التعارف والتعريف للزواج 1-2
الدكتور/ فهد بن عبدالكريم بن راشد السنيدي
المبحث الثاني: أنواع التعارف والتعريف للزواج:
للتعارف والتعريف للزواج باعتبار وسائلهما وطرق تحقيقهما أنواع كثيرة؛ إذ لكل منهما أنواع متعددة خاصة به، ويمكن بيانها وفق الآتي:
أولاً: أنواع التعارف للزواج:
لما كان التعارف مقصوداً به تحقق المعرفة المرغبة في الزواج بين رجل وامرأة معينين، فإن أنواع ذلك يمكن إجمالها في الآتي:
1- النظر: بأن ينظر الرجل إلى المرأة أو المرأة إلى الرجل أو كلاهما مباشرة بالعين المجردة، بنية الرغبة في الزواج، والنظر قد يكون بعلم الطرف الآخر، وقد يكون بغير علمه، كأن يتخبأ له، أو يتم النظر بحضرة ولي المرأة وبإذنه[24].
2- الوصف: بأن تُذكَر للرجل صفات المرأة التي يمكن أن ترغبه في الزواج منها، سواء كانت الصفات خَلْقيَّةً أو خُلُقِيَّةً، وكذلك المرأة، فتذكر لها صفات الرجل التي تدعوها وتدعو وليها إلى الموافقة على الزواج منها، سواء تم الوصف بطريق الخاطب أو الخاطبة أو إحدى القريبات للرجل كأمه أو أخته، ونحو ذلك.
3- الصور والمراسلات، بأن يطلع الرجل أو المرأة على صورة الشخص الآخر الفوتوغرافية، والتي تبين قدراً من الصفات الخَلْقِيَّة للشخص.
ويتم ذلك بتبادل الصور بينهما، أو عبر الجوالات ذوات الكاميرات أو الأشرطة التلفزيونية المسجلة للرؤية ونحوها. ومثلها حصول مراسلات تتضمن الصفات المرغوبة في النكاح لكل من الرجل والمرأة، سواء كانت خَلقية أو خُلقية، وربما أتاحت المراسلات قدراً من إجابة التساؤلات الواردة بين الطرفين في شأن الزواج وإتمامه، وكذا المزيد من التفاهم والتعارف بين الرجل من جانب وبين المرأة ووليها من جانب آخر. والمقصود: المراسلات المعهودة المعتادة بالرسائل البريدية وبالحاسوب الفاكس ونحوها.
4- أجهزة الاتصال الحديثة: حيث تسهل الاتصال بين الرجل وجهة المرأة وتحقق السرعة في ذلك، وأبرز وسائلها الهواتف المعهودة والتي تتيح الحديث بينهما في كل ما يرغب في الزواج ويوصل إليه.
وتأتي كذلك شبكة المعلومات الانترنت في مقدمة هذه الوسائل والطرق المستجدة المعروفة اليوم والواسعة الانتشار؛ لتسهل التواصل بغية التعارف للزواج بين رجل وامرأة أو وليها معينين.
5- العرض: بأن تعرض صفات المرأة المعينة المرغبة في نكاحها على الرجل المعين المتوقع رغبته في الزواج منها، وكذلك العكس سواء كانت المواصفات خَلْقيَّةً أو خُلُقِيَّةً.
ومن هذا القبيل لو عرضت امرأة نفسها على رجل مع أمن الفتنة أو العكس بغية الزواج والرغبة في الآخر لدى العارض.[25]
ومنه ما عرف في الوقت الراهن من عرض المرأة نفسها على الملأ على منصة أو عبر شاشة التلفزيون، وكذا الرجل، ليتقدم الراغبون فيها لطلبها مباشرة، فتختار منهم من ترى أنه الأنسب لها منهم، لجماله أو ماله أو مكانته ونحو ذلك، وكأن عارض نفسه أمام الملأ في مزاد علني للاقتران به.
هذه أبرز أنواع التعارف للزواج بين الرجل والمرأة المعينين، وهي مدركة من الواقع في حياة الناس في مساعيهم لطلب النكاح.
ثانياً: أنواع التعريف للزواج:
لما كان التعريف يتمثل في عرض مواصفات خَلْقِِيَّة وخُلُقِيَّة لشخص يرغب في الزواج على الملأ ، عله يجد من تناسبه هذه المواصفات أو تتحقق فيه، ويرغب هو كذلك في الزواج؛ ليتم التواصل بعد ذلك للتعارف الشخصي، ثم الزواج، أمكن حصر أنواعه فيما يلي:
1- الأشخاص: وذلك بوجود أشخاص أمناء محتسبين كالقضاة وأئمة المساجد، يزودهم الشخص الراغب في الزواج بمعلومات شخصية عنه من مواصفات ترغب فيه ونحوها، ويطلب عرضها ضمن مواصفات غيره على طالبي الزواج الذين يبحثون عن مواصفات معينة فيمن يرغبون في الاقتران به بالزواج.
وهذا طريق مأمون في تحقيق المطلوب وحفظ الأسرار؛ لأنه يكون بيد ثقات قادرين على حفظ أسرار الناس في الجملة، وقد يوجد هذا عند من يشتهر بالخاطب أو الخاطبة، وغالباً ما يكون أمره سهلاً ميسوراً على كثير من الناس، وهو متعارف عليه قديماً، وربما سعى الخاطب أو الخاطبة بنفسيهما إلى توفير المعلومات عن الأشخاص طالبي الزواج، ولكن نطاقه محدود غالباً في محيط جماعة المسجد أو الحي ونحو ذلك.
2- البطاقات: وهي بطاقات تُعَدّ من قبل مختصين بشؤون الزواج والتوفيق فيه، تتضمن بنودها أهم المواصفات المرغبة في الزواج، ويقوم طالب الزواج من رجل أو امرأة بنفسها أو وليها بتعبئة نموذج طالب الزواج، وتوضع عند أمناء مهتمين بهذا الشأن، فإذا ما وجد بطاقتان لرجل وامرأة بينهما توافق كلي أو بنسبة كبيرة سُعي إلى التعارف الشخصي بينهما، علّه أن يتوصل بعد ذلك إلى إتمام عقد الزواج بينهما.
وهذه الأمور تتم بجهود أشخاص أو مكاتب متخصصة بذلك، وربما عن طريق جهات رسمية تعنى بهذا الشأن.
وقد أثبت هذا الطريق فعاليته، وبخاصة مع ذوي الإعاقات، لصعوبة العثور على من يقبل بالزواج من ذي الإعاقة أحياناً.
3- المجلات والصحف: من المجلات والصحف ما يعني بشؤون الزواج والتوفيق فيه بين راغبي الزواج من الذكور والإناث، ومنها ما يخصص زوايا لهذا الأمر، والمعهود نشر مواصفات راغبي الزواج العامة وشروطهم فيمن يرغبون به عبر هذه المجلات والصحف، مع المحافظة على الأسماء الحقيقية سرية؛ حفاظاً على أسرار الناس، وتبقى المجلة الوسيط بين الطرفين، فإذا ما تقاربت المواصفات بين طرفين سُعي إلى تزويد كل طرف بعنوان الآخر، لينتهي دور المجلة أو الصحيفة، ويأتي دور التواصل بين الطرفين المعنيين.
ومن هذه الصحف من يقف دورها على مجرد نشر المعلومات الشخصية العامة؛ لأن عرفها نشر العناوين مع المواصفات، وطالبوا الزواج عبرها على علم بذلك.
ومن تلك المجلات مجلة الزواج التي تصدر بجدة، وتم عن طريقها التوفيق للزواج بين أناس كثر.
وغالباً ما تكون الصحف والمجلات واسعة الانتشار، وتتعدى حدود الدولة التي تصدر فيها.
4- الشبكة المعلوماتية: والمقصود نشر المواصفات للراغب في الزواج والمرغوب فيه عبر الشبكة المعلوماتية في مواقع تعد لذلك، ليتم اطلاع راغبي الاطلاع عليها والاستفادة منها عبر هذه المواقع المعنية.
ومن هذه المواقع من لا يمكن الاستفادة من إلاّ مقابل أجر يحدده على المستفيد منه ابتداء، وربما تضاعف الأجر عندما يصل الأمر إلى نجاح التوفيق بين الطرفين والتوصل إلى الزواج.
ويتميز التعريف عن طريق الشبكة المعلوماتية المسماة بالانترنت وبالشبكة العنكبوتية بأن انتشارها يكون على مستوى العالم, ومن الممكن استفادة الشخص منها في أي مكان من العالم.
ولذلك يوجد زواجات طرفاها كانا في دول متباعدة، وعبر هذا الطريق تم التعارف ثم التواصل، فالزواج.
5- مؤسسات الزواج: وهي جهات تعنى بالتوفيق بين راغبي الزواج من ذكور وإناث، وفق تنظيمات معينة تخصها، بحيث يتواصل طالبوا الزواج مع هذه المؤسسات مسجلين رغباتهم ومواصفاتهم عندها؛ لتقوم بدور الوسيط الأمين في ذلك.
وهذه المؤسسات يحتاج إليها غالباً في المجتمعات الكبيرة والمدن التي يصعب على فئات من الناس فيها أن يَعْرِف أو يُعْرَف بغرض الزواج. وقد يكون لهذه المؤسسات رعاية رسمية وإشراف عام من قبل الجهات ذات العلاقة في الدول كمحكمة الضمان والأنكحة.
وقد قامت هذه المؤسسات بدور الأفراد في التعريف والتوفيق للزواج، لما صار دور الأفراد في مجتمعات كثيرة لا يفي بالمطلوب؛ لكثرة الناس، وقلة التواصل الاجتماعي بينهم.
وغالباً ما تتقاضى أجراً على جهودها في هذا المجال؛ لتغطية أجور موظفيها وتوابع ذلك.
هذه أظهر أنواع التعريف للزواج، وهي لا تقل شأناً عن أنواع التعارف للزواج؛ إذ كلها وسائل يهدف من ورائها إلى تحقيق الزواج بين رجل وامرأة، وقد تعددت هذه الأنواع؛ نظراً لمقتضيات العصر الراهن ومتطلباته.
وكل هذه الأنواع للتعارف والتعريف للزواج تتطلب دراسة مستقلة؛ لمعرفة أحكامها الفقهية التفصيلية، وبالله التوفيق.
المبحث الثالث: أركان التعارف والتعريف للزواج
لا يمكن أن يوجد تعارف أو تعريف للزواج إلاّ إذا وجدت العناصر الأساسية المكونة لكل منهما، وهي ما يمكن أن يسمى بالأركان، وهي الآتي:
1- الراغب في التعارف أو التعريف للزواج: وهو الشخص الذي يبدي رغبته في ذلك، رجلاً كان أو امرأة، وبأي نوع من أنواع التعارف أو التعريف، والتي سبق بيانها في المبحث الثاني.
2- المرغوب في معرفته من أجل الزواج بالتعارف أو التعريف: وهو الشخص المرغوب في التعرف عليه، رجلاً كان أو امرأة، وتعيينه من أجل الزواج، بأي من أنواع التعارف أو التعريف للنكاح.
3- القائم بالتعارف أو التعريف للزواج: وهذا قد يكون شخصاً؛ وهو المسمى بالخاطب أو الخاطبة أحياناً، وقد يكون جهة، كمؤسسة مخصصة لذلك، ومنها المواقع الالكترونية المخصصة لذلك.
فإذا وجدت هذه الأركان الثلاثة، أمكن تصور وجود ما يمكن أن يسمى بالتعارف أو التعريف للزواج. وإذا فقدت كلها أو بعضها، لم يمكن تصور وجود ذلك.
المبحث الرابع: شروط التعارف والتعريف للزواج
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: شروط التعارف للزواج:
لما كان التعارف للزواج يتم بين رجل وامرأة أو وليها، وأنواع ذلك متعددة، اقتضى الأمر وضع ضوابط شرعية لذلك، وهي ضوابط عامة، تستقرأ من الأحكام التفصيلية لأنواع التعارف، ويمكن أن تسمى شروطاً، وبيانها ـ إجمالاً ـ فيما يأتي:
1- الرغبة الحقيقية في الزواج، والعزم عليه عند الشروع في التعارف؛ حتى لا يؤدي عدم الرغبة فيه، وعدم العزم عليه إلى الاطلاع على ما لا يباح الاطلاع عليه بلا سبب شرعي، وحتى لا تهتك أسرار الناس بلا مسوغ شرعي؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات ... » الحديث، متفق عليه وسياقه للبخاري[26].
ومن المعلوم أن الأمور بمقاصدها[27].
2- تعيين الطرف المرغوب فيه، وعدم تجاوز ذلك إلى التعارف المحرم؛ لأن عدم تعيينه يؤدي إلى الوقوع في المحرم، والاطلاع على محارم غيره، وهتك حدود الله، والوقوع في الإثم.
3- عدم تجاوز ما يحصل به التعارف للزواج، لأن ما زاد على قدر الحاجة يبقى على أصل الحرمة؛ إذ لا مسوغ شرعاً لإباحته.
4- الأمانة وحفظ السر فيما اطلع عليه، سواء كان بواسطة أو بغير واسطة؛ لأن فقدان الأمانة خيانة، والخيانة محرمة شرعاً، وآثارها ضارة.
ومن الأمانة؛ الأمانة في الواسطة، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ... } [28] وقال النبي –صلى الله عليه وسلم: «أد الأمانة إلى من ائتنمك ... » الحديث، رواه الترمذي وأبو داود[29].
وقد حذر الشارع من هتك الأستار وإفشاء الأسرار بلا حاجة شرعية، وقد جاء حديث «المجالس بالأمانة...» الحديث، رواه أبو داود[30].
5- عدم المانع الشرعي من النكاح؛ كأن تكون المرأة معتدة أو مخطوبة أو أختاً لزوجة الخاطب، أو أن تكون خامسة بالنسبة للراغب في الزواج منها، وذلك حتى لا تنتهك حرمات الله؛ قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُم ُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } [31].
المطلب الثاني: شروط التعريف للزواج
هنـاك ضـوابط عامة في التعريف للـــزواج، ويمكن أن تُعَدّ شروطـاً له، وهي ـ إجمالاً ـ ما يلي:
1- حفظ المعلومات الشخصية وتبادلها عبر وسائل التعريف بأمانة، والتزام السرية فيما تلزم له من معلومات شخصية؛ حفاظاً على حقوق الناس وكراماتهم وأسرارهم.
2- الدقة في المعلومات اللازمة، وتحري الصدق فيها، حتى لا يحصل غرر أو غش أو تدليس.
3- الحذر من استغلال المعلومات الشخصية في غير ما أعطيت له؛ حتى لا يضار أحد بها، بالتعدي على شخصه أو حقوقه أو نحو ذلك.
4- عمل الإجراءات الاحترازية والضمانات اللازمة عن التعدي الخارجي على المعلومات الشخصية واختراقها.
المبحث الخامس: وقت التعارف والتعريف للزواج
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: وقت التعارف والتعريف بالنسبة لعقد الزواج
الوقت المناسب للتعارف والتعريف، ما كان قبل الزواج بوقت مقارب لعقد الزواج[32]؛ لما يأتي:
1- إذن الشارع في النظر إلى المرأة عند نية خطبتها وقبل العقد عليها في أحاديث، منها ما يلي:ـ
*أ- ما رواه جابر بن عبدالله ـ رضي الله عنه ـ قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا جناح على أحدكم إذا أراد أن يخطب المرأة أن يغترها، فينظر إليها، فإن رضي نكح، وإن سخط ترك» رواه عبدالرزاق[33] في مصنفه[34].
ب- ما رواه محمد بن مسلمة[35]رضي الله عنه- قال: «سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:"إذا ألقى الله في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها».رواه ابن ماجه واللفظ له، ورواه أحمد وعبدالرزاق والحاكم والبيهقي[36].
حيث دل الحديثان على أن وقت النظر للتعرف على المرأة إنما هو قبل العقد عند إرادة خطبتها، لا بعده[37].
2- أن ما أبيح من طرق التعارف والتعريف وسيلة لغاية وهي الزواج وسبب له والوسيلة تسبق الغاية، والسبب يسبق المسبب.
3- أن وجود ذلك قبل العقد يثمر ما هو مطلوب منه، وهو العقد، فكأن الزواج ناتج عن ذلك ومتولد منه، فكان أصلاً لما هو متفرع عنه وهو الزواج، والأصل سابق لفرعه.
4- أن حصول ذلك بعد العقد أمر لا حاجة إليه، لاستلزام العقد له، ولفوات محله.
5- أن تحقق آثار ذلك من حسن الاختيار، وتأكيد الرغبة، لا تحصل إلاّ بحصول ذلك قبل العقد.
وأما مصاحبة ذلك للعقد فأمر نسبي، أقرب إلى الافتراض، وإن كان قد يحقق قدراً يسيراً من آثاره؛ لأن وقت إبرام عقد الزواج قصير عادة، وقد لا يتعدى الدقائق.
المطلب الثاني: وقت التعارف والتعريف بالنسبة لتقدير مدتهما
تقدم أن مدة التعارف والتعريف لا بد أن تسبق عقد الزواج، فما مقدار تلك المدة؟ هل تتحدد بالأشهر أو بالأيام؟
والمطلوب في هذا ما يكفي من وقت لتحقق حسن الاختيار، وما يكفي من الوقت للوصول إلى عقد الزواج بين معينين.
ولا تحديد في ذلك شرعاً، فيرجع في ذلك إلى ما تقتضيه حاجة التعارف والتعريف من الوقت، وما عليه الأعراف في المجتمعات المختلفة، كل مجتمع بحسبه.
وأقل ذلك مقدار نظرة عابرة.
وقد يتأثر ذلك طولاً بتباعد المسافات بين طرفي الزواج، وتأخر التواصل بينهما إن وجد؛ كالمراسلات العادية، وسفر الأشخاص لهذا الغرض.
على أن التعارف أقل مدة من التعريف؛ لأن التعارف يسبقه التعريف عادة، ويأتي بعد التعريف وقبل العقد.
ولا ينبغي الاستعجال بما لا يحقق المطلوب منه على الوجه الكافي، ولا ـ كذلك ـ طول الوقت بما يزيد عن الحاجة مما قد يفوت فرصاً أخرى على راغبي الزواج لو لم ينم هذا الزواج، ولأن الفورية في تحقيق المصالح مطلوبة متى ما كانت ممكنة.
وما تجري عليه بعض المجتمعات من تحديد مدة للتعارف والتعريف كستة أشهر، هذه لا أصل لها شرعاً، وقد تؤدي إلى مخاطر وخيمة، وكثيراً ما استغلت المرأة، وتُمُتِّع بالفتاة بطريق حرام، وخدعت بذلك، ثم رُفِض الزواج بها.
ولو تمّ عقد الزواج، وطلبت مدة للتعارف بين الرجل والمرأة قبل تمام مظاهر الزواج المعتادة في كل مجتمع بحسبه، فهذا لا بأس به؛ لأنهما زوجان شرعاً بمقتضى العقد، لكن هذا التعارف اللاحق بعد عقد النكاح ليس هو المقصود في هذا البحث؛ لأن عقد الزواج قد تمّ، وبتمامه فات وقت الاختيار بالتعارف والتعريف له، ولأن هذا فائدته ظاهرة في تحقيق الاستقرار والألفة والسكن والمودة بين الزوجين، وهذه مرحلة مترتبة على معرفة كل من الزوجين بالآخر، وتعيينه بالعقد، والله تعالى أعلم.
[1] الرعد، من الآية: 38.
[2] النحل، من الآية: 72.
[3] الروم، الآية: 21.
[4] الحجرات، من الآية: 13.
[5] صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب/ باب: الأرواح جنود مجندة، 16/424، رقم الحديث 2638، عن أبي هريرة – رضي الله عنه.
[6] صحيح مسلم: كتاب الرضاع/باب خير متاع الدنيا المرأة الصالحة، 10/310، رقم الحديث: 1467. وروى نحوه: النسائي في سننه: كتاب النكاح/ باب: المرأة الصالحة، 6/377، رقم الحديث: 3232، وابن ماجه في سننه: أبواب النكاح/ باب فضل النساء، 1/342، رقم الحديث: 1860.
[7] سيأتي بيان هذا مفصلاً من خلال المقارنة بينهما في المبحث الأول، ص: 15، 16.
[8] من العلماء من خص أحكام النظر بمؤلف مستقل وهم – حسب علمي – الآتي:
- محمد بن عبدالله العامري، المعروف بابن الخباز، المتوفى سنة 530هـ في كتابه أحكام النظر للحرمات.
- علي بن محمد بن عبدالملك، المعروف بابن القطان، المتوفى سنة 628هـ في كتابه: النظر في أحكام النظر بحاسة البصر.
- ابن قيم الجوزية، المتوفى سنة 751هـ في كتابه: حكم النظر إلى النساء.
- علي بن عطية الحموي الشافعي المتوفى سنة 936هـ في كتابه: أحكام النظر.
- ومن المعاصرين ما يلي:
- أ.د. عبدالله بن عبدالمحسن الطريقي في كتابه: النظر وأحكامه في الفقه الإسلامي.
- د.علي بن عبدالرحمن الحسون في كتابه: أحكام النظر إلى المخطوبة.
- أ.د. مساعد بن قاسم الفالح، في رسالة قصيرة بعنوان: دليل الطالب في حكم نظر الخاطب.
[9] الحجرات، من الآية 13.
[10] جاء في لسان العرب 2/746 ما نصه: « قال سيبويه: عَرَّّفتهُ زيداً، فذهب إلى تعدية عَرَّّفتُ – بالتثقيل – إلى مفعولين، يعني أنك تقول: عَرََفتُ زيداً، فيتعدى إلى واحد، ثم تثقل العين، فيتعدى إلى مفعولين، قال: وأما عَرَّفتُهُ بزيد، فإنما تريد: عَرَّفتُُهُ بهذه العلامة وأوضحته بها، فهو سِوى المعنى الأوّل، وإنما عَرَّفته بزيد كقولك: سميته بزيد».
[11] المعجم الوسيط 2/601، وينظر: التعريفات ص: 64 ، 65.
[12] محمد، الآية: 6.
[13]ينطر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 16/153، وفيه: « قال ابن عباس: عرّفها لهم أي: طيبها لهم بأنواع الملاذ، مأخوذ من العَرف؛ وهو الرائحة الطيبة».
[14] لسان العرب 2/748. القاموس المحيط 3/173.
[15] ينظر: الصحاح 4/1400-1403، مجمل اللغة 3/661، مختار الصحاح ص: 426 ، 427، لسان العرب 2/745-748 مادة «عرف» في الأربعة المتقدمة، القاموس المحيط 3/ 173-175، مادة «عرفه». المطلع على أبواب المقنع ص:213. المعجم الوسيط 2/ 601 ، 602 مادة عرف، واستفيد كذلك من كتاب: العُرف وأثره في الشريعة والقانون ص 27-30 ، الموسوعة الفقهية الكويتية 12/ 251.
[16] يوسف، الآية 58.
[17] الحجرات، من الآية 13.
[18] يونس، من الآية: 45.
[19] مسند الإمام أحمد 1/382، رقم الحديث: 2803، المستدرك 3/541.
[20] النهاية في غريب الحديث والأثر 3/217.
[21] صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب/ باب: الأرواح جنود مجندة، 16/424، رقم الحديث:2638.
[22] صحيح مسلم: كتاب اللقطة 12/267، رقم الحديث، 1722، وروى البخاري نحوه في صحيحه: كتاب الطلاق/ باب حكم المفقود في أهله وماله، 10/538، رقم الحديث:5292.
[23] النهاية في غريب الحديث والأثر 3/217.
[24] للباحث بحث بعنوان: « التعارف بالنظر للزواج » وهو قيد النشر.
[25] والأصل في هذا: ما رواه سهل بن سعد الساعدي –رضي الله عنه-: «أن امرأة جاءت إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسي، فنطر إليها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فصعد النظر إليها وصوبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئاً جلست، فقام رجل من أصحابه، فقال: أي رسول الله، إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها ...» إلى أن قال النبي –صلى الله عليه وسلم- في آخر الحديث: «اذهب، فقد ملكتكها بما معك من القرآن».
رواه البخاري في صحيحه والسياق له: كتاب النكاح، باب النظر إلى المرأة قبل التزويج= =10/226، برقم 5126، ومسلم في صحيحه: كتاب النكاح/باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد ..، 9/223 ، 224، برقم 1425. فقد عرضت هذه المرأة نفسها على النبي –صلى الله عليه وسلم- ومن معه من الصحابة؛ رغبة في الزواج، وأقرها النبي- صلى الله عليه وسلم- على ذلك، بتزويجها من أحد أصحابه.
قال النووي –رحمه الله- في شرح صحيح مسلم 9/224:«فيه استحباب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح ليتزوجها».
[26] صحيح البخاري: كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/15، رقم الحديث: 1، صحيح مسلم: كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم:« إنما الأعمال بالنيات ... »، 13/57، رقم الحديث: 1907.
[27] ينظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص: 6، كتاب القواعد للحصني، 1/208، الأشباه والنظائر للسيوطي، ص: 8.
[28] النساء: من الآية 58.
[29] سنن الترمذي: أبواب البيوع، باب 38، 4/263 رقم الحديث: 1264، سنن أبي داود: كتاب البيوع والإجارات، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، 3/805، رقم الحديث: 3535، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه.
[30] سنن أبي داود: كتاب الأدب، باب في نقل الحديث، 5/189، رقم الحديث: 4869، عن جابر بن عبدالله ـ رضي الله عنه.
[31] النساء: الآية 23.
[32] ينظر: الذخيرة 4/191، روضة الطالبين 7/20، مغني المحتاج 3/128، الإنصاف 8/18، الفقه الإسلامي وأدلته 7/24، 25 ، المفصل في أحكام المرأة 3/222.
[33] هو: أبوبكر، عبدالرزاق بن همام بن نافع الحميري بالولاء الصنعاني، حافظ ثقة، له :«المصنف» المشهور باسمه «مصنف عبدالرزاق» والمسمي «الجامع الكبير» وله كتاب في «تفسير القرآن»، كان مولده سنة 126هـ، توفي عام 211هـ.
ينظر: الفهرست لابن النديم، ص: 318، طبقات الحنابلة 1/209، رقم الترجمة: 280، نكت الهيمان في نكت العميان، ص: 191، 192.
[34] مصنف عبدالرزاق 6/157، رقم الحديث: 10337.
ورواه بلفظ آخر: أبو داود في سننه: كتاب النكاح، باب في الرجل ينظر إلى المرأة وهو يريد تزويجها 2/565، 566، برقم: 2082، والإمام أحمد في مسنده 3/434، برقم: 14570، والحاكم في المستدرك 2/165 وصححه، والبيهقي في السنن الكبرى 7/84، وحسنه ابن حجر في فتح الباري 10/227.
وينظر: التلخيص الحبير 3/147.
[35] هو: أبوعبدالله، محمد بن مسلمة الأنصاري الأوسي، صحابي جليل، شهد بدراً والمشاهد بعدها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم- أحاديث كثيرة، وكان ممن اعتزل الفتنة، فلم يشهد الجمل ولا صفين، توفي بالمدينة سنة 46هـ، وهو ابن سبع وسبعين سنة.
ينظر: الاستيعاب 3/334ـ 336، سير أعلام النبلاء 2/369ـ 373، رقم الترجمة: 77، الإصابة 3/383، 384، رقم الترجمة: 7806.
[36] سنن ابن ماجه: أبواب النكاح، باب: النظر للمرأة إذا أراد أن يتزوجها 1/343، 344، رقم الحديث: 1869، مسند الإمام أحمد 3/648، رقم الحديث: 16008، 4/307، 308، رقم الحديث: 17941، مصنف عبدالرزاق 6/158، رقم الحديث: 10338، المستدرك 3/434، السنن الكبرى 7/85.
[37] ينظر الغاية القصوى 2/722.