معلمتي ورقة الخريف!
د. محمد بابا عمي

عفوًا آنستي، داستكِ قدمي فجرًا، في ساحةِ المسجد المجاور، كما الأيامُ الأخرى؛ بلا وعي في حقِّك، ولا تفكُّر في حقيقتك.

أمَّا صباح هذا اليوم البلَّوري المبارَك، فقد استفاق الإدراك فيّ وجهتَك، واستيقظ الاعتبار من كنانة قلبي، وكم من عبر تمرُّ عليَّ ولا أبالي؟! فقليلًا ما تذكَّرت، وركَّزت، ونظرتُ، يا ويح قلبي الفاتر، ويا حسرتا على عقلي الصامت.

آنستي، لا يغرَّنَّك ازورارُ الناس عنك، جهلًا أو تجاهلًا، ظلمًا أو كبرياءً؛ ذلك أنَّ نضارة الربيع تغريهم، وأنَّ زهو الخضرة يسبيهم؛ فيكشحون وجوهَهم عن الجلال، منشغلين بزهرة الجمال؛ ويرمون المعنى في قعر دهليز الزمان، مبهورين بالشكل والمظهر والفاني من فتات المكان.

التقطتكِ يدي برفق، مخافة كسركِ؛ فأنت الرقيقةُ قلبًا، الخفيفةُ ذنبًا؛ لا، بل لا ذنب يثقلك ويخلد بكِ إلى الأرض؛ وأنت المرهَفة حسًّا، بينما الناس في الجفاء والجفوة مذاهب وفنون؛ وأنت، آنستي، شكلكِ شكلُ راحة يدي؛ بذلك التقت اليد، التي هي بعضٌ منِّي، باليد التي هي كلُّك؛ وإن أكن سخيًّا ومعطاءً ببعضي، فأنت جميعك سخاءٌ وسحاءٌ.

نعم، تجاعيد جسمك المخمليّ الزهريّ، عنوان الفناء في الخدمة؛ فربيعًا كنتِ تعملين، والناس حينها يلهون ويلعبون؛ واليومَ لم تحتكري عرش الشهرة، ولم تبالي بكرسيِّ النياشين، مثل الكثيرين من بني البشر؛ فأنت آنستي، قد مددتِ يد العون لمن يأتي بعدك، وسافرت إلى عالم الجزاء، هنيَّة البال، طاهرة الفؤاد، مطمئنَّة الباطن.

آهٍ، آنستي، لو البشر من معناك يرتشفون، ولحقيقتك يدركون، إذن لما كانت حروب، ولا قتل، ولا انقلابات، ولا حقد، فكلُّ واحدة من بني جلدتِك آنستي، في مكانها اللائق بها، تمامًا، لا ترتفع عنه ولا تنخفض، ولا تقتل الوقت في زحزحة أخواتها أو إخوانها من منازلهم؛ وكلُّ واحدة موقنة أنَّ رزقها بيد من لا ينسى، ولا يغفل، ولا يضيع، وأنَّ مصيرها، وحظها، موثوق بحبل من الإيمان متين، هي هكذا، موحِّدة بالفطرة، لا تكلُّفًا؛ ولذلك كان تسبيحها أثيريَّ النفحات، كونيَّ اللفحات، ينشر عبيره عند آخر نقطة في الكون، ويسمعه الجن والإنس وكلُّ الخلائق، بلا خرخشة، لو أصاغوا أذنهم، ولو غسلوا قلوبهم بماء الورد.

هكذا، آنستي، كوني لنا مدرسة، نكن لك تلامذة؛ وعلِّمينا فنَّ التفكر والاعتبار؛ واحملينا على التسبيح النورانيِّ السرمديِّ، علِّمينا أن نقول، ونعي ما نقول: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِين.

وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } (الزخرف: 14-15)، لا عند امتطاء المراكب فقط، لكن- كذلك- عندما نعتلي صهوة المعنى والفهم، ونعلو ذروة العلم والعمل.

شكرًا، سيدي.. الجميلة الجليلة.. شكرًا.