الحنين للماضي.. نحو تطويع الحاضر لا رفضه


رشا عرفة


رغم ما طرأ على العصر من تقدم شمل كافة المجالات، إلا أن الكثير منا وخاصة كبار السن مازالوا يحنون إلى أيام الماضي وذكرياته ويتحسرون عليها، ويتشوقون لأيامه، فالبعض يرى أن كل شيء في الماضي كان له مذاق خاص، فلرمضان مذاق خاص، وللتعليم ذكريات جميلة، وللأعياد طعم خاص، ولليالي السمر متعة لا يستطيعون نسيانها، بل أن حتى البشر في الماضي – من وجهة نظرهم- كانوا أفضل، في الوقت الذي يصبون فيه جام غضبهم وسخطهم وانتقاداتهم على كل شيء في العصر الحاضر من البشر للحجر، وهو ما قد يخلق حالة من الصدام بين الأجيال؟ فهل –حقا- الماضي بكل ما فيه كان أجمل من الحاضر؟ وما سر حنين كبار السن للماضي؟ وما هو الحل لرأب الصدع بين الماضي والحاضر وتطبيع العلاقات بين مختلف الأجيال؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه خلال هذا التقرير.
أيام زمان:
ما أن يأتي ذكر "أيام زمان" أمام أي من كبار السن، إلا وتجده يشرد بذهنه بنظرات حزينة ويبادر بالحديث عنها والتعبير عن اشتياقه لها، ويتطرق لذكرياته عن زمنه الجميل الذي عاشه ولا زال يحتفظ بكل جزء منه في ذاكرته، فكل شيء الآن يراه قد تغير، فالناس تغيروا، ولو كان بمقدورهم أن يغيروا أشكال وجوههم لغيروها، فالحياة في ذلك الزمن أجمل من الحاضر، حيث كانت الحياة بسيطة، والناس كانوا بسطاء، لا وجود للتكلف والحسد والحقد، ولا لمشاكل سياسية طغت عى الشعوب فدبت بينهم الكراهية والبغضاء.
تلك الحالة من الحنين إلى الماضي يرى العلماء أنها تشبه إلى حد كبير عملية الاسترخاء التي تعيد النشاط للفرد، فهو له أثر فعّال في مساعدة الإنسان بصفة عامة والمرأة بصفة خاصة على مقاومة وعلاج الكثير من حالات القلق أو الحزن أو الشعور بالوحدة أو بعض حالات الاكتئاب التي أصبحت سائدة هذه الأيام، وهو ما أكدت عليه الدراسات النفسية، حيث أرجع الدكتور فرايد ديفينز، أستاذ علم النفس الأمريكي ومؤلف كتاب "التشوق إلى الأمس.. دراسة في سيكولوجية الحنين" سبب حنين الكثير منا إلى أيام الماضي إلى الرغبة في حياة أكثر بساطة وهدوءاً، عقب التغيّر الذي أصاب الحياة بصفة عامة، حيث أصبحت التكنولوجيا الحديثة وإيقاعها السريع يسيطران على كل كبيرة وصغيرة حتى في العلاقات العاطفية التي تتداول حالياً عبر شبكة الإنترنت.
الماضي أكثر نقاء:
لكن ترى ما السبب وراء تفضيل كبار السن للماضي ورفضهم تقبُّل الحاضر؟ وهل الماضي أفضل من الحاضر؟ ولماذا ارتبطت السعادة دائما بماضٍ رحل وانتهى؟
الإجابة: أن الكثير من كبيرات السن يفضلن الأيام الماضية مبررات ذلك بأن الأيام الماضية كانت أكثر نقاء مقارنة بالأيام الحالية، وما آلت إليه الأوضاع في الوقت الراهن، ففي الماضي كان الناس أكثر طيبة وعفوية، وهو ما أكدت عليه الحاجة أم إبراهيم- 74 عاما-، حيث قالت: كانت الناس على نياتها، وكانت هناك بساطة وصدق وحسن نية بين الجار وجاره، وبين الأخ وأخيه، وبين العامل وصاحب العمل، بل بين أطياف المجتمع بكل مكوناته.
في حين رأى البعض الآخر من كبار السن أن الحاضر مليء بالسلبيات، فلم يعد الشباب اليوم يبالون بكثير من القيم الاجتماعية، وأصبحوا يعيشون حالة من عدم الثبات في المبادئ والأفكار، بل يتمردون على محيطهم الأسري، وعلى تقاليدهم وثقافتهم الاجتماعية، كما أن الجيل الحاضر لا تتوافر في علاقاته مع الآخر المصداقية، وهو ما يجعله أكثر تفككا، ويفقده الجانب العاطفي، الذي يتميز به الجيل الماضي، والذي يبدو أكثر ترابطًا وصدقًا في علاقته.
الاحترام اختفى:
وهو ما أكده الدكتور حسن الساعاتي رئيس قسم الاجتماع الأسبق بجامعة عين شمس بمصر، حيث قال: في الماضي كان الصغير يحترم الكبير، أما الآن فالملاحظ أن هذا الاحترام بدأ يختفي، فقلما نجد أبناء يحترمون آباءهم كما كان في سالف الأيام، وبالتالي فالوضع نفسه انعكس على العلاقات في المدرسة بين الطلاب وأساتذتهم.
بدوره أوضح الشيخ أسامة الخاني مدير التعليم الشرعي بسوريا، أن مشكلة الجيل الحالي هي افتقاره إلى الأخلاق، وأرجع ذلك إلى فقدان المربي في البيت والمدرسة، وتعدد وسائل الإعلام -خاصة الغربية- وما تقدم من أمور سيئة عززت مسألة فقدان الأخلاق في الجيل الحالي، وأدت إلى رفض هذا الجيل لجميع القيم والتقاليد الموروثة، واقترح إعادة تأهيل الأهل والمعلم على السواء لممارسة دورهم في تربية الجيل الحالي على الأخلاق، التي من دونها لا يمكن بناء مجتمع سليم.
حسرة عامة:
هي ما أشار إليها الدكتور على أحمد الطراح، أستاذ علم الإجتماع بجامعة الكويت في مقاله، حيث رأى أننا نحن للماضي لنستنشق عبيره، فالماضي يحمل صندوقاً من الذكريات، فالماضي ليس بالحاضر، فهو يحمل الجمال وحسن الأخلاق، وأن الدعوة الى الرجوع للماضي تعبر عن حسرة عامة، حيث نجد الأخلاق تدهورت، والقيم تراجعت، والنفاق ارتفع سعره، بمعنى أن سلَّم القيم انقلب، فالجميع يلاحظ التدني في الخطاب والتواصل، وما يلفت الانتباه هي زيادة المشاحنات والخلافات بين الأقارب والأهل، فكل شيء في تراجع، فالماضي يحمل نسمات من التلاحم والتفاهم والاحترام والتقدير.
ويفسر الدكتور على العكيدي كاتب وباحث عراقي تلك الحالة من الحننين إلى الماضي بقوله: بين الماضي والمستقبل زمن حيوي متحرك يسمى الحاضر، وهذا الحاضر كلما كان معافى غنيا بمفرداته، فيه من الحياة ما يمكن اعتباره عامل دفع قوي للأمام، كان التطلع إلى المستقبل واضحاً، وعلى العكس من ذلك تماماً تكون الحالة عندما يصبح الحاضر عبئاً على الحياة بجموده وتخلفه وفقر مفرداته، حيث يكون الرجوع الى الماضي أو ما يسمى بالنكوص هو السمة الغالبة على تلك الأيام السوداء، وعراق الحضارات اليوم يعيش تلك الحالة السوداوية بأغلب تفاصيلها مما فعّل في دواخل نفوس أبنائه حب النكوص إلى الوراء والتغني بأمجاد سنوات خلت لا تعود أبداً بفعل قوانين الطبيعة.
رأب الصدع:
ولكن ما هو الحل لرأب الصدع بين الماضي والحاضر وتطبيع العلاقات بين مختلف الأجيال؟ كاظم حبيب كاتب وسياسي عراقي رأى أنه لعلاقة صحية بين الأجيال -أي بين الشباب وكبار السن- هناك ضرورة "لأخذ الشباب مواقعهم في العمل الذي يستوجب الحركة والفعل السريع والمباشر، وأن يُمنح كبار السن فرصة تقديم الرأي والمشورة إن كانت مطلوبة وضرورية دون أن يزجوا بأنفسهم في معمعان العمل، الذي لا ينجزه غير الشباب من النساء والرجال، وأنه إذا كان من واجب الشباب احترام كبار السن والإصغاء إلى آرائهم، فأن هذا لا يعني أبداً أن عليهم الأخذ به من جانب واحد، فمن واجب كبار السن احترام حيوية وطاقة وقدرة الشباب على التجديد والمبادرة، وفسح المجال لهم للعمل والإبداع دون عوائق، وأن النقد من جانب كبار السن يفترض أن يأخذ بالاعتبار الصيغة التي يفترض أن يُقدم بها".