​تهذيب الكمال .. للحافظ المزي





حينما ألفت الكتب الستة في الحديث؛ عدها جهابذة المحدثين دواوين الإسلام؛ فعنوا بها وبروايتها وتدقيقها، فاشتهرت في بلاد الإسلام، وذاع صيتها بين الناس، ونتيجة لذلك ألفوا الكتب المعنية بتناول الرجال الواردين في أسانيدها منذ القرن الرابع الهجري. لكن أحدا لم يجمع شيوخ أصحاب الستة قبل الحافظ أبي القاسم بن عساكر، رحمه الله، في كتابه «المعجم المشتمل على ذكر أسماء شيوخ الأئمة النبل»، ثم جاء الحافظ الكبير عبدالغني بن عبدالواحد المقدسي، رحمه الله؛ فألف كتابه «الكمال في أسماء الرجال»، وتناول فيه رجال الكتب الستة، وهو أول من ألف في رواة الكتب الستة؛ حيث لم يقتصر على شيوخهم، بل تناول جميع الرواة المذكورين في هذه الكتب من الصحابة والتابعين وأتباعهم إلى شيوخ أصحاب الكتب الستة، لكنه لم يستقص الأسماء التي اشتملت عليها استقصاء تاما، ولا تتبع جميع تراجم الأسماء التي ذكرها في كتابه تتبعا شافيا؛ فحصل في كتابه بسبب ذلك إغفال وإخلال، وهذا ما دفع الحافظ المزي، رحمه الله، لاستدراك هذا النقص في كتابه «تهذيب الكمال» (1).



وقد كتب المزي لكتابه مقدمة ممتعة طويلة اشتملت على مفاتيح كتابه، ومنهجه في استدراكه وجمعه وتحريره، وها نحن ذاكرون منها قطوفا متنوعة، لندل القارئ على فضلها وفضل الكتاب الذي دلت عليه.


قال، رحمه الله، بعد حمد الله والثناء عليه، والصلاة والسلام على نبيه:


«أما بعد، فإن الله تعالى وله الحمد لم يخل الأرض من قائم له بحجة، وداع إليه على بصيرة، لكي لا تبطل حجج الله وبيناته، فهم، كما وصفهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "رضي الله عنه" حيث يقول: «أولئك هم الأقلون عددا، الأعظمون عند الله قدرا، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان قلوبها معلقة بالمحل الأعلى شوقا إلى لقائهم، وإذا كان الأمر كما ذكرنا، والحال على ما وصفنا، فواجب إذن على كل مكلف ذي عقل سليم مطلق من إسار الشهوات الحيوانية والشبهات الشيطانية أن يبذل جهده، ويستفرغ وسعه في تحصيل الفوز بالنعيم الأبدي، والنجاة من العذاب السرمدي».


ثم بين أن تلك النجاة مرتبطة بمدى التمسك بالكتاب والسنة، وأن الكتاب محفوظ بحفظ الله له قدرا وشرعا، فقال:


«وأما السنة، فإن الله تعالى وفق لها حفاظا عارفين، وجهابذة عالمين، وصيارفة ناقدين، ينفون عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فتنوعوا في تصنيفها، وتفننوا في تدوينها على أنحاء كثيرة وضروب عديدة، حرصا على حفظها، وخوفا من إضاعتها، وكان من أحسنها تصنيفا، وأجودها تأليفا، وأكثرها صوابا، وأقلها خطأ، وأعمها نفعا، وأعودها فائدة، وأعظمها بركة، وأيسرها مؤونة، وأحسنها قبولا عند الموافق والمخالف، وأجلها موقعا عند الخاصة والعامة: صحيح البخاري، ثم صحيح مسلم، ثم بعدهما كتاب السنن لأبي داود، ثم كتاب الجامع لأبي عيسى الترمذي، ثم كتاب السنن لأبي عبدالرحمن النسائي، ثم كتاب السنن لأبي عبدالله ابن ماجه القزويني، وإن لم يبلغ درجتهم.


ولكل واحد من هذه الكتب الستة مزية يعرفها أهل هذا الشأن، فاشتهرت هذه الكتب بين الأنام، وانتشرت في بلاد الإسلام، وعظم الانتفاع بها، وحرص طلاب العلم على تحصيلها، وصنفت فيها تصانيف، وعلقت عليها تعاليق، بعضها في معرفة ما اشتملت عليه من المتون، وبعضها في معرفة ما احتوت عليه من الأسانيد، وبعضها في مجموع ذلك.


وكان من جملة ذلك كتاب «الكمال»، الذي صنفه الحافظ عبدالغني المقدسي في معرفة أحوال الرواة الذين اشتملت عليهم هذه الكتب الستة، وهو كتاب نفيس كثير الفائدة، لكن لم يصرف مصنفه، رحمه الله، عنايته إليه حق صرفها، ولا استقصى الأسماء التي اشتملت عليها هذه الكتب استقصاء تاما، ولا تتبع جميع تراجم الأسماء التي ذكرها في كتابه تتبعا شافيا، فحصل في كتابه بسبب ذلك إغفال وإخلال».


ثم قال يبين الداعي الذي دفعه للاستدراك على الكتاب الأصل:


«فلما وقفت على ذلك، أردت تهذيب الكتاب، وإصلاح ما وقع فيه من الوهم والإغفال، واستدراك ما حصل فيه من النقص والإخلال، فتتبعت الأسماء التي حصل إغفالها منهما جميعا، فإذا هي أسماء كثيرة تزيد على مئات عديدة من أسماء الرجال والنساء. ثم وقفت على عدة مصنفات لهؤلاء الأئمة الستة غير هذه الكتب الستة؛ فإذا هي تشتمل على أسماء كثيرة ليس لها ذكر في الكتب الستة، ولا في شيء منها، فتتبعتها تتبعا تاما، وأضفتها إلى ما قبلها، فكان مجموع ذلك زيادة على ألف وسبع مئة اسم من الرجال والنساء؛ فترددت بين كتابتها مفردة عن كتاب الأصل، وجعلها كتابا مستقلا بنفسه، وبين إضافتها إلى كتاب الأصل، ونظمها في سلكه، فوقعت الخيرة على إضافتها إلى كتاب الأصل، ونظمها في سلكه، وتمييزها بعلامة تفوزها عنه، وهو أن أكتب الاسم، واسم الأب أو ما يجري مجراه بالحمرة، وأقتصر في الأصل على كتابة الاسم خاصة بالحمرة».


وأما عن رموز كتابه ومصطلحات مصنفه؛ فقد قال عنها:


«وجعلت لكل مصنف علامة، فإن تكرر الاسم في أكثر من مصنف واحد؛ اقتصرت على عزوه إلى بعضها في الغالب؛ فعلامة ما اتفق عليه الجماعة الستة في الكتب الستة: (ع)، وعلامة ما اتفق عليه أصحاب السنن الأربعة في سننهم الأربعة: (4)، وعلامة ما أخرجه البخاري في الصحيح: (خ)، وعلامة ما استشهد به في الصحيح تعليقا: (خت)، وعلامة ما أخرجه في كتاب القراءة خلف الإمام: (ز)، وعلامة ما أخرجه في كتاب رفع اليدين في الصلاة: (ي)، وعلامة ما أخرجه في كتاب الأدب: (بخ)، وعلامة ما أخرجه في كتاب أفعال العباد: (عخ) (2)، وعلامة ما أخرجه مسلم في الصحيح: (م)، وعلامة ما أخرجه في مقدمة كتابه: (مق) (3)، وعلامة ما أخرجه أبو داود في كتاب السنن: (د)، وعلامة ما أخرجه في كتاب المراسيل: (مد)، وعلامة ما أخرجه في كتاب الرد على أهل القدر: (قد)، وعلامة ما أخرجه في كتاب الناسخ والمنسوخ: (خد)، وعلامة ما أخرجه في كتاب التفرد، وهو ما تفرد به أهل الأمصار من السنن: (ف)، وعلامة ما أخرجه في فضائل الأنصار: (صد)، وعلامة ما أخرجه في كتاب المسائل التي سأل عنها أبا عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل: (ل)، وعلامة ما أخرجه في مسند حديث مالك بن أنس: (كد)، وعلامة ما أخرجه الترمذي في الجامع: (ت)، وعلامة ما أخرجه في كتاب الشمائل: (تم)، وعلامة ما أخرجه النسائي في كتاب السنن: (س)، وعلامة ما أخرجه في كتاب عمل يوم وليلة: (سي)، وعلامة ما أخرجه في كتاب خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "رضي الله عنه" : ، وعلامة ما أخرجه في مسند علي "رضي الله عنه" : (عس)، وعلامة ما أخرجه في مسند حديث مالك بن أنس: (كن)، وعلامة ما أخرجه ابن ماجة القزويني في كتاب السنن (ق)، وعلامة ما أخرجه في كتاب التفسير: (فق)».


ثم أوضح رمزه للأسماء الواردة في كتابه وطريقة تمييزه لهم؛ فقال:


«وقد جعلت على كل اسم كتبته بالحمرة رقما من الرقوم المذكورة أو أكثر بالسواد، ليعرف الناظر إليه عند وقوع نظره عليه من أخرج له من هؤلاء الأئمة وفي أي كتاب من هذه الكتب أخرجوا له، ثم أنص على ذلك نصا صريحا عند انقضاء الترجمة، أو قبل ذلك على حسب ما تقتضيه الحال. وذكرت أسماء من روى عنه كل واحد منهم، وأسماء من روى عن كل واحد منهم في هذه الكتب أو في غيرها على ترتيب حروف المعجم أيضا على نحو ترتيب الأسماء في الأصل، ورقمت عليها أو على بعضها رقوما بالحمرة يعرف بها في أي كتاب من هذه الكتب وقعت روايته عن ذلك الاسم المرقوم عليه، ورواية ذلك الاسم المرقوم عليه عنه. ثم ذكرت في تراجمهم روايتهم عنه، أو روايته عنهم كذلك، لتكون كل ترجمة شاهدة للأخرى بالصحة والأخرى شاهدة لها بذلك».


ثم بين أصول منقولاته في كل فن؛ ليكون القارئ على بينة من أمر ما يقرأ؛ فقال:


«واعلم: أن ما كان في هذا الكتاب من أقوال أئمة الجرح والتعديل ونحو ذلك، فعامته منقول من كتاب «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم الرازي الحافظ بن الحافظ، ومن كتاب «الكامل» لابن عدي الجرجاني الحافظ، ومن كتاب «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي الحافظ، ومن كتاب «تاريخ دمشق» لابن عساكر الدمشقي الحافظ، وما كان فيه من ذلك منقولا من غير هذه الكتب الأربعة، فهو أقل مما كان فيه من ذلك منقولا منها، أو من بعضها».


ثم عرج على منهجه في الإحالة بالإسناد ومن دونها، فقال:


«ولم نذكر إسناد كل قول من ذلك فيما بيننا وبين قائله خوف التطويل. وقد ذكرنا من ذلك الشيء بعد الشيء لئلا يخلو الكتاب من الإسناد على عادة من تقدمنا من الأئمة في ذلك، وما لم نذكر إسناده فيما بيننا وبين قائله: فما كان من ذلك بصيغة الجزم، فهو مما لا نعلم بإسناده عن قائله المحكي ذلك عنه بأسا، وما كان منه بصيغة التمريض، فربما كان في إسناده إلى قائله ذلك نظر، فمن أراد مراجعة شيء من ذلك أو زيادة اطلاع على حال بعض الرواة المذكورين في هذا الكتاب، فعليه بهذه الأمهات الأربعة؛ فإنا قد وضعنا كتابنا هذا متوسطا بين التطويل الممل، والاختصار المخل».


ولقد دل طالب العلم على مشمولات كتابه، وأنها محيطة بقدر كبير من رجال العلم فقال:


«وقد اشتمل هذا الكتاب على ذكر عامة رواة العلم، وحملة الآثار، وأئمة الدين، وأهل الفتوى، والزهد والورع والنسك، وعامة المشهورين من كل طائفة من طوائف أهل العلم المشار إليهم من أهل هذه الطبقات، ولم يخرج عنه منهم إلا القليل».


وفي نصيحته لمن أراد الاستقصاء وزيادة البحث والاطلاع، قال رحمه الله:



«فمن أراد زيادة اطلاع على ذلك، فعليه بعد هذه الكتب الأربعة بكتاب «الطبقات الكبير» لمحمد بن سعد كاتب الواقدي، وكتاب «التاريخ» لأبي بكر أحمد بن أبي خيثمة زهير بن حرب، وكتاب «الثقات» لأبي حاتم البستي، وكتاب «تاريخ مصر» لأبي سعيد عبدالرحمن بن أحمد الصدفي، وكتاب «تاريخ نيسابور» للحاكم النيسابوري الحافظ، وكتاب «تاريخ أصبهان» لأبي نعيم الأصبهاني الحافظ، فهذه الكتب العشرة أمهات الكتب المصنفة في هذا الفن».


وأما طريقة ترتيب الأسماء الواردة في «التهذيب»، وهي مهمة جدا، فقال رحمه الله:


«وقد رتبنا أسماء الرواة من الرجال في كتابنا هذا على ترتيب حروف المعجم في هذه البلاد، مبتدئين بالأول فالأول منها، ثم رتبنا أسماء آبائهم وأجدادهم على نحو ذلك؛ إلا أننا ابتدأنا في حرف الألف بمن اسمه أحمد، وفي حرف الميم بمن اسمه محمد لشرف هذا الاسم على غيره، ثم ذكرنا باقي الأسماء على الترتيب المذكور؛ فإذا انقضت الأسماء ذكرنا المشهورين بالكنى على نحو ذلك، فإن كان في أصحاب الكنى من اسمه معروف من غير اختلاف فيه؛ ذكرناه في الأسماء، ثم نبهنا عليه في الكنى، وإن كان فيهم من لا يعرف اسمه، أو من اختلف في اسمه؛ ذكرناه في الكنى خاصة، ونبهنا على ما في اسمه من الاختلاف في ترجمته، ثم ذكرنا أسماء النساء على نحو ذلك، وربما كان بعض الأسماء يدخل في ترجمتين أو أكثر، فنذكره في أولى التراجم به، ثم ننبه عليه في الترجمة الأخرى».


وفي آخر مقدمته النفيسة بين زياداته على صاحب الأصل، فقال:


«وقد ذكرنا في أواخر الكتاب فصولا أربعة مهمة لم يذكر صاحب الكتاب شيئا منها، وهي: فصل فيمن اشتهر في النسبة إلى أبيه، أو جده، أو أمه، أو عمه، أو نحو ذلك، مثل: ابن أبجر، وابن الأجلح، وابن أشوع، وابن جريج، وابن علية، وغيرهم. وفصل فيمن اشتهر بالنسبة إلى قبيلة، أو بلدة، أو صناعة، أو نحو ذلك مثل: الأنباري، والأنصاري، والأوزاعي، والزهري، والشافعي، والعدني، والمقابري، والصيرفي، والفلاس، وغيرهم. وفصل فيمن اشتهر بلقب أو نحوه، مثل: الأعرج، والأعمش، وبندار، وغندر، وغيرهم. ونذكر فيهم وفيمن قبلهم نحو ما ذكرنا في الكنى. وفصل في المبهمات، مثل: فلان عن أبيه، أو عن جده، أو عن أمه، أو عن عمه، أو عن خاله، أو عن رجل، أو عن امرأة، ونحو ذلك. وننبه على اسم من عرفنا اسمه منهم».


وقد نص، رحمه الله، على أن الفائدة من كتابه إنما يحصلها من شاد في العلم طرفا جيدا منه، وأما المبتدئون فإن استفادتهم ربما كانت دون المرجو، قال رحمه الله:


«وينبغي للناظر في كتابنا هذا أن يكون قد حصل طرفا صالحا من علم العربية: نحوها ولغتها وتصريفها، ومن علم الأصول والفروع، ومن علم الحديث، والتواريخ، وأيام الناس، فإنه إذا كان كذلك؛ كثر انتفاعه به، وتمكن من معرفة صحيح الحديث وضعيفه، وذلك خصوصية المحدث التي من نالها، وقام بشرائطها؛ ساد أهل زمانه في هذا العلم، وحشر يوم القيامة تحت اللواء المحمدي إن شاء الله تعالى».


هامش:


1- مستفاد من مقدمة تحقيق الكتاب، للدكتور بشار عواد معروف.
منقول