وقفات في الجو


هند الزميع


فوق الأرض وتحت السماء, ومن بين الغيوم المحتضنة لبعضها بوداد يسرح الخيال إلى عالم ممتع من التأمل والتفكر بعظمة الخالق جلّ في علاه.
من نافذة الطائرة لمحت عالما استوقفني لأول مرّة, ابتداء من الطائرة وكيف سخرها الله لنا تقرب البعيد وتجمع الأحبة, وتؤكد عظمة من أوجد تلك العقول لتفكر وتبدع فيما يخدم الإنسانية, وتنوّع في تراكم الغيوم واختلافها ما بين الأبيض القطني إلى الأسود الذي ينبئ بأمطار تجتمع في السماء وتنتفع بها الأرض فضلا من الله.
ومرورا بتلك المرأة التي تجرعت من العمر سنينا, ومن العجز سنوات, تأخرت الرحلة عن موعد إقلاعها من أجل هذه العجوز, فهي على كرسيها المتحرك لا تستطيع إلى المشي أو الاعتماد على نفسها سبيلا, قدّمها رجل كان ينتظر معها في صالة المطار وعند ركوب الطائرة غاب عن الأنظار ووكّل مهمة إركاب تلك العجوز لطاقم المضيفين في الطائرة, وقد حاولوا محاولات مضنية لتأخذ المرأة مكانها بعد جهد كان ضحيته أو بطله إن صح التعبير هو ذلك المضيف الذي لم يجد حلا غير أن يحمل تلك العجوز بنفسه ويجلسها على أول كرسي عند البوابة.
عندها لم أتمالك دمعة أبت إلا أن تعبر عن مأساة إنسانية يصنعها الأبناء لوالديهم اضطرارا أو اختيارا.
فالموقف كان مثار شفقة الجميع, واضطرار المرأة لرجل أجنبي يحملها ومضيفة لا تمت لها بصلة تصلح حالها وتواسيها, كلها دفعتني لأن أستقطع وقتا وافرا للدعاء بأن يصلح الله نيتنا وذريتنا, إذ ما قيمة الابن الذي حُمل كُرها ووُضع كُرها إن كنت سأذوق ما أكره وهو مني قريب ولكن بقلب بعيد, أو قلب سامته الدنيا سوء قسوة!
فهمت من القصة ومحادثة أجرتها العجوز من هاتفها المتنقل أن ابنا سلمها لطاقم الطائرة وآخر سيستلمها منهم في محطة الوصول, وللأسف أنهم لم يدركوا المأساة بين الاستلام والتسليم.
وأختم تجوالي النفسي في الجو بتلك العائلة التي أقامت مهرجانا توعويا ثقافيا, فما أن استوت الطائرة في الجو بعد إقلاعها حتى مدّ كل منهم يده إلى حقيبته مستخرجا كتابا يسامره طوال الرحلة, الأب, الأم, البنت الكبرى, أخوها, حتى أختها التي لم يتجاوز عمرها الثامنة أمسكت كتابا طفوليا وعكفت عليه قارئة بمتعة, ما يدل على اعتيادها على مثل هذا.
عندها قلت كم من الأوقات نقتلها دون إحساس وقد كانت كفيلة بأن تقدّم لنا فكرا وثقافة قد تقصر عن مثلها المدارس والجامعات, فشكرا لتلك العائلة المثقفة التي لفتت انتباه الجميع فلعلها قدّمت رسالة ثمينة بصمت.
ومضة:
التأمل بإبداع يمنحك فرصة رائعة للتغيير.