الإدماج في القران الكريم
"قراءة تحليلية بيانية نقدية في تفسير التحرير والتنوير"
د. المثني عبد الفتاح محمود محمود[·]
ملخص البحث:
تقوم فكرة البحث على دراسة الإدماج في تفسير التحرير والتنوير من زاوية تحليلية بيانية نقدية، والإدماج فن من فنون البلاغة القرآنية العالية، التي قل التنبيه عليها من قبل المفسرين حتى بلغت حد الإهمال بل النسيان، وقد لقيت اهتماما بليغا عند إمام مفسري المغرب بلا منازع، فالبحث له هدفان اثنان:
الهدف الأول: دراسة الإدماج دراسة علمية في التحرير والتنوير.
والهدف الثاني: إبراز فن الإدماج في القران الكريم.
وقد قام البحث على ثلاثة جوانب اساسية، وهي: الجانب النظري، والجانب التحليلي، والجانب النقدي.
والذي يعني الباحث بالدرجة الأولى لفت الأنظار إلى هذا الفن المنسي عند عموم الباحثين في الدراسات القرآنية عموما، والبلاغة القرآنية على وجه الخصوص، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
الكلمات المفتاحية:
(الإدماج - البيان القرآني - البلاغة القرآنية - تفسير التحرير والتنوير - مناهج المفسرين)
المقدمة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله، وعلى أله ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين وبعد.
فإن البحث في القران العظيم منقبة شريفة، ومسلك قويم، ومتعة ذهنية رفيعة، ومنزلة علية انيقة، تضمنت متعته نوادر، وأدمجت منزلته فرائد، حتى اطبقت معانيه الواضحات على مضامين ثنايا كلماته الباسمات، فبانت منه إشراقة نفس، وفاحت منه رائحة مسك.
وقد تتبعت تلكم الروائح الزكيات، انوف علماء خبروا مراميه، فتعودوا منه ما لا يطيقون بعده البعد، ولا يستطيعون دونه القرب، فكانوا منارات الفهم، ومتون العلم، وهم يدركون انهم عن إذن المولى نهضوا، وعن رضاه انطلقوا.
ولا يزال الباحثون ينقبون عن فرائده ونوادره، على توالي الأيام وتطاول الأزمان، وقد بز ابن عاشور رحمه الله تعالى المعاصرين فضلا عن المتقدمين، في باب من أبواب البلاغة القرآنية، وصرح من صروح المعاني السياقية، ومشهد من مشاهد الفهم الدقيق، والعلم الأنيق، فحرك قلمه صوب فن بلاغي، غفل عنه المتقدمون إلا ما شاء الله تعالى، وهي مزية لا تتحصل إلا لمن اراده الله بخير.
وهذا الأسلوب البياني العظيم الذي سماه البلاغيون "الإدماج"، اولاه الطاهر بن عاشور عناية كبيرة، حيث كانت رعايته في الجانب التطبيقي الذي يستأهل معه الوقفة التحليلية النقدية، بما يحقق الغرض العلمي من هذا البحث، وهو الكشف عن نوع من المعاني قديم، عرفه النقاد العرب، وعالجته السن العرب الأقحاح، وهو وفير في كتاب الله تعالى بما يخدم اسلوبا من اساليب الإقناع الضمني للمتلقي، بما يقنع بواطن العقول قبل ظواهرها، وهو بالتالي يكشف قيمة نفسية نفيسة اتى عليها القران الكريم عند نزوله، وهو ما يفسر لنا ذلكم السر الذي جعل العرب تخر راكعة في لحظة زمانية حاسمة، استمرت بعدها على دين الله تعالى، بما يجمع بين تسليم الظاهر وإقناع الباطن، وهو منهج في الدعوة لم يقف على دراسته الباحثون الجادون إلا بكتابات يسيرة، تتسم باليسر والسهولة، بالإضافة إلى سرعة الإنجاز، ووفرة الإنتاج.
ويكمن هدف البحث في إبراز جهد ابن عاشور رحمه الله تعالى في تعاطيه مع أسلوب الإدماج، بما يحقق رغبة جموحة عند الباحث في إبراز هذا اللون على ساحة الاهتمام، لتنصب الدراسات العلمية الجادة، في المجال العقدي والنفسي والاجتماعي والدعوي، فيحقق غاية علمية فكرية، يكون لها نصيب من الجهد والفكر والعمل، وقد جاء البحث
في مقدمة ومباحث ثلاثة وخاتمة، والمباحث على النحو الاتي:
المبحث الأول: تعريف الإدماج، وهو في مطالب اربعة.
المبحث الثاني: اغراض الإدماج، وهو في سبعة مطالب.
المبحث الثالث: الجانب النقدي، وفيه مجموعة من الأمثلة التي تبين المقصود.
والله اسأل ان يجعله في ميزان حسناتي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من اتى الله بقلب سليم.
المبحث الأول
تعريف الادماج
سأتناول تعريف الإدماج لغة واصطلاحا، وتاريخ المصطلح في كتب القوم، وما مر به من تطور في لفظه إلى استقراره، ثم بيان التعريف المنضبط الذي يتناسب مع علو درجة القران وارتفاع رتبته.
المطلب الأول: تعريف الإدماج لغة
تعد المفهوم اللغوي الأساس الرصين للمعنى الاصطلاحي، فوشائج القرابة بينة واضحة، بل إن بيان خيوط التواصل بينهما من صلة الرحم العلمي الذي يؤجر عليه الباحث، لما في ذلك من توثيق الصلة بين المعاني؛ لتقوية الرابطة المعرفية بين لغة العرب، ولغة العلم، وهذا ما يثبت لنا مدى اصالة العلم الشرعي عموما، والعلم القرآني خصوصا، فكيف إذا كان الأمر متعلقا بالبيان القرآني؟ فالأمر يزداد بهاء وجمالا، وسنقف مع طائفة من اقوال اللغويين، في اصول المعاجم التي تحدثت عن مادة "دمج"، ثم نبني على ما قالوا من معان.
ونبدأ بالفراهيدي -رحمه الله تعالى -حيث يقول: "دمجت الأرنب تدمج في عدوها، وهو سرعة تقارب القوائم، ومتن مدمج، وأعضاء مدمجة، كأنها ادرجت وملست كما تدمج الماشطة مشطة المرأة إذا ضفرت ذوائبها، وكل ضفيرة منها على حيالها تسمى دمجا واحدا، ويقال: دمج في بيته، اي: دخل، والدموج الدخول"([1]).
وجاء في تهذيب اللغة: "قال ابو عمرو([2]): ليلة دامجة، وليل دامج اي: مظلم، وقال الأصمعي: تدامج القوم على فلان تدامجا، إذا تضافروا عليه، وصلح دماج اي: محكم، وقال ذو الرمة:
وإذا نحن اسباب المودة بيننا دماج قواها لم يخنها وصولها([3])
وادمج في الشيء إدماجا، واندمج فيه اندماجا إذا دخل فيه"([4]).
ويقول الجوهري: "دمج الشيء دموجا، إذا دخل في الشيء واستحكم فيه، وكذلك اندمج وادمج بتشديد الدال، قال ابو عبيد: كل هذا إذا دخل في الشيء واستتر فيه، ونصل مندمج، اي: مدور، وتدامجوا عليه، اي: تعاونوا، وليل دامج، اي: مظلم" ([5]).
ويؤصل ابن فارس لهذا الجذر بقوله: "الدال والميم والجيم أصل واحد يدل على الانطواء والستر، يقال: ادمجت الحبل، إذا ادرجته واحكمت فتله"([6]).
اما الزمخشري: فنستطيع ان نقف معه لنرى مجاز هذا اللفظ عنده، حيث يقول: "ومن المجاز: دمج امرهم: صلح والتأم، وصلح دماج ودماج: محكم، وقال ذو الرمة:
وإذا نحن اسباب المودة بيننا دماج قواها لم يخنها وصولها
اي: مدمجة، ودامجتك على هذا الأمر: وافقتك عليه، وتدامجوا عليه: توافقوا، وتدامج القوم علي: تألبوا.
ووجد البرد فتدمج في ثيابه: تلفف، وليل دامج: دامس ملتف الظلام قد دمج بعضه في بعض، وادمج كلامه: اتى به متراصف النظم، واندمج الفرس: انطوى بطنه وضمر"([7]).
ونستطيع ان نلخص المعاني اللغوية الواردة في الكلام المتقدم بما يأتي: الإدماج هو الإدخال، وأن كان الإدماج يفترق عن الإدخال، بأن الإدماج إدخال شديد مستحكم فيه ستر وتغطية، بحيث يخفى على الناظر" كأن المدمج والمدمج فيه شيء واحد لا يفترقان.
فالإدماج مفهوم استقر في ذهنية العربي على إدخال شيء في شيء بإحكام، بحيث يصبحان شيئا واحدا، يستتر الشي والمدمج في المدمج فيه بحيث يخفى على الناظر لأول وهلة، وعليه نستطيع ان نطبق هذا الكلام في المعاني، فنقول: الإدماج هو إدخال معنى في معنى بإحكام نظم، بحيث يلحق الثاني بالأول كأنه هو.
المطلب الثاني: تعريف الإدماج اصطلاحا:
مر مصطلح الإدماج بعدة اسماء قبل دخوله عنق زجاجة مدرسة السكاكي([8]) واستقراره فيها، فقد ذكره ابو هلال تحت اسم المضاعفة فقال: "في المضاعفة: وهو ان يتضمن الكلام معنيين، معنى مصرح به، ومعنى كالمشار إليه، وذلك المضاعفة مثل قول الله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ) (يونس:42-43)، فالمعنى المصرح به في هذا الكلام: انه لا يقدر ان يهدي من عمي عن الآيات، وصم عن الكلم البينات، بمعنى انه صرف قلبه عنها، فلم ينتفع بسماعها ورؤيتها، والمعنى المشار إليه: انه فضل السمع على البصر" لأنه جعل مع الصمم فقدان العقل، ومع العمى فقدان النظر فقط"([9])، وسر تسمية هذا الأسلوب بالمضاعفة عند العسكري: ان المعنى الأصيل الذي سيق له الكلام اصالة تضاعف إلى معنى فرعي مضمن، فكان ذلك كالتضعيف.
ثم جاء ابن رشيق فسماه باسمه المتعارف عليه، ولعله اول من دونه من أصحاب الكتب النقدية- فيما اطلعت عليه - وعده من باب الاستطراد فقال: "ومن الاستطراد نوع يسمى الإدماج... ثم قال: وهذا النوع اقل في الكلام من الاستطراد المتعارف واغرب"([10]).
اما اسامة ابن([11]) منقذ: فقد ذكره تحت باب التعليق والإدماج وقال: "اعلم ان صيغة ذلك هو ان تعلق مدحا بمدح او هجوا بهجو، ومعنى بمعنى" كما قال المتنبي:
إلى كم ترد الرسل عما اتوا له كأنهم فيما وهبت ملائم ([12])
أدمج رد الرسل برد الملام في الجود، فكلاهما مديح وقوله ايضا:
حسن في عيون اعدائه اق بح من ضيفه رأته السوائم ([13])
أدمج الحسن في القبح وكلاهما مدح، ووصفه بالكرم لأن إبله إذا رات ضيفه علمت انه سينحرها... ثم قال: وعلامة هذا الباب ان يكون أحد المعنيين تلويحا والأخر تصريحا" ([14])، ويتضح لنا ان ابن منقذ افاد مما ذكره ابو هلال في الصناعتين، ولذلك نجد متابعة له فيما ذكر، من حيث يكون الأول تصريحا والثاني تلويحا.
وقال ابن ابي الأصبع: "وهو ان يدمج المتكلم غرضا له في ضمن معنى قد نحاه من جملة المعاني "ليوهم السامع انه لم يقصده، وإنما عرض في كلامه لتتمة معناه الذي قصد إليه"([15])، والملاحظ ان ابن ابي الإصبع اضاف قيدا وهو إيهام المتكلم السامع انه لم يقصد إدماج غرض في غرض، وإنما جاء في كلامه عرضا، وتابعه عليه النويري بلفظه ([16]).
وقال الطيبي: "وهو ان يضمن كلاما سيق لوصف وصفا اخر، وهو أخص من الأول، وأعم من الثاني" ([17]).
اما الخطيب القزويني في الإيضاح: فقد وضع تعريفا وجد قبولا لدى الشراح فقال: "وهو ان يضمن كلاما سيق لمعنى معنى اخر"([18])، وتابعه عليه السعد في المختصر([19]) والمطول ([20])، والسبكي ([21])، والمغربي([22])، مع ملاحظة ان السكاكي لم يشر إليه في مفتاحه، فتكون الإضافة من قبل الخطيب على المفتاح، وهي ضمن تلخيصه عليه.
وهذا ما يكشف لنا النقاب في سبب من اسباب متابعة الشراح لتلخيص المفتاح، فقد كان الخطيب محققا مدققا متنبها لفرائد فاتت السكاكي رحمهم الله جميعا، وهذه بعض تعريفات لمن كتب في التعريفات والحدود:
قال الجرجاني: " الإدماج في اللغة: اللف، وإدخال الشيء بالشيء، يقال: أدمج الشيء في الثوب إذا لفه فيه، وفي الاصطلاح: ان يتضمن كلام سيق لمعنى- مدحا كان او غيره - معنى اخر، وهو اعم من الاستتباع ([23])؛ لشموله المدح وغيره، واختصاص الاستتباع بالمدح" ([24]).
وقال ابن حجة الحموي: "هو ان يدمج المتكلم غرضا له في ضمن معنى قد نحاه من جملة المعاني؛ ليوهم السامع انه لم يقصده، وإنما عرض في كلامه لتتمة معناه الذي قصده"([25]).
وقال المناوي: "الإدماج لغة: إبهام الكلام، يقال: أدمج كلامه ابهمه، وعرفا: تضمين كلام سيق لمعنى - مدحا او غيره - معنى اخر، وهو اعم من الاستتباع "لشموله المدح وغيره بخلافه" ([26]).
وقال ابو البقاء: "الإدماج هو في البديع ان يدمج المتكلم غرضا في غرض، او بديعا في بديع، بحيث لا يظهر في الكلام إلا أحدهما كقوله تعالى: (لَه الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ) (القصص:70) فإن الغرض تفرده سبحانه بوصف الحمد فأدمج فيه الإشارة إلى البعث والجزاء، وهو اعم من الاستتباع " لشموله المدح وغيره، والاستتباع يختص بالمدح" ([27]).
فهذه التعريفات للإدماج جاءت متابعة لما كتب القزويني في إيضاح تلخيصه، وجلها يدور حول إدخال معنى في معنى، بحيث يكون أحدهما اصيلا، والثاني رديفا، هذا ما استقر عليه الأمر عند علماء البيان والبديع في تعريف الإدماج، وهو ما استقر عليه الأمر عند المتأخرين ([28]) كذلك.
المطلب الثالث: نظرة ناقدة في تعريف الإدماج:
وحري بنا ان نقف وقفة مع هذا المصطلح، وخصوصا ان دراستنا قامت على الدرس القرآني، فنحن ندرس هذا المصطلح من حيث وظيفته البيانية السياقية في كشف النقاب عن وجه المعاني القرآنية، ليعيننا في تلمس معنى المعنى، وما لا يظهر إلا بطول تأمل وتدبر، فالذي يعنينا اولا واخرا: الإفادة من هذا المصطلح؛ ليكون عونا للمفسر في الوقوف على مراد الله تعالى من كلامه المنزل، وهذا غاية ما يرجوه المفسرون في تحقيقاتهم العلمية" ولذا كان لزاما علينا ان ننظر في هذا المصطلح من زاوية البيان القرآني، والضابط السياقي الذي يقود إلى الوجوه الراجحة من التأويل والبيان والتفسير.
ولما كان تعريف اهل البديع للإدماج بأنه: "تضمين كلام سيق لمعنى معنى اخر"، كان من اللازم العلمي إعطاؤه ضابطا مرتبطا بعلم التفسير" لأن تعريفهم قام على الدرس الأدبي النقدي للشعر العربي، ونحن درسنا قام على الدرس البياني للقران المعجز، ولما افترقت النظرة في اساسها ومضمونها، وجب ذلك الافتراق في ماهية المصطلح ومضمونه، ومن يدقق النظر في تلك التعريفات يخلص إلى نتيجة مفادها" ان المعاني التي تساق في الكلام نوعان:
النوع الأول: معان اصيلة الذكر، مقصودة المعنى، جاءت لإثبات حقيقة من الحقائق الكلية او الفرعية، مقصودة في أصل السياق، وهذا اغلب ما يدور عليه الكلام.
النوع الثاني: معان فرعية، جاءت لتقوي المعاني الأصيلة، او تزيدها بيانا، او لتضيف حقيقة غير مقصودة في أصل سياق الكلام.
والنوع الثاني: هو ما يصدق عليه مصطلح الإدماج عند البيانيين، وهو تضمين الكلام الذي سيق لمعنى- وهو المعنى الأصيل - معنى أخر - وهو المعنى الفرعي أي: الإدماج -.
اقول: إن المعاني بنوعيها الأصلي والفرعي- إن صح التعبير-، موجودة في كتاب الله تعالى، وعلينا ان نلحظ امرين دقيقين سنلمسهما في ثنايا البحث إن شاء الله تعالى وهما:
الأول: ان المعاني المدمجة تصبح اصيلة في سياقها، منسجمة في نظمها، متلائمة مع المعاني المدمجة فيها بحيث تصبح هي هي، ولا يستغنى عن وجودها في تدعيم المعنى الأساس.
الثاني: تحقيق غرض بياني مقصود لذاته، يتولد عنه مقصد من مقاصد القران ([29]).
وبهذين الملحظين يفترق الإدماج في الدراسة القرآنية عنه في الدراسة الأدبية " ولذا لا يصح ان نفسر آيات القران على ضوء مفهوم الإدماج دون ملاحظة هذه الفروق " لأنه لا يوجد في كتاب الله تعالى معان فرعية بذاتها البتة، بل هي اصيلة في مضمونها، وفي سياقها، وفي اهدافها وابعادها، والتطبيق الجائر ([30]) لعلوم البلاغة - وخصوصا علم البديع - على كتاب الله لهو من تضييع الحقوق، وجلب الهموم، ودفع المنافع الماتعة، ولذا وجب لحاظ الفروق والعمل بمقتضاها.
ويقتضينا المقام ان نعرف الإدماج القرآني، بالإفادة من كلام المتقدمين، وبإضافة علمية تناسب الحديث عن إعجاز القران الخالد، فنقول في تعريفه: "تضمين المعاني القرآنية التي سيقت لمقصد معنى رديفا يحقق مقصودا اخر، يتلاءم مع المعاني الأصيلة بحيث يصبح من جنسها"
المطلب الرابع: موقع الإدماج عند ابن عاشور:
حاول ابن عاشور رحمه الله تعالى ان يعطي لمساته في توجيه المعنى البياني لمصطلح الإدماج فقال: "وهذا الإدماج من افانين البلاغة، ان يكون مراد البليغ غرضين فيقرن الغرض المسوق له الكلام بالغرض الثاني، وفيه تظهر مقدرة البليغ، إذ يأتي بذلك الاقتران بدون خروج عن غرضه المسوق له الكلام ولا تكلف، قال الحارث بن حلزة ([31]):
اذنتنا ببينها أسماءرب ثاو يمل منه الثواء ([32])
فإن قوله: "رب ثاو" عند ذكر بعد الحبيبة والتحسر منه، كناية عن ان ليست هي من هذا القبيل الذي يمل ثواؤه، وقد قضى بذلك حق إرضائها بأنه لا يحفل بإقامة غيرها" ([33]).
فالذي تطرق له ابن عاشور هو موقع الإدماج في علوم البلاغة، ولم يقدم خصوصية تذكر في الجانب القرآني، وهذا بلا شك يعد مأخذا من الناحية النظرية، والذي يغفر له ان عنايته كانت بالجانب التطبيقي لا النظري، ومع ذلك فكان من المناسب ان يطرق باب النقد، وان يقدم لمسة بيانية في بعدها القرآني، وقد رجعت لرسالته " موجز البلاغة" لأستزيد البيان بيانا فلم اظفر بشيء حول الإدماج.
ولا يخفى ان ابن عاشور يمثل اتجاها مستقلا في طريقة عرضه للمسائل البيانية، وهو كذلك صاحب مدرسة في إحياء بعض المصطلحات البيانية وتناوله لها، والإدماج من تلك المصطلحات التي ركز نظره تجاهها، وهو مصطلح مرقوم في علم البديع عند اهل البديع، وان كان رحمه الله تعالى لم يرتض ذلك بل أثر ان يكون في علم المعاني، إما في باب الإطناب، او تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، وفي ذلك يقول: "وقد عد الإدماج من المحسنات البديعية، وهو جدير بأن يعد في الأبواب البلاغية في مبحث الإطناب، او تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر"([34]).
وهذا ما يكشف لنا سبب عدم متابعة ابن عاشور المتقدمين في عد اية واحدة من الإدماج، وذلك لسببين اثنين، اما احدهما: فلقلة ذكر المفسرين لهذا اللون من البلاغة، واما الثاني: فلاستقلال نظرة ابن عاشور وعده الإدماج إطنابا، وفي التطبيق العملي نجد انه يميل إلى جعل الإدماج من باب الإطناب " وذلك لتحقيق غرض من الأغراض البيانية، فعند قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (الأعراف:189).
يقول ابن عاشور: "ووصفت النفس بواحدة على اسلوب الإدماج بين العبرة والموعظة " لأن كونها واحدة ادعى للاعتبار، إذ ينسل من الواحدة ابناء كثيرون، حتى ربما صارت النفس الواحدة قبيلة او امة، ففي هذا الوصف تذكير بهذه الحالة العجيبة الدالة على عظم القدرة وسعة العلم، حيث بثه من نفس واحدة رجالا كثيرا ونساء"([35])، وبه تظهر وجهة نظر ابن عاشور في عده الإدماج من قبيل الإطناب، ومما يزيد وضوح هذا الأمر قوله: "ووصف الحمل ب(خَفِيفًا) إدماج ثان، وهو حكاية للواقع، فإن الحمل في مبدئه لا تجد منه الحامل ألما" ([36])، ويقول: "فمعنى (فَمَرَّت بِهِ) لم تتفطن له، ولم تفكر في شأنه، وكل هذا حكاية للواقع، وهو إدماج" ([37]).
فالواقع يقتضي معرفة هذه المذكورات في الآية، وذكر القران لها مع انها معلومة للمخاطب لهو من قبيل الإدماج تذكيرا للتالي، وليزيد المعنى ثراء وحسن موقع، وهذا يزيدنا بيانا ان ابن عاشور نظر للإدماج على انه اسلوب إطناب، لا على انه شكل من اشكال التحسين المعنوي للنص القرآني كما نظر إليه اهل البديع، وبلا شك ان عد الإدماج إطنابا هو إطناب في الحسن والبيان "لما يترتب على ذلك من الكشف عن الأغراض المعنوية التي يريدها النص القرآني، وهو ما سنعرضه في المبحث التالي.
المبحث الثاني
أغراض الادماج
لما نظر ابن عاشور للإدماج على انه لون من الإطناب، لزم من ذلك ان يكون وراء هذا الإطناب غرض بياني، وذلك عائد بطبيعة الحال إلى طبيعة الموضوع الذي تتكلم عنه الآية، وطبيعة السياق الذي وقع فيه الإدماج، فتعدد الأغراض البيانية عائد إلى تعدد الموضوعات القرآنية، وبالتالي تعدد السياقات القرآنية، ومن خلال ذلك نستطيع ان نسجل مجموعة من الأغراض البيانية للإدماج، وقبل ذلك علينا ان نستحضر مسألتين منهجيتين، تجب ملاحظتهما في التعامل مع اسلوب الإدماج، وهما:
المسألة الأولى: عند تعدد الآراء في بيان اية، يصح ان يكون الإدماج على بعض الآراء دون جميعها، فمن ذلك: ما جاء في تفسير قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) (مريم: 71-72)، حيث يقول ابن عاشور: "وجملة: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) زيادة في الارتقاء بالوعيد بأنهم خالدون في العذاب، فليس ورودهم النار بموقت بأجل، و(ثم) للترتيب الرتبي، تنويها بإنجاء الذين اتقوا، وتشويها بحال الذين يبقون في جهنم جثيا، فالمعنى: وعلاوة على ذلك ننجي الذين اتقوا من ورود جهنم، وليس المعنى: ثم ينجي المتقين من بينهم، بل المعنى انهم نجوا من الورود إلى النار، وذكر إنجاء المتقين، اي: المؤمنين، إدماج ببشارة المؤمنين في اثناء وعيد المشركين، وجملة (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) عطف على جملة (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) والظالمون: المشركون" ([38]).
القول بالإدماج فرع عن القول بأن النجاة هي من الورود، وقد اختلف المفسرون في الورود على اقوال: فمنهم: من قال: معناه الدخول، ومنهم: من قال: معناه المرور على الصراط، ومنهم: من قال: الإشراف على النار، ومنهم: من قال: ما يناله المؤمن من الحمى في الدنيا ([39]). وان كان لي من قول في توجيه هذه المسألة، فأقول:
قوله تعالى: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) محمول على معنى الاستثناء، لا على لفظه واسلوبه ([40])، فقد اخبرت الآية ان جميع الناس سيردون النار لدخولها، فمأل الورود دخول النار، ثم اخبر تعالى بأنه سينجي الذين اتقوا، ولم يقيد خبر الإنجاء امن النار او من ورودها، والمعنى الثاني هو الراجح؛ لأن الله تعالى جعل النار لغير المؤمنين، فيكون معنى الآية ان الله سيدخل النار جميع الناس إلا الذين اتقوا فسينجيهم من هذا الورود فلا يدخلون النار، فالأصل ان جميع الناس مؤمنهم وفاجرهم سيدخلون النار، لكن رحمة الله تعالى ستقي الذين اتقوا من ورودها، وهو ما يتناسب ويتوافق مع قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ) وهذا معنى الإنجاء من الورود، حيث لن يسمعوا حسيسها ([41])؛ لأنهم مبعدون عنها برحمة الله تعالى وفضله ومنه.
ولا تعارض بين هذا التوجيه والقول: بأن معنى الورود الدخول، وهو ما ذهب إليه جمهور المفسرين وعلى راسهم: حبر الأمة رضي الله عنه، وذلك ان منتهى الورود دخول النار، فأطلق الورود الذي هو طريق النار، واراد ماله وهو الدخول، ودخولها لن يكون للمتقين لأن الله سينجيهم بواسع رحمته من ورودها، فكيف دخولها؟ يقول مكي رحمه الله تعالى: "اي: ننجيهم من ورودها فلا يردونها" ([42])، ويظهر معنى الإدماج جليا على هذا التوجيه، اما على الأقوال الأخرى فلا.
وكذلك عند قوله تعالى: (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) (الأنبياء: 95)، قال ابن عاشور: "وجملة: (أَهْلَكْنَاهَا) إدماج للوعيد بعذاب الدنيا قبل عذاب الاخرة" ([43]).
وهذا المعنى الذي يؤخذ على انه إشارة نصية من فعل الإهلاك هو الإدماج، فالآية تلوح بعصا التهديد لأولئك المعرضين المناوئين، فأدمج تهديدا ووعيدا بالعذاب في الدنيا قبل الاخرة، وهذا اللون من الإدماج فيه من دقة المسلك ما لا يخفى.
هذا ويصح القول: بالإدماج على جعل الإهلاك إهلاك العذاب الدنيوي، لا إهلاك الطبع على القلوب، بحيث لا يرجعون إلى الإيمان والإسلام، فيموتون على الكفر ويبعثون على ذلك ([44]).
المسألة الثانية: إظهار المعاني الكامنة قبل الجملة المدمجة وبعدها، فتكون جملة الإدماج في حقيقتها همزة وصل، وتطرية ذهن، وكشف خبيء" فعند قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ص:29) يقول رحمه الله: "عقب الإمعان في تهديد المشركين وتجهيلهم على إعراضهم عن التدبر بحكمة الجزاء ويوم الحساب عليه والاحتجاج عليهم، اعرض الله عن خطابهم ووجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالثناء على الكتاب المنزل عليه، وكان هذا القران قد بين لهم ما فيه لهم مقنع، وحجاجا هو لشبهاتهم مقلع، وانه إن حرم المشركون انفسهم من الانتفاع به فقد انتفع به اولو الألباب وهم المؤمنون، وفي ذلك إدماج الاعتزاز بهذا الكتاب لمن أنزل عليه، ولمن تمسك به، واهتدى بهديه من المؤمنين.. والجملة استئناف معترض، وفي هذا الاستئناف نظر إلى قوله في اول السورة: (وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ) (ص: 1) إعادة للتنويه بشأن القران كما سيعاد ذلك في قوله تعالى: (هَذَا ذِكْرٌ) (ص:49)" ([45]).
فجملة الاستئناف التي أدمجت هنا كان لها غرض بيان الاعتزاز بالقران من حيث معناها الذاتي، وهي كذلك جاءت لبيان مناسبة بين السابق واللاحق، فوجه بركة القران انه ذكر للناس، وهذا ما اشارت إليه السورة من مطلعها وفي ثناياها كذلك.
بعد بيان هاتين المسألتين نشرع في تعداد الأغراض القرآنية لأسلوب الإدماج، وهي على النحو الاتي:
المطلب الأول: الأغراض النفسية والتربوية:
بيان الغرض النفسي من مقاصد القران في الكشف عن بواطن النفوس، لتوليد القناعة الداخلية في نفسية المتلقي للنص القرآني، او لتمهيد الطريق في سبيل التطبيق العملي للأوامر الشرعية، وحسن ان يكون بيان الأغراض النفسية في القران على سبيل الإدماج؛ لما فيها من تدعيم الغرض النفسي بأسلوب ضمني، وشأن النفوس حب التلويح لا التصريح، وهذا منهج القران في التعامل مع النفس البشرية، فهو ادعى للتقبل والنزول على مقتضيات الخطاب، فعند قوله تعالى: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (البقرة: 105) يقول ابن عاشور: "والرحمة هنا مثل الخير المنزل عليهم، وذلك إدماج للامتنان عليهم بأن ما نزل عليهم هو رحمة بهم"([46])، وهو إدماج امتنان على المؤمنين في الإخبار عن اهل الكتاب والمشركين، وقد نطق بمعنى الإدماج دون النطق بحروفه شيخ المفسرين فقال: "والله يختص من يشاء بنبوته ورسالته، فيرسله إلى من يشاء من خلقه، فيتفضل بالإيمان على من احب فيهديه له، واختصاصه إياهم بها، إفرادهم بها دون غيرهم من خلقه" ([47]).
فقوله رحمه الله: "فيتفضل بالإيمان على من أحب" اي يمتن عليهم بالإيمان والرحمة، وقد أدمج ذكره في الإخبار عن اهل الكتاب، فالغرض الأساس من السياق بيان موقف اهل الكتاب والمشركين من نزول الرسالة على النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء ذكر اختصاص الله تعالى بعض عباده بالرحمة؛ للامتنان على المؤمنين ضمن هذا السياق على سبيل الإدماج.
اقول: وفي آية إدماج اخر، فقوله تعالى: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا أًهلِ الْكِتَابِ) فيه ان اهل الكتاب كفار وهو إدماج؛ لان الغرض الأساس في الآية بيان موقف اهل الكتاب والمشركين من نزول الرسالة، فلما قال: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ولم يقل: ما يود اهل الكتاب ولا المشركون، مع انها أوجز لفظا، قصد بذلك بيان كفر الصنفين اللذين لا يودان إنزال الخير وهو الإيمان والإسلام على المؤمنين، وفائدة هذا الإدماج بيان وضوح كفر اولئك بمكان، لا يقبل معه في شأنهم جدال، وهو إطناب كما لا يخفى ([48]).
وعند قوله تعالى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَبَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (البقرة: 132)، نجد ان ابن عاشور يصرح بمقصد الآية في تذكير بني إسرائيل بوصية ابيهم يعقوب عليه السلام، وذلك لتربيتهم على اسس تلك الوصية التي جامعها التوحيد وعبادة الله وحده، وفي ذلك يقول: "وعطف يعقوب على إبراهيم هنا إدماج مقصود به تذكير بني إسرائيل- الذي هو يعقوب- بوصية جدهم، فكما عرض بالمشركين في إعراضهم عن دين اوصى به ابوهم، عرض باليهود كذلك" لأنهم لما انتسبوا إلى إسرائيل- وهو يعقوب - الذي هو جامع نسبهم بعد إبراهيم" لتقام الحجة عليهم بحق اتباعهم الإسلام"([49]).
فالغرض من اختصاص ذكر يعقوب عليه السلام غرض تربوي، وهو مقصد الإدماج، ففيه متابعة الابن للأب في امور الخير، فكما وصى إبراهيم بنيه كذلك صنع يعقوب عليهما السلام مع بنيه، فحري بمن يدعي الانتساب إلى يعقوب ان يتابعه فيما وصى به من كلمة الإخلاص، وهذا المقصد الذي حققه إدماج يعقوب عليه السلام دون غيره، لا يتأتى تركيزه بالأذهان، إلا بالنص عليه والتصريح به دون التلميح؛ لأن بني إسرائيل اعتادوا التفلت دون الانقياد لإرشادات الوحي، فأراد الله سبحانه وتعالى ان يقيم عليهم الحجة بينة ظاهرة، فهذه فائدة الإدماج في هذه الآية.
وعند قوله تعالى: (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُو هُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُون إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) (المؤمنون: 109-111)، يقول ابن عاشور: "وقوله: (بِمَا صَبَرُوا) إدماج للتنويه بالصبر، والتنبيه على ان سخريتهم بهم كانت سببا في صبرهم الذي كسبهم الجزاء، وفي ذلك زيادة تلهيف للمخاطبين بأن كانوا هم السبب في ضر انفسهم ونفع من كانوا يعدونهم اعداءهم"([50])، وهي فائدة في تربية المؤمنين على كظم الغيظ، وانتظار ما عند الله تعالى من جزيل الثواب، وفيها من تربية النفوس وتهذيبها على هذه الفضيلة ما يجعلها معينة على الإيمان وعمل الصالحات.
وقوله تعالى: (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) (الأحقاف: 15) فيه من تربية الاباء على الدعاء لأبنائهم، واخذ العبرة في ان من أحسن إلى والديه في حاضر الأيام وسابقها، أحسن إليه ابناؤه في حاضر الأيام ولاحقها، يقول ابن عاشور: "وفي إدماج تلقين الدعاء بإصلاح ذريته مع ان سياق الكلام في الإحسان إلى الوالدين، إيماء إلى ان المرء يلقى من إحسان ابنائه إليه مثل ما لقي ابواه من إحسانه إليهما، ولأن دعوة الأب لابنه مرجوة الإجابة" ([51]).
المطلب الثاني: الأغراض التشريعية:
عني القران ببيان الأغراض التشريعية، وذلك من خلال التعقيبات القرآنية تارة، والتصريح بمقصد التشريع تارة، وبالإدماج تارة اخرى، فعند قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَك عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِي نَ) (البقرة:222)، بين ابن عاشور مقصد التشريع في هذه الآية، وانه غير مقتصر على التطهر فحسب، بل تعداه إلى غاية عظيمة من غايات الطهارة الفقهية، وهي: التوبة، يقول رحمه الله: "واما ذكر التوابين، فهو إدماج، للتنويه بشأن التوبة عند ذكر ما يدل على امتثال ما امرهم الله به من اعتزال النساء في المحيض، اي: إن التوبة اعظم شأنا من التطهر، اي: إن نية الامتثال اعظم من تحقق مصلحة التطهر لكم؛ لأن التوبة تطهر روحاني، والتطهر جثماني" ([52]).
فالمعنى المدمج: التوبة، والمدمج فيه التطهر، والمدمج هو غاية المدمج فيه، وفائدته؛ ربط المعنى الذي سيقت له الآية - وهو التطهر - بأصل عظيم، وهو تخليص العبد من الذنوب، يقول ابو السعود: "وفي ذكر التوبة: إشعار بمساس الحاجة إليها بارتكاب بعض الناس لما نهوا عنه" ([53])، وفي ذلك تنويه بمقصد تشريع التطهر للتوبة، وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِي نَ) قام مقام العلة، فكأن سائلا سأل: لماذا امر الله بما امر؟ فكان الجواب: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِي نَ) من باب الاستئناف البياني.
وكذلك نجده رحمه الله يبين الغرض الاجتماعي الأخلاقي من التشريع عند قوله تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (البقرة:229)، وفي ذلك يقول: "والمقصود من هذه: الجملة إدماج الوصاية بالإحسان في حال المراجعة، وفي حال تركها، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء" إبطالا لأفعال اهل الجاهلية"([54])، فلم يقل: فإمساك او تسريح، بل عدل إلى تقييد هذه الجملة ليدمج قصد الوصاية بالمعروف بالزوجة إمساكا، وبالإحسان تركا.
ويقول: "وقد ظهر من هذا ان المقصود من الجملة هو الإمساك او التسريح المطلقين، واما تقييد الإمساك بالمعروف، والتسريح بالإحسان، فهو إدماج لوصية اخرى في كلتا الحالتين، إدماجا للإرشاد في اثناء التشريع" ([55]).
ويدل هذا الإدماج على ان المقصود من التشريع ليس تقنين الروابط الأسرية، بقدر ما هو إضفاء الأخلاق السامية عليها، فكم من قانون ينظم الروابط الأسرية، بجفاف العاطفة، وقسوة التعامل، وهذا ما لا يريده القران، فأراد ان يعطينا صورة مشرقة للقانون الإسلامي في نزاع من تلك النزاعات الأسرية، وهنا تظهر بلاغة الإدماج، في انه يؤصل لقانون تسابق فيه الأخلاق طبيعة التنظيم " ليكون النظام مرتكزا على قاعدة اخلاقية لا مثيل لها في عالم القيم.
المطلب الثالث: التذكير بغرض الترهيب:
من تلك الأغراض التي يحتضنها اسلوب الإدماج، التذكير بغرض ترهيب المخاطب، إما بقصد الارتداع كما جاء عند قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) (آل عمران:56)، يقول ابن عاشور: "وانما يكون ذلك في الاخرة، فذكر عذاب الدنيا هنا إدماج... واعلم ان قوله: (فَأُعَذِّبُهُم عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ) قضية جزئية لا تقتضي استمرار العذابين "فأما عذاب الدنيا فهو يجري على نظام احوال الدنيا، من شدة وضعف وعدم استمرار، فمعنى انتفاء الناصرين لهم منه " انتفاء الناصرين في المدة التي قدرها الله لتعذيبهم في الدنيا، وهذا متفاوت، وقد وجد اليهود ناصرين في بعض الأزمان مثل قصة استير في الماضي، وقضية فلسطين في هذا العصر.
واما عذاب الاخرة فهو مطلق هنا، ومقيد في آيات كثيرة بالتأبيد، كما قال: (وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (البقرة: 167)" ([56]).
وقد ذهب المفسرون إلى ان المقصود بالعذاب الدنيوي القتل والسبي ([57])، ولم يصرح ابن عاشور رحمه الله بغرض الإدماج في الآية، وفي ظني ان الغرض يكمن في قلة إيمان اولئك القوم بالغيب، فأراد ان يجعل لهم عذاب الدنيا نقدا، وعذاب الاخرة نسيئة، همزا لمتن تغافلهم وجسد تناسيهم " لعلهم يرتدعون عن غيهم وكفرهم؛ لأن النفس إن علمت نزول العذاب بها في الاجل، سارعت إلى تجنب اسبابه، فكان ذكر عذاب الدنيا لأجل المسارعة في الارتداع.
واما بقصد الوعظ والتنبيه على علة نزول العذاب، فعند قوله تعالى: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (آل عمران: 117)
يقول ابن عاشور: "وقوله: (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) إدماج في خلال التمثيل، يكسب التمثيل تفظيعا وتشويها، وليس جزءا من الهيئة المشبه بها... والسامعون عالمون بأن عقاب الأقوام الذين ظلموا أنفسهم غاية في الشدة، فذكر وصفهم بظلم أنفسهم لتذكير السامعين بذلك على سبيل الموعظة" ([58]).
يقول الزمخشري: "فأهلك عقوبة لهم على معاصيهم؛ لأن الإهلاك عن سخط اشد وابلغ" ([59])، وقد تابعه البيضاوي ([60]) وابو السعود ([61]) والخطيب الشربيني ([62]) والالوسي ([63])،
فهذا الوصف من باب الإدماج " لأن المقصود بالوصف هاهنا ليس بيان علة الإهلاك فحسب، بل زيادة على ذلك وهو جعل علة الإهلاك تذكيرا لما يؤول إليه الظالمون، فيحصل الاعتبار والاتعاظ حينئذ عند السامعين.
وبذلك يحصل قصد الإدماج وهو التذكير إما بقصد الارتداع واما بقصد الوعظ والتنبيه، وهذا يدل على ان اغراض الإدماج عنيت بالمعنى وابعاده الوعظية.
يتبع