مستجدات الحج الفقهية ( النوازل في الحج ) (16من16)
الدكتور محمد بن هائل المدحجي


ما زال الحديث متصلاً عن نوازل الحج ومستجداته الفقهية ، ومن ذلك :
مستجدات الحج المتعلقة بتوفر سبل النقل السريعة
فمن النوازل المتعلقة بتوفر سبل النقل السريعة : رجوع بعض الحجاج _ وخاصة من حجاج الداخل _ إلى ديارهم بالطائرة لقضاء نهار العيد أو نهار اليوم الذي بعده مع أسرهم ، ثم عودتهم في آخر النهار ليبيتوا بمنى ، وأحياناً يكون ذهابهم قبل طواف الحج أو سعي الحج ، وهم لا يطوفون طواف الوداع عند خروجهم ، فما حكم فعلهم هذا ؟ والجواب : أن هذا الفعل الذي استفيد فيه مما يسره الله جل وعلا من أسباب النقل السريع في هذا العصر جائز لا محظور فيه ؛ إذ الحاج له أن يكون في نهار العيد ونهار أيام التشريق حيث يشاء _ ولو خرج من الحرم _ ، والمهم هو التواجد ليلاً بمنى . وأما طواف الإفاضة وسعيُ الحج فلا خلاف بين الفقهاء رحمهم الله في جواز تأخيرهما إلى آخر أيام التشريق ، وإنما يختلفون في زيادة التأخير عن ذلك ، مع ملاحظة أنه إذا لم يأت بهما لا يكون قد تحلل التحلل الأكبر ، فيبقى من المحظور عليه الجماع ومقدماته حتى وإن كان قد رمى وحلق وتحلل التحلل الأصغر . وأما الخروج بدون طواف وداع فهذا لا محظور فيه أيضاً ؛ وذلك لأن النفر المنهي عنه قبل الوداع إنما هو السفر إلى بلده بعد إنهاء أعمال الحج ، قال الهيتمي رحمه الله في تحفة المحتاج ( 4/99 ) : " لأنه لا يسمى طواف وداع إلا إن كان بعد الإتيان بجميع المناسك ، ومن ثم لو بقي عليه شيء منها جاز له الخروج من مكة بلا وداع ؛ لعدم تصوره في حقه " ، وقال الشيخ ابن باز رحمه الله : "يجوز لك الذهاب إلى جدة لإحضار أهلك إلى مكة قبل طواف الإفاضة والسعي في أيام منى، وليس عليك طواف وداع حتى ترمي الجمار يوم الثاني عشر بعد الزوال، فإذا أردت الخروج إلى جدة أو غيرها فعليك أن تطوف للوداع إذا كنت قد طفت طواف الإفاضة والسعي، أما إذا كنت لم تطف طواف الإفاضة ولم تسع، فلا حرج أن تذهب إلى جدة لإحضار زوجتك إلى مكة، وليس عليك طواف وداع؛ لأنك والحال ما ذُكر لم تكمل الحج، وطواف الوداع إنما يجب بعد إتمام مناسك الحج إذا أراد الحاج السفر إلى بلده أو إلى غيره؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم- : "لا ينفرن أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت" أخرجه مسلم "اهـ[فتاوى ابن باز 17/392 ].
وأحب أن أنبه أن السفر قبل إتمام النسك إن كانت تتحقق به مصلحة شرعية معتبرة فبها ونعمت ، وأما إن لم يكن كذلك فهو وإن كان جائزاً فهو خلاف الأولى ؛ إذ هو خلاف هدي النبي –صلى الله عليه وسلم- ، وبه يفوِّت الحاج على نفسه أجوراً ينبغي أن يحرص عليها ، يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :"إذا قضى الإنسان معظم الليل في منى فقد أدى الواجب، لكن لا شك أن هذا ناقص، فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- بقي في منى ليلاً ونهاراً، والبقاء في منى ليلاً ونهاراً عبادة ، يتعبد الإنسان لله عز وجل بالبقاء، حتى الدقيقة التي تمضي يرى الإنسان أنه قد تقرب إلى الله بها، فمادام الإنسان يشعر أن بقاءه في منى قربة فإنه يهون عليه أن يبقى ولو مع مشقة " اهـ[ فتاوى ابن عثيمين 23/256] ، ويضاف إلى هذا أن الحاج متلبس بهذا النسك العظيم ولا يفرغ منه إلا بإكمال أعماله ، وسفره قد يعرض حجه للنقص إذا عرض له ما يمنعه من العودة للمشاعر ، والله أعلم .
وقد وقفت على بعض الباحثين يقرر أن الحاج ليس له السفر إلا من ضرورة دون مسافة قصر في أيام التشريق ، وبعد البحث لم أظفر بنص فقهي فيه تقرير مثل هذا الحكم ، بل ذكر الشافعية _ كما في مغني المحتاج و نهاية المحتاج وغيرهما _أنه لا طواف وداع على مريد السفر قبل فراغ الأعمال ، ولم يتعرضوا لحكم هذا السفر ، لكن ظاهر كلام الهيتمي رحمه الله الذي تقدم أنه جائز حيث قال : "جاز له الخروج من مكة بلا وداع" اهـ، لكن قال الماوردي رحمه الله في الحاوي( 5/289 ) : " فأما إذا حاضت قبل طواف الإفاضة ، فليس لها أن تنفر حتى تطوف بعد الطهر ، لحديث صفية رضي الله عنها " . والمقصود بحديث صفية ما رواه الشيخان وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «حاضت صفية بنت حيي بعد ما أفاضت قالت: فذكرت ذلك لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: أحابستنا هي؟ قلت: يا رسول الله: إنها قد أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة قال: فلتنفر إذا » ، فقد يؤخذ من كلام الماوردي منع السفر قبل إكمال النسك ، لكن قال النووي رحمه الله في المجموع ( 8/237 ) : "وأما قول الماوردي في الحاوي : ليس لها أن تنفر حتى تطوف بعد أن تطهر فشاذ ضعيف جدا ، والظاهر أنه أراد أنه مكروه نفرها قبل طواف الإفاضة " اهـ ، ومن جهة أخرى فالحديث في احتباس النبي –صلى الله عليه وسلم- ، فهل يقال بحرمة السفر على رفقة الحائض رغم إكمالهم النسك لظاهر الحديث ؟ جمهور الفقهاء لا يقولون بهذا ، وبالتالي لم يبق في الحديث دلالة على وجوب احتباس الحائض ، والله أعلم.
ومن النوازل المتعلقة بتوفر سبل النقل السريعة أيضاً : ما يسمى بالحج السريع ، وهو الحج الذي يقوم على أساس جعل الحاج لا يفارق بلده في رحلة الحج إلا لأقصر وقت ممكن ، والغالب فيما يطلق عليه الحج السريع أن الحاج ينطلق من بلده يوم عرفة بالطائرة ، ليذهب إلى عرفة مباشرة ، ثم يتعجل في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة ، ويعود إلى بلده في نفس اليوم بالطائرة ، ليكون غيابه عن بلده أربعة أيام فقط ، وهذا حج صحيح مكتمل الشروط والأركان ، ولكنه لم يكن معهوداً فيما مضى لغير أهل مكة وما قاربها .
لكن تطور الأمر بعد ذلك حتى سمعنا عمن أفاض إلى مزدلفة ، فلما انتصف الليل ذهب إلى الجمرة فرماها، ثم حلق أو قصر، ثم طاف للإفاضة وسعى، ونوى مع طواف الإفاضة طواف الوداع، ثم أَنابَ من يرمي عنه بقيةَ الجمرات، ثم سافر، ليكون حجه خلال 24 ساعة فقط.
ولا شك أن من تعمد مثل هذا الفعل بحثاً عن الراحة أنه مستهين بهذه الشعيرة العظيمة ، ومتلاعب في أدائه لهذه الفريضة التي جعلها النبي –صلى الله عليه وسلم- جهاداً، وحجه ناقص نقصاً كبيراً ، وإن كان مجزئاً لتحقق أركانه ، جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية : " أمر الله سبحانه في كتابه الكريم بإتمام الحج والعمرة بقوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (البقرة 196) ، وتمامهما لا يحصل إلا بإخلاصهما لله، والمتابعة فيهما لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- ، فلا يجوز لمسلم أحرم بحج أو عمرة أن يخل بشيء من أعمالهما، أو أن يرتكب من الأمور المنهي عنها ما ينقصهما، ومن وكل في رمي جمراته أيام التشريق أو أحد أيام التشريق ونفر يوم النحر يعتبر مخطئًا مستهترًا بشعائر الله، ومن يوكل في رمي الجمرات اليوم الحادي عشر أو الثاني عشر من أيام التشريق ويطوف طواف الوداع ليتعجل بالسفر فقد خالف هدي الرسول –صلى الله عليه وسلم- ، وما أمر به في أداء المناسك وترتيبها، وعليه التوبة والاستغفار من ذلك، ويلزم من فعل ذلك دم عن ترك المبيت بمنى، ودم عن تركه رمي الجمرات التي وكل فيها ونفر، ودم ثالث عن طواف الوداع وإن كان طاف بالبيت لدى مغادرته؛ لوقوع طوافه في غير وقته؛ لأن طواف الوداع إنما يكون بعد انتهاء رمي الجمرات" [ فتاوى اللجنة 11/289] .
ومن النقول النفيسة المتناقلة في كتب أهل العلم: " ذكر ابن جماعة رحمه الله عن الأئمة الأربعة أنه إذا ارتكب محظور الإحرام عامدا يأثم ، ولا يخرجه الفدية والعزم عليها عن كونه عاصيا . قال النووي رحمه الله وربما ارتكب بعض العامة شيئا من هذه المحرمات ، وقال أنا أفتدي متوهما أنه بالتزام الفدية يتخلص من وبال المعصية ، وذلك خطأ صريح وجهل قبيح ؛ فإنه يحرم عليه الفعل ، فإذا خالف أثم ولزمته الفدية ، وليست الفدية مبيحة للإقدام على فعل المحرم ، وجهالة هذا الفعل كجهالة من يقول أنا أشرب الخمر وأزني والحد يطهرني ، ومن فعل شيئا مما يحكم بتحريمه فقد أخرج حجه عن أن يكون مبرورا " اهـ [ انظر : حاشية ابن عابدين 2/543 ، حاشية تهذيب الفروق 2/206 ] .
وهذا آخر الحديث عن مستجدات الحج ونوازله الفقهية ، أسأل الله عز وجل أن ينفع بها ، وأن يفقهنا في الدين ، وأن يعلمنا ما ينفعنا ، وأن ينفعنا بما علمنا ، وأن يزيدنا علماً وعملاً .
والله تعالى أعلم ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين .