الغزوات المحمدية في الشعر العربي القديم


د. محمود سعيد



من الحق أن المغازي لها ما لها من صدارة وعلوية في السيرة النبوية على الأخص، ولا يخفى ما لها من مرموق الأهمية في تاريخ الإسلام على الأعم وما ذاك إلا أن التصدي لها بالذكر، يورد على الخاطر صورًا صادقة ناطقة عن نفسية وواقعية المسلمين الذين عمرت قلوبهم بالإيمان واليقين كما أنها المثال الأمثل للجهاد في سبيل الله الذي هو بغية المتقين الذين يعقدون أملهم بالنعيم في عليين.
وأول ما يقال في هذا الصدد خاصًا بالجهاد وعظيم فضله أنه يعد ركنًا سادسًا من أركان الإسلام ورتبة بين الإيمان بالله ورسوله.
وروي عن أبي هريرة أنه قال: «سئل النبي " صلى الله عليه وسلم" أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل ثم ماذا؟ قال: حج مبرور»، وهذا واضح الدلالة على أن الجهاد قبل الحج في الفضل، وهذا ما يدرك من أحاديث شريفة لا تحصى كثرة.
بل وفي الشعر أيضًا برزت هذه الغزوات المحمدية لخير البرية، ولا عجب، فلم يزل النبي " صلى الله عليه وسلم" يعجبه الشعر ويمدح به ويقول: هو ديوان العرب.
وقوله " صلى الله عليه وسلم" أنه ديوان العرب، من قواطع الأدلة على أنه جمع كل شيء عن العرب وعرَّف بحياتهم في شتى جوانبها ونطق عنهم في كل ما وصفوا به الحياة من حولهم، وما شغلهم من شواغل، فهو بهذه المناسبة تاريخهم المفصل الجامع، ولعل حسان بن ثابت شاعر الرسول " صلى الله عليه وسلم" هو أصدق الأمثلة على ذلك.
وعلى ذكر حسان قيل إن النبي " صلى الله عليه وسلم" يتطيب شعره في تأييد الإيمان بالله.
روي أنه كان ذات ليلة في سفر فقال: «أين حسان بن ثابت؟» فقال حسان: لبيك يا رسول الله وسعديك، فقال: «أجد» فجعل حسان ينشد من شعره والرسول يصغي إليه فمازال يسمع وهو سائق راحلته حتى كاد رأسها يمس الورك، ولما فرغ حسان من نشيده قال " صلى الله عليه وسلم" : «لهذا أشد عليهم من وقع النبل».
ذاك ما يقف بنا على منزلة حسان عند النبي " صلى الله عليه وسلم" وفي فترة الغزوات والصراع بين الحق والباطل، ويبين لنا كيف أنه اتجه بشعره وجهة خاصة لا عهد للعرب بمثلها من قبل.
ولقد تميزت شخصية حسان بعد إسلامه وبعد اتصاله بالرسول " صلى الله عليه وسلم" وبالمواقف التي وقفها من الدين الحنيف في بزوغ فجره، فقد غلب على الشعر في تلك الفترة فن الهجاء على أنه تعبير عما اكتمن في نفوس المشركين على سواء، وكان هذا الهجاء عامًا أظهر منه خاصًا، لأنه كان عند المسلمين على الأخص دفاعًا شرعيًا، فهؤلاء المسلمون دافعوا عن دينهم مجاهدين بالسنان واللسان، وأدى حسان مهمته وهي قهر أعداء الرسول " صلى الله عليه وسلم" ، فشعره مصدر له قيمته وأهميته من التاريخ الإسلامي.
انقطع حسان لمدح الرسول وجاهد من عادوه، ولقد نافح وناضل عن المؤمنين في غزوتي بدر وأحد، كما أنه في اختصاصه بجهاد المسلمين رثى «حمزة "رضي الله عنه" عم النبي " صلى الله عليه وسلم" وبكى شهداء المواقع الإسلامية، ومنهم خبيب بن عدي وزيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبدالله بن رواحة، وأخيرًا رثى رسول الله " صلى الله عليه وسلم" .
وشعر حسان يتسم بالصدق والواقعية، وهذا من صفته يوجب التعويل عليه كمصدر للتاريخ، فهو يذكر الحقيقة لاريب فيها وإن وشاها بمسحة من خيال، وذلك ما يقتضيه التعبير بالشعر، مثال ذلك قوله في رثاء خبيب بن عدي الذي استشهد في إحدى الغزوات الأولى كاشفًا عن شجاعته وخوضه المعركة لنصرة الإسلام فقال:
ما بال عينك لا ترقـا مدامعهـا
سحا على الصدر مثل اللؤلؤ الفلق؟
على خبيب وفي الرحمن مصرعه
لا فشـل حـين تلـقـاه ولا نزق
فاذهب خبيب جـزاك الله طـيبة
وجنة الخلـد عند الحور في الرفق

إنه يصدقنا القول في وصف هذا المجاهد الشهيد في مصرعه، ويبين كيف أنه نال الشهادة لينال بها جنة الخلد وكيف كان مقدامًا رابط الجأش لا يتراجع أمام تقدم العدو، وهو يبكيه وحُق لشهيد أن يُبكى عليه، وفي هذا كله لم يبعد حسان عن الحقيقة في شيء.
إن هذا الشاعر العربي ذكر الحقيقة دون أن يتجاوزها إلى الخيال البعيد، لقد شبه الدموع باللآلئ وهذا قريب الشبه بالحقيقة كما كان أكثر اهتمامًا بالإشارة إلى أن هذا المجاهد استشهد في سبيل الله وزف إليه البشرى بدخول الجنة.
يتضح أن شعر الغزوات أَدخَلُ في التاريخ منه في الأدب، وشعر الغزوات فيه أخذ ورد بين حسان المدافع عن النبي " صلى الله عليه وسلم" وبين الشعراء الذين عبروا عن عدائهم للنبي " صلى الله عليه وسلم" .
لقد قام حسان بن ثابت بمهمته على الوجه الأكمل، وشرف برضا الرسول " صلى الله عليه وسلم" عنه وهو يناضل بلسانه الفصيح الذي يؤثر أعمق الأثر في النفوس.
وحسبنا أن نورد قوله " صلى الله عليه وسلم" له «أهج قريشا ومعك روح القدس، والله إن كلامك لأشد عليهم من وقع السهام في غلس الظلام».
هذه مقولة مشهورة ونحن ننظر إليها فضلًا عن أنها دعوة للذود عن الإيمان بالهجاء كما قال الصادق المصدوق يمكن أن تدخل في باب المنافرة والمناظرة، وبذلك يكون حسان بن ثابت صاحب فضل في تمييز شعره بلون خاص به، ولا عهد لنا بمثله في فترة من الزمان يؤرخ بها خصائص الشعر العربي.. فمن غرر شعره التي يقول فيها ردًا على من هجى الرسول " صلى الله عليه وسلم" :
هجوتَ «محمدًا» فأجبتُ عنه
وعند الله في ذاك الجزاء
قال " صلى الله عليه وسلم" : «جزاؤك على الله الجنة»، فلما انتهى إلى قوله:
فإن أبي ووالده وعرضي
لعرض محمد منكم وقاء

قال " صلى الله عليه وسلم" : «وقال الله هو المطلع»، ولما انتهى إلى قوله:
أتهجوه ولست له بند
فشركما لخيركما الفداء
قال من حضر، هذه والله أنصف بيت قالته العرب.
ولنا أن نعد مثل ذلك مثالًا لتلك الروحانية الإيمانية التي غمرت شعر المغازي وبينت على الحقيقة أهميته وجدارته بنظرة تأمل وتمحيص، فقد عبر شعر حسان عن تلك الغزوات، وأجرى عليها صفاتها، وبين أنها ليست حروبًا وكفى، بل هي حروب لها ما لها من ملامح وسمات ينبغي التنبه إليها.
ومن قول حسان بن ثابت في غزوة بدر، وهو يتجه بخطابه إلى الحارث بن هشام:
تَبَلَتْ فؤادَكَ في المنامِ خَريدةٌ
تسقي الضجيعَ بباردٍ بسامِ
كالمسكِ تخلطهُ بماءِ سحابةٍ
أوْ عاتقٍ كدمِ الذبيحِ مُدامِ
أقسمتُ أنساها، وأتركُ ذكرها
حتى تُغيَّبَ في الضّريحِ عظامي
إنْ كنتِ كاذبةَ الذي حدّثتِني
فنجوتِ منجى الحارثِ بن هشامِ
تَرَكَ الأحِبّةَ أنْ يقاتلَ دونَهمْ
وَنجا برَأس طِمِرَّةٍ وَلِجامِ

عند هذا الحد يتهكم حسان بالحارث بن هشام ويصفه بالجبن والنكوص عن المعركة، بل والفرار منها وعجزه عن أن يذود عن حريمه وفي هذا كل العار.
وختامًا.. إن ما قيل عن شعر في الغزوات المحمدية يحتاج إلى مئات الصفحات وكثير من الدراسات مما لا يتسع له في تلك المقالة، لكن أعد إن شاء الله أن استكمل الدور في مقالات أخرى.