مفردات الإمام أبي حنيفة في القصاص في النفس (1)
صلاح الدين حكمتيار
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد المبعوث رحمة الله للعالمين وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين وبعد:
فلا يخفى على الباحث في الفقه الإسلامي أن هناك مفردات خاصة للأئمة في سائر أبواب الفقه وهذا البحث خاص بمفردات الإمام أبي حنيفة – رحمه الله- في باب القصاص، وأتناول فيه هذه المفردات بالشرح والتعريف وأذكر ما يتعلق بها من المسائل مع ذكر الأدلة والمناقشات الواردة للفقهاء وتحرير محل النزاع وأسباب الاختلاف والإشارة إلى القول الراجح مع بيان أسباب الترجيح فإلى مطالب البحث:
المطلب الأول:القتـل العمـد لا يكون إلا بالسلاح وما يجري مجراه وهو المحدد
المسألة الأولى: لا قصاص بالقتل بالمثقل صغيراً كان أو كبيراً [1]
اتفق الفقهاء على وجوب القصاص على القاتل إذا قتل أحداً بمحدد، وكان ذلك المحدَّد مما يقتل غالباً[2]، واختلفوا فيما إذا حصل القتل منه بمثقل كبير كالحجرة الكبيرة والعصا الغليظة هل يجب عليه القصاص أم لا ؟ على قولين:
القول الأول: لا قصاص على القاتل إذا حصل القتل منه بالمثقل الكبير[3]وإليه ذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وممن قال بقوله من السلف النخعي والشعبي والحسن البصري رحمهم الله[4] .
أدلتهم:
استدلوا بالمنقول والنظر .
دليلهم من المنقول:
ما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه[5] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل شيء خطأ إلا السيف يعني الحديدة ولكل خطأ أرش"[6]وفي لفظ آخر عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسـول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل شيء سوى الحديدة خطأ ولكل خطأ أرش"[7].
وجه الدلالة :
أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل كل قتل يقع بغير السيف أو الحديدة من قبيل الخطأ ، فدل على أن القصاص لا يجب إلا إذا حصل القتل بالمحدَّد .
المناقشة:
نُوْقِشَ هذا الحديثُ بأنه ضعيف لا تقوم به حجة؛ لأنه يدور على قيس بن الربيع[8] وجابر الجعفي وهما ضعيفان جدا ، قال الشوكاني: ولا يحتج بهما [9].
قال ابن حزم : جابر الجعفي كذَّاب وأول من شهد عليه بالكذب أبو حنيفة ، ثم لم يبال بذلك أصحابه فاحتجوا بروايته حيث اشتهوا [10] .
وأما استدلالهم بالنظر فكالتالي :
إن عقوبة القاتل عمداً هي القصاص وهي أشد عقوبة وأبلغها فيجب أن يدل على قصد العمد لدى القاتل ما هو بالغٌ الحدَّ الأقصى في الدلالة عليه وهو المحدَّد؛ لأن العمد يعني القصد ، والقصد عمل قلبي خفي لا يطلع عليه إلا الله سبحانه وتعالى، فالذي ينم عنه ويدل عليه هو الآلة المستعملة في الجناية فتكون هي قائمة مقام القصد مثلما يُقَام السفرُ مقامَ المشقة ، وبناء عليه فاستعمال الجاني آلة مثقلة لم تُعَدَّ في الأصل للقتل يدل على عدم قصده القتل ومن ثَمَّ لا يجب عليه القصاص[11] .
المناقشة :
نُوْقِشَ بأن القصد إلى القتل كما يتعرف عليه باستعمال السلاح والمحدد وما في معناه يتعرف عليه أيضا باستعمال ما يقتل غالبا كالمثقل الكبير وما في حكمه فاستعماله المثقل الكبير في القتل يدل على أنه قاصد للقتل .
القول الثاني:يجب القصاص بالمثقل الكبير وبه قال الأئمة الثلاثة مالك[12]والشافعي[13] وأحمد[14] وصاحبا أبي حنيفة[15] وممن قال بهذا القول من السلف الزهري وابن سيرين وحماد وعمرو ابن دينار[16] وابن أبي ليلى وإسحاق[17][18] .
أدلتهم :
استدلوا بالمنقول والقياس .
ومن المنقول استدلالهم بالكتاب :
أ*- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى ... }[19].
وجه الدلالة :
أن الله تعالى أوجب القصاص في هذه الآية على الجاني إذا قتل شخصاً عمداً ولم يقيِّد الوجوب بوسيلة دون أخرى واستثناء المثقَّل من هذا العموم عمل بلا دليل .
ب - قوله تعالى : {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً }[20] .
وجه الدلالة :
أن الله تعالى جعل السلطان المطلق لولي الدم إذا قتل قريبه ظلماً سواء حصل قتله بمحدد أو مثقل ، فالآية عامة ولم تقتصر على بعض الوسائل القاتلة دون بعض .
واستدلوا من السنة بما يلي :
أ. عن أنس بن مالك قال : خرجت جارية عليها أوضاحبالمدينة ، قال : فرماها يهودي بحجر ، قال : فجئ بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها رمق ، فقـال لها رســول الله صلى الله عليه وسلم : فلان قتلك ؟ فرفعت رأسَها ، فأعاد عليها ، قال : فلان قتلك ؟ فرفعت رأسَها ، فقال لها في الثالثة : فلان قتلك ؟ فخفضت رأسَها ، فدعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله بين الحجرين [21] .
وجه الدلالة :
أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل ذلك اليهودي بتلك الجارية مع أنه لم يقتلها بمحدَّد وإنما قتلها بمثقل وهو الحجر ، فلو كان القتل بالمثقل لا يجب فيه القصاص لما قتل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك اليهودي .
المناقشة :
ناقش الحنفية هذا الحديث بأنه يحتمل أنه عليه الصلاة والسلام علم أن اليهودي كان قاطع الطريق ، فإن قاطع الطريق إذا قتل بعصا أو سوط أو غيره بأي شيء كان يُقْتَلُ به حداً أو يحتمل أنه جعله كقاطع الطريق ؛ لكونه ساعياً في الأرض بالفساد[22] .
ب . عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من قُتِلَ له قتيلٌ فهو بخير النظرَيْنِ ، إما يُوْدَى وإما يُقَادُ" [23] .
وجه الدلالة :
أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الخيار بين القصاص والدية لولي القتيل مطلقاً سواء حصل القتل بالمحدَّد أو بالمثقَّل .
ج . ما أخرجه أبو داود عن ابن عباس عن عمر أنه سأل عن قضية النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فقام حمل بن مالك بن النابغة[24] فقال : كنت بين امرأتين ، فضربت إحداهما الأخرى بمِسْطَح[25] ، فقتلتها وجنينها ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة وأن تُقْتَل قال أبو داود : قال أبو عبيد : المِسْطَح عود من أعواد الخباء [26] .
وجه الدلالة :
هذا الحديث نص في محل النزاع ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل المرأة القاتلة بالمرأة المقتولة وقد حصل قتلها بغير المحدد ، فهذا دليل على وجوب القصاص بغير المحدد .
دليلهم من القياس :
فقد قاسوا المثقل الكبير وما في معناه إذا كان مما يقتل غالباً على المحدد[27] في أن كلاً منهما مُزْهِقٌ للروح مع القصد إلى القتل ، فكما أن القصاص يجب بالمحدَّد اتفاقاً فكذا يجب بالمثقل ، ولأن القصاص شُرِعَ لصيانة النفوس ، فلو لم يجب بالمثقل لما حصلت الصيانة[28] .
الترجيح :
القول الثاني الذي ذهب إليه الجمهور هو الراجح؛ لقوة أدلتهم؛ ولأننا لو لم نقل بوجوب القصاص بغير المحدد لَوَجَدَ القَتَلَة المجرمون سبيلاً إلى إزهاق أرواح الأبرياء بغير حق باستعمال المثقل وما في حكمه، فتفوت بذلك حكمة الردع والزجر كما يفوت بذلك إقامة القصاص عليهم، فلا تتحقق الحكمة من مشروعية القصاص مع قصر القصاص على المحدَّد وما في حكمه؛ لأن الجناة القتلة لا يرتدعون إلا إذا علموا أن القصاص يجب بكل وسيلة قاتلة سواء كانت محدَّدة أو مثقَّلة[29]، كما أن القول بعدم وجوب القصاص على الجاني إذا قتل بالمثقل فيه خطر على المجتمع وإشاعة للفوضى بين أفراده وتشجيع للجناة المجرمين على ارتكاب جريمة القتل بغير المحدد من الآلات ، ولعل السبب في تبني أبي حنيفة - رحمه الله - هذا الرأيَ هو ما كان شائعاً في عصره من عدم استعمال غير المحدَّد وسيلة إلى القتل ، فلو امتدت به الحياة ورأى من الوسائل المبتكرة في زمننا التي تُسْتَعْمَل وسيلةً إلى القتل لما أحجم عن القول بوجوب القصاص إذا حصل القتل بالمثقَّل الكبير وما في حكمه[30] .
القتل بالمثقل الصغير
ما سبق كان في المثقل الكبير، وأما إذا حصل القتل بالمثقل الصغير كالحجر الصغير وما في حكمه كالسوط الصغير والعصا الصغيرة فهل القتل به يكون عمـداً موجبـاً للقصـاص أولا ؟ اختلف الفقهاء في ذلك :
أبو حنيفة – رحمه الله - لا يرى القصاص بغير المحدَّد سواء كان المثقَّل صغيراً أو كبيراً بل هو شبه عمد .
أما أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني فلا يريان القصاص إلا بآلة تقتل غالباً ، أما إذا كانت الآلة لا تقتل غالبا كما لو قتل بعصا صغيرة أو حجر صغير أو سوط أو لكزة أو لكمة في غير مقتل فهو شبه عمد وغير موجب للقصاص[31] .
وموالاة الضرب بالمثقل الصغير الذي لا يقتل غالباً حتى الموت عمد عند الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد - رحمهم الله - ويجب به القصاص ، وعند الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رحمهم الله - ليس بعمد وإنما هو شبه عمد[32] .
وعند المالكية القتل بالمثقل الصغير وما في حكمه عمد موجب للقصاص إذا تعمد الجاني الضرب على وجه الغضب والعداوة[33] .
ومذهب الإمامين الشافعي[34] وأحمد[35] أن حصول القتل بالمثقل الصغير يختلف باختلاف المجني عليه من حيث القوة والضعف، والصحة والمرض، والكبر والصغر، ويختلف من حيث الحرارة والبرودة، فكل إصابة بالمثقل الصغير المفضية إلى الموت إن كان مثلها يؤدِّي إلى الموت عادة إن وُجِّهَ إلى من هو في مثل عُمْر وصحة المجني عليه فإنه يكون عمداً يجب القصاص عليه .
قال أبو إسحاق الشيرازي[36]: وإن قتله بمثقل صغير لا يقتل مثله كالحصاة والقلم فمات لم يجب القود ولا الدية ؛ لأنا نعلم أنه لم يمت من ذلك ، وإن كان بمثقَّل قد يموت منه وقد لا يموت كالعصا ، فإن كان في مَقْتَل أو في مريض أو في صغير أو في حر شديد أو في بــرد شديــد أو والى عليه الضرب فمات وجب عليه القــود ؛ لأن ذلك يقتل غالباً فوجب القــود فيه [37] .
الترجيح :
الراجح – والله أعلم – هو التفصيل الذي ذهب إليه الشافعي وأحمد رحمهما الله وهو أن حصول القتل بالمثقل الصغير يختلف باختلاف المجني عليه من حيث القوة والضعف، والصحة والمرض، والكبر والصغر، ويختلف من حيث الحرارة والبرودة، فكل إصابة بالمثقل الصغير المفضية إلى الموت إن كان مثلها يؤدِّي إلى الموت عادة إن وُجِّهَ إلى من هو في مثل عُمْر وصحة المجني عليه فإنه يكون عمداً يجب القصاص عليه وإلا فلا؛ وهو قول وسط بين الحنفية القائلين بكون الضرب بالمثقل شبه عمد دائماً ، وبين المالكية القائلين بأنه عمد إن كان على وجه العداوة والغضب .
يتبع