معالم السعادة في ربيع العمر



تهاني الشروني



التقطت أنفاسها.. وألقت نظرة سريعة متأملة على ما مضى من العمر، على مشوار الحياة.. واجبات أدتها، وثمرة أوشكت على جنيها.. إنها الآن في محطة ( ربيع العمر)، ليست الأكثر صخبا وانشغالا، ولا الأشد إجهادًا ومطالبات.. ولكنها المرحلة الأكثر حاجة إلى العناية والاهتمام والاغتنام.

حين تصل المسلمة إلى ( ربيع العمر) عليها أن تعي وعيًا حقيقيًا أنها أخيرًا سيكون اهتمامها بتزويد نفسها، والعطاء لها، وأن تشغل كل لحظة من حياتها فيما يعود عليها بالراحة والطمأنينة فهذا أوان التزود من العمل الصالح، والانشغال بذكر الله، والجد في التحصيل.

إنه الزمان الذهبي.. خفت عنكِ الأعباء، ووُضعت المسئوليات فاغتنمي أن تعوضي ما قد فاتك، واعلمي أن السعادة في هذه المرحلة اقرب إلى التحقيق من أي مرحلة، وستجدين فيها المتعة الحقيقية، وحتى يتحقق ذلك إليكِ بعض النصائح:

أولاً: لابد أن تكون لكِ صحبة طيبة من أخوات صالحات لهن نفس اهتمامتك ويردن اكتسبك أوقاتهن في مرضاة الله، لا يشغلنّك بتوافه الأمور على الدوام، أو يضعنك في مجالس غيبة ونميمة وإيغار للصدر.

ثانيًا: تخيري من بين الصالحات صديقة تكون أقرب روحا إليكِ، تتواصى معك بالحق والصبر.

ثالثًا: عليكِ بتنظيم وقتك تنظيما دقيقا وأن يشتمل هذا التنظيم على ما يعود عليكِ بالفائدة البدنية والعقلية والنفسية والروحية.

فمثلا من الناحية البدينة:

ينصح الأطباء بممارسة الرياضة الخفيفة ، فأقبلي على هذا الأمر، ولعل رياضة المشي هي الأنسب، فهي من أفضل الرياضات وأكثر تأثيرا إيجابيا على الحالة النفسية، ويمكنكِ السير داخل البيت مع التسبيح والاستغفار.

وعليكِ أن تحافظي على صحتك، بالإكثار من شرب الماء، والتقليل من الأكلات الدسمة والنشويات.

ومن الناحية العقلية:

هناك العديد من الفعاليات الجيدة مثل مشاهدة برنامج مفيد، أو قراءة كتاب جيد، أو تعلم أحكام تلاوة القرآن.

ومن الناحية النفسية:

لا تحبسي نفسك داخل جدران البيت، وإن كنتِ تميلين إلى هذا وتركنين لراحته، فبين الحين والآخر اخرجي في نزهة مع بعض أفرد أسرتك المقربين، أو زوري صديقة، أو استقبليها.

ولا تثقلي نفسك بالأفكار السلبية، أو الانشغال بأوجاع الجسد وآلامه، فكل الناس متعب، حتى الصغار والشباب.. فلا تستسلمي لهواجس المرض، واجعلي من صفاء نفسك، وإشراق روحك بالتفاؤل وحسن الظن بالله شفاء للأسقام، وبلسمًا للآلام.

ومن الناحية الروحية:

احرصى أن يكون لك وقت خاص، وعبادة في الخفاء، واغتنام للأسحار، إنه أفضل الأوقات فلا تهدريه بالنوم أو التفكير المؤرق، بل قومي لمناجاة ربكِ ودعائه واستغفار، فقد مدح الله تعالى المستغفرين بالأسحار.



رابعًا: لا تجعلي شيئا يخرجك عن تنظيمك لحياتك الجديدة إلا الضرورات، وهذه يستعان عليها بالله، ثم بما قد يكون لك من رصيد الأعمال الصالحة، والمداومة عليها، فأحب العمل إلى الله أدومه وإن قلّ.

وفي هذه المرحلة لا يكفي ألا تؤخري عمل اليوم إلا الغد، بل المبادرة بعمل الغد اليوم.. فإذا كان وردك اليومي قراءة جزء من القرآن الكريم، فمع تنظيم الوقت يمكنك أن تجد متسعا لقراءة جزأين، وهو ما يجعلك في حال ورود عارض يشغلك، قادرة على التعامل معه بهدوء بال متزودة بوقود الإيمان والعمل الصالح.

خامسًا: لا تقسي على نفسك وتظني أنه ليس لكِ حق في الترويح المباح، ولا التمتع بزينة الله التي أحلها لنا فاجعلي لذلك قسطًا من الوقت يكن تجديدا لنشاطك واستعادة لحيويتك.

سادسًا: اعلمي أن المرأة المسلمة الصالحة لا تعاني من الفراغ ولا من الملل فالوقت مشغول بكثير من الأعمال، والغنيمة فيه هي الهدف والتزود منه هو ما ترجينه بل إن دعاء المرأة المسلمة هو اللهم بارك في الأوقات والأعمال.

سابعًا: أختي الفاضلة.. في كل ما سبق لا تنسي تقديم النية الصالحة قبل كل شيء مستعينة بالله أن يرزقك الإخلاص والتوفيق.

قدوة وهمة

إذا أردنا أن نرى نماذج لمسلمات صالحات كانت مراحل حياتهن كلها مرضاة لله وبخاصة مرحلة ربيع العمر فلنا في أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن القدوة الصالحة وعلينا أن نتدارس سيرتهن، ولنا كذلك في نساء السلف ما يفيض علينا من الهدى والنور فيما يتعلق بكيفية شغل أوقاتنا.

وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "الخير في وفي أمتي إلى يوم الدين" فتاريخنا بل وواقعنا يحوي الكثير من قصص الناجحات الصالحات اللاتي نستطيع أن نتلمس خطاهن، وفي محيط كل منا نماذج تلوح فيها دلائل الصدق مع الله عز وجل والتوفيق.

فهذه امرأة في الخامسة والستين من عمرها..لم تنل كثيرا من العلم بل إنها تتعتع في القراءة، ولكنها عقدت العزم على قراءة كتاب الله وتعلمه رغم أنها كانت لا تجيد حتى الترديد وراء معلمة القرآن وأحيانا كثيرة كان الشيطان يحاول أن يثنيها عن عزمها وأن يصدها عن هذا الفضل، ولكنها بفضل من الله، وصدق معه، سألت عن معنى قوله تعالى : {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}، فعلمت أن الله يدعوها لتكون من الذاكرين والذاكرات، فكانت تصد كيد الشيطان، ومنّ الله عليها بالصحبة الصالحة وأدركت أنه وإن كان اللسان يصعب عليه في الكبر أن ينطق الكلمات بشكل صحيح إلا أنه بالتمرين والمواظبة والمثابرة استطاعت تلك المرأة أن تخرج الحروف بشكل صحيح، ومازالت تحاول فتوفق أحيانًا وفي أحيان أخرى تحتاج إلى جهد أكبر وهي تدعو الله طوال الوقت أن تكون من الحاملين لكتاب الله سبحانه وتعالى، وقوّى عزمها قوله صلى الله عليه وسلم: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة -يعني: من الملائكة- والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق؛ له أجران". متفق عليه