ارض بما ليس منه بدّ


عادل عبدالله هندي


كثيرًا ما تتعرض في حياتك لصدمات وابتلاءات تعد من ضروريات الحياة، وكثيرا أيضا ما تجد من يرضى ويسلم للقضاء ولا يجزع، وفي المقابل: تجد من يجزع ويشتكي ويتبرم.

والأول فائز بلا شك؛ لأنه رضى بما ليس منه بد ومقدور، والآخر خسر الدنيا والآخرة؛ لأنه لم يرض. فما المقصود بالرضا بما ليس منه بد؟ وكيف يكون؟ إليك الآتي:

واقع مرير:

1- كان صاحب شركة كبيرة فسقطت أسهمها وهبطت فصدم وأخذ يردد: لماذا؟ وصار هذا حاله، حتى أصيب بحالة عصبية حُمِل على إثرها إلى مستشفى الأمراض العقلية!!

2- مات ولدي في حادث سيارة، وكان معي في الصباح، وتكلمنا سويا، ولكن ماذا حدث؟ ولماذا حدث؟، فجأة هكذا مات!، فلماذا قُدِّر له أن يموت وهو صغير؟، ولماذا هو بالذات؟.. هذا حديث بعض من يحدث لهم مثل ذلك!، ونسى أن الأعمار بيد خالقها وواهب الحياة.

3- ذاكرت ابنتي مذاكرة حسنة، لكنها لم توفق في النتيجة النهائية، ما العمل؟ أجزع أم أرضى وأُسَلِّم؟.

4- كنت في عملي وأؤدي رسالتي فتم فصلي من العمل لا لشيء سوى أنني مسلم ملتزم، أفكِّر في صلاح الدنيا بالدين.. هل أرض أم أجْزَع؟

5- زوجي فقير جدا.. فلماذا أنا بالذات تزوجته؟!!

التحليل:

معلوم أن هذا الكون بما فيه ومن فيه، وبما عليه ومن عليه، كله ملك لخالق واحد مدبر، يأمر ويصنع في ملكه ما يشاء كيفما شاء، {...أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ...} (الأعراف: من الآية 54)، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك: 14)، فكل ما هو كائن وما سيكون في علمه هو.

وفي المقابل: هذا الإنسان - ذاك المخلوق الكريم المُكَرَّم - يتعرض لأشياء في الدنيا قد تتعارض مع ما يريده وما تريده رغباته وانتماءاته، فإما أن يصبر ويتصبر فيكون له الغنى والسعادة، وإما أن يجزع ويشكو فلا يكون إلا الفقر والتعاسة المادية والمعنوية - ولو كان معه الدنيا كلها -.

ولضرورة الرضا بما ليس منه بد، يقول الفيلسوف شوبنهور: "التسليم بالأمر بالواقع ذخيرة لا غناء عنها في رحلتنا عبر الحياة".

وأصدق وأجمل منه ما قاله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وما أجمل ما قاله -: "وَجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا بالصَّبْر"(1)، فأجمل وصفة لمواجهة الهموم والقلق والواقع الحياتي، هي الصبر.

وما أطيب قوْل القائل:


وإذا عرتــك بلية فاصبر لهـا

صـبر الكــريم فإنهبك أعلمُ

وإذا شكــوت إلى ابنآدم إنما

تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحمُ (2)

من نسمات القرآن:

قال تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (التوبة:51) فكله بيده وحده، ولن تستطيع أن تغير أنت في كون خالقك، فاقبل حياتك على ما هى عليه، فربك {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23).

نفحة نبوية:

1- ورد في سنن ابن ماجة، عن حبيبنا المصطفى، قوله: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط".

2- عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر".

نموذج وعبرة:

يعد أبو طلحة وزوجته أم سُلَيْم نموذج رائع لجبلين في الرضا والصبر!! وإليك القصة بعبرها:

كعادته في الصباح خرج الزوج إلى عمله.

وكان لأبي طلحة هذا غلام يحبه حبا شديدا، فعاش حتى تحرك فمرض، وأبو طلحة يغدو على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ويروح، فراح روحة ومات الصبي، فعمدت إليه أم سليم، فطيبته ونظفته وجعلته في المخدع، وطلبت من أهله ألا يخبره أحد بوفاة ولده هذا، فأتى أبو طلحة، فقال: كيف أمسى بنيّ؟

قالت: بخير ما كان منذ اشتكى أسكن منه الليلة.

قال: فحمد الله وسر بذلك، فقربت له عشاءه، فتعشى ثم مست شيئا من طيب، فتعرضت له حتى واقع بها - يعني جامعها -.

فلما تعشى وأصاب من أهله، قالت: يا أبا طلحة رأيت لو أن جارا لك أعارك عارية، فاستمتعت بها، ثم أراد أخذها منك أكنت رادها عليه؟ فقال: إي والله، إني كنت لرادها عليه، قالت: طيبة بها نفسك؟ قال: طيبة بها نفسي، قالت: فإن الله قد أعارك بني ومتعك به ما شاء، ثم قبض إليه، فاصبر واحتسب، قال: فاسترجع أبو طلحة وصبر، ثم أصبح غاديا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، فحدثه حديث أم سليم كيف صنعت، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "بارك الله لكما في ليلتكما".

وقد ورد في قصتها - عند البخاري -: وفيه أنها جاءت بولد من هذا الجماع ومن تلك الليلة، وهو عبد الله بن أبى طلحة، فأنجب وزرق أولادًا، قرأ القرآن منهم عشرة كملا.

ومن عبر هذا الموقف البديع العجيب:

1- مدى صبر المرأة وفقهها في توصيل الخبر لزوجها بأسلوب رائع لم نر مثلها في حياة المتزوجين - إلا من رحم الله -.

2- مدى الرضا والصبر على ما قدَّر الله تعالى، وفقهه في الاسترجاع عند الخبر المحزن. والمقصود: أن الرضا بالمصائب والتسليم بذلك شأن المؤمن، وليس شأن المؤمن أن يلطم وجهه أو يقول قولاً لا يرضي الله، أو يتسخط قلبه.

3- المرجعية الجميلة في عودته إلى رسول الله يقص عليه الخبر.

4- ثواب الرضا بما ليس منه بد: دعاء من النبي بالبركة، وكان لقاؤهما منتجًا، وكان لهما من الولد الكثير كلهم يحفظون القرآن.

وصية عملية:

- تذرَّع بالصبر عند الشدائد، وتذكر أن من يتصبر يصبره الله، يعني: يعينه على الدنيا.

- ارض بما قسمه الله لك تكن أغنى الناس.

- اكتب في ورقة -بخط واضح كبير- هذه الكلمة وعلِّقها في غرفتك الخاصة: ارض بما ليس منه بُدّ

للتطبيق:



م

موقف صعب جدا تعرضت له

هل يمكن التغلب عليه

ما العمل إن فشلت في التغلب عليه؟

ملاحظات

1

........................

...................

................


2

........................

..................

................


3

........................

..................

................


4

........................

..................

................







(1) رواه البخاري تعليقا، في الصحيح، ك: الرقاق – باب: الصبر عن محارم الله، وقوله - عز وجل -: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}، ج4/ 186.
(2) مدارج السالكين- ابن القيم، ج2/ 160.