أصول الفقه .. الآلة لفهم الأنظمة
د.يوسف بن أحمد القاسم

منذ القدم وربما حتى اليوم وكثير من الأصوليين يدرسون أصول الفقه على أنه آلة لفهم نصوص الشريعة فقط، وهذا تضييق لباب علم أصول الفقه، وحشر له في المجال ''الأهم''، وهو مجال كونه آلة لاستنباط أحكام الفقه من النصوص الشرعية، واستبعاد دوره المحوري ''المهم'' في المجالات الأخرى كدوره الرئيس في فهم نصوص العلماء، ونصوص الأنظمة، ونصوص العقود التي يدونها أطراف التعاقد، والسر في هذا الدور الكبير الذي يقوم به أصول الفقه أنه يحمل بين طياته العديد من الدلالات اللغوية، كدلالة العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والنص والظاهر والمؤول... إلخ، وهذه الدلالات يجب أن توظف لفهم النصوص العربية كافة، سواء كانت نصوصا للقرآن الكريم التي نزلت بلسان عربي مبين، أو للسنة النبوية التي جاءت على لسان أفصح العرب، أو كانت نصوصا للعلماء الذين يتكلمون بالعربية، أو كانت نصوصا للنظام المكتوب بلغة العرب، فهذه كلها يجب أن تفهم وفق دلالات اللغة، وإن اختلفت النصوص في درجة الفصاحة، ودرجة الهيبة، ودرجة امتثال المكلف حسب مرتبة مصدر النص، فليس النص النظامي كالنص الشرعي، وليس النص العادي كالنص النظامي، وهكذا.
ولو رجعنا قليلا إلى الوراء، لوجدنا أن كليات الحقوق في مصر قد استدعت أصول الفقه لتكون منهجا مقررا في تلك الكليات؛ لكونها تدرس القانون المصري بأنواعه، المدني وغيره، وذلك من أجل أن تكون أصول الفقه مصدر تفسير لنصوص القانون، وهو إجراء موفق بلا شك، وهكذا يجب على كليات الحقوق في المملكة، أن تهتم بتدريس هذه المادة إن كانت مقررات بعض هذه الكليات خلوا منها.
ولو أخذنا مثالا بسيطا في مجال النظام السعودي، نجد مثلا نصا في نظام الشركات (الصادر سنة 1385هـ) يقول في المادة (49): ''لا يقل رأسمال شركة المساهمة التي تطرح أسهمها للاكتتاب العام عن عشرة ملايين ريال سعودي، وفيما عدا هذه الحالة لا يقل رأسمال الشركة عن مليوني ريال سعودي'' أهـ. ثم نجد نصا في نظام مراقبة البنوك (الصادر عام 1386هـ) يقول في المادة (3): ''ويشترط في الترخيص لبنك وطني:1 - أن يكون شركة مساهمة سعودية. 2 - ألا يقل رأس مالها المدفوع عن مليونين ونصف مليون ريال سعودي''أهـ، وحيث إن البنك يعتبر - وفق هذه المادة - شركة مساهمة، فإنه يثور تساؤل:
إذا كان البنك في شكل شركة مساهمة مقفلة، فهل يؤخذ بالحد الأدنى من رأس المال للبنك وهو مليونا ريال وفقا لنص نظام الشركات، أو يؤخذ بالحد الأدنى من رأس المال للبنك وهو مليونان ونصف وفقا لنص نظام مراقبة البنوك؟
لو نظرنا في النظامين وفق دلالة العام والخاص، ووفق أحكام الناسخ والمنسوخ المقررة في أصول الفقه، لوجدنا النتيجة الآتية:
في دلالة العام والخاص، يقدم الخاص على العام؛ إذ دلالة الخاص قطعية ودلالة العام ظنية.
وفي أحكام الناسخ والمنسوخ، يقدم الناسخ على المنسوخ؛ إذ يقدم المتأخر على المتقدم.
وبالنظر للنظامين السابقين نجد أن نص نظام الشركات في مادته (49) ''عام'' لكل شركة مساهمة، وأما نص نظام مراقبة البنوك في مادته (3) فهو نص ''خاص'' بشركة المساهمة ذات شكل ''البنك'' التجاري، حيث إن النظام برمته خاص بالبنوك، وبالتالي يخصص العام بالنص الخاص. كما أنه بالنظر للنظامين السابقين، نجد نظام الشركات متقدما على نظام مراقبة البنوك زمنيا بسنة واحدة، ولو ''افترضنا'' وجود تعارض بين نص خاص ونص خاص آخر فإن المتأخر ينسخ المتقدم، بل حتى مع تأخر النص العام عن الخاص يوجد من الفقهاء من يرى أن النص العام ناسخ للنص الخاص.
وبالتالي، فإنه يجب في الحالة الراهنة الدالة على وجود نص خاص متأخر عن النص العام أن يخصص النص العام بالنص الخاص، فيكون الحد الأدنى من رأسمال البنك التجاري مليونين ونصف مليون، هذا من حيث النظام فقط. أما من حيث الواقع، فإن أقل رأسمال بنك من بنوكنا المحلية اليوم يزيد حد رأسماله الأدنى على (2.5 مليار ريال).
وهكذا فيما يتعلق بالاحتياطي النظامي للشركات، فإنه ألزم بتجنيب 10 في المائة من الأرباح الصافية حتى يبلغ الاحتياطي قدر نصف رأس المال، ثم أعطى النظام الجمعية العامة العادية وقف هذا التجنيب متى بلغ الاحتياطي هذا القدر. أما الاحتياطي النظامي للبنك التجاري، فإنه ألزم بتجنيب 25 في المائة من الأرباح الصافية حتى يبلغ الاحتياطي قدر رأس المال كاملا - لخصوصية وضع البنك كشركة حاضنة لأموال المودعين - وهنا يجب على البنوك الأخذ بهذا الاحتياطي الأخير أخذا بالنص الخاص لنظام مراقبة البنوك (في مادته 13) المقدم على النص العام في نظام الشركات (في مادته 125)، وهكذا في أمثلة كثيرة.
وهذا لا يعني استبعاد اللوائح التفسيرية لتكون آلة لفهم النظام؛ إذ يعتبر أصول الفقه هذه اللوائح والمذكرات التفسيرية من قبيل البيان للمجمل الوارد في النظام، وهكذا لو نصت بعض الأنظمة على أنه ''من غير إخلال بما يقضي به نظام كذا...، فإن الجهة الفلانية تختص بكذا....'' فهذا دليل على عدم نسخ ما جاء في النظام السابق الذي نص النظام اللاحق على عدم الإخلال به. ومثله لو قال واضع النظام: ''يلغي هذا النظام كل ما يتعارض معه من أنظمة سابقة''، فهو نص صريح على نسخ كل ما يتعارض معه من نصوص خاصة أو عامة، فهذا كله في الواقع إعمال للدلالات اللغوية التي يحظى بها أصول الفقه، وليس العكس.
ومن هنا، فإنه ينبغي للجهات المختصة بوضع الأنظمة أن تقوم بتقنين قواعد الدلالات اللغوية في مدونة خاصة أخذا من الدلالات المدونة في أصول الفقه (كتقنين القضاء في مدونة خاصة أخذا من المدونات الفقهية)؛ حيث تكون مرجعا لفهم الأنظمة، من خلال تدوين المتفق عليه من الدلالات اللغوية، وحسم المختلف فيه في قول واحد، وهذا سيسد الكثير من الثغرات الواقعة في الأنظمة، كما أنه سيقلل من مساحات الخلاف في تفسير الأنظمة، سواء على المستوى الإداري أو القضائي، والله تعالى أعلم.