خدمات ما بعد البيع وأحكامها في الفقه الإسلامي (1-5)
[1]
بدر بن عبد الله الجدوع
المبحث الأول
خدمة ضمان المبيع بعد الشراء
وتحته أربعة مطالب:
· المطلب الأول: تعريف الضمان وبيان أنواع ضمان المبيع.
· المطلب الثاني: ضمان أداء المبيع وصلاحيته.
· المطلب الثالث: ضمان العيوب المستقبلية.
· المطلب الرابع: ضمان معايير الجودة.
المطلب الأول
تعريف الضمان وبيان أنواع ضمان المبيع
الفرع الأول: تعريف الضمان لغة واصطلاحاً .
أولاً : تعريفه لغة :
الضمان في اللغة يطلق على عدة معانٍ، هي :
1- الالتزام يقال : ضمنت المال إذا التَزَمْتهُ ، ويتعدى بالتضعيف، فيقال : ضمّنْتُه المال، أي: أَلْزَمْتُه إيَّاه .
2- الكفالة، يقال : ضمن الشيء ضماناً، فهو ضامن وضمين، إذا كفله .
3- التغريم، يقال: ضمنته الشيء تضميناً إذا غرمته فالتزمه .
4 – الحفظ والرعاية، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن"[2] .
ثانياً: تعريف الضمان اصطلاحاً :
الضمان في اصطلاح الفقهاء :
يطلق الضمان عند الفقهاء على معان متعددة منها :
1- الكفالة سواء كانت كفالة نفس أو كفالة مال، وهذا الإطلاق عند جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة.
جاء في مواهب الجليل تعريف الضمان بأنه (( شغل ذمة أخرى بالحق )) وهو شامل لضمان الطلب، وضمان الوجه، وضمان المال.[3]
وجاء في أسنى المطالب تعريفه بأنه " التزام حق ثابت في ذمة الغير أو إحضار من هو عليه أو عين مضمونة.[4]
وجاء في المغني بأن الضمان هو " ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق، فتثبت في ذمتهما جميعاً، ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما[5].
وبهذه التعريفات يتبين أن الضمان يأتي بمعنى الكفالة.
2- ويطلق الضمان ويراد به : الالتزام بالرد والتعويض، وهذا المعنى أعم من سابقه .
جاء في غمز عيون البصائر تعريف الضمان بأنه " عبارة عن رد مثل الهالك إن كان مثلياً أو قيمته إن كان قيمياً ".[6]
وجاء في نيل الأوطار بأنه " عبارة عن غرامة التالف"[7].
وهذا المعنى أخذت به مجلة الأحكام العدلية فقد نصت على أن الضمان " إعطاء مثل الشيء إن كان من المثليات وقيمته إن كان من القيميات"[8].
3- ويطلق الضمان على وضع اليد على المال[9] سواء كانت اليد مؤتمنة كالوديعة، والشركة، والوكالة، أو لم تكن كذلك، كالغصب، والسوم، والعارية[10].
الضمان في اصطلاح التسويقين :
هو التزام من البائع تجاه المشتري يتعهد فيه بسلامة السلعة من العيوب، وصلاحيتها للعمل خلال فترة معينة[11].
الفرع الثاني : أنواع ضمان المبيع .
ضمان المبيع في خدمات ما بعد البيع يتمثل في الأنوع التالية :
النوع الأول: ضمان أداء المبيع وصلاحيته .
ويعطي هذا النوع ضمان أداء السلعة وصلاحيتها للعمل خلال فترة معينة من تاريخ شرائها كستة أشهر مثلاً، أو حتى مسافات معينة كستة آلاف ميل، بحيث إذا صلحت السلعة خلال هذه المدة، أو المسافة غلب على الظن صلاحها بعد ذلك [12].
وهذا النوع من الضمان يستعمل في بيع بعض الآلات والمواد التي هي نتاج الحضارة الحديثة والتي تتميز بدقة الصنع، وسهولة تعرض أجزائها للخلل، كالآلات المكانيكية والسيارات والثلاجات والساعات والأجهزة المنزلية[13].
ويلاحظ أن هذه السلع تعد من المنقولات التي تعمل - أي تلك التي تحتوي على قدر من الحركة الذاتية - وهذا يقتضي استبعاد العقارات والمنقولات العادية كالبذور واللوحات وما أشبه ذلك، فإنها لا يستعمل معها هذا النوع من الضمان غالباً [14].
ويقدم البائع هذا النوع من الضمان حتى يزول تردد المشتري وتخوفه من احتمال فشل هذه المنتجات في الأداء، وتزداد أهمية هذا النوع من الضمان نظراً لعدم مقدرة المشتري على التعرف على خصائص السلعة، ولاحتمال وجود عيوب فيها، نتيجة لكون السلعة تباع مغلفة، أو لأن القيام بفحصها لا يتم إلا عن طريق تحليل كيميائي أو اختبار فني لا يتمكن منه المشتري[15].
ويتم هذا الضمان عادة عن طريق قسيمة يتحدد فيها ما يشمله الضمان.
ومدة هذا الضمان يتعهد البائع خلالها بإصلاح المبيع وإعادته إلى حالته الطبيعية باستبدال القطع المعيبة بغيرها صحيحة[16].
ويمكن أن تتعدد فترات الضمان كأن يكون الضمان في الفترة الأولى شاملاً لكل أجزاء المبيع، وفي الفترة الثانية يكون قاصراً على قطع الغيار أو بعضها دون أجرة اليد العاملة[17].
ويغطي هذا الضمان كل أنواع الخلل التي تصيب المبيع مهما كانت يسيرة ما دامت مؤثرة في صلاحيته للعمل، فالصلاحية للعمل هي المعيار الذي يمكن من خلاله الحكم على وجود الخلل من عدمه، والمقصود بالصلاحية للعمل هي أداء الجهاز للوظيفة المرجوة منه بكل جوانبها الضروري منها والكمالي، فالخلل الذي يصيب الجزء الخاص بتحريك مقاعد السيارة شأنه شأن الخلل الذي يطرأ على المحرك[18].
ومما تجدر الإشارة إله أن مسؤولية البائع في هذا الضمان تنحصر في إصلاح وتغيير قطع الغيار في حال وجود عيوب مصنعية، دون العيوب التي تنشأ عن سوء استعمال المشتري ومخالفته للتعليمات، أو نتيجة إهماله وتفريطه[19].
فلو أن المشتري قام بتوصيل الجهاز بتيار كهربائي أقوى من التيار الموضح على الجهاز فإن البائع لا يضمن الخلل الناتج عن هذا العمل[20].
النوع الثاني: ضمان العيوب المستقبلية .
هذا النوع من الضمان قريبٌ من سابقه؛ إذ أن كليهما يستعمل عادة في بيوع الآلات والأدوات الحديثة، كالسيارات والساعات والأجهزة الكهربائية المنزلية والحاسبات الآلية[21].
إلا أن الفرق بينهما يظهر في مدة الضمان التي يعطيها البائع للمشتري فإن كانت المدة يسيرة بحيث تكون مدة للاختبار والتجربة فإن هذا الضمان يكون داخلاً في ضمان أداء المبيع وصلاحيته؛ لأنه لو حدث عيب خلال هذه المدة اليسيرة فإن هذا العيب يكون راجعاً إلى خلل في تصنيع السلعة غالباً.
أما لو كانت مدة الضمان طويلة كأن تكون خمس سنوات [22] فلو حدث عيب في السلعة فإنه يكون عيب جديد حدث عند المشتري لا علاقة للبائع به، وضمان مثل هذه المدة يكون داخلاً في النوع الثاني والذي هو ضمان العيوب المستقبلية.
والضمان عند أهل التسويق يلتزم فيه البائع بإصلاح العيب الذي يوجد في المبيع حتى لو كان هذا العيب جديداً غير مستند إلى سبب سابق للقبض، ولذا لا يلزم المشتري إقامة الدليل على سبق العيب على التسليم، وإنما يقع على البائع - إن ادعى عدم مسؤليته عن ضمان العيب - أن يثبت أن الخلل يرجع إلى خطأ المشتري، كسوء تشغيل الجهاز، أو عدم الصيانة، أو استعمال المبيع في ظروف تختلف عن تلك التي حددها المنتج والتي على أساسها تم تصميم الجهاز المبيع [23].
والسبب في تقديم هذا الضمان أن المشتري يرغب في التأكد وقت الشراء بأن البائع سيتحمل المسؤولية تجاه السلعة في حالة ظهور عيب فيها، أو في أحد أجزائها الرئيسية بعد الشراء[24].
النوع الثالث : ضمان معايير الجودة .
وهو ضمان يتعهد فيه المنتج بأن سلعته تتمشى من حيث الجودة مع الخصائص والقياسات التي وضعتها هيئات حكومية أو صناعية معترف بها .
وهذه الهيئات تتميز في الغالب بالحياد وعدم التحيز، ويتوفر لديها إمكانات بشرية وفنية للقيام بالاختبارات التي تؤكد مطابقة السلعة للمواصفات والمقاييس المحددة .
وبعد اختبار السلعة ومطابقتها للمواصفات والمقاييس يعلن عنها في الغالب بوضع علامات أو أحرف أو أرقام على الغلاف الخارجي للسلعة[25].
وقد يكون بتعليق من هذه الهيئة على السلعة بعبارة نحو " يوصى باستعمالها، أو شرائها "، أو " تم اختبارها والموافقة عليها "، أو " تتوفر فيها اشتراطات الجودة " ونحو هذه العبارات[26].
ويؤدي هذا النوع من الضمان إلى خدمة المستهلكين عن طريق ضمان جودة السلعة التي يقومون بشرائها، وخدمة المنتجين عن طريق العمل على رواج منتجاتهم المطابقة للمواصفات، وخدمة اقتصاد البلد عن طريق اتباع المنتجين للمواصفات القياسية التي تكفل زيادة الإنتاج مع خفض تكاليفه ورفع مستواه[27].
ويستخدم هذا النوع من الضمان في عدد كبير من المنتجات، خاصة المنتجات الغذائية والأدوية والأجهزة المنزلية[28].
المطلب الثاني: ضمان أداء المبيع وصلاحيته
سبق بيان أن هذا النوع من أنواع ضمان المبيع، يعطي البائع فيه ضمان أداء السلعة وصلاحيتها للعمل خلال مدة أو مسافة معينة، بحيث إذا صلحت خلال هذه المدة أو المسافة غلب على الظن صلاحها بعد ذلك[29].
ويمكن أن تتعدد مراحل الضمان كأن يكون في المرحلة الأولى شاملاً لكل أجزاء المبيع، وفي المرحلة الثانية يكونا مقتصراً على قطع الغيار أو بعضها دون أجرة اليد العاملة [30].
ويكتب هذا الضمان في الغالب على شكل وثيقة يتحدد فيها ما يشمله الضمان، ومدة الضمان يتعهد البائع فيها بإصلاح المبيع وإعادته إلى حالته السليمة [31].
الحكم الشرعي لضمان أداء المبيع وصلاحيته :
يمكن أن يخرج هذا النوع من الضمان فقيهاً على أحد هذين التخريجين :
التخريج الأول: أنه يعتبر من ضمان العيب الحادث عند المشتري، والمستند إلى سبب سابق على القبض .
والعيب الحادث بعد قبض المشتري إذا كان يستند إلى سبب سابق على القبض، فهل هو من ضمان البائع أو من ضمان المشتري خلاف بين الفقهاء على قولين[32]:
القول الأول: أنه من ضمان البائع وهذا المذهب عند الحنفية [33]، وهو الأصح عند الشافعية .
قالوا : لأنه لتقدم سببه أصبح كالعيب المتقدم[34].
وهو رواية عند الحنابلة[35] .
القول الثاني: أنه من ضمان المشتري ما لم يدلس البائع هذا هو مذهب المالكية[36].
والرواية الثانية عند الحنابلة [37].
قالوا: لأن العيب وجد عند المشتري فكان عليه ضمانه كما لو لم يستند إلى سبب قبله.[38]
ومنشأ الخلاف في هذه المسألة هل وجود سبب العيب يعد عيباً أولاً ؟
فمن قال بأنه عيب جعله من ضمان البائع، ومن قال ليس بعيب جعله من ضمان المشتري[39] .
الترجيح:
الراجح – والله أعلم – أن العيب المستند إلى سبب سابق يكون من ضمان البائع، وذلك لأن السبب يترتب عليه مسببه[40]، فإذا وجد سبب العيب ترتب عليه وجود العيب .
يتبع