منحة القلب الكبير


عبير النحاس


كنت قد بدأت أشعر بالشفقة على نفسي و بدأت هواجس الخوف من شبح الشيخوخة تراودني عندما فتحت جارتي باب منزلها لتبدو لي و كأنها استيقظت توا من النوم , و كنت قد استيقظت قبل الفجر لأقوم بتأدية فروضي و بعض العبادات قبل أن أنطلق في مشوار لا ينتهي من العمل المنزلي , و من ثم الدوام المدرسي , و قد اضطررت لطرق بابها لأمر مهم عند عودتي من الدوام , و كنت وقتها مرهقة ذابلة و ينتظرني عمل آخر في منزلي بالطبع .
في صِبايّ كنت مولعة بالقراءة , و قد قرأت يوما مقالة تتحدث عن ضرورة تحديد أهدافنا المستقبلية و كتابتها على الورق , وعشت مع نفسي و خططي الصغيرة أياما, و قررت لمستقبلي صورته آنذاك .
لم تكن فكرة التخلي عن امتلاك أسرة تراودني مطلقا , فقد كان أمر الزواج و تكوين عائلة تخصني أمرا محببا لا يقبل الجدال , و لم تكن تغادر مخيلتي أحلام جميلة أراني بها أمتلك ناصية الحرف و أقدم للدنيا أدبا نافعا ممتعا , و قد كنت أشعر بالامتعاض لو خطر لي أن إحدى أمنياتي قد تطيح بالأخرى , و أن المشاغل اليومية قد تقتل في نفسي حماستها لتحقيق هدفها الجميل في الكتابة , و قد قادني الله تعالى بقدرته نحو مهنة التدريس, و كانت مادة الرسم التي أقوم بتدريسها للصغار تمنحني السعادة و الهمة و القرب من هوايتي في مرافقة الريشة و الألوان , و كنت من خلال وجودي مع الأولاد أجد مادة رائعة لقلمي و نوعا من الترويض لنفسي في معاشرة قوم يجسدون لنا كل معاني الصفاء و البراءة , فكنت سعيدة بكل تلك المهام حتى رأيت ما رأيت , و شعرت أن الشيخوخة سوف تسارع الخطى نحو جسدي الذي قمت باستهلاك طاقاته بقوة .
و صعدت بعض الدرجات متثاقلة و قد أنهكني الشعور بالتعب و زادت رؤية جارتي التي استيقظت في هذا الوقت من أوجاعي , و كان أن قابلت من جديد ( نعمت ) جارتنا التي تقترب من الثمانين عاما من عمرها , و تعيش مع أختيها الأكبر منها و أخ كبير أعزب كنت قد توقعت أن له من العمر ما يقارب التسعين , و قد كانت ( نعمت ) هي الأصغر بين إخوتها و قد تقاعدت من مهنتها كمديرة لمدرسة ثانوية للبنات منذ زمن طويل, و تقوم برعاية إخوتها و تؤدي واجباتها على أكمل وجه دون مساعدة من أحد أبدا , و قد بقيت جارتنا العجوز ذات الأنف الروماني و الملامح الدقيقة الجميلة تعتني بنفسها و تعزز من شكلها الأنيق بما يشير إلى ذوق راق و يؤكد نشأتها في بيت عريق .
قابلتها و هي تنزل من السطح بعد أن نثرت للحمامات و العصافير بعض الخبز اليابس و ربما بقية من حبوب تأتي بها خصيصا لتطعمهم منها كل يوم بعد أن تنتهي من تنظيف منزلها و إعداد الطعام للمسنين , و كان يحلو لي في بعض الأحيان مراقبة تلك العصافير و هي تنتظر جارتي قبل موعدها , و كأنها متأكدة من وفاء صاحبة القلب الكبير , و كانت في العيد تجمع أطفال العمارة و تقوم بتوزيع أكياس ملونة عليهم جميعا و قد ملأتها بأنواع فاخرة من الحلوى و ربطتها بشرائط من (السولفان) الجميل .
و كم كنت أحب اهتماماتها الراقية و تنبهها لهؤلاء الضعفاء المنسيين , و كم قررت بيني و بين نفسي أنني سوف أفعل كما تفعل و لكنها تبقى صاحبة الابتكار .
انتعشت روحي لرؤية صاحبة الهمة , و التي تكاد تبلغ الثمانين من العمر , و تقوم بواجباتها نحو إخوتها و نفسها و تفكر في عصافير الحي و حمامات السماء و لا تنسى مع كثرة مشاغلها كل الصغار من أولاد الجيران , و رأيت أن المعادلة قد بدت واضحة, فالإيثار و خدمة الآخرين قد حفظت لجارتنا همتها و نسيت أن تفكر في ألامها و أوجاعها , بل و ربما نسيتها الآلام , و ربما ستنساني ألام الشيخوخة و ملامحها القاسية عندما سأعيش لأسرتي و أمتي و ربما ستنسيني سعادة الإنجاز ما ستغيره في شكلي ساعات الزمان .