تعقيبا على مقال


نحو نظرية نقدية للخطبة المنبرية"


خطبة الجمعة


الإرث التاريخي والدور المنتظر


شعبان السيد


جذبني في العدد السابق من "الوعي الإسلامي"مقال "نحو نظرية نقدية للخطب المنبرية" للكاتب عامر أحمد عامر, الذي تحدث عن "خطبة الجمعة"وما ينبغي أن نوليها إياه من عناية فاحصة ودراسة ناقدة , سعيا إلى تأسيس نظرة جديدة إلى هذه الشعيرة السامية التي تمارس تأثيرا مباشرا في الواجدان الجمعي للمسلمين منذ ما يزيد عن أربعة عشر قرنا.
ولعل أهمية المقال المذكور تنبع – بداية - من جرأته على الولوج إلى هذه الشعيرة الركينة, التي هي من أكثر الأنشطة الدينية في حياة المسلمين علوا وخطرا وأثرا في وقت معا, وإن ظلت قدرة المقال على تحقيق التأثير المبتغي رهنا بحصيلة الجدل المتوقع اشتعاله حول هذا الموضوع المفرط في الحساسية, إذ يستطيع المرء التكهن بالانقسام المنتظر حيال الرغبة في التغيير في "خطبة الجمعة", بين فريق يلاقيها بحفاوة واستبشار, وفريق يجابهها بامتعاض ورفض.

وربما كان مما يزيد صعوبة البحث النقدي في هذه القضية الشائكة, المكانة السامية التي تتسنمها خطبة الجمعة في حياة المسلمين, وكذلك الإرث التاريخي الثقيل الذي تراكم على كاهلها منذ ما يزيد على أربعة عشر قرنا, في الشكل والمضمون على السواء, ومن ثم سينشب التجاذب بين من يعتبرون خطبة الجمعة شعيرة يجب أن يحافظ الجميع على ثباتها شكلا ومضمونا, معتقدين أن أي تغيير لتقاليدها الراسخة هو اعتداء علي مكانتها وجوهرها, ومن يعتبرون هذه الخطبة رسالة إبداعية إنسانية, شأن سائر ألوان الخطاب الإبداعي, أو هكذا ينبغي, بحيث لا تتعارض قداستها مع أن تتفاعل مع متغيرات عصرها, وظروف واقعها وملابساته, وأن تشتبك مع ما يكتنف حياة الناس من مشكلات وظروف, وما يشغل عقولهم من آمال وتحديات.
وفي تقديري أن القضية على جانب كبير من الخطر والدقة, مما يوجب التسلح بالحصانة والحيطة في مناقشتها, ذلك أن خطبة الجمعة في نهاية المطاف تقليد إبداعي موغل في القدم, وهو كذلك مزيج بين ما هو ثبات كالنص الديني من قرآن وحديث شريف, وما هو متغير من سمات أسلوبية وخصائص تعبيرية ومضمون ثقافي, وإذا كان الثبات في الجانب الأول يوجب أن تستند مقاربته إلى ما هو خليق بقدسيته من دراية واسعة وإلمام عميق ومعرفة بأصوله وفروعه, فإن قابلية التغير في الجانب الثاني من الخطبة تستلزم مراعاة المستجدات المعرفية في عصرها وضرورة أن تستجيب الخطبة لقضايا واقعها, ومعايشة ما يفرض نفسه على حياة الناس من مسائل متجددة ومناهج لرؤية الواقع هي بطبيعتها تتباين في كل زمن, وتتغاير في كل قطر.
وبناء على ما سبق ينعدم المبرر المعقول للاستسلام لما درج عليه كثير من الخطباء, إذا يخفقون في الانفلات من أسر الإرث التقليدي الذي تحمله خطبة الجمعة من سمات أسلوبية وطرق للأداء ومسالك في مخاطبة الناس, وهذا البقاء في أسر التقليد يأوي إليه البعض إما انصياعا للمألوف, وإما خشية من تغييره, حتى أضحى المسلم في حياتنا المعاصرة يعيش ما قدر له من حياة لا يجد فارقا كبيرا – وربما قليلا – بين خطبة سمعها وهو في الخامسة عشرة من عمره وخطبة سمعها وهو في الستين, على رغم الاختلاف الكبير في سيول المياه التي مرت يقينا من تحت جسر الواقع في هذا البون الشاسع من الزمن!
أليس الجمود الذي تتسم به خطبة الجمعة يمثل أزمة حقيقية، في إطار ما يمكن تسميته أزمة الخطاب الإسلامي, في التقاصر عن أداء الدور المنوط به والمنتظر منه على صعيدي الداخل والخارج, صيانة لمقدرات العالم الإسلامي وهويته في عصر يموج بتحديات كبرى تقف وراءها وتغذيها "ميديا" إعلامية مسلحة بتقنية فائقة من ناحية, ومفاهيم غريبة قليلها نافع, وأكثرها يتخاصم مع ثوابتنا, فضلا عن أن يهدد وجودها ذاته.
في ظل هذا الصراع الذي يبدو ناعما أحيانا, وإن كانت نعومته الخادعة لا تخفي ضراوته الطاحنة, يروع المتتبع لما يلقي في مساجدنا من خطب الجمعة في عصرنا هذا, تقادم المضامين التي تدور حولها هذه الخطبة, إلى حد أنه بدت منفصلة عن قضايانا الحالية انفصالا تاما, فبينما يخوض العالم الإسلامي معركة وجود أمام تهديات العولمة, وتقف جمهرة الشباب المسلم حائرة تجاه هذا الفيضان العولمي الذي يغمره من كل صوب, نجد خطبة الجمعة لا تزال تخاطب الناس بقضايا وكلمات وتعايير تراكم عليها غبار الزمن, فصارت غريبة في عصرنا غربة فارس عاد من زمن قديم يحمل سيفا ويمتطي جوادا, وقد أراد النصر في معركة معاصرة, غير منبه إلى أن سلاحه البدائي لم يعد يجديه نفعا إزاء أسلحة العصر من قنابل وصواريخ.
في عصرنا هذا تتعين إعادة النظر في خطبة الجمعة في إطار تقويم منظومة الخطاب الإسلامي برمته, ذلك أننا يجب أن نحول هذه الخطبة إلى مؤسسة إعلامية فاعلة في حياة المجتمع والإنسان في عالم الإسلام, وهو ما لا يتأتي إلا إذا خرجنا بها عن تقليديتها, وخلصناها من جمودها الذي تئن تحته منذ عقود وقرون.. فإنسان عصر الفضاء والانترنت والتراكم العلمي المذهل لم يعد يرضي بخطبة جمعة مستعارة من عصور غابرة, تناقش قضايا تجاوزها الزمن, وتصطنع أسلوبا تكالبت عليه أمراض الشيخوخة, فلم يعد قادرا على تقديم فائدة, ولا اجتذاب عقل, ولا استمالة قلب.
أخيرا, لعل مقالة " نحو نظرية نقدية للخطب المنبرية" تفتح نافذة علمية لدراسة هذه القضية المهمة فقد حان الوقت كي تخرج خطبة الجمعة من قمقمها القديم الذي حبستها فيه ثقافة التقليد لتبدأ, في استنشاق هواء جديد, يتيح لها أن تجدد حياتها وقدرتها على مواجهة العصر الحالي بثقافته المختلفة وإنسانه المغاير, ويصبح في وسعها قيادة المسلمين إلى تبني العقيدة الصحيحة وإعلاء شان العقل والعلم، والشجاعة في مواجهة الآخر بغير وجل ولا استعلاء, وحفز المسلمين على تحقيق التعايش بين الدين والعلم, حتى يمكن للمسلم – في وقت واحد – أن يتمسك بإسلامه بينما يظل عنصرا متصالحا مع عصره, مؤثرا في عالمه وفاعلا في ارتقاء حضارته.