وهو أنّه إذا تجاذب الحكم الشرعي مقصودان.. مقصود قاصر على عين ما ورد في الحكم، ومقصود يشمل أعيانًا عديدة، وقوي الاحتمال الأوّل ولم يظهر رجحان الاحتمال الثاني وقفنا عند خصوصية النصّ.
التأصيل الثالث: استعمال ما دلّت السنّة على عينه أولى ممّا قد يؤدّي إلى المقصود من الحكم، ولكن ليس بصورة كاملة(14).
أورد ابن دقيق مضمون هذا التأصيل في صدد حديثه عن مسألة نتف الإبط وإمكان الاعتياض عنه بما يؤدّي إلى إزالة الشعر.
وفي هذا التأصيل إشارة مهمّة إلى ضرورة تنبّه النّاظر إلى مدى تحقيق الوسائل الخارجة عن النصّ لمقصود الشارع من حيث استيفائه بالكلّية أو لا، فإذا دلّت التجربة أو غيرها من الدلائل على الاحتمال الثاني كان التمسّك بالوارد هو الأفضل والأحرى مادام أنّه يحقّق المقصود بصورة كاملة.

التأصيل الرابع: «للفضائل والمصالح مراتب لا يحيط بها البشر، فالواجب اتّباع النصّ فيها»(15).

أورده في صدد حديثه عن مسألة تعيين الصلاة الوسطى التي خصّها الشارع الحكيم بالحثّ في كتابه؛ ذلك أنّ بعض من اختار أنّها صلاة الفجر ربّما سلك في مقام الجواب عن الأحاديث التي صرّحت بأنّها صلاة العصر طريق التّعويل على ملاحظة المعنى الذي قصده الشارع، «وهو أنّ تخصيص الصلاة الوسطى بالأمر بالمحافظة لأجل المشقّة في ذلك، وأشقّ الصلوات صلاة الصبح لأنّها تأتي في حال النّوم والغفلة.
وقد قيل: إنّ ألذّ النّوم إغفاءة الفجر، فناسب أن تكون هي المحثوث على المحافظة عليها»(16).

وهنا اختار ابن دقيق قادحين اثنين يقدحان في صحّة هذا النّظر المقاصدي رغم ما بينهما من التفاوت من حيث القوّة، فقال: «هذا قد يُعارَض في صلاة العصر بمشقّة أخرى، وهي أنّها وقت اشتغال النّاس بالمعاش والتكسّب، ولو لم يعارض بذلك لكان المعنى الذي ذكره في صلاة الصبح ساقط الاعتبار، مع النصّ على أنّها العصر..»(17) ، ثمّ ختم بهذا التأصيل الرابع.
إذن فحوى هذا التأصيل لزوم الوقوف مع النصّ وعدم معارضته بمقصود يناقضه، وكذلك المنازعة في آن واحد فيما أُبْدي من تعليل بناء على عدم إحاطة النظّار بكلّ تفاصيل المصالح المعتبرة.

التأصيل الخامس: «العبادات محلّ التعبّدات، ويكثر ذلك فيها. فالاحتياط فيها الاتّباع»(18). أورده في صدد حديثه عن مسألة: هل يتعيّن لفظ التكبير في الإحرام للصلاة؟ حيث نقل عن أبي حنيفة بأنّه إذا أتى بما يقتضي التعظيم كفى اعتمادا على ملاحظة مقصود الشارع.
ولكن رجّح مسلك الجمهور الواقفين مع خصوص ما نُصّ عليه، وأيّد هذا الرأي بهذا التأصيل.

ومقتضاه أنّ المسألة مادامت من قبيل العبادات التي يكثر فيها التعبّد وعدم الوقوف على عين الحكمة، واحتملت تعميم حُكمها بناء على مراعاة المقصود، واحتملت الوقوف مع الوارد، صحّ للنّاظر أن يحتاط فيها لدين الله بلزوم المتيقّن وترك المشكوك فيه.
التأصيل السادس: «ليس لنا أن نتصرّف في النّصوص المتظاهرة المتضافرة بمعنى خيالي يمكن أن يكون هو المراد، مع اقتضاء اللفظ التعليل بغيره»(19).
أورده في صدد حديثه عن منع الشريعة من التصوير، حيث نقل عن بعض من اقتصر على كراهته قوله: «هذا التشديد كان في ذلك الزمان، لقرب عهد النّاس بعبادة الأوثان.
وهذا الزمان حيث انتشر الإسلام، وتمهّدت قواعده لا يساويه في هذا المعنى، فلا يساويه في هذا التشديد...»(20).
ولربّما كان لهذا التوجيه شيء من القوّة بالنّظر إلى أنّ صاحبه رام الجمع بين ملاحظة العرف الذي صاحب خطاب الشارع وبين الاحتياط لما دلّ عليه أصل خطابه من النّهي عن هذا الفعل، فكانت النتيجة النّزول إلى درجة الكراهة.
ومع ذلك جزم ابن دقيق ببطلان هذا القول لشيء واحد، ألا وهو مخالفة التعليل الذي بُنِي عليه للتعليل المنصوص عليه في سنّة النبيّ " صلى الله عليه وسلم" (التشبّه بخلق الله)(21)، وقال: «هذه علّة عامّة مستقلّة مناسبة، لا تخصّ زمانًا دون زمان»(22).
وفي هذا التقرير تنبيه الناظر إلى لزوم التمسّك بأصل ثبات الحكم الشرعي سواء في أصله أو في درجته من الأمر أو النّهي، وألاّ يسرح بخياله في استنباط تعليل مقاصدي يجنح به إلى خرق هذا الأصل مادام الشارع الحكيم قد كفاه الزلل بنصّه على العلّة.
التأصيلان الأخيران: 1- «الأفعال متعارضة المصالح والمفاسد. وليس كلّ ذلك معلومًا لنا ولا مستحضرًا، وإذا تعارضت المصالح والمفاسد، فمقدار تأثير كلّ واحدة منها في الحثّ والمنع غير محقّق لنا، فالطريق حينئذ أن نفوّض الأمر إلى صاحب الشرع، ونجري على ما دلّ عليه ظاهر اللفظ»(23).
أورده في صدد حديثه عن المفاضلة بين صيام نبيّ الله داود عليه السلام وبين سرده إلى الأبد، حيث مال إلى الوقوف مع ظاهر الحديث الوارد في تفضيل الأوّل منهما(24)، وأيّد اختياره بهذا التأصيل.
ولم يلتفت إلى ما اعتمد إليه المخالف من كون العمل كلّما كان أكثر كان أوفر أجرًا، وعارض إجراء هذا الأصل هنا بما يحصل من التقصير في الحقوق بسبب الصوم الدائم. وتقريبه أن يُعلم أنّ الشارع الحكيم إذا أمر بشيء ما أو نهى عن آخر أو فاضل بين الأفعال المتفاوتة أو رجّح بعضها على بعض أو حكم في أيّ قضيّة ما، ولم يظهر للنّاظر مناط حكمه على الحقيقة، أو ظنّ مناطًا معيّنًا قد يوجد ما يسنده في عرف الشارع ولكن يقود اعتباره إلى إضعاف سلطان النصّ الخاصّ، فهنا أيضًا لا مناص من الوقوف مع ظاهر النصّ.
2- «لا شكّ أنّ التّرجيح يتبع المصالح، ومقاديرها مختلفة. وصاحب الشرع أعلم بتلك المقادير.

فإذا لم يعلم المكلّف حقيقة تلك المصالح، ولم يستحضر أعدادها، فالأولى اتّباع اللّفظ الوارد في الشرع»(25).
أورده في صدد حديثه عن المفاضلة بين النّكاح والتخلِّي لنوافل العبادات، حيث مال إلى الوقوف مع ظاهر الحديث الوارد في تفضيل الأوّل منهما(26)، وأيّد اختياره بهذا التأصيل. وكما هو ظاهر فهو يندرج تحت سابقه، فكفى عنه.
الفرع الثاني: ما رجحت فيه كفّة مراعاة مقصود الشارع التأصيل الأوّل: «متى دار الحكم بين كونه تعبدا، أو معقول المعنى، كان حمله على كونه معقول المعنى أولى؛ لندرة التعبّد بالنّسبة إلى الأحكام المعقولة المعنى»(27).
أورد ابن دقيق العيد هذا التأصيل في صدد حديثه عن الأمر النّبوي بغسل ولوغ الكلب، هل يدلّ على تنجيس الإناء كما قال الجمهور، أو لا يدلّ لذلك بناءً على كون الحكم تعبّديًّا كما قال مالك؟ وقد رجّح الرأي الأوّل، وأيّده بهذا التأصيل فضلا عن دلالة نفس لفظة «طهور» الواردة في إحدى روايات الحديث.
ويمكننا تصوير هذا المرجّح الكلِّي في حالتين اثنتين إحداهما أبلغ من الأخرى: الحالة الأولى: أنّ الأصل والأغلب في أحكام الشريعة أنّها معلومة الحكمة ويندر فيها خلاف ذلك. ومن ثمّ إذا حصل تردّد في حكمٍ ما بماذا نلحقه حتّى يمكننا أن نرتّب على حكمته أحكامًا جديدة لم ينصّ عليها اللفظ الشرعي، فهنا كما نصّت الكلّية الفقهية العقلية: «العبرة بالغالب والنادر لا حكم له».

الحالة الثانية: وهي أبلغ، وذلك إذا وقع علاوة على ما جاء في الحالة السابقة أن ورد في لفظ النصّ الشرعي ما يقوِّي بصورةٍ ظاهرة الحملَ على المعقولية، كما وقع في حديثنا هذا.
التأصيل الثاني: «إذا كان أصل المعنى معقولا قلنا به، وإذا وقع في التفاصيل ما لم يعقل اتّبعناه في التفصيل، ولم ينقص لأجله التأصيل»(28).
أورده في صدد حديثه عن المسألة السابقة نفسها، وذلك في مقام ردّه على دليل المخالفين من المالكية الذين اعتمدوا على «ذكر هذا العدد المخصوص، وهو السبع؛ لأنّه لو كان للنّجاسة لاكتفي فيها بما دون السبع، فإنّه لا يكون أغلظ من نجاسة العذرة وقد اكتفي فيها بما دون السبع»(29).
فأتى جوابه عن دليلهم من وجهين:
1- على سبيل الممانعة في الشقّ المتعلّق بدعواهم أنّ نجاسة الكلب لا تكون أغلظ من نجاسة العذرة، بل هي كذلك مادام غسل الأولى أبلغ وأكثر عددًا.
2- على سبيل التسليم بالشقّ المتعلّق بدعواهم أن لو كان الأمر بالغسل للنّجاسة لاكتفي بما دون السبع. وهو إشكال عويص يرِد عليه، إذ كيف يستقيم توجيه هذه المطاوعة للخصم مع القول بمعقولية هذا الحكم؟ ولكنّه خرج منه، ونبّه إلى هذا التأصيل الدقيق، وقال: «ولذلك نظائر في الشريعة، فلو لم تظهر زيادة التغليظ في النّجاسة لكنّا نقتصر في التعبّد على العدد، ونمشي في أصل المعنى على معقولية المعنى»(30).
وبهذا التقرير الرصين رسم لنا: الانفكاك بين جهة أصل الحكم وجهة تفصيلاته، بحيث يستقيم ميل النّاظر إلى تقصيد الأولى من غير وكس، وفي آن واحد يحكم على الثانية بكونها تعبّدية من غير شطط إذ لم يبلغها علمه، {...قَدْ جَعَلَ اْللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (الطلاق: 3).
التأصيل الثالث: «المعنى إذا كان معلومًا كالنصّ قطعًا، أو ظنًّا مقاربًا للقطع، فاتّباعه وتعليق الحكم به أولى من اتّباع مجرّد اللفظ»(31).
أورده في صدد حديثه عن مسألة وقت الاغتسال لصلاة الجمعة، حيث قال قبله: «تبيّن من بعض الأحاديث أنّ الغسل لإزالة الروائح الكريهة(32).
ويفهم منه أنّ المقصود عدم تأذِّي الحاضرين»(33). وبناء على ملاحظة هذا المقصود الجليّ ردّ مذهب من بالغ في عدم الالتفات إليه حتّى سوّغ تأخّر الغسل عن الصلاة ولو أتى به قبل الغروب اعتمادًا منه على إضافة الغسل إلى اليوم كما ذهب إلى ذلك ابن حزم.
بل ردّ أيضا مذهب من سوّغ من الفقهاء تقدّم الغسل لكن على وجه لا يحصل به مقصود الشارع(34).
وقد سبق في التأصيل السادس من الفرع الأوّل التحذير من اعتبار معانٍ مقاصدية وهمية تجنح إلى التلاعب بالنّصوص. وناسب هنا التنبيه إلى ما يقابله وهو ضرورة مراعاة النّاظر للمقاصد التي يغلب على ظنّه مراعاة الشريعة لها فضلًا عمّا ترقى إلى درجة القطع، وألاّ يغالي في الأخذ بظواهر النّصوص.
الفرع الثالث: ما له صلة بهما جميعا التأصيل الوحيد: «اعلم أنّ أكثر هذه الأحكام قد تدور بين اعتبار المعنى واتّباع اللّفظ، ولكن ينبغي أن ينظر في المعنى إلى الظهور والخفاء.
فحيث يظهر ظهورا كثيرا فلا بأس باتّباعه، وتخصيص النصّ به، أو تعميمه على قواعد القيّاسين. وحيث يختفي، أو لا يظهر ظهورا قويّا فاتّباع اللّفظ أولى»(35).
أورده ابن دقيق في صدد حديثه عن جملة من الصور المرتبطة ببيع الحاضر للبادي.. هل تدخل في النّهي النّبوي أم لا؟ وقد صدّر كلامه بالإشارة إلى خصوص هذه الصور، ولكنّه في الواقع ينطبق على سائر الفروع التي تخرّج على الأحكام الأصلية المنصوص عليها بناءً على ظهور مقصود الشارع فيها أو خفائه. وهذا التأصيل في جزيئته المتعلّقة بتخصيص النصّ بناء على ملاحظة المعنى يشكل عليه ما ذكره في صدد تأييده لاختياره في مسألة: هل يتعيّن التراب في غسل ولوغ الكلب؟ حيث قال علاوة على التأصيلين الأوليين اللذين وردا في بداية الفرع الأوّل: «وأيضًا، فإنّ المعنى المستنبط إذا عاد على النصّ بإبطال أو تخصيص فمردود عند جمع من الأصوليين»(36).

ولكن يقوي القول- من خلال الموازنة بين هذين النصّين- أنّ مذهبه تجويز تخصيص النصّ بالمعنى لأنّه نسبه إلى نفسه كما هو ظاهر هنا، وأمّا ما رقمه هناك فإنّما عزاه إلى هؤلاء الجمع، والعلم عند الله.
وقد أسّس هذا التأصيل لأربعة أنواع من الكلّيات تصريحًا وتلويحًا: منها نوعان يتّحدان في الحكم الكلّي، وهو اتّباع اللفظ والوقوف مع ظاهر النصّ، وهما كالتالي:
النّوع الأوّل: حيث يختفي تعلّق مقصود الشارع بالصورة المنظور فيها وينعدم.
النّوع الثاني: حيث يُحتمل تعلّقه بها، ولكن لا ترجح كفّة مراعاته على كفّة الوقوف مع ظاهر اللفظ. وأمّا النّوعان الآخران اللذان يتّحدان في اتّباع مقصود الشارع وعدم الوقوف عند خصوصية النّص فهما كالتالي:
النّوع الأوّل: حيث يظهر جليًّا تعلّق مقصود الشارع بالصورة المنظور فيها.

النّوع الثاني: حيث يقطع النّاظر بتعلّق مقصود الشارع بها، وهذا النّوع لم ينصّ عليه ابن دقيق في تأصيله هذا، ولكن يُفقه بطريق الأولى. وقد أشارت عبارته «...وتخصيص النصّ به، أو تعميمه...» إلى جهتَي تعلّق المقصود بالصورة المتنازع فيها: * جهة الوجود، وحينها يكون البحث في دعوى تعميمها بالحكم الأصلي.
* وجهة تخلّف المقصود، وحينها يكون البحث في دعوى كون هذه الصورة مخصوصة خارجة عن الأصل، فلينتبه إلى هذا في تصوّر ما سبق!! خاتمة وقفنا فيما خلا على أنواع مختلفة من الحكم الشرعي يعتريها النّظر المقاصدي، قوي في بعضها الوقوف مع خصوصية النصّ الشرعي الوارد فيها، وقوي في الأخرى الوقوف مع مقصود الشارع في تعميم النصّ أو تخصيصه على اختلاف درجات إدراك النّاظر لذلك كلِّه من حيث القطع والظنّ.
وربّما تجاذب الحكم الواحد الأمران جميعا باعتبار أصله وتفاصيله. ومنخول الكلام في هذا المقام أنّ العبرة بما رجحت كفّته عند أهل العلم المحقّقين الذين عظّموا نصّ الشارع وقصده وسبروا غور هذه المضايق. وحيث قال شيخ إمامنا العزُّ بن عبدالسلام: «أكثر المصالح والمفاسد لا وقوف على مقاديرها وتحديدها، وإنّما تعرف تقريبًا لعزّة الوقوف على تحديدها»(37).
فإنّ الشأن أيضا سيكون في كثير من جوانب النّظر المقاصدي المرتبطة بهذه المناطات التقريبية، فيحاول الناظر جهده ليكون دقيقًا في ميزانها لأجل أن يصيب حكم الله عز وجل فيها ما أمكن. وما سبق من تأصيلات ابن دقيق، وما تمخّض عنها من صياغات جديدة شكّلت لنا في مجموعها منظومة من القواعد الكفيلة- إن شاء الله- بخدمة هذه الغاية. فحريّ بقاصدي التحقيق في إجراء ثنائية «الوقوف مع النصّ مع ملاحظة مقصود الشارع» أن يحرصوا على استحضار ما سبق ونظيره من التقعيد المقاصدي الذي ذكره العلماء المجدّدون.
ولو جُمعت هذه القواعد جميعًا، ودُرِست في بحث مستقلّ، وتأمّل الباحث في أبعادها وإشاراتها لربّما خرج عملًا نافعًا لهذا الفقه الحيّ. والحمد لله حقّ حمده، وصلّى الله وسلّم على محمّد وحزبه ما ارتوى من تراث الأسلاف غليل واكتفى به.
الهوامش (1) تنبيه الرّجل العاقل على تمويه الجدل الباطل 1/117.
(2) هامش الموافقات 3/183.
(3) الموافقات 3/134.
(4) تذكرة الحفّاظ 4/1482.
(5) البدر الطالع 2/230.
(6) نقله عنه الزركشي في البحر المحيط 6/80.
(7) دراسة هذه الظاهرة على اختلاف درجات الخطـأ فيها كانت موضوع رسالتي لمرحلة الدكتوراه بعنوان: «الخطأ في النّظر المقاصدي دراسة تحليلية نقدية تطبيقية».
(8) انظر: مجموع الفتاوى 3/19.
(9) انظر: محاضرات في مقاصد الشّريعة للرّيسوني، ص9، رسالتي «الخطأ في النّظر المقاصدي» ص26.
(10) انظر: مجموع الفتاوى 3/19.
(11) إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام 1/162.
(12) المصدر نفسه 1/162.
(13) فارسي معرّب، فيه لغتان ضمّ الهمزة وكسرها، وشجر الأُشنان يقال له الحَرْض، يُسوّى منه ما تُغسل به الثياب. انظر: جمهرة اللغة 3/1275، لسان العرب 2/837.
(14) مستفاد من كلامه في إحكام الأحكام 1/350.
(15) المصدر نفسه 2/50.
(16) المصدر نفسه 2/50.
(17) من ذلك ما انتقاه صاحب عمدة الأحكام، وهو ما جاء في الصحيحين من حديث علي "رضي الله عنه" قال: لمّا كان يوم الأحزاب قال رسول الله " صلى الله عليه وسلم" : «ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا، شغلونا عن صلاة الوسطى حتّى غابت الشّمس» صحيح البخاري، رقم: 2931، ص594، وصحيح مسلم، رقم: 627 (203)، ص248. وفي لفظ لمسلم: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر...». رقم: 627 (205)، ص248. كما جاء هذا التصريح أيضا عند مسلم من حديث ابن مسعود "رضي الله عنه" ، رقم: 628 (206)، ص248.
(18) إحكام الأحكام 2/371.
(19) المصدر نفسه 3/256.
(20) المصدر نفسه 3/256.
(21) روى الشيخان عن عائشة قالت: دخل عليّ رسول الله " صلى الله عليه وسلم" وأنا متستّرة بقرام فيه صورة، فتلوّن وجهه، ثمّ تناول السِّتر فهتكه، ثمّ قال: «إنّ من أشدّ النّاس عذابًا يوم القيامة الذين يشبِّهون بخلق الله» صحيح البخاري، رقم: 5954، ص1268، وصحيح مسلم- واللفظ له، رقم: 2107 (91)، ص874.
(22) إحكام الأحكام 3/257.
(23) المصدر نفسه 3/412.
(24) وذلك في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي رواه عنه الشيخان، حيث ورد فيه أنّ النبيّ أُخْبِر بقول عبدالله: «والله لأصومنّ النّهار ولأقومنّ الليل ما عشت» فتدرّج معه " صلى الله عليه وسلم" في التخفيف حتّى قال له في آخر الحديث: «فصم يومًا وأفطر يومًا، وذلك صيام داود وهو أعدل الصِّيام. قلت: إنِّي أطيق أفضل منه يا رسول الله، قال: لا أفضل من ذلك». انظر نصّه كاملا في صحيح البخاري، رقم: 3418، ص702، وصحيح مسلم، رقم: 1159 (181)، ص447.
(25) إحكام الأحكام 4/176.
(26) وهو ما جاء في الصحيحين من حديث أنس "رضي الله عنه" أنّ نفرا من أصحابه " صلى الله عليه وسلم" قال بعضهم: لا أتزوّج النّساء، وقال بعضهم: لا آكل اللّحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فأنكر عليهم " صلى الله عليه وسلم" طريقتهم تلك قائلا: «لكنّي أصلِّي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوّج النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منِّي». هذا مختصره من رواية مسلم، وانظر نصّه كاملا في صحيح البخاري، رقم: 5063، ص1100، وصحيح مسلم، رقم: 1401 (5)، ص549.
(27) إحكام الأحكام 1/145.
(28) المصدر نفسه 1/148. وانظر أيضا: المصدر ذاته 3/121.
(29) المصدر نفسه 1/145.
(30) المصدر نفسه 1/148.
(31) إحكام الأحكام 3/120.
(32) كما في الحديث المتّفق عليه من رواية عائشة قالت: «كان النّاس ينتابون الجمعة من منازلهم والعوالي فيأتون في الغبار فيصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرق فأتى رسول الله " صلى الله عليه وسلم" إنسانٌ منهم وهو عندي، فقال النبيّ " صلى الله عليه وسلم" : «لو أنّكم تطهّرتم ليومكم هذا». صحيح البخاري- واللّفظ له، رقم: 902، ص178، وصحيح مسلم، رقم: 847 (6)، ص328.
(33) إحكام الأحكام 3/120.
(34) انظر: المصدر نفسه 3/119- 120.
(35) المصدر نفسه 4/38.
(36) المصدر نفسه 1/162.
(37) القواعد الصغرى ص172. وانظر: القواعد الكبرى 1/30.