تحيّة للمرأة العاملـــــــة


نُـور الجندلي





تغيبت معلمة الصفّ عن طالباتها في الصّف الأول، وأتت المعلمة المناوبة معتذرة للطالبات قائلة:

- معلمتكن اليوم مريضة، وستعود عندما تتعافى بإذن الله...

رفعت إحدى التلميذات يدها سائلة:

- وهل تمرض المعلمة؟!

لقد عبّرت تلك الصغيرة بتساؤلها عن أفكار كثيرة تدورُ في رأس الصغار عادة. فالمعلمة والطبيبة والممرضة كائنات لا يجدر بهن أن يعانين من ضعف أو مرض، كما أنهن يمتلكن إجاباتٍ لكل الأسئلة التي تخطرُ على البال. إنهن نساء قويات ينجحن في كل شيء، ويعرفن كل الأشياء، ولا يمكن أن يمرضن أو يتعبن.

في الحقيقة ليس الأطفال فقط هم الذين يمتلكون هذه الفكرة، بل الكبار أيضاً. لا أتحدثُ من فراغٍ ههنا، فكم يظلم المجتمع المرأة العاملة من حيث لا يدري.

حولي نماذج كثيرة من النساء العاملات، قد استنزفت قواهن ما بين البيت والوظيفة. تخرج الواحدة منهن من الصباح الباكر إلى عملها، تكدّ وتجتهد وتتعب، لتترك لها بصمةً في الحياة، وتعود منهكة مكدودة، لتتسلم دواماً إضافياً في المنزل، ما بين تنظيف وطهي وغسيل وكيّ. وما إن تنتهي من إطعام عائلتها وجبة الغداء، حتى يحين موعد تدريس الصغار، ومتابعة فروضهم الدراسية، فتتسلم بذلك عملاً آخر أشق من الذي سبقه، تقوم به على أكمل وجه وأتمّه، وتبقى على هذا المنوال حتى تحين ساعة نوم الأطفال، فتقدم لهم وجبة العشاء وتطمئن إلى أنهم قد أغمضوا عيونهم في أسرّتهم، لتتسلم العمل الأخير في يومها، فتتفقد غرف المنزل، ترتيباً وتنظيفاً حتى تُنهك قواها، لتختم يومها باحثة عن الوسادة، مستسلمة لنومٍ عميق.

ذلك مشهدٌ عابرٌ من حياة امرأة عاملة مكافحة، قد اقتطعت من صحّتها وقوّتها وعمرها ووقتها نصيباً كبيراً، لتكون مثالية، لتحظى بالامتياز، وقد استحقته وإن لم يكن أحد ليعترف بذلك. فالمجتمع دائم اللوم لها إن بدا منها تقصيرٌ أو خلل.

إن مرضت فهي تحاولُ جاهدة الضغط على نفسها، والذهاب إلى العمل بجسد واهن، وقوى خائرة، ذلك أن أيام الإجازات محددة لها، والساعات المحددة لتغيبها محدودة، لا يسمح لها بأن تمرض أكثر، ولا أن تتغيب وإن مرض أحد أطفالها. لا يسمح لها إلا بإجازة قصيرة، قد تقضيها في أغلب الأوقات لتقوم بحملة التنظيف السنوية لبيتها.

لقد نجحت في إقناع الجميع بأنها المرأة الحديدية التي لا تُكسر. وهذه القناعة قد دفعت الجميع لأن يثقلوا كاهلها بطلبات مرهقة لها. دون الالتفات إلى الضغوط النفسية والمتاعب البدنية التي تتعرض لها طوال النهار.

إن امرأة كهذه تستحق التقدير والاحترام، وأن تُعان قدر الإمكان في سبيل التقليل من مهامها، ودعمها بما تحتاج إليه حتى تواصل مسيرتها بذات العطاء.

ونحن نرى ونسمع هذه الأيام عن نماذج مؤسفة من نساء بلا هدف، بلا وظيفة، بلا عمل، قد تخلين عن كل مهمة في الحياة، وتفرغن لرعاية نفوسهن المدللة، فما عادت الأم تؤدي دورها، ولا المعلمة تهتم بطالباتها، ولا الطبيبة توفق بين حياتها العملية والخاصة، ووقعنا في أزمة عدم التوافق، واختل ميزان الحياة، وهاهي الأسرُ إلا ما رحم ربي في طريقها للانهيار...

ولاشك بأن مسألة التوفيق بين كل هذه المهام ليست بالسهلة اليسيرة، لكنها مهمة غير مستحيلة، بتنظيم الوقت وتحديد الأولويات، وترك مساحة للترويح عن النفس، والجلوس مع الأسرة، لتوطيد العلاقة وتآلف القلوب، وإن كان ذلك على حساب بعض النجاحات، أو المادة، فكل شيء قد يزول ويتلاشى، إلا المحبة، وما زُرع في القلوب، فهو يبقى حيّا راسخاً.
إنني وأنا أوجه تحية شكرٍ وتقديرٍ للمرأة العاملة، أوجه نداءً لربات البيوت كي يتأملن ذلك الجانب الذي لا يرونه غالباً من حياة النساء العاملات، ولأقول لهن بأن البركة بالعطاء، وبأن لديهن متسعاً بل فائضاً من الوقت ليحققن الأعمال التي تصبو إليها نفوسهن، والنجاحات التي يطمحن إليها، وبأن كل الظروف مواتية لهن ليضعن لهن بصمة في الحياة أيضاً، فلا أعذار بعد اليوم، بل جدّ وعمل...