أخوتي الكرام:
مسألة أخينا الكريم ظاهرٌ تخريجُها - بادِيَ الرأي - على قاعدة القرض الجارِّ للنفع.
لكن يبدو لي رجحانُ تخريجها على مسألة السُّفْتَجَةِ (بضم السين وفتحها)؛ وحقيقتها: أن يتسَلَّفَ الرجل من أخيه المال ببلد على أن يرده إليه في بلد آخر، والنفع المتوقع في السفتجة هو أن يستفيد المقرض دفع خطر الطريق ; إذ قد يخشى لو سافر بأمواله أن يسطو عليه اللصوص وقطاع الطرق فيلجأ إلى هذه المعاملة ليستفيد من وراء هذا القرض دفع الخطر المتوقَّع في الطريق؛ فهي في معناها: ((إقراض لسقوط خطر الطريق))؛ كما وصفها بذلك الإمام ابن عابدين في رد المحتار: 5/350.
فسؤال الأخ السائل الكريم تكييفُهُ أقرب إلى التخريج على السفتجة؛ ما دامت الخدمة المشروطة في سؤالة من غير جنس المال.
وأقوال الفقهاء في السُّفْتَجَة غير متفقة على تخريجها على القرض الجار للنفع، إذ إنها مكروهة عند الحنفية، وأجازها الإمام مالك - في المدونة - بشرط أن يكون الغرض رفق كل من طرفي القرض بأخيه، وجواز السُّفْتَجَة رواية مرجوحة عند الحنابلة.
بل إن بعض الفقهاء قال بتخريجها على القرض الجار للنفع، وأجازها مع ذلك بلا كراهة؛ فأجازها شيخ الإسلام ابن تيمية بلا كراهة؛ قائلا: ((قَدْ يَكُونُ فِي القَرْضِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُقْرِضِ؛ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ السُّفْتَجَةِ؛ وَلِهَذَا كَرِهَهَا مَنْ كَرِهَهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لاَ تُكْرَهُ؛ لأَنَّ المُقْتَرِضَ يَنْتَفِعُ بِهَا أَيْضًا؛ فَفِيهَا مَنْفَعَةٌ لَهُمَا جَمِيعًا إذَا أَقْرَضَهُ)). راجع رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية الفذة في أنه ليس في الشريعة على خلاف القياس، وذلك في مجموع الفتاوى: 20/ 515، 29/455، وانظر أيضا: أعلام الموقعين: 2/11.
وقد فرق الإمام ابن القيم بين السُّفْتَجَة، والقرض الجارِّ للنفع - تبعا لشيخ الإسلام ابن تيمية - من جهة: أن القرض الجار للنفع ربًا إذا اختص النفعُ فيه بالمُقرِض؛ فمن هاهنا أشبه الربا، أما إذا عم النفعُ المقرِضَ والمقتَرِضَ، فإنه يجوز كالسُّفْتَجَةِ:
قال الإمام ابن القيم - فارقا بين القرض الجارِّ للنفع والسُّفْتَجَة:
((اختلفتِ الروايةُ عن أحمدَ فيما لو أقرضه دراهم وشرط عليه أن يوفيه إياها ببلد إخر ولا مؤنة لحملها؛ فروى عنه أنه لا يجوز، وكرهه الحسن، وجماعة، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وروي عنه الجواز، نقله ابن المنذر؛ لأنه مصلحة لهما، فلم ينفرد المقترض بالمنفعة وحكاه عن عليٍّ، وابن عباس، والحسن بن علي، وابن الزبير، وابن سيرين، وعبد الرحمن بن الأسود، وأيوب، والثوري، وإسحاق، واختاره القاضي.
ونظير هذا: ما لو أفلس غريمه فأقرضه دراهم يوفيه كل شهر شيئا معلوما من ربحها جاز؛ لأن المقترض لم ينفرد بالمنفعة.
ونظيره: ما لو كان عليه حنطة فأقرضه دراهم يشتري له بها حنطة ويوفيه إياها.
ونظير ذلك أيضا: إذا أقرض فلاحه ما يشتري به بقرا يعمل بها في أرضه أو بذرا يبذره فيها، ومنعه ابن أبي موسى:
والصحيح جوازه وهو اختيار صاحب المغني؛ وذلك لأن المستقرِضَ إنما يقصد نفع نفسه ويحصل انتفاع المقرض ضمنا فأشبه أخذ السفتجة به وإيفاءه إياه في بلد آخر من حيث إنه مصلحة لهما جميعا.
وَالمَنْفَعَةُ الَّتِي تَجُرُّ إِلَى الرِّبَا فِي القَرْضِ هِيَ الَّتِي تَخُصُّ المُقْرِضَ؛ كسكنى دار المقترض، وركوب دوابِّه، واستعماله وقبول هديته؛ فإنه لا مصلحة له في ذلك، بخلاف هذه المسائل؛ فإن المنفعة مشتركة بينهما وهما متعاونان عليها فهي من جنس التعاون والمشاركة)) تهذيب سن أبي داود: 9/297.
والله يعلم المفسد من المصلح