حديث اغتسال السيدة عائشة أم المؤمنين .
بقلم :عبد القادر المحمدي
الحمد لله وبه نستعين ، وبعد:
فقد أثار بعض المشبهين على الناس شكوكاً حول حديث ورد في الصحيحين، يقضي بغسل السيدة عائشة (من وراء حجاب) وبحضرة أخيها من الرضاعة، وغلام معه، جاءا يسألانها عن غسل النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنكر بعضهم صحة الحديث(1)،لتوهم هؤلاء القوم أنهم بإنكاره يحمون عرض النبي صلى الله عليه وسلم ؟! مع أنه ورد في الصحيحين والأمة متفقة على قبول ما فيهما.
وذهب بعض آخر إلى تأويله تأويلاً بعيداً –برأينا كما سيأتي- ، وذهبت طائفة من الفسقة والمنحرفين عقيدة وسلوكاً إلى الطعن بأم المؤمنين( 2)، وتحميل النص ما لا يحتمله، وهم بذلك فاقوا اليهود والنصارى وعموم المشركين على مر التأريخ، فلم يتجرأ أحد أن يقول هذا القول الشنيع، لمخالفته اللغة العربية الظاهرة، وتأباه العقول السليمة.
فأخرج البخاري ومسلم من حديث أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ أَنَا وَأَخُوهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ. فَسَأَلَهَا عَنْ غُسْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْجَنَابَةِ؟ "فَدَعَتْ بِإِنَاءٍ قَدْرِ الصَّاعِ فَاغْتَسَلَتْ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا سِتْرٌ وَأَفْرَغَتْ عَلَى رَأْسِهَا ثلَاثًا" قَالَ: "وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذْنَ مِنْ رُؤوسِهِنَّ حَتَّى تَكُونَ كَالْوَفْرَةِ"(3). هذا لفظ مسلم(4).
وأما لفظ البخاري ففيه:" سمعت أبا سلمة، يقول: دخلت أنا وأخو عائشة على عائشة، فسألها أخوها عن غسل النبي صلى الله عليه وسلم: "فدعت بإناء نحوا من صاع، فاغتسلت، وأفاضت على رأسها، وبيننا وبينها حجاب" قال أبو عبد الله: قال يزيد بن هارون، وبهز، والجدي، عن شعبة، " قدر صاع"(5).
وأخرجه أحمد في مسنده بلفظ :"دخلت أنا وأخو عائشة من الرضاعة على عائشة، فسألها أخوها عن غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم " فدعت بإناء نحوا من صاع فاغتسلت، وأفرغت على رأسها ثلاثا، وبيننا وبينها الحجاب"(6).
وأخرجه النسائي بلفظ:"دخلت على عائشة رضي الله عنها وأخوها من الرضاعة، فسألها عن غسل النبي ، فدعت بإناء فيه ماء قدر صاع، فسترت سترا، فاغتسلت فأفرغت على رأسها ثلاثا"(7).
وتشبث بعض أهل الشبهات بكلام القاضي عياض - رحمه الله تعالى – لما قال : "ظاهر الحديث أنهما رأيا عملها في رأسها وأعالي جسدها مما يحل لذي المحرم النظر إليه من ذات المحرم, وكان أحدهما أخاها من الرضاعة كما ذكر, قيل: اسمه عبد الله بن يزيد , وكان أبو سلمة ابن أختها من الرضاعة, أرضعته أم كلثوم بنت أبي بكر . قال القاضي : ولولا أنهما شاهدا ذلك ورأياه لم يكن لاستدعائها الماء وطهارتها بحضرتهما معنى، إذ لو فعلت ذلك كله في ستر عنهما لكان عبثا ورجع الحال إلى وصفها له، وإنما فعلت الستر ليستتر أسافل البدن , وما لا يحل للمحرم نظره والله أعلم"(8).
وتبعه الإمام القرطبي، فقال: "ظاهر هذا الحديث أنهما أدركا عملها في رأسها وأعلى جسدها ، مما يحل لذي المحرم أن يطلع عليهِ من ذوات محارمه ، وأبو سلمة ابن أخيها نسباً ، والآخر أخوها من الرضاعة ، وتحققا بالسماع كيفية غسل ما لم يشاهداه من سائر الجسد ، ولولا ذَلِكَ لاكتفت بتعليمهما بالقول ، ولم تحتج إلى ذَلِكَ الفعل.......وإخبار عن كيفية شعور أزواج النبي  يدل على رؤيته شعرها ، وهذا لم يختلف في جوازه لذي المحرم ، إلا ما يحكى عن ابن عباس ، من كراهة ذلك"(9).
وتعقبه ابن رجب الحنبلي فقال:قوله: (( إن أبا سلمة كانَ ابن أخيها نسباً )) ، غلط ظاهر ؛ لأن أبا سلمة هو ابن عبد الرحمان بن أبي بكر هوَ القاسم .والظاهر : أن أبا سلمة كانَ إذ ذاك صغيراً دون البلوغ ، والآخر كانَ أخاها من الرضاعة "(10) أ.هـ
والحق أن تأويل القاضي عياض ثم القرطبي من بعده تأويل بعيد، لا ينسجم مع النصوص ولا ما عرف عن أمهات المؤمنين من الورع والحشمة، مع أقرارنا أن الإمامين قصدا الجمع بين ظاهر النصوص، لكن كلام الصحابي الذي شهد القصة صريح بأنهما لم يريا منها شيئاً فقال: (وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا سِتْرٌ) ، وفي رواية البخاري (حجاب)، ولا أدري من أين لهما تخصيص الستر أو الحجاب بموضع دون موضع من البدن؟ فالنص الصريح يدفع الاجتهاد المبني على الظن!
ثم اللغة لا تسعف هذا الرأي فالحجاب إذا أطلق يفهم منه كل الحجب، قال ابن منظور :"الحجاب: الستر. حجب الشيء يحجبه حجبا وحجابا وحجبه: ستره. وقد احتجب وتحجب إذا اكتن من وراء حجاب. وامرأة محجوبة: قد سترت بستر، وحجاب"(11).
فلا يفهم من قوله تعالى : وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنّ َ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ" الآية الأحزاب /53. أن تُسأل أم المؤمنين من خلف حجاب يظهر بعض بدنها؟! سيما أن القرآن فسر العلة من الحجاب (أطهر لقلوبكم ..)فأراد به حجاب النظر مطلقاً!
وجاء عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ، عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَى بَابَ امْرَأَةٍ عَرَّسَ بِهَا، فَإِذَا، عِنْدَهَا قَوْمٌ، فَانْطَلَقَ فَقَضَى حَاجَتَهُ فَرَجَعَ وَقَدْ خَرَجُوا فَدَخَلَ وَقَدْ أَرْخَى بَيْنِي وَبَيْنُهُ سِتْرًا فَذَكَرْتُهُ لِأَبِي طَلْحَةَ فَقَالَ: لَئِنْ كَانَ كَمَا تَقُولُ لَيَنْزِلَنَّ فِي هَذَا شَيْءٌ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ" .
فماذا يفهم من الستر ههنا؟ وهو ما يقوم مقام الباب الآن يعني يحجب النظر كاملاً. "فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم متنقبة كانت أو غير متنقبة"(12).
يقول القرطبي في تفسير هذه الآية:" في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب، في حاجة تعرض، أو مسألة يستفتين فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة، بدنها وصوتها، كما تقدم، فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يعرض وتعين عندها"(13).
وعلل الإمامان هذا القول أنّ عدم رؤية السائلين لغسل أم المؤمنين ومباشرتهما ذلك معارض بأصل القصة،:"ولولا أنهما شاهدا ذلك ورأياه لم يكن لاستدعائها الماء وطهارتها بحضرتهما معنى، إذ لو فعلت ذلك كله في ستر عنهما لكان عبثا ورجع الحال إلى وصفها له". وهذا تكلف ومشاححة في الفهم ! وعلى قاعدتهما هذه أيضاً كان ذكر الصحابي لـ( الستر) و(الحجاب) أيضاً عبثاً ؟ فلم يذكره لولا أنه قصد منه حجاب الرؤيا أصلاً؟
والحقيقة أنّ استشكال من استشكله هو لظنه أنّ الصحابيين جاءا ليستفسرا عن غسل النبيِّصلى الله عليه وسلم، وهذا غير صحيح، فليس مثل هذا الأمر يغيب عن مثلهما في ذلك الوقت، ولربما استغنيا بسؤال رجل من كبار الصحابة ! وإنما الاستشكال هو في مقدار الماء الذي يستعمله النبيُّ فهما لم يستوعبا أن يغتسل أحد بهذا القدر (لترين ونصف تقريباً) غسلاً تامّاً! والدليل عبارة "فَدَعَتْ بِإِنَاءٍ قَدْرِ الصَّاعِ". فالمطلوب معرفة (الكم) لا (الكيف)، وهو ما يكتفى به دون الحاجة إلى نظر السائل إلى طريقة الاغتسال.
ولذا بوّب الإمام البخاري على هذا الحديث (باب الغسل بالصاع ونحوه)، وبوب عليه الإمام النسائي :" باب ذكر القدر الذي يكتفي به الرجل من الماء".
وتأمل في فقه الإمام النسائي ودقته فبين أنه أرادا الكم لا الكيف، ثم تبينه انه للرجل وليس للمرأة مع أن السيدة عائشة هي من باشرت الاغتسال!فأم المؤمنين أرادت بيان الكم (المقدار) الذي يكفي الرجل،ولذا بين أبو سلمة أن شعور أمهات المؤمنين كانت قصيرة، فالمرأة لا يمكنها الغسل بالصاع لطول شعرها في العادة.
وكذا بوب عليه الإمام النووي "باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة" (14).
وقال العيني: " أي هذا باب في بيان حكم الغسل بالماء قدر ملء الصاع ؛ لأن الصاع اسم للخشبة فلا يتصور الغسل به" (15).
وقال ابن رجب:"والمقصود من إيراد هذا الحديث في هذا الباب : أن عائشة لما سئلت عن غسل النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - دعت بإناء قدر الصاع ، فاغتسلت به - وفي رواية : (( نحو الصاع )) - ، وهذا مما يدل على أن تقدير ماء الغسل ليس هوَ على وجه التحديد ، بل على التقريب ، وقد سبق التنبيه عليهِ ". ( 16)
فهؤلاء الأئمة وغيرهم أعرف بسياق الحديث.
ومما يقوي هذا أن الصحابي حينما ذكر :" وَأَفْرَغَتْ عَلَى رَأْسِهَا ثلَاثًا" . أراد أن يبين أنّ هذه الغرفات الثلاث ممكنة فعلله بقوله " وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ  يَأْخُذْنَ مِنْ رُؤوسِهِنَّ حَتَّى تَكُونَ كَالْوَفْرَةِ". يعني لم يحتج شعر رأسها إلى ماء كثير لأن أمهات المؤمنين كنَّ يقصرن شعورهنَّ بعد وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم كالوفرة، وهي إلى تقصير الشعر بحيث لا تجاوز الأذنين.
والغريب أن القاضي عياض جعل من قوله :"وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذْنَ مِنْ رُؤوسِهِنَّ حَتَّى تَكُونَ كَالْوَفْرَةِ".د ليلاً له على صحة رأيه في رؤيتهما لأم المؤمنين مباشرتها الغسل، فقال:" في هذا دليل بين على ما قلناه من رؤيتهما ذلك منها، ولا بأس لذي المحرم أن يرى شعر ذات المحرم منه وما فوق جبينها عند العلماء إلا ما وقع لابن عباس من كراهة ذلك"(17).
وأنى له ذلك ! بل قول أبي سلمة هذا ظاهر أنهما لم ينظراها بعين رأسيهما وإنما وصف حالة منقولة لهما، وإلا فهذا يعني أنهم رأوا كل رؤوس أمهات المؤمنين ؟؟ وهذا محال ! ولو صح أنهما رأيا شعرها لما جاز لهما أن يطلقا ذلك على سائر أمهات المؤمنين، ثم ادعاؤه أنهما رأيا (جبين) السيدة عائشة ينقضه وصفه (كالوفرة) وهي أدنى الأذنين؟ والله أعلم
وهو القائل :" والوفرة أشبع من اللمة، واللمة ما ألم بالمنكبين من شعر الرأس دون ذلك، قاله الأصمعى، وقال غيره: الوفرة أقلها وهى التي لا تجاوز الأذنين، والحمة أكبر منها، واللمة ما طال من الشعر. وقال أبو حاتم: الوفرة ما غطى الأذنين من الشعر، والمعروف أن نساء العرب إنما كن يتخذن القرون والذوائب، ولعل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم فعلن هذا بعد موته لتركهن التزين واستغنائهن عن تطويل الشعور لذلك وتخفيفا لمؤونة رؤوسهن"(18).
ولذا قال ابن رجب:" وقد روى هذا الحديث ابن وهب ، عن أسامة بن زيد ، أن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي حدثه ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمان ، قالَ : دخلت على عائشة ، فقلت لها : كيف غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة ؟ فقالت : أدخل معك يا ابن أخي رجلاً من بني أبي القعيس - من بني أخيها من الرضاعة - ، فأخبر أبا سلمة بما تصنع ، فأخذت إناء فأكفأته ثلاث مرات على يدها ، قبل أن تدخل يدها فيهِ ، فقالَ : صبت على يدها من الإناء يا أبا سلمة ثلاث مرات قبل أن تدخل يدها . فقالت : صدق ، ثم مضمضت واستنثرت ، فقالَ : هي تمضمض وتستنثر . فقالت : صدق ، ثم غسلت وجهها ثلاث مرات ، ثُمَّ حفنت على رأسها ثلاث حفنات ، ثم قالت بيدها في الإناء جميعاً ، ثم نضحت على كتفيها ومنكبيها ،كل ذَلِكَ تقول إذا أخبر ابن أبي القعيس ما تصنع: صدق.
خرجه بقي بن مخلد وابن جرير الطبري، وهذا سياق غريب جدا، وأسامة بن زيد الليثي ، ليس بالقوي .
وهذه الرواية تدل على أن ابن أخيها من الرضاعة اطلع على غسلها ، وهذا يتوجه على قول من أباح للمحرم أن ينظر إلى ما عدا ما بين السرة والركبة ، وهو قول ضعيف شاذ. ورواية ( الصحيحين ) تخالف ذَلِكَ ، وتدل على أن أبا سلمة وأخا عائشة كانا جميعاً من وراء حجاب"(19) .
2- كانت أمهات المؤمنين يلبسن الدرع في بعض الأحيان ، وهو ثوب واسع مخيط الطرفين تخرج منه اليدان والرأس، وهو يشبه اللباس الذي يطلق عليه بعض أهل الخليج اليوم ( الثوب ) . وهذا النوع من اللباس ، يتيح لأم المؤمنين عائشة الاغتسال دون نزعه .
3- إما الغلامان: فالأول :أخو السيدة عائشة، ووقع خلاف في تعيينه، فقد جاء مرة أنه أخوها من الرضاعة، كما في مسلم –وغيره-، ومرة أنه أخوها بلا تقييد، كما في البخاري وغيره، فذهب الداودي إلى أنه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق. وقيل: هو أخوها لأمها، وهو الطفيل بن عبد الله. قال الحافظ في الفتح:" ولا يصح واحد منهما لما روى مسلم من طريق معاذ والنسائي من طريق خالد بن الحارث وأبو عوانة من طريق يزيد بن هارون كلهم عن شعبة في هذا الحديث أنه أخوها من الرضاعة.وقال النووي وجماعة إنه عبد الله بن يزيد معتمدين على ما وقع في صحيح مسلم في الجنائز عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد رضيع عائشة عنها فذكر حديثا غير هذا ولم يتعين عندي أنه المراد هنا لأن لها أخا آخر من الرضاعة وهو كثير بن عبيد رضيع عائشة روى عنها أيضا وحديثه في الأدب المفرد للبخاري وسنن أبي داود من طريق ابنه سعيد بن كثير عنه وعبد الله بن يزيد بصري وكثير بن عبيد كوفي فيحتمل أن يكون المبهم هنا أحدهما ويحتمل أن يكون غيرهما والله أعلم"(20).
فعلى كل حال هو أخوها من النسب أو الرضاع.
والأخر هو :أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف فإن عائشة –رضي الله عنها- خالته من الرضاعة؛ أرضعته أختها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق.
وكان أبو سلمة وقتئذٍ صغيراً، وكانت أم المؤمنين في أواخر عمرها رضي الله عنها ، فذكر ابن سعد وغيره من أهل التاريخ والسير أن أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف توفي بالمدينة سنة أربع وتسعين فِي خلافة الوليد، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة.وهذا يعني أنه ولد تقريباً سنة اثنتين وثلاثين للهجرة، ، علماً أنا أبا حاتم نصّ على أنه لم يسمع من أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها، وهي توفيت سنة سبع وأربعين للهجرة، وقال علي ابن المديني وأحمد وابن مَعِين وأبو حاتم ويعقوب بن شيبة وأبو داود: حديثه عن أبيه مرسل، قال أحمد: مات وهو صغير.وقال أبو حاتم: لا يصح عندي. وقال أحمد: لم يسمع من أبي موسى الأشعري.
وقال أبو زرعة: هو عن أبي بكر مرسل. وقال البخاري: أبو سلمة عن عمر منقطع. وذكر المزي أنه لم يسمع من طلحة ولا من عبادة بن الصامت، ولئن كان كذلك فلم يسمع أيضا" من عثمان ولا من أَبي الدرداء، فإن كلا منهما مات قبل طلحة (21).
وعندها سيكون حضوره القصة بعد سنة 47هـ أي أن عمر عائشة رضي الله عنها سيكون فوق 54 سنة ؛ فسماعه لعائشة سيكون بعد ذلك بمعنى أنها كبيرة في السن فلا حرج في تعليمها لمحارمها من وراء حجاب يستر العورة .
فإيراد الشبهة على المؤمنين من خلال هذا الحديث ليس بوارد،-ولا من غيره- فالسيدة عائشة وهي أم المؤمنين أرادت تعليم الغلامين ما أشكل عليهما من مقدار الماء الذي يكفي للغسل، فهما بعد ما يزيد على عقد من الزمن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لم يستوعبا كفاية (صاع) أو نحوه للغسل،فدعت بماء قدر الصاع واستترت واغتسلت، ولعل معترض يقول لم اغتسلت به، إنما كان يكفيها أن تشرح بلسانها أو تدلهما على من يفعل ذلك؟ فالجواب : أن الشرح لا يرفع الإشكال الذي استشكل على الغلامين، لأن موطن العلة الصاع من الماء، فلابد من الفعل كيما يرفع الإشكال.
وأما لم فعلت ذلك: فالغسل بالصاع ليس بمقدور كل أحد، ولذا فان الغلامين استشكلاه، وأتيا أم المؤمنين يسألنهما؟ فالغسل مسألة خاصة بالإنسان لا يطلع غيره عليها، فالناس تحتاج إلى بيان فيه وليس كمثل الأعمال الظاهرة، وليس كل إنسان يطيق الاغتسال بصاع، ومن ذلك :ما أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث جبير بن مطعم قال: تماروا في الغسل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعض القوم: إني لأغسل كذا وكذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فأفيض على رأسي ثلاث أكف"(22 ).
ومنه ما أخرجه الشيخان والنسائي عن أبي جعفر قال: تمارينا في الغسل عند جابر بن عبد الله، فقال جابر: "يكفي من الغسل من الجنابة صاع من ماء". قلنا ما يكفي صاع ولا صاعان. قال جابر:" قد كان يكفي من كان خيرا منكم وأكثر شعرا" (23).
فلذا اضطرت السيدة عائشة لتطبيقه عملياً في مغتسلها وبين نسائها مع اطلاع الغلامين على مقدار الغسل بالصاع من وراء الحجاب.
علماً أن استصحاب حال أمهات المؤمنين خاصة ومجتمع المدينة آنذاك عامة، لا يستسيغ أن تغتسل الحرة إمام أهل بيتها بلا حجاب يحجبها تماماً، فكيف بمن دونهم، بل ولا حتى الرجال! فما عرف مثل ذلك عمن دون أمهات المؤمنين قدراً فكيف تفعله المأمورات بحجاب الصورة والصوت!؟
وقد طار بهذا الاستشكال بعض أهل الزندقة وأفراخهم للطعن بأم المؤمنين وهو طعن بعرض النبي باللازم، وتشبثوا ببعض التحريفات التي أملاها عليهم شيطانهم، خابوا وخسروا.
.............................. .............
(1 ) كما فعل د. عداب الحمش في أطروحة الدكتوراه (الوحدان ومروياتهم في الصحيحين) وعدنان إبراهيم في خطب مسجلة مبثوثة، ومن قبلهما جمال البنا.
( 2) وهم كثر على مواقع المبتدعة.
( 3) صحيح مسلم (320)، ومن طريقه أخرجه أبو نعيم في المستخرج (720) .
(4 ) قدمنا طريق مسلم لما فيه من زيادة ألفاظ ولتعلق الشبهات ببعض تلك الزيادة .
(5 ) صحيح البخاري (251).
( 6) أخرجه أحمد 6/96، و6/115،و6/ 161 ومواضع أخرى، ومن طريقه أخرجه أبو عوانة (851) .
( 7) المجتبى 1/127، وفي الكبرى (227) .
(8 ) إكمال المعلم 2/163.
(9 ) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 1/582-583.
( 10) فتح الباري 1/249.
( 11) لسان العرب فصل الحاء المهملة 1/298.
( 12) تفسير البغوي 3/657.
(13 ) تفسير القرطبي 14/224.
( 14) شرح مسلم 4/2.
( 15) عمدة القاري 3/196.
(16 ) فتح الباري 1/ 249.
(17 ) إكمال المعلم 2/163.
(18 ) إكمال المعلم 2/163-164.
( 19) فتح الباري 1/250.
(20 ) فتح الباري 1/286، وينظر شرح النووي على مسلم 4/4.
(21 ) ينظر: المراسيل ص 255، وجامع التحصيل( 378) وتهذيب الكمال 33/376.
(22 ) أخرجه البخاري (254) ومسلم (32)،والنسائي 1/135 -واللفظ له-.
(23 ) أخرجه البخاري(252)،ومسل (329)، والنسائي 1/ 127 -واللفظ له