مستجدات الحج الفقهية ( النوازل في الحج ) (11من16)
الدكتور محمد بن هائل المدحجي

من نوازل الحج ومستجداته الفقهية :
( النوازل المتعلقة بالإحرام ومحظوراته )، ومن ذلك :
مكان الإحرام لمن يسافر بالطائرة
معلوم أن النبي –صلى الله عليه وسلم- وقت المواقيت التي لا يجوز مجاوزتها بدون إحرام ، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس " قال : وقت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرناً ، ولأهل اليمن يلملم ، وقال: " هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة ، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ ، حتى أهل مكة من مكة "، وإذا لم يمر الحاج بالميقات فإنه يحرم إذا حاذى الميقات كما دل على ذلك ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر { قال : لما فُتح هذان المصران ـ يعني البصرة والكوفة ـ أتوا عمر رضي الله عنه فقالوا : ( يا أمير المؤمنين ، إن النبي –صلى الله عليه وسلم- حد لأهل نجد قرناً وإنه جورٌ عن طريقنا ، وإن أردنا أن نأتي قرناً شق علينا قال : فانظروا على حَذوها من طريقكم ) ، وهذه المحاذاة نص الفقهاء المتقدمون أنها تنطبق على من أتى للحج براً أو بحراً.
لكن برزت بعض الاجتهادات الفقهية التي تبيح تأخير الإحرام إلى جدة في بعض الحالات لمن أتى حاجاً عن طريق البحر، ومن ذلك ما اعتمده متأخروا المالكية من جواز تأخير الإحرام إلى جدة لمن أتى حاجاً عن طريق البحر ؛ وذلك لاحتمال تعرضه للريح فلا يستطيع الخروج إلى البر إن كان في لجة البحر _ وهو ما كانوا يطلقون عليه بحر عيذاب _ ، فيبقى محرمًا حتى تتيسر له السلامة ، وهذا حرج عظيم منفي في الشرع ، ولا يلزمه دم بهذا التأخير[ حاشية الدسوقي 2/24] ، أما إن كان إبحاره قريباً من الساحل _ وهو ما كانوا يطلقون عليه بحر القلزم _ فقال في منح الجليل (2/229) : "وأما من سافر في بحر القلزم فعليه الدم بتأخير الإحرام إلى جدة لقدرته على النزول إلى البر والإحرام من نفس الجحفة ، لكن لمضرة النزول بمفارقة الرحل ، والخطر بخوف رد الريح إن أحرم في السفينة ، يباح له تأخير الإحرام لجدة . وحاصله أن من في بحر عيذاب لا يمكنه النزول للبر بالكلية فلا يجب عليه الإحرام عند محاذاة الميقات ، فيؤخره إلى جدة ، ولا دم عليه ؛ إذ لم يترك واجبا . وأما من في بحر القلزم فيجب عليه الإحرام بمحاذاة الميقات ؛ لإمكان نزوله بالبر ، لكن للمشقة يسقط عنه الواجب ، ويرخص له في تأخيره إلى جدة وعليه الدم لترك الواجب " اهـ . وأيضاً ذهب متأخروا الشافعية إلى جواز تأخير الإحرام إلى جدة لمن يأتي من جهة اليمن ، وفي ذلك يقول الهيتمي في تحفة المحتاج ( 4/45 ) : " وبه يعلم أن الجائي من اليمن في البحر له أن يؤخر إحرامه من محاذاة يلملم إلى جدة ؛ لأن مسافتها إلى مكة كمسافة يلملم كما صرحوا به بخلاف الجائي فيه من مصر ليس له أن يؤخر إحرامه عن محاذاة الجحفة ؛ لأن كل محل من البحر بعد الجحفة أقرب إلى مكة منها فتنبه لذلك ، فإنه مهم " اهـ .
ثم جد في عصرنا هذا المجيء للحج بالطائرة ، فبرزت بعض الاجتهادات التي ترى بأنه لا يلزم الإحرام في الطائرة ، بل يمكن تأخير الإحرام حتى النزول إلى البر ، وممن ذهب إلى هذا : العلامة الطاهر بن عاشور ، والشيخ عبد الله المحمود ،والشيخ عبد الله الأنصارى ، والشيخ مصطفى الزرقا _ رحمة الله على الجميع _ ، وبعض هذه الاجتهادات استندت إلى الاجتهادات السابقة التي أجازت الإحرام من جدة لمن أتى من طريق البحر ، وقالوا : بأن اضطراب الطائرة في الجو وعدم استقرارها، وشعورَ الركاب بالخوف ، وعدمَ تهيئهم للإحرام في مثل هذا الظرف يشبه حال الخوف في البحر، وقالوا بأنه يصعب تحديد مكان الميقات في الطائرة، خاصة للركاب المسلمين القادمين من بلاد غير مسلمة؛ إذ لا تهتم شركات الطيران بذلك ، ناهيك أن المحاذاة لا يمكن أن تتصور في الجو ، فلا يَصدق على أهل الطائرات أنهم أتوا الميقات المحدد لهم لا لغة ولا عرفا، لكون الإتيان هو الوصل للشيّء في محله ، وعمر رضي الله عنه وقت ذات عرق؛ لأنّها على طريق أهل العراق ، فصح أن نوقِّت جدة ميقاتا للحجاج ؛ حيث إنهم ينزلون بها عند مجيئهم بالطائرة.
وهذا القول في نظري قول معتبر له وجاهته ، وله ما يمكن أن يشهد له من كلام الفقهاء المتقدمين _كما تقدم _ ، كما أن تحقق معنى محاذاة الميقات في الطائرة _ وخاصة مع الارتفاعات الشاهقة _ قد لا يكون واضحاً تماماً ، ومن ثَمّ فإذا أردنا أن نطبق قاعدة الفقهاء بأن من لم يحاذ ميقاتاً أحرم من مسافة مرحلتين عن مكة تمثل بعد أدنى المواقيت_ 80 كيلومتر تقريباً _ كان الإحرام من جدة له وجه ؛ إذ هي قريبة من هذه المسافة ، فلما كان بعدها كبعد أقرب المواقيت _وسلمنا بتحقق عدم المحاذاة في الطائرة_ صار الإحرام منها كالإحرام من الميقات سواء بسواء ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " فلم يأمرهم عمر، والمسلمون بالمرور بقرن، بل جعلوا ما يحاذيها بمنزلتها، وذلك لأن الإحرام مما يحاذي الميقات بمنزلة الإحرام من نفس الميقات، فإنه إذا كان بعدهما عن البيت واحدا: لم يكن في نفس الميقات مقصود " اهـ [شرح العمدة من كتاب الطهارة والحج 2/336 ] .
لكن قد ترد على هذا القول بعض الإيرادات ، والتي من أهمها : أنا لو فرضنا أنّ مطار الحجاج صار في مكة - كما هو مقترح من قِبل البعض – صرح بعض أصحاب هذا القول أن إحرامهم يكون من مكة ، وعلى هذا نكون قد أبطلنا فائدة المواقيت، و لا يكون لتوقيت النبي –صلى الله عليه وسلم- معنى ، كما صرحوا بأن الذي يذهب من المدينة بالطائرة لا يلزمه الإحرام إلا إذا وصل مطار جدة ، مع أن ميقات أهل المدينة مجاور للمدينة وقريب من المطار جداً، فالطائرة المقلعة من المدينة لا تأخذ أكثر من دقيقة واحدة حتى تمر على الميقات، وهي لم ترتفع تماماً بل يرى الراكب معالم الميقات بوضوح تحته، فكيف يعقل أن يُقال بأنّه لا يلزمه الإحرام وهو لم يبعد بعدُ عن الميقات، هذا بعيد جداً.
وقد توسع بعض المعاصرين فرأوا أن جدة تعتبر ميقاتاً فرعياً حتى لمن يأتي عن طريق البر ، وقالوا : إن جدة تقع بين ميقاتين يلملم و ذي الحليفة ، فهي محاذية لهما ؛ فتكون ميقاتاً فرعياً ، وهذا ضعيف ، ولا يجد له سنداً من كلام الفقهاء المتقدمين ، وواقع المواقيت لا يدل عليه ، فإن من عرف مواقع المدن و نظر في الخرائط الصحيحة عرف أن جدة دون المواقيت ، فتصلح ميقاتاً لأهلها كما في قوله –صلى الله عليه وسلم- : " ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ " ، وكذا تصلح ميقاتاً _ كما نص على ذلك جمع من أهل العلم المعاصرين _ للقادم من غربها مباشرة وهم أهل سواكن في جنوب مصر وشمال السودان، فإنّه لا يمر بميقات ولا يحاذي ميقاتاً، وأول منزل له هو مدينة جدة، ولا ينضبط إحرامه قبلها في البحر، ومسافتها مقاربة لمسافة أقرب المواقيت وهو قرن المنازل _ كما تقدم _ .
فالأصح والأحوط وهو قول أكثر الفقهاء أنه يجب الإحرام في الطائرة عندما تمر الطائرة فوق الميقات أو قبل ذلك احتياطاً ، وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي رقم 19 (7/3) بشأن : الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة : " المواقيت المكانية التي حددتها السنة النبوية يجب الإحرام منها لمريد الحج أو العمرة، للمار عليها أو للمحاذي لها أرضاً أو جواً أو بحراً ؛ لعموم الأمر بالإحرام منها في الأحاديث النبوية الشريفة " ، وجاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي رقم 18 (2/5) بشأن حكم الإحرام من جدة للواردين إليها من غيرها : " الواجب عليهم أن يحرموا إذا حاذوا أقرب ميقات إليهم من هذه المواقيت الخمسة جوًّا أو بحرًا، فإن اشتبه عليهم ذلك ولم يجدوا معهم من يرشدهم إلى المحاذاة، وجب عليهم أن يحتاطوا وأن يحرموا قبل ذلك بوقت يعتقدون أو يغلب على ظنهم أنهم أحرموا قبل المحاذاة؛ لأن الإحرام قبل الميقات جائز مع الكراهة ومنعقد، ومع التحري والاحتياط خوفًا من تجاوز الميقات بغير إحرام تزول الكراهة؛ لأنه لا كراهة في أداء الواجب، وقد نص أهل العلم في جميع المذاهب الأربعة على ما ذكرنا، واحتجوا على ذلك بالأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في توقيت المواقيت للحجاج والعمار. واحتجوا أيضًا بما ثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، لما قال له أهل العراق: إن قرنًا جَورٌ عن طريقنا؟ قال لهم رضي الله عنه : انظروا حَذوَها من طريقكم. قالوا: ولأن الله سبحانه أوجب على عباده أن يتقوه ما استطاعوا، وهذا هو المستطاع في حق من لم يمر على نفس الميقات.إذا عُلم هذا فليس للحجاج والعمار الوافدين من طريق الجو والبحر ولا غيرِهم أن يؤخروا الإحرام إلى وصولهم إلى جدة؛ لأن جدة ليست من المواقيت التي وقتها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- " اهـ.
لكن لما كان القول بجواز الإحرام من جدة للقادم بالطائرة قول له وجاهته وقوته _كما تقدم _ فالظاهر أنه يسع مراعاته في بعض الحالات الخاصة : كما لو نام الشخص ولم يستيقظ إلا بعد مجاوزة الميقات ، أو لم يعلم بالمرور فوق الميقات _ كما لو لم يعلن عنه في الطائرة_ ، أو تأخر قليلا في الإحرام لأي سبب من الأسباب فيحرم متى ما تنبه ، ولا شيء عليه ، والله أعلم .
وللحديث بقية بإذن الله تعالى...
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.