تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: هل القراءات القرآنية كلها نزل بها جبريل (بحث ونقل وعقل)

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Apr 2015
    المشاركات
    38

    افتراضي هل القراءات القرآنية كلها نزل بها جبريل (بحث ونقل وعقل)

    بسم الله الرحمن الرحيم
    هل القراءات القرآنية كلها نزل بها جبريل (بحث ونقل وعقل)

    الحمد لله الذي أنزل كتابه الحكيم رحمة للعالمين وحجة على الخلق أجمعين, ساطعاً تبيانه قاطعاً برهانه قرآناً عربياً غير ذي عوج.
    والصلاة والسلام على إمام المتقين وسيد المرسلين المؤيد بالعلم والنور والحكمة نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
    أما بعد:
    فهذه مسألة من كبار مسائل العلم قد خاض بها الأولون والآخرون واختلفوا فيها اختلافاً كثيراً, مع اتفاقهم على تعظيم الله, وتقديس كتابه, وإيمانهم بأنه محفوظ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

    هل القراءات القرآنية المختلفة كلها منزلة من عند الله بألفاظها المختلفة الكثيرة, أم أن المنزل من عند الله حرف واحد على لغة قريش, ورخص للناس أن يقرؤوه على أكثر من وجه, فتكون بقية القراءات مصدرها الرخصة أن يقرأ كل بلغته ولهجته.
    قد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة العظيمة منذ وقت مبكر, وسبب هذا الاختلاف اختلاف ظاهر النصوص الواردة في ذلك.
    فإن في بعضها ما يدل على أنه إنما نزل على حرف واحد, ورخص للناس أن يقرؤوه بلغاتهم ولهجاتهم.
    وفي نصوص أخرى ظاهرها يدل على أن جميع الأحرف والقراءات على اختلافها كلها منزلة من عند الله, وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأ الصحابة جميع هذه الحروف, وسيأتي الكلام على هذه الروايات بالتفصيل.

    ومما يؤيد الرأي الأول النص الصريح على أن القرآن أنزل بلسان قريش كما سيأتي.
    كما يؤيده أيضاً أن الذي كان يكتب حين نزول الوحي إنما هو حرف واحد, وهو لغة قريش, ولم يكن يكتب بأي لهجة أخرى.
    كما يؤيده أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يقرأ في الصلاة وما كان يقرئ الصحابة إلا بلسان قريش, إلا في حالات نادرة.
    كما يؤيده أيضاً إلغاء عثمان لبقية الأحرف وإلزام الناس بحرف واحد, وهذا يستحيل وجوده لو كانت الأحرف كلها منزلة من عند الله.
    كما يؤيده أيضاً أن الرخصة والإذن بالأحرف السبعة إنما تم في أواخر العهد المدني, ولو كانت الأحرف كلها منزلة من عند الله لكان ذلك من أول نزوله.
    كما يؤيده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنزل القرآن على سبعة أحرف), ولم يقل: (أنزلت سبعة أحرف) وهناك فرق بين اللفظين سيأتي توضيحه والكلام عليه.
    كما يؤيده أن الحديث بلفظ (إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك) لا يثبت, والصواب أنه بلفظ (إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك) كما سيأتي.
    كما يؤيده أن الرخصة بالقراءات والأحرف المختلفة لم يأت إلا قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين أو ثلاث, فكيف يتصور في هذا الزمن القصير أن يقرئهم بكل تلك القراءات المختلفة.
    كما يؤيده أيضاً أدلة وقرائن أخرى كثيرة ونقول عن طائفة من أهل العلم المحققين سيأتي ذكرها لاحقاً.

    وهذا القول قد ينفر منه الإنسان إذا سمعه أول مرة, لكن إذا تأمله وعرف أدلته وحججه هدأت نفسه واطمأن قلبه, وتقشعت عنه حجب الحيرة والاضطراب بإذن الله, وحل محلها السكون والطمأنينة, وزالت بفهمه مسائل كثيرة حيرت بعض أهل العلم, وزال بفضل ذلك كثير من التعارض والتضارب الذي يراه ويتعرض له كل من بحث في هذه المسائل.
    يقول الدكتور صبري الأشوح في كتابه "إعجاز القراءات" ص (283): "تتسم لغة الخطاب في معظم المؤلفات التي تتحدث في القراءات بالحذر الشديد, وتجاهل القضايا ذات الشأن, والقفز فوقها وفوق العقل أحياناً, للتأكيد في النهاية على أنها متواترة كلها, مسموعة من فم النبي صلى الله عليه وسلم كلها, موحى بها كلها, معلومة من الدين بالضرورة كلها, وهو ما لم يقل به أحد من القدماء.
    فهل يعتبر هذا إبداعاً من المحْدَثين أم بدعة؟
    فالقضايا الخلافية لا تتطلب إلا منطق الإقناع ومناخ الحوار, وطرح الرأي والرأي الآخر, ثم تسري عليها السنة الخالدة (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"اهـ

    ولتوضيح هذه المسألة المهمة أقول مستعيناً بالله:
    أنزل الله تبارك وتعالى القرآن على خاتم أنبيائه ورسله محمد صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين بلغة قريش, بلفظ واحد لا بألفاظ مختلفة ولا بقراءات متنوعة, فكان يقرؤه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فيحفظه.
    ثم يقرؤه النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه, ويأمرهم بكتابته فوراً, فيكتب بعد نزوله بلغة قريش التي نزل بها القرآن.
    ولذلك حين أمر عثمان رضي الله عنه بكتابة المصحف على حرف واحد قال للرجال الأربعة الذين تولوا تلك المهمة كما في صحيح البخاري (4702): (إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم).
    فهذا يدل على أن القرآن أنزل بلفظ واحد, وهو لغة قريش, وهي أفصح لغات العرب.
    وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤه على الصحابة رضوان الله عليهم في الصلاة وفي غيرها, ويقرئهم.
    ومن المعلوم ضرورة أن في القراءات القرآنية كلمات كثيرة بالغة الكثرة هي بلهجات عربية, ولكنها غير قرشية.
    فمن أين جاءت هذه القراءات القرآنية الكثيرة المختلفة إذا؟
    إنها جاءت من اختلاف الناس في القراءة, وهو أمر سائغ جائز بإذن من منزل القرآن الله العزيز الرحمن, ثم بإقرار من النبي صلى الله عليه وسلم.
    فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً أشد الحرص أن يهون الله على أمته قراءة القرآن, وطلب من ربه أن يأذن أن يقرأ الناس بلهجاتهم ولغاتهم, فكان يقول: (اللهم هون على أمتي), ويقول: (إن أمتي لا تطيق ذلك) أي: القراءة على حرف واحد وطريقة واحدة مع اختلاف ألسنتهم ولهجاتهم.
    فأجاب الله تبارك وتعالى لنبيه, وأذن أن يقرأ القرآن بلهجات كثيرة وباختلافات متعددة.

    فقد ثبت في صحيح مسلم (821) من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف, فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك, ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين, فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك, ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف, فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك, ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف, فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا).
    وفي رواية أخرجها مسلم (820) من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف, فرددت إليه أن هون على أمتي, فرد إلى الثانية اقرأه على حرفين, فرددت إليه أن هون على أمتي, فرد إلى الثالثة اقرأه على سبعة أحرف).

    وإنه من الأمور المستحيلة أن يؤمر الناس كلهم أن يقرؤوا القرآن بلسان قريش ولهجتها, فإن القرآن نزل للناس كلهم, هادياً يهديهم للتي هي أقوم, وقد أودع الله تبارك وتعالى فيه كل ما فيه صلاح وسعادة للبشر, وما فيه صلاحهم وسعادتهم في معاشهم ومعادهم, فكلفهم تلاوته وفهمه وتدبره ليفهموه ويدركوا أسراره ويستضيئوا بنوره, ويبلغوه غيرهم.
    ومما هو معلوم ومشهور أن اللهجات العربية المخالفة للهجة القرشية كثيرة جداً, والناس قد جبلوا على التمسك بلغاتهم ولهجاتهم التي نشأوا عليها, ولو طلب منهم أن يتخلوا عن لغاتهم ولهجاتهم لوجدوا صعوبة قد تصدهم عن الإقبال على القرآن والانتفاع به وتدبره وفهمه, والعمل به.
    ففي أواخر العهد المدني بعد فتح مكة دخل الناس في دين الله أفواجاً, وبدأ الإسلام ينتشر في عموم الجزيرة العربية تمهيداً لانتشاره في الأقطار المجاورة للجزيرة, فدخل في الإسلام قبائل وجماعات وأمم لهجاتها وطريقتها في الكلام مختلفة متباينة, فكيف سيقرؤون القرآن بلهجة قريش وهم لا يتكلمون بلهجة قريش!
    وكيف سيحافظون على النص المنزل وسيحفظونه كما نزل وهم أمة أمية فيهم الشيخ الفاني والعجوز الكبيرة والغلام, مع عدم اعتيادهم على الدرس والتكرار وحفظ الشيء على لفظه مع كبر أسنانهم واشتغالهم بأمور معاشهم وغير ذلك.
    هنا طلب النبي صلى الله عليه وسلم من ربه أن يهون على أمته قراءة القرآن لأجل أن يفهموه, فلا ثمرة فيه دون فهمه, فأجاب الله نبيه كما سبق.
    فكان القرآن ينزل بلفظ واحد بلغة قريش مع الإذن لأي أحد أن يقرأه على أكثر من وجه وبغير لغة قريش شريطة أن لا يتغير المعنى الذي أراده الله تعالى, وذلك لضرورة هذه المرحلة من الدعوة الإسلامية الناشئة.

    فرخص بأنواع من الاختلاف في الألفاظ توسعة عليهم, كالاختلاف في الإعراب, وفي الحروف, والإفراد والتثنية والجمع, والتقديم والتأخير, والزيادة والنقصان, والتذكير والتأنيث, وتصريف الأفعال وغير ذلك, رفعاً للحرج والمشقة في ابتداء الأمر.
    وكان يقول لهم: (أنزل على سبعة أحرف) أي: لا تقتصروا في قراءته على طريقة واحدة, فهو منزل على أن يقرأ على أكثر من وجه كما أنه يجوز أن يقرأ بغير لغة قريش, بل كل يقرؤه على لغته ولهجته, لأن الكل لغات العرب، فلم يخرج عن كونه بلسان عربي مبين.
    ولتأكيد هذا الأمر الذي قد يبدو غريباً عند الصحابة رضي الله عنهم كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله أحياناً قليلة بنفسه, فيقرئ عمر بطريقة, ويقرئ هشام بن حكيم بألفاظ أخرى غير التي أقرأها لعمر, وهكذا حصل مع غيرهما.
    فتبين جلياً أن القراءات القرآنية الكثيرة المختلفة إنما هي ناشئة عن اختلاف الناس في القراءة, وهو أمر سائغ جائز بإقرار من النبي صلى الله عليه وسلم, بل بطلب وإلحاح منه إلى ربه عز وجل رحمة بالأمة, فمن هنا اختلفت القراءة وتنوعت, والأصل لفظ واحد عربي قرشي, فقد أنزل القرآن بلغة قريش كما سبق.
    ومن المستحيل في هذه المدة اليسيرة المتبقية من عمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرئهم هو بنفسه بجميع القراءات واللهجات, كما أنه لو كان الأمر كذلك لانقلبت الرخصة إلى تشديد والتيسير إلى تعسير, كما سأبين لاحقاً.

    ولما كثر الاختلاف بسبب ذلك في زمن عثمان رضي الله عنه عمل على كتابته على حرف واحد وهو حرف قريش, وأمر بإلغاء جميع الحروف الأخرى لأن الحاجة إليها ضعفت, في حين أنها أضحت تشكل سبباً للاختلاف والتنازع, ولو كانت الأحرف كلها منزلة من عند الله وأقرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتلفها عثمان وأنى له ذلك كما سيأتي توضيحه.
    وقد بقي من القراءات شيء يسير وهو الذي يسمح به الرسم العثماني, فقد رسم مواضع منه على أن تقرأ على أكثر من وجه, وكان لا مانع من ذلك بأصل الرخصة التي تتيح للقارئ أن يقرأ على أكثر من وجه, فإنه كلام الله أراد تبارك وتعالى أن يقرأ هكذا على أكثر من وجه.

    يقول الدكتور عبد الصبور شاهين في كتابه "تاريخ القرآن" ص (40): "وحين هاجر النبي وصحابته إلى المدينة تغيرت الحال, فمن حيث الكم زاد عدد المؤمنين بالدعوة, ودخل الناس في دين الله أفواجاً, وأتيح للدعوة في المركز الجديد أن تراسل الأقوام والقبائل في شتى أنحاء الجزيرة العربية وخارجها, وجاءت الوفود تترى ممثلة لمختلف الألسنة واللهجات, يضاف إلى ذلك أن العهد الجديد يحتاج إلى إمكانيات واسعة في تبليغ الدعوة ونشر القرآن نصها المنزل, ليكون دستوراً للحياة الإسلامية في الدولة الجديدة, كذلك كانت أعمار المؤمنين تتفاوت وأكثرهم من الكبار الذين فاتهم عهد التعلم والحفظ, فأصبح من العسير أن يداوموا على استظهار القرآن.
    والنبي صلى الله عليه وسلم فوق ذلك كله مشغول بمسؤوليات هائلة في التوجيه والتنظيم, والحكم والحرب والسلام والدعوة, وتقرير النظم والعقائد والفتوى, وتلقي الوحي وإملائه ومراسلة الملوك والشعوب.
    كل هذه الظروف جدت في المجتمع, وأحاطت بالنبي وصحابته, وفي مثل هذا الزحام من الناس ومن المشكلات لا تعرف الحياة الأناة, بل من استطاع أن يظفر بقطعة أو قطعتين من فم النبي صلى الله عليه وسلم فقد واتاه خير كثير, وليقرأ بقدر ما تسعفه ذاكرته ولهجته"اهـ

    هذا القول الذي ذكرته في الكلام السابق هو الصواب الذي يؤيده النقل والعقل والتصور الواقعي للأمور, وسأذكر الآن الدلائل الكثيرة والنقول المتنوعة من أقوال من أهل العلم السابقين والمعاصرين التي تؤيد هذا القول, ثم أذكر كلام المخالفين وهم كثير, وأجيب عن أدلتهم كلها إن شاء الله.

    أولاً: قال الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (8/124): "السبعة الأحرف هي مما لا يختلف معانيه وإن اختلفت الألفاظ التي يتلفظ بها, وأن ذلك كان توسعة من الله عز وجل عليهم لضرورتهم إلى ذلك وحاجتهم إليه, وإن كان الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم إنما نزل بألفاظ واحدة".

    ثانياً: قال الطحاوي أيضاً كما في "التمهيد" لابن عبد البر (8/294), وكما في "المرشد الوجيز" ص (106): "كانت هذه السبعة للناس في الحروف لعجزهم عن أخذ القرآن على غيرها, لأنهم كانوا أميين لا يكتبون إلا القليل منهم, فكان يشق على كل ذي لغة منهم أن يتحول إلى غيرها من اللغات, ولو رام ذلك لم يتهيأ له إلا بمشقة عظيمة, فوسع لهم في اختلاف الألفاظ إذا كان المعنى متفقاً, فكانوا كذلك حتى كثر من يكتب منهم وحتى عادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقرؤوا بذلك على تحفظ ألفاظه فلم يسعهم حينئذ أن يقرؤوا بخلافها, وبان بما ذكرنا أن تلك السبعة الأحرف إنما كانت في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك, ثم ارتفعت تلك الضرورة فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف, وعاد ما يقرأ به القرآن إلى حرف واحد". وانظر: "شرح مشكل الآثار" للطحاوي (8/117)

    ثالثاً: قال ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص (97): "إن المتقدمين من الصحابة والتابعين قرؤوا بلغاتهم، وجروا على عادتهم، وخلوا أنفسهم وسوم طبائعهم، فكان ذلك جائزاً لهم، ولقوم من القراء بعدهم مأمونين على التنزيل عارفين بالتأويل".

    رابعاً: قال ابن قتيبة أيضاً ص (94): "ولو أن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلاً وناشئاً وكهلاً لاشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للسان وقطع للعادة, فأراد الله برحمته ولطفه أن يجعل لهم متسعاً في اللغات ومتصرفاً في الحركات".

    خامساً: قال القاسم بن ثابت كما في "المرشد الوجيز" ص (128): إن الله تبارك وتعالى بعث نبيه صلى الله عليه وسلم والعرب متناؤون في المحال والمقامات، متباينون في كثير من الألفاظ واللغات، ولكل عمارة لغة ذلت بها ألسنتهم، وفحوى قد جرت عليها عادتهم، وفيهم الكبير العاسي والأعرابي القح، ومن لو رام نفي عادته وحمل لسانه على غير ذريته تكلف منه حملاً ثقيلاً، وعالج منه عبئًا شديداً، ثم لم يكسر غربه ولم يملك استمراره إلا بعد التمرين الشديد والمساجلة الطويلة، فأسقط عنهم تبارك وتعالى هذه المحنة، وأباح لهم القراءة على لغاتهم، وحمل حروفه على عاداتهم".

    سادساً: قال البغوي في "شرح السنة" (3/44): "أظهر الأقاويل وأصحها وأشبهها بظاهر الحديث أن المراد من هذه الحروف اللغات، وهو أن يقرأ كل قوم من العرب بلغتهم، وما جرت عليه عادتهم من الإدغام والإظهار والإمالة والتفخيم والإشمام والإتمام والهمز والتليين وغير ذلك من وجوه اللغات إلى سبعة أوجه منها في الكلمة الواحدة"اهـ
    تنبيه: تمثيل البغوي رحمه الله للأحرف السبعة بالإدغام والإظهار والإمالة والتفخيم والإشمام فيه نظر, فإن الصواب أن صفات الأداء كالإدغام والإظهار والإمالة وسائر صفات الأداء ليست من الأحرف السبعة, فإنها مجرد اختلاف في طريقة الكلام والنطق من غير تغيير للألفاظ, والأحرف السبعة اختلاف في اللهجات واللغات والإعراب, وسوف أبين هذا بالتفصيل إن شاء الله في موضوع "المراد بالأحرف السبعة".

    سابعاً: قال أبو شامة في "المرشد الوجيز" ص (126): "قد تقدم من حديث أبي بن كعب بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام: (إني بعثت إلى أمة أمية فيهم الشيخ الفاني والعجوز الكبيرة والغلام، فقال: مرهم فليقرؤوا القرآن على سبعة أحرف).
    قال أبو شامة: "قلت: فمعنى الحديث أنهم رخص لهم في إبدال ألفاظه بما يؤدي معناها، أو يقاربه من حرف واحد إلى سبعة أحرف، ولم يلزموا المحافظة على حرف واحد, لأنه نزل على أمة أمية لم يعتادوا الدرس والتكرار وحفظ الشيء على لفظه مع كبر أسنانهم واشتغالهم بالجهاد والمعاش، فرخص لهم في ذلك، ومنهم من نشأ على لغة يصعب عليه الانتقال عنها إلى غيرها، فاختلفت القراءات بسبب ذلك كله، ودلنا ما ثبت في الحديث من تفسير ذلك بنحو: هلم، وتعال، على جواز إبداله باللفظ المرادف، ودلنا ما ثبت من جواز {غفوراً رحيماً} موضع {عزيزاً حكيماً} على الإبدال بما يدل على أصل المعنى دون المحافظة على اللفظ، فإن جميع ذلك ثناء على الله سبحانه، هذا كله فيما يمكن القارئ عادة التلفظ به، وأما ما لا يمكنه لأنه ليس من لغته فأمره ظاهر ولا يخرج إن شاء الله شيء من القراءات عن هذا الأصل وهو وإبدال اللفظ بمرادف له أو مقارب في أصل المعنى، ثم لما رسمت المصاحف هجر من تلك القراءات ما نافى المرسوم، وبقي ما يحتمله".

    وقال أبو شامة أيضاً في "المرشد الوجيز" ص (95): "قال بعض الشيوخ: الواضح من ذلك أن يكون الله تعالى أنزل القرآن بلغة قريش ومن جاورهم من فصحاء العرب، ثم أباح للعرب المخاطبين به المنزل عليهم أن يقرؤوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكلف بعضهم الانتقال من لغة إلى غيرها لمشقة ذلك عليهم، ولأن العربي إذا فارق لغته التي طبع عليها يدخل عليه الحمية من ذلك فتأخذه العزة، فجعلهم يقرؤونه على عاداتهم وطباعهم ولغاتهم مناً منه عز وجل لئلا يكلفهم ما يشق عليهم، فيتباعدوا عن الإذعان...

    قال أبو شامة: قلت: وهذا كلام مستقيم حسن، وتتمته أن يقال: أباح الله تعالى أن يقرأ على سبعة أحرف ما يحتمل ذلك من ألفاظ القرآن وعلى دونها ما يحتمل ذلك من جهة اختلاف اللغات وترادف الألفاظ توسيعاً على العباد".
    وقال أبو شامة أيضاً في "المرشد الوجيز" ص (102): العربي المجبول على لغة لا يكلف لغة قريش لتعسرها عليه, وقد أباح الله تعالى القراءة على لغته".

    وقال الأستاذ الدكتور محمد حسن جبل أستاذ أصول اللغة بجامعة الأزهر رحمه الله في كتابه "من القضايا الكبرى في القراءات القرآنية" ص (59): "إن مأتى هذه اللهجات العربية في القراءات القرآنية هو رحمة من الله عز وجل بتيسيره للعرب أن يقرؤوا القرآن بلهجاتهم... فكان من رحمته سبحانه وتعالى أن يسر للعرب الذين نزل القرآن بلسانهم أن يقرؤوه بلهجاتهم, فهو سبحانه يعلم ما طبع عليه الإنسان من تمسكه بلهجته التي نشأ عليها, وصعوبة انتقاله عنها صعوبة قد تصده عن الإقبال على القرآن, ومن ثم عن تدبره وفهمه واستنباط أسراره.
    وقد سبق بلحظ هذه الرحمة والتنويه بها أئمة كثيرون ..."اهـ

    تبين مما سبق من هذه النقول أن القراءات المختلفة إنما هي رخصة لمن لم تكن لغته قرشية أن يقرأ القرآن بلغته, ورخصة أيضاً لمن لم يتمكن من حفظ الآية بنصها كما وردت أن يقرأها ولو بشيء من التغيير ما لم يتغير المعنى الذي أراده الله تبارك وتعالى, كالاختلاف في الإعراب, وفي الحروف, والإفراد والتثنية والجمع, والتقديم والتأخير, والزيادة والنقصان, والتذكير والتأنيث, وتصريف الأفعال وغير ذلك.
    فقد أخرج أبو عبيد في "فضائل القرآن" ص (346), وسعيد بن منصور في "التفسير" (34) وغيرهما من طرق عن الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله قال: (إني قد سمعت القراء فوجدتهم متقاربين، فاقرءوا كما علمتم فإنما هو كقول أحدكم: هلم، وتعال).
    وفي لفظ عند البيهقي في "الشعب" (2/420) (نزل القرآن على سبعة أحرف فهو كقولك: أعجل أسرع توخ)
    وفي حديث أُبيّ رضي الله عنه عند أحمد (35/84) (حتى بلغ سبعة أحرف، ليس منها إلا شاف كاف، إن قلت: غفوراً رحيماً، أو قلت: سميعاً عليماً، أو عليماً سميعاً فالله كذلك، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب).
    وفي حديث أبي بكرة عند أحمد (34/70) (اقرأه على سبعة أحرف، كلها شاف كاف، ما لم تختم آية رحمة بعذاب، أو آية عذاب برحمة).
    وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أحمد (14/120) (أنزل القرآن على سبعة أحرف، عليماً حكيماً، غفوراً رحيماً).
    وفي رواية (ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب، ولا ذكر عذاب برحمة) أخرجه ابن جرير في "التفسير" (1/19)

    بقي شيء مهم جداً.

    وهو أن بعض أولئك الأئمة الذين ذكروا أن الناس رخص لهم أن يقرؤوا وفق لغاتهم ولهجاتهم تهويناً وتيسيراً كانوا يرون أن تلك القراءات المختلفة كلها قد نزل بها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم, وأن النبي صلى الله عليه وسلم اقرأ الصحابة رضي الله عنهم بكل تلك القراءات الكثيرة المختلفة, ولم يكن مصدرها اختلاف لهجات الناس, إنما تلقوها من النبي صلى الله عليه وسلم, والسبب في اعتقادهم هذا ظاهر بعض النصوص التي تشير إلى أن تلك القراءات كلها منزلة موحى بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
    قال بهذا ابن قتيبة, وأبو عمرو الداني, وابن عطية, وغيرهم.
    وسأذكر أقوالهم الآن ثم نعرضها على ميزان العقل والنقل, فإن ثقلت في الميزان فالقول قولهم, وإن طاشت أمام كفة المعقول والمنقول فالحق أحق أن يتبع, ولا عصمة إلا للوحيين والعقل الصحيح, والله الهادي إلى سواء السبيل.

    قال الإمام ابن قتيبة رحمه الله في "تأويل مشكل القرآن" ص (94): "وكل هذه الحروف كلام الله تعالى, نزل به الروح الأمين على رسوله عليه السلام, وذلك أنه كان يعارضه في كل شهر من شهور رمضان بما اجتمع عنده من القرآن, فيحدث الله إليه من ذلك ما يشاء، وينسخ ما يشاء, وييسر على عباده ما يشاء, فكان من تيسيره أن أمره بأن يقرئ كل قوم بلغتهم وما جرت عليه عادتهم".

    وقال القاسم بن ثابت كما في "الوجيز" ص (129): "وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرئهم بما يفقهون، ويخاطبهم بالذي يستعملون بما طوقه الله من ذلك، وشرح به صدره، وفتق به لسانه، وفضله على جميع خلقه".

    وقال ابن عطية في "المحرر الوجيز" (1/45): "فأباح الله تعالى لنبيه هذه الحروف السبعة وعارضه بها جبريل في عرضاته على الوجه الذي فيه الإعجاز وجودة الرصف, ولم تقع الإباحة في قوله صلى الله عليه وسلم: (فاقرؤوا ما تيسر منه) بأن يكون كل واحد من الصحابة إذا أراد أن يبدل اللفظة من بعض هذه اللغات جعلها من تلقاء نفسه.
    ولو كان هذا لذهب إعجاز القرآن, وكان معرضاً أن يبدل هذا وهذا حتى يكون غير الذي نزل من عند الله, وإنما وقعت الإباحة في الحروف السبعة للنبي صلى الله عليه وسلم ليوسع بها على أمته, فقرأه مرة لأُبيّ بما عارضه به جبريل صلوات الله عليهما ومرة لابن مسعود بما عارضه به أيضاً.
    وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف)".
    ثم قال ابن عطية: وعلى هذا تجيء قراءة عمر بن الخطاب لسورة الفرقان وقراءة هشام بن حكيم لها, وإلا فكيف يستقيم أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة كل منهما وقد اختلفتا: (هكذا أقرأني جبريل), هل ذلك إلا لأنه أقرأه بهذه مرة وبهذه مرة.
    وعلى هذا يحمل قول أنس بن مالك حين قرأ (إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأصوب قيلاً), فقيل له: إنما تقرأ وأقوم, فقال أنس: أصوب وأقوم وأهيأ واحد.
    فإنما معنى هذا أنها مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم, وإلا فلو كان هذا لأحد من الناس أن يضعه لبطل معنى قول الله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).

    تنبيه: الرواية التي ذكرها ابن عطية بلفظ (هكذا أقرأني جبريل) لا وجود لها, ولم يرد بهذا اللفظ أي رواية, ويبدو أنه يقصد قول النبي صلى الله عليه وسلم: (هكذا أنزلت), وسيأتي الكلام على هذا الحديث.
    كما سيأتي الكلام على رواية (أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف).

    وقال أبو عمرو الداني في "جامع البيان" (1/58): "فكان جبريل عليه الصلاة والسلام يأخذ عليه في كل عرضة بوجه وقراءة من هذه الأوجه والقراءات المختلفة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن القرآن أنزل عليها وإنها كلها شاف كاف), وأباح لأمته القراءة بما شاءت منها مع الإيمان بجميعها والإقرار بكلها, إذ كانت كلها من عند الله تعالى منزلة، ومنه صلى الله عليه وسلم مأخوذة".
    وقال (1/62): "هذه القراءات كلها والأوجه بأسرها من اللغات هي التي أنزل القرآن عليها، وقرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرأ بها".
    وقال (1/67): "جميع هذه السبعة أحرف قد كانت ظهرت واستفاضت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضبطتها الأمة على اختلافها عنه، وتلقيها منه".

    وقال البغوي في "شرح السنة" (3/45): ولا يكون هذا الاختلاف داخلاً تحت قوله سبحانه وتعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}, إذ ليس معنى هذه الحروف أن يقرأ كل فريق بما شاء مما يوافق لغته من غير توقيف، بل كل هذه الحروف منصوصة، وكلها كلام الله عز وجل، نزل بها الروح الأمين على النبي صلى الله عليه وسلم، يدل عليه قوله عليه السلام: (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف)، فجعل الأحرف كلها منزلة, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعارض جبريل عليه السلام في كل شهر رمضان بما يجتمع عنده من القرآن، فيحدث الله فيه ما شاء وينسخ ما يشاء، وكان يعرض عليه في كل عرضة وجهاً من الوجوه التي أباح الله له أن يقرأ القرآن به، وكان يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى أن يقرأ ويقرئ بجميع ذلك"اهـ
    والآن وبعد عرض أقوال هؤلاء الأئمة أقول: إن ما ذهب إليه هؤلاء العلماء الأجلاء لا تؤيده الأدلة الكثيرة كما سيأتي, أما ظاهر بعض النصوص التي تشير إلى أن تلك القراءات كلها منزلة فسيأتي الكلام عنها وبيان المراد بها والله تعالى أعلم.
    وأما ما ذكر الداني والبغوي من أن جبريل كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم في كل عرضة وجهاً من الوجوه والقراءات المختلفة فهو دعوى اطلاع على أمر غيبي خفي بهذا التفصيل الذي ليس عليه أثارة من علم.
    فالصواب أنه ليس من شرط القراءة بلغة غير قرشية أن يتعلمها من الرسول صلى الله عليه وسلم أو يقرأها عليه, فإن القول بذلك يعني قلب الرخصة إلى تشديد, والتهوين إلى ضيق وتعسير.

    والآن أذكر أقوال ثلة من أهل العلم تأييداً لهذا القول, ثم أذكر ثمانية أدلة كلها تؤيد وتؤكد هذا القول, ثم أجيب عن أدلة من يخالفون, والله المستعان.

    أولاً: قال الإمام الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (8/124): "كان ذلك توسعة من الله عز وجل عليهم لضرورتهم إلى ذلك وحاجتهم إليه, وإن كان الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم إنما نزل بألفاظ واحدة".

    ثانياً: قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله في "تفسيره" (23/43) بعد أن ذكر القراءتين في قوله تعالى: (بل عجبت ويسخرون): فإن قال قائل: أكان التنزيل بإحداهما أو بكلتيهما؟
    قيل: التنزيل بكلتيهما، فإن قال: وكيف يكون تنزيل حرف مرتين؟ قيل: إنه لم ينزل مرتين، إنما أنزل مرة، ولكنه أمر صلى الله عليه وسلم أن يُقرَأ بالقراءتين كلتيهما، ولهذا موضع سنستقصي إن شاء الله فيه البيان عنه بما فيه الكفاية".

    ثالثاً: قال أبو شامة في "المرشد الوجيز" ص (139): "اختار الصحابة رضي الله عنهم الاقتصار على اللفظ المنزل المأذون في كتابته وترك الباقي للخوف من غائلته, فالمهجور هو ما لم يثبت إنزاله, بل هو من الضرب المأذون فيه بحسب ما خف وجرى على ألسنتهم".
    وقال ص (89): "الصحابة رضي الله عنهم خافوا من كثرة الاختلاف، وألهموا وفهموا أن تلك الرخصة قد استغني عنها بكثرة الحفظة للقرآن، ومن نشأ على حفظه صغيراً, فحسموا مادة ذلك بنسخ القرآن على اللفظ المنزل غير اللفظ المرادف له".

    رابعاً: قال ابن التين وغيره كما في "فتح الباري" (9/21): "جمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القرآن حين قرؤوه بلغاتهم على اتساع اللغات, فأدى ذلك ببعضهم إلى تخطئة بعض فخشي من تفاقم الأمر في ذلك, فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد, واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش, محتجاً بأنه نزل بلغتهم, وإن كان قد وسع في قراءته بلغة غيرهم رفعاً للحرج والمشقة في ابتداء الأمر, فرأى أن الحاجة إلى ذلك انتهت".

    خامساً: قال ابن تيمية في "الفتاوى" (13/399): "السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف مرجعه إلى النقل واللغة العربية, لتسويغ الشارع لهم القراءة بذلك كله"اهـ
    وقال أيضاً (13/404): "معرفة القراءات التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها أو يقرهم على القراءة بها أو يأذن لهم وقد أقرؤوا بها سنة".
    فقوله: (أو يقرهم على القراءة بها، أو يأذن لهم وقد أقرؤوا بها) يدل على ما نقول بكل وضوح أن كثيراً من القراءات لم يقرأ بها النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما رخص للناس أن يقرؤوا بلهجاتهم.

    سادساً: قال ابن الجزري في "منجد المقرئين" ص (95): "أجمع الصحابة على كتابة القرآن العظيم على العرضة الأخيرة التي قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل عام قبض، وعلى ما أنزل الله تعالى دون ما أذن فيه، وعلى ما صح مستفاضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره, إذ لم تكن الأحرف السبعة واجبة على الأمة، وإنما كان ذلك جائزاً لهم مرخصاً فيه".
    فقال رحمه الله: (وعلى ما أنزل الله تعالى دون ما أذن فيه).
    وهذا صريح في أن الأحرف السبعة لم تنزل, وإنما أذن الله فيها, وهذا هو الموافق لسائر الأدلة والأقوال التي ذكرتها وسأذكرها.
    وقال ابن الجزري أيضاً في "منجد المقرئين" ص (99): "فثبت من ذلك أن القراءة الشاذة ولو كانت صحيحة في نفس الأمر فإنها مما كان أذن في قراءته ولم يتحقق إنزاله، وأن الناس كانوا مخيرين فيها في الصدر الأول، ثم أجمعت الأمة على تركها للمصلحة, وليس في ذلك خطر ولا إشكال لأن الأمة معصومة من أن تجتمع على خطأ".

    سابعاً: قال ابن حجر في "الفتح" (9/30) "والحق أن الذي جمع في المصحف هو المتفق على إنزاله المقطوع به المكتوب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم, وفيه بعض ما اختلف فيه الأحرف السبعة لا جميعها... وما عدا ذلك من القراءات مما لا يوافق الرسم فهو مما كانت القراءة جوزت به توسعة على الناس وتسهيلاً, فلما آل الحال إلى ما وقع من الاختلاف في زمن عثمان وكفر بعضهم بعضاً اختاروا الاقتصار على اللفظ المأذون في كتابته وتركوا الباقي".

    ثامناً: قال الزركشي في "البرهان" (1/326): اختلفوا في الآية إذا قرئت بقراءتين على قولين:
    أحدهما: أن الله تعالى قال بهما جميعاً.
    والثاني: أن الله تعالى قال بقراءة واحدة إلا أنه أذن أن يقرأ بقراءتين.
    وهذا الخلاف غريب رأيته في كتاب "البستان" لأبي الليث السمرقندي, ثم اختار في المسألة أنه إن كان تفسيرهما واحداً كالبِيوت والبُيوت والمحصِنات والمحصَنات بالنصب والجر فإنما قال بأحدهما وأجاز القراءة بهما لكل قبيلة على ما تعود لسانهم.
    فإن قيل: إذا صح أنه قال بأحدهما فبأي القراءتين قال؟ قيل: بلغة قريش"اهـ

    تاسعاً: قال الدكتور عبد الهادي حميتو في كتابه "اختلاف القراءات وأثره في التفسير" ص (199) بعد أن ذكر قول الطبري والزركشي السالفين: "ويحقق هذا المعنى ما روته كتب الصحاح والسنن من قراءات في حروف من القرآن قرأ بها النبي صلى الله عليه وسلم, ولكنها لم تتواتر في النقل كما تواتر غيرها"اهـ
    أي: أنه لو كان كل قراءة قرأ بها النبي صلى الله عليه وسلم قد نزل بها جبريل باللفظ نفسه لتواترت هذه القراءات كما تواترت الألفاظ التي نزل بها جبريل.

    عاشراً: قال الدكتور عبد الهادي حميتو في كتابه "اختلاف القراءات وأثره في التفسير" ص (40) بعد ذكر قول ابن عطية الذي يرى فيه أن جميع القراءات المختلفة أقرأ بها النبي صلى الله عليه وسلم:
    قال الدكتور حميتو معقباً: "هذا توجيه وجيه التفت إلى قضية الإعجاز, ولكن الحافظ ابن حجر ذهب في "الفتح" إلى أن بعض الصحابة كان يقرأ بالمرادف ولو لم يكن له مسموعاً, ومن ثم أنكر عمر على ابن مسعود, فكتب إليه: (إن القرآن لم ينزل بلغة هذيل, فأقرئ الناس بلغة قريش, ولا تقرئهم بلغة هذيل, وكان ذلك قبل أن يجمع عثمان الناس على قراءة واحدة".
    ثم قال الدكتور حميتو: "وما ذهب إليه ابن حجر هو الذي تشهد له الآثار, وتؤيده النقول التي أسلفنا, إذ لو كان الأمر في ذلك مقصوراً على ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم حتى في كيفيات الأداء لم يرتفع الحرج الذي شرعت له الرخصة, رفقاً بالشيخ والعجوز والجارية والغلام والرجل الذي لم يقرأ كتاباً قط.
    فلذا أرى أن الترخيص كان للأمة يومئذ إلى حين الإجماع على المصحف الإمام في عهد عثمان, لتقرأ بحسب الأحرف السبعة دون أن يكون الأمر مقيداً تقييداً صارماً بالرواية والسماع من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم, ولذلك فهم بعض العلماء من أحاديث الأحرف السبعة أنها تعني كل ما هو واقع فعلاً بين القراءات المروية من وجوه الاختلاف"اهـ

    الحادي عشر: قال الطاهر بن عاشور في "التحرير والتنوير" (1/55): "لا مانع من أن يكون مجيء ألفاظ القرآن على ما يحتمل تلك الوجوه مراداً لله تعالى, ليقرأ القراء بوجوه فتكثر من جراء ذلك المعاني، فيكون وجود الوجهين فأكثر في مختلف القراءات مجزئاً عن آيتين فأكثر، وهذا نظير التضمين في استعمال العرب، ونظير التورية والتوجيه في البديع، ونظير مستتبعات التراكيب في علم المعاني، وهو من زيادة ملائمة بلاغة القرآن"اهـ

    الثاني عشر: قال الزركشي رحمه الله في "البرهان" (1/318): "اعلم أن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان, فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للبيان والإعجاز, والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتبة الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتثقيل وغيرهما"اهـ
    أي: أن القرآن هو الوحي المنزل, والقراءات اختلاف ألفاظ هذا الوحي, فطريقة اللفظ بهذا الوحي مختلفة لكن حقيقته قرآن ووحي واحد منزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
    وكذلك قال القسطلاني في "لطائف الإشارات" (1/358)
    وكذلك قال أحمد البنا في "الإتحاف" (1/69): "القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان, فالقرآن هو الوحي المنزل للإعجاز والبيان، والقراءات اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في الحروف، أو كيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرهما"اهـ
    وكذلك قال الدكتور عبد الصبور شاهين في كتابه "تاريخ القرآن" ص (40): "وليس صحيحاً أن القراءات تعتبر من النص القرآني, فهناك فرق بين القرآن والقراءات, وهما في الواقع يمثلان حقيقتين متغايرتين, فالقرآن هو ذلك النص المنزل بوساطة الوحي على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم, والثابت بالتواتر ثبوتاً قطعياً لا ريب فيه, وأما القراءات فهي روايات ووجوه أدائية, منها المتواتر, ومنها الصحيح, ومنها الضعيف, ومنها الموضوع, وهي بذلك تغاير القرآن تغايراً كبيراً, لأنها تتعلق باللفظ لا بالتركيب".
    وكذلك قال الدكتور صبري الأشوح في كتابه "إعجاز القراءات" ص (105): "أرجح القول بأن القرآن والقراءات العشر المشهورة حقيقتان متغايرتان".
    وذكر الدكتور شعبان إسماعيل في كتابه "القراءات وأحكامها ومصدرها" أن القول بأن القرآن والقراءات حقيقتان متحدتان هو قول مردود غير مقبول, لم يقل به أحد من العلماء السابقين. ذكره صاحب كتاب "إعجاز القراءات" ص (14)
    وسوف أذكر هذه المسألة وهي أن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان في مناسبة أخرى إن شاء الله, وأبسطها بالتوضيح والاستدلال.

    الثالث عشر: قال الأستاذ الدكتور محمد جبل أستاذ أصول اللغة في جامعة الأزهر في كتابه "من القضايا الكبرى في القراءات القرآنية" ص (71): القول (بأن إباحة قراءة كل إنسان بلغته لم تقع بالتشهي بأن يغير كل أحد الكلمة بمرادفها في لغته, بل المرعي في ذلك السماع من النبي صلى الله عليه وسلم).
    هذا القول هو أولاً:
    تبرع بقيد لا أساس له إلا الحماس غير العلمي, فإن اشتراط السماع من النبي صلى الله عليه وسلم في كل لهجة وكل كلمة لهجية تعليق بمستحيل, بسبب كثرة اللهجات ومواضع الاختلاف اللهجي في الكلمات, وبعد المسلمين كل في ربعه, واشتغال النبي صلى الله عليه وسلم بأمور المسلمين, فهذا القيد يتناقض مع التيسير ويلغيه".
    ثانياً: ما استشكله بعضهم بأنه يلزم عنه أن جبريل كان يلفظ باللفظ الواحد عدة مرات, وما أجيب عنه بأن جبريل كان يأتي في كل عرضة بحرف إلى أن تمت السبعة إنما هو تسور على أمر غيبي بين جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلع عليه أحد, وليس بيد مدعي هذا بينة تثبت مدعاه في هذا الأمر الخطير"اهـ

    وقال رحمه الله ص (61): "إنني أنا محمد حسن حسن جبل أشعر أيضاً وأنا أكتب هذا أنني أسعى في تحصيل حاصل, لأني أريد أن أثبت أمراً فطري الثبوت, ولكن عذري أني عايشت طلاب كلية القرآن الكريم وعرفت المقولات التي تتحكم في نفوسهم فرأيت أن واجبي أن أبصرهم وأرشدهم لتتسع آفاق مداركهم ولا يركنوا إلى الذين يقودونهم بأفكار قائمة على حماس ليس له أساس علمي.
    إن المسلمين وفي مقدمتهم أهل القرآن يواجهون أخطاراً جساماً تتهدد دينهم, والدفاع الأمثل عن الإسلام في عصرنا وظروفنا يكون بالعلم الفاقه البصير, والله الموفق والمعين".
    وقال ص (62): "والآن فإني أعلم أن ما عبئت به أيها الدارس من المقالات الحماسية قد يصدك عن رأيي على الرغم مما قدمته لك من أن الصحابة والتابعين كانوا يقرؤون بلهجاتهم دون تلق من الرسول صلى الله عليه وسلم, وإنما بناء على الأصل الفطري وعلى الإذن العام من الرسول صلى الله عليه وسلم لكل إنسان أن يقرأ بلهجته"اهـ

    الرابع عشر: قال الدكتور عبد الصبور شاهين في كتابه "تاريخ القرآن" ص (81): "معنى ذلك بداهة أن الوحي القرآني استمر ينزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم واحداً وعشرين عاماً على حرف واحد, وأن المجتمع كله كان يقرأ القرآن طيلة هذه المدة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم على حرف واحد, وأن إقراء هذه المدة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم كان على حرف واحد, وأن تدوين ما كان ينزل من القرآن كان أيضاً على حرف واحد, لا شك في هذا أبداً بعد أن وضحت لنا المعالم التاريخية السابقة".
    وقال ص (84): "لم نتلق أي خبر أو إشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكرر إملاء الوحي على كتبته, ولو حدث هذا لاستفاضت به الأحاديث, لأنه يكون حينئذ مما ينبغي أن يعلم من أحواله صلى الله عليه وسلم في أخص ما يتصل بحفظ القرآن مكتوباً.
    ويؤكد هذا الوجه أيضاً أن الذين كتبوا النص القرآني في جمع أبي بكر وفي جمع عثمان رضي الله عنهما لم يصادفوا مرة واحدة نصاً مكتوباً مرتين على حرفين, فضلاً عن سبعة أحرف, لا مفرقة على مواضع من القرآن ولا مجتمعة في كلمة واحدة".
    وقال ص (68): "الذي يعين سياق الأحاديث على القول به أن من الحروف ما كان منشؤه الرخصة العامة, لا سيما ما كان بزيادة أو نقص أو إحلال كلمة في موضع أخرى, بسبب النسيان أو الرغبة في الاستمتاع بالرخصة مع التذكر, وكلا الأمرين جائز ما دام باب التيسير مفتوحاً".

    الخامس عشر: قال الدكتور صبري الأشوح في كتابه "إعجاز القراءات" ص (25): "ابن الجزري يميل إلى أن جميع القراءات كانت إقراء من النبي صلى الله عليه وسلم, وليست إقراراً منه, ولا أدري إن كان الأمر كذلك قد جرى به الواقع, فأين يذهب إذن معنى الرخصة والتيسير والتوسعة.
    إذا سلمنا بمفهوم ابن الجزري فإن هذه القراءات المتعددة ستكون تعسيراً, أيُّ المهمتين أسهل, نقل وحفظ القرآن بقراءة واحدة أم بعشرات القراءات؟!
    وهل يعقل أن يطلب من أي عقل بشري أن يؤمن بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأ بنفسه كل هذا الخضم الهائل من القراءات؟!"اهـ
    قلت: لكن سبق ذكر أن ابن الجزري رحمه الله له قول صرح به بخلاف ذلك, وأن القراءات لم تنزل, وإنما هي مأذون بها فقط.
    وهو قوله: أجمع الصحابة على كتابة القرآن العظيم على العرضة الأخيرة التي قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل عام قبض، وعلى ما أنزل الله تعالى دون ما أذن فيه".
    فقال: (وعلى ما أنزل الله تعالى دون ما أذن فيه).
    وكذلك قوله: "القراءة الشاذة ولو كانت صحيحة في نفس الأمر فإنها مما كان أذن في قراءته ولم يتحقق إنزاله، وأن الناس كانوا مخيرين فيها في الصدر الأول، ثم أجمعت الأمة على تركها للمصلحة".

    وقال الدكتور صبري الأشوح أيضاً ص (23): "إن الحكمة الإلهية اقتضت أن تكون العلاقة بين الوحي الإلهي والواقع متمثلاً في تعدد اللهجات ومحدودية القدرات البشرية في النطق والتذكر من جهة, واختلاف الناس في التذوق والميول من جهة أخرى, اقتضت الحكمة أن تكون العلاقة بينهما علاقة تكامل ومشاركة لا أن تكون علاقة فرض وإملاء وإلزام وإجبار, فتركت للناس مساحة محدودة للمشاركة, تضمن على مر الأيام ولاءهم, وتعمق على اتساع الرقعة انتماءهم, فيعتز التميمي بالقرآن إذ ينطقه ببعض لهجته اعتزاز القرشي والهذلي والأسدي وغيرهم, فالقرآن ينطق بلهجاتهم جميعاً, لذا فهو ملكهم جميعاً".
    وقال ص (56): "القرآن كلام الله هو علم على تلك الرسالة المحمدية, وهدية الله إلى العالمين, فكان لزاماً أن يكون كلاماً واقعياً ينطقه الناس بلغتهم السائدة بينهم, وهي العربية المبينة, وبلهجاتهم أيضاً على تعددها وتنوعها واختلافها, وهو ما جعله قطعة من النسيج الثقافي لهم جميعاً على الأقل في مرحلته الأولى, وحتى يتمكن من صدورهم ويستولي على ألبابهم, وهو صلب ما أدت إليه رخصة الأحرف السبعة العبقرية البالغة الحكمة"اهـ

    والآن وبعد سرد تلك النقول الكثيرة التي قد توشحت بالنظرة المتأملة والتحقيق وتزينت بالإدراك والفهم العميق أذكر ثمانية من الأدلة كلها تؤيد أقوال هؤلاء الأئمة الكرام.
    فمن الأدلة على ذلك:
    الدليل الأول:
    حديث أبيّ رضي الله عنه قال: (لقي رسول الله جبريل، فقال: إني بعثت إلى أمة أميين، فيهم الشيخ العاسي، والعجوزة الكبيرة، والغلام, قال: فمرهم فليقرؤوا القرآن على سبعة أحرف). أخرجه أحمد (35/132)
    فقوله: (مرهم فليقرؤوا القرآن على سبعة أحرف) واضح جداً أنه رخصة مفتوحة لأولئك الشيوخ والعجائز والغلمان والذين لم يقرؤوا كتاباً قط أن يقرؤوه دون أن يتلقوا ذلك ويعلموه, ولو طلب من كل أولئك العجزة والشيوخ والغلمان أن يتعلموا القراءة ويحفظوها كما نزل بها جبريل لانتفت الرخصة, ولم يحصل ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم.
    كيف وهم أمة أمية لم يعتادوا الدرس والتكرار وحفظ الشيء على لفظه مع كبر أسنانهم واشتغالهم بالجهاد والمعاش، وكيف يطلب النبي صلى الله عليه وسلم من ربه التهوين والتيسير ثم يعين لهم ما يتيسر ويلزموا به, إن التيسير يتمثل في أن يقرأ القارئ من أولئك الشيوخ والعجائز بدل الكلمة القرآنية التي ذهل عنها كلمة تؤدي معناها فتقوم مقام التي ذهل عنها كما أن له أن يقرأ الألفاظ بلهجته وإن كانت مخالفة للهجة قريش, أما تعيين الكلمات البديلة فهو تكليف شاق ينافي الرخصة.
    ولو أن كل واحد من أولئك الشيوخ والعجائز والأميين كلف أن يقرأ ولا يبدل حرفاً ولا كلمة فكم في ذلك من التعسير والتشديد والمشقة.
    فرخص لهم في تلك الفترة بعدم الالتزام الحرفي بعين تفاصيل القراءة المتلقاة عن النبي صلى الله عليه وسلم, وأبيح لهم التحلل من تلك القيود.
    أما النص الأصلي الذي كان ينزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يحفظ فور نزوله عن طريق الكتابة, فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمليه على من يكتب الوحي فيكتبه فوراً, وبالتالي لا خوف على النص الذي نزل بلسان قريش فهو محفوظ ومكتوب, وبهذا يعلم تمام رحمة الله وحكمته تبارك وتعالى, وحفظه لكتابه.
    ولهذا قال أبو شامة رحمه الله كما سبق: "قلت: فمعنى الحديث أنهم رخص لهم في إبدال ألفاظه بما يؤدي معناها، أو يقاربه من حرف واحد إلى سبعة أحرف، ولم يلزموا المحافظة على حرف واحد, لأنه نزل على أمة أمية لم يعتادوا الدرس والتكرار وحفظ الشيء على لفظه مع كبر أسنانهم واشتغالهم بالجهاد والمعاش، فرخص لهم في ذلك، ومنهم من نشأ على لغة يصعب عليه الانتقال عنها إلى غيرها، فاختلفت القراءات بسبب ذلك كله، ودلنا ما ثبت في الحديث من تفسير ذلك بنحو: هلم، وتعال، على جواز إبداله باللفظ المرادف، ودلنا ما ثبت من جواز {غفوراً رحيماً} موضع {عزيزاً حكيماً} على الإبدال بما يدل على أصل المعنى دون المحافظة على اللفظ، فإن جميع ذلك ثناء على الله سبحانه".

    الدليل الثاني:
    أن القراءات المختلفة لو كانت كلها منزلة من عند الله لم يكن بوسع الخليفة عثمان رضي الله عنه أن يلغيها ويبقي على حرف قريش, فهذا من أوضح الأدلة على أن الأحرف السبعة إنما هي لهجات مختلفة رخص لكل أهل لهجة أن يقرأ بلهجته, وكانت رخصة مؤقتة.
    فلو كانت الأحرف منزلة من عند الله ما كان عثمان رضي الله عنه يفكر ولو مجرد تفكير أن يلغيها ويحرق المصاحف, هل يعقل هذا, وهل يعقل أن يسكت الصحابة وهم يرون عثمان يلغي بعض كلام الله الذي جاء به جبريل!
    ليس السكوت فقط بل قد ورد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لو وليت لفعلت في المصاحف الذي فعل عثمان كما في "فضائل القرآن" لأبي عبيد ص (284)
    وليس التمني فقط بل قد ورد الثناء والمدح لعثمان رضي الله عنه بما فعل, وهو أمر مشهور معروف, ومن ذلك قول عبد الرحمن بن مهدي: كان لعثمان شيئان ليس لأبي بكر ولا عمر مثلهما: صبره نفسه حتى قتل مظلوماً، وجمعه الناس على المصحف.
    وقال حماد بن سلمة: كان عثمان في المصحف كأبي بكر في الردة, كما في "المرشد الوجيز" ص (71)
    ألا يمكن أن يأمر عثمان رضي الله عنه بكتابة الأحرف السبعة ويلزم الناس بها دون غيرها فيزول الاختلاف.
    قال أبو شامة في "المرشد الوجيز" ص (71): عثمان قصد أن يقتصر الناس على تلاوته على اللفظ الذي كتب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتعدوه إلى غيره من القراءات التي كانت مباحة لهم، المنافية لخط المصحف.
    وقال أيضاً ص (89): "كان هذا سائغاً قبل جمع الصحابة المصحف تسهيلاً على الأمة حفظه, لأنه نزل على قوم لم يعتادوا الدرس والتكرار وحفظ الشيء بلفظه، بل هم قوم عرب فصحاء يعبرون عما يسمعون باللفظ الفصيح.
    ثم إن الصحابة رضي الله عنهم خافوا من كثرة الاختلاف، وألهموا وفهموا أن تلك الرخصة قد استغني عنها بكثرة الحفظة للقرآن، ومن نشأ على حفظه صغيراً فحسموا مادة ذلك بنسخ القرآن على اللفظ المنزل غير اللفظ المرادف له... وبقي من الأحرف السبعة التي كان أبيح قراءة القرآن عليها ما لا يخالف المرسوم، وهو ما يتعلق بتلك الألفاظ من الحركات والسكنات والتشديد والتخفيف, وإبدال حرف بحرف يوافقه في الرسم ونحو ذلك, وما لا يحتمله المرسوم الواحد فرق في المصاحب فكتب بعضها على رسم قراءة، وبعضها على رسم قراءة أخرى".
    وقال أبو شامة أيضاً في "المرشد الوجيز" ص (142): لأن خط المصحف نفى ما كان يقرأ به من ألفاظ الزيادة والنقصان والمرادفة والتقديم والتأخير، وكانوا علموا أن تلك الرخصة قد انتهت بكثرة المسلمين واجتهاد القراء وتمكنهم من الحفظ.

    تنبيه:
    هذا الدليل وهو إلغاء عثمان لبقية الأحرف من أقوى الأدلة على هذه المسألة, ولو لم يوجد غيره لكفى لشدة وضوحه وجلائه.
    فإن قال قائل: إن عثمان رضي الله عنه لم يحذف شيئاً من الأحرف السبعة, ولا يمكن أن يحدث ذلك, وكيف يعمد إلى حذف قراءات أنزلها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم, ويقره الصحابة جميعاً على ذلك, وإنما حذف ما نسخ من القرآن والقراءات, وما يعتبر شاذاً من القراءات لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    فجوابه أن يقال: إن هذا الاعتراض غريب جداً.
    كيف يقال: إن عثمان لم يلغ شيئاً من الأحرف, وعثمان قد قال: (اكتبوه بلسان قريش).
    ما فائدة قوله هذا إن كان لم يلغ شيئاً من الأحرف, وما علاقة ما نسخ من القرآن بقوله: (اكتبوه بلسان قريش).
    إن هذا النص من عثمان رضي الله عنه يدل بكل وضوح أن هناك لهجات أخرى غيرها, ولكنه أمر أن يقتصر على لهجة قريش, وهو أمر مشهور معروف عند كل أحد.
    إلا أن يقال: إن الأحرف السبعة كانت كلها بلسان قريش, وهذا لم يقل به أحد, فإن المراد بالأحرف السبعة التسهيل والتيسير على الأمة.

    ثم إن الذين قالوا بهذا القول غفلوا عن أمرين هما في غاية الأهمية:
    أولهما:
    أن عثمان رضي الله عنه بكتابة المصحف على حرف واحد ومنع الناس من سواه لم يحذف شيئاً من القرآن, فإن القرآن باق لا يمكن أن يذهب منه حرف واحد ولو أجمع الإنس والجن على ذلك وكان بعضه لبعض ظهيراً.
    ولكن الذي ألغاه عثمان إنما هو بعض طرائق النطق بالقرآن, وهو ما يعبر عنه بالأحرف السبعة, فإن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان كما سبق ذكره, فالقرآن هو الوحي المنزل, والقراءات اختلاف ألفاظ هذا الوحي, فطريقة اللفظ بهذا الوحي مختلفة لكن حقيقته قرآن ووحي واحد منزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
    وإنما ألغاها عثمان لزوال الحاجة إليها, فإن الرخصة كانت لزمن معين وقد انتهى, ولأنها صار سبباً في الاختلاف والتنازع.
    وثانيهما:
    أن القراءات المثبتة في كتب القراءات كالنشر وغيره ليست إلا قليلاً من كثير وقطرة من بحر بالنسبة للقراءات التي تركت ولم تدون, فكيف يدعى أن الذي في المصحف الآن جميع الأحرف السبعة, وأن عثمان لم يحذف منها شيئاً.
    قال ابن الجزري في "النشر" (1/33): "فإن القراءات المشهورة اليوم عن السبعة والعشرة والثلاثة عشرة بالنسبة إلى ما كان مشهوراً في الأعصار الأول قل من كثر ونزر من بحر, فإن من له اطلاع على ذلك يعرف علمه العلم اليقين, وذلك أن القراء الذين أخذوا عن أولئك الأئمة المتقدمين من السبعة وغيرهم كانوا أمماً لا تحصى، وطوائف لا تستقصى، والذين أخذوا عنهم أيضاً أكثر وهلم جراً".
    وقال في "المسائل التبريزية: "ما التزمنا في "النشر" أن نذكر كل ما صح من الروايات والقراءات, بل اخترنا ذلك من الصحيح, ولكن في نفسي أن أجمع كتاباً في القراءات, وأعتمد فيه على كل ما صح عندنا إن شاء الله"اهـ
    وهذا يعني بكل وضوح أن ذهاب كثير من القراءات الصحيحة لا يعني ذهاب شيء من القرآن, وإنما القراءات طرائق مختلفة لقراءة القرآن, الغاية منها التسهيل والتيسير والتهوين.

    الدليل الثالث:
    أن عثمان رضي الله عنه حين أمر بكتابة المصحف قال للرهط القرشين الثلاثة: (إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم). أخرجه البخاري (4702)
    وكذلك قال عمر رضي الله عنه, فحين علم أن ابن مسعود رضي الله عنه يقرئ بغير حرف قريش أرسل إليه: (إن الله أنزل القرآن بلسان قريش, فإذا أتاك كتابي هذا فأقرئ الناس بلغة قريش, ولا تقرئهم بلغة هذيل والسلام). أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" (8/278)
    وهذه نصوص صريحة واضحة, ولو نزل جبريل بجميع القراءات والأحرف ما كان لقول عثمان أو عمر رضي الله عنهما أي معنى.
    فالأمر بدهي في أذهان الصحابة إذاً, فعثمان يصرح به والصحابة يقرونه على ذلك, ولا يدور في خلدهم غيره, فالقرآن نزل بلهجة قريش, وهذا يعني بكل صراحة ووضوح أن بقية الأحرف واللهجات والقراءات ما أنزلها جبريل, بل هي رخصة من الله أن يقرأ الناس ما أنزله الله بلهجاتهم ولو لم يأت به جبريل, ولو لم يقرئهم النبي صلى الله عليه وسلم, فإن المقصود التيسير والتهوين عليهم.

    الدليل الرابع:
    أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يقرأ عليهم ويقرئهم إلا بلسان قريش, ولم يقرئهم بغيرها إلا في حالات نادرة جداً لبيان الرخصة وتأكيدها عملياً, كيف ولم تأت الرخصة إلا قبل سنتين أو ثلاث من وفاته عليه الصلاة والسلام.
    وقد روى أبو إسحاق عن مصعب بن سعد قال: (سمع عثمان قراءة أُبيّ وعبد الله ومعاذ فخطب الناس ثم قال: إنما قبض نبيكم منذ خمس عشرة سنة وقد اختلفتم في القرآن, عزمت على من عنده شيء من القرآن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتاني به, فجعل الرجل يأتيه باللوح والكتف والعسيب فيه الكتاب، فمن أتاه بشيء قال: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم...) أخرجه ابن أبي داود في "المصاحف" ص (101), وذكره السخاوي في "جمال القراء" ص (110)
    فعثمان رضي الله عنه أراد أن يزيل الاختلاف بجمع ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم, ماذا يعني هذا؟
    يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ويقرئ بلفظ واحد, وهو حرف قريش الذي نزل به القرآن لا بألفاظ مختلفة.
    قال أبو عبد الرحمن السلمي كما في "المرشد الوجيز" ص (68): "كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرؤون قراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه"اهـ
    وقد أخرج ابن شبة في "تاريخ المدينة" (3/214) (أن عثمان رضي الله عنه كتب إلى الأمصار: أما بعد فإن نفراً من أهل الأمصار اجتمعوا عندي فتدارسوا القرآن، فاختلفوا اختلافاً شديداً، فقال بعضهم: قرأت على أبي الدرداء، وقال بعضهم: قرأت حرف عبد الله بن مسعود، وقال بعضهم: قرأت حرف عبد الله بن قيس, فلما سمعت اختلافهم في القراءة والعهد برسول الله صلى الله عليه وسلم حديث رأيت أمراً منكراً، فأشفقت على هذه الأمة من اختلافهم في القرآن، وخشيت أن يختلفوا في دينهم بعد ذهاب من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين قرؤوا القرآن على عهده وسمعوه من فيه، فأرسلت إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن ترسل إلي الأدم الذي فيه القرآن الذي كتب عن فم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوحاه الله إلى جبريل، وأوحاه جبريل إلى محمد وأنزله عليه، وإذ القرآن غض، فأمرت زيد بن ثابت أن يقوم على ذلك...) الخ.
    فقوله رضي الله عنه: (فأرسلت إلى عائشة أم المؤمنين أن ترسل إليَّ الأدم الذي فيه القرآن الذي كتب عن فم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوحاه الله إلى جبريل، وأوحاه جبريل إلى محمد وأنزله عليه). واضح جداً في أن جبريل إنما أنزل القرآن بلفظ واحد, وكتب بلفظ واحد, وقرأه النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ واحد, وهو لسان قريش.
    ومما يؤيد هذا ويؤكده أنه لم يعرف أبداً أن الأحرف السبعة غير حرف قريش كانت تدون وتكتب كما كان يكتب القرآن الذين نزل بحرف قريش, ولم يرد أبداً أن أحداً من الصحابة كانت يتتبعها ويكتبها, أو يتعلمها ويحفظها, ولو حصل ذلك لعلم واشتهر.
    وهذا يدل دلالة واضحة على أنها ليست منزلة, وإنما هي رخصة مفتوحة, إذ كيف تكون منزلة ثم لا يعبؤون بها ولا يكتبونها ولا يجمعونها ولا يتعلمونها, ولا يأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من ذلك البتة.

    قال الطبري في "تفسيره" (1/28): "لم يكن أمر القراءات أمر إيجاب وفرض، وإنما كان أمر إباحة ورخصة, لأن القراءة بها لو كانت فرضاً عليهم لوجب أن يكون العلم بكل حرف من تلك الأحرف السبعة عند من تقوم بنقله الحجة، ويقطع خبره العذر، ويزيل الشك من قرأة الأمة, وفي تركهم نقل ذلك كذلك أوضح الدليل على أنهم كانوا في القراءة بها مخيرين".
    وقد ذكر ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (1/55) "أن جمع القراءات لأجل الحفظ والدرس هو من الاجتهاد الذي فعله طوائف في القراءة، وأما الصحابة والتابعون فلم يكونوا يجمعون"اهـ
    فالصحابة رضي الله عنهم لم يهتموا بالأحرف, ولم يجمعوها, وهذا من أوضح الأدلة على أنها ليست هي التي نزل بها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم.
    ومما يؤكد عدم اهتمام الصحابة بها حديث أبي المنهال قال: (بلغنا أن عثمان رضي الله عنه قال يوماً وهو على المنبر: أذكر الله رجلاً سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف) لما قام، فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف), فقال عثمان رضي الله عنه: وأنا أشهد معهم) أخرجه أبو يعلى في الكبير كما في "مجمع الزوائد" (7/152)
    إن عثمان رضي الله عنه يحتاج إلى إثبات أن القرآن أنزل على أحرف إلى أن يشهد معه أحد, فقام رجال فشهدوا معه, وهذا لا يدل إلا على شيء واحد, وهو أن مسألة الحروف والقراءات عند الصحابة ليست ذات بال عندهم, ولم يشغلهم أمرها, لأنهم فهموا المراد بها والغاية منها, ولو كانوا يحفظونها أو يجمعونها ما احتاج عثمان رضي الله عنه إلى أن يطلب من يشهد معه, لوضوح الأمر واشتهاره بينهم.

    الدليل الخامس:
    أن كثيراً من أهل العلم الراسخين من القراء والمفسرين واللغويين وغيرهم قد وقف مع بعض القراءات وتكلم فيها, وخطأ بعضها, وفاضل بينها, وهذا أمر مشهور معلوم, كالإمام الأعرج عبد الرحمن بن هرمز, ويحيى بن يزيد الفراء, وأبي عبيد القاسم بن سلام, وأبي حاتم السجستاني, ومحمد بن جرير الطبري, وابن مجاهد وهو من جمع قراءات القراء السبعة, وأبي محمد بن عطية, وابن قتيبة, وأبي شامة, وأبي الحسن الأخفش, وأبي العباس المبرد, وأبي إسحاق الزجاج, وأبي جعفر النحاس, وأبي علي الفارسي, وغيرهم, حتى بعض القراء السبعة, وكثير منهم مع كونه إماماً في التفسير أو اللغة كان إماماً في القراءات أيضاً.
    وهذا صريح في أنهم كانوا يرون أن تلك القراءات المختلفة ليست كلها منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولذلك ينقدون ويخطئون ويضعفون ويفاضلون, فينقدون كل لهجة ضعيفة, أو تشوبه مخالفة للغة الفصحى, ولا يجدون أي حرج في ذلك, لأنهم على يقين وطمأنينة أن الذي أنزله جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى درجات الفصاحة والبيان واللسان العربي المبين, فهم يعتقدون أن تلك القراءات الكثيرة المختلفة ليست كلها من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم, إنما هي قراءات أذن للناس أن يقرؤوا بها في زمن الرخصة.
    وإنما ضج من ضج ممن جاء بعدهم خاصة من المتأخرين لعدم فهمهم لحقيقة المسألة, فكثر تهجمهم على أولئك العمالقة الكبار جهلاً أو تقليداً, وهم يظنون أنهم بذلك يدافعون عن القرآن الذي أنزله الله.

    إن الذين يتهمون أولئك بأنهم يطعنون في القراءات المتواترة غلطوا في أمرين:
    أولهما: أنهم جزموا بأن جميع القراءات المختلفة قد نزل بها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم, في حين أن أولئك الأئمة لا يعتقدون ذلك, فهؤلاء المتأخرون يحاكمونهم إلى أمر لا يعتقدونه بل يعتقدون خلافه, وعلى الأقل هي مسألة خلافية ولا إنكار في مسائل الخلاف, فإن أولئك الأئمة كانوا لا يعتقدون أن جميع القراءات منزلة, بل كانت رخصة للناس أن يقرؤوا بلهجاتهم كما سبق بيانه, يتضح ذلك من مواقفهم من تلك القراءات كما بينت.
    وثانيهما: أنهم يحاكمونهم إلى الشاطبية والطيبة, فإذا قال أولئك عن قراءة: إنها شاذة وخطأ فإن المتأخرين ينظرون إلى الشاطيبة والطيبة فإن كانت تلك القراءة غير ورادة فيها قالوا: صدق أولئك إنها شاذة, وإن كانت واردة في إحداهما قالوا: لقد طعن أولئك في القراءات المتواترة.
    إن كثيراً من هؤلاء الكبار الأجلاء كانوا في زمن متقدم قبل أن توجد الشاطبية أو الطيبة أو القراء السبعة أو القراءات السبع, لقد كانوا في عصر لم تكن القراءات فيه مستقرة, وقد كثر القراء والقراءات, واخلط الشاذ بالصحيح والخطأ بالصواب والفصيح بالرديء الضعيف من اللهجات, فبذلوا جهوداً عظيمة في تمحيص القراءات وبيان الصحيح من السقيم منها حسب جهدهم وما بلغ إليه علمهم, وعلى أيديهم تمحصت كثير من القراءات وبان الصواب منها من الخطأ, فكيف يتهمون بأنهم يطعنون في قراءات متواترة, ويحاكمون بما عليه القراء السبعة أو العشرة أو الشاطبية أو الطيبة وهم لا يدرون ما السبعة ولا العشرة, فلم يوجدوا إلا بعد زمنهم ووقتهم, فالقراءات السبع لم تتميز ويكتب لها الشهرة إلا في بداية القرن الرابع الهجري, حين جمعها ابن مجاهد في كتابه "السبعة". وانظر: "تبرئة الإمام الطبري المفسر من الطعن في القراءات" للدكتور سامي محمد عبد الشكور الأستاذ بجامعة طيبة بالمدينة النبوية.

    يقول الأستاذ الدكتور محمد حسن جبل أستاذ أصول اللغة في جامعة الأزهر في كتابه "من القضايا الكبرى في القراءات" ص (61): "إن قراءة الصحابة والتابعين بلهجاتهم هو أمر يقيني لأنه الأصل والطبيعي, ولم يرد ما ينفيه, وهي حلقة بالغة الأهمية جديرة بالتنبه إلى وجودها, لأنها هي التي يرجع إليها كل ما كان موضع نقد في القراءات, لكونه لهجة ضعيفة, أو تشوبه مخالفة للغة الفصحى, فلنعلم أن مصدر تلك القراءة التي نقدت أو ضعفت هو تلك الحلقة لا غيرها"اهـ
    ويقول ص (77): "يترتب على كون بعض القراءات أصله لهجي نشأ من أداء بعض الصحابة والتابعين أمران:
    الأمر الأول: جواز تفضيل قراءة أو وجه قرآني على آخر, فإن التفضيل هنا مرده إلى درجة الفصاحة في القراءة أو الأداء, وهذا التفضيل هو حق القرآن, لأنه أنزل بأفصح قراءة عربية وأفصح وجه عربي.
    الأمر الثاني: أن الطعن في فصاحة قراءة إنما يوجه إلى اختيارها وإلى لهجتها, وحاشا لله أن يكون موجهاً إلى القرآن نفسه أو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, ومن هنا وجدنا كثيراً من العلماء والأئمة المفسرين وأئمة القراءات واللغويين يضعفون بعض الأوجه القرآنية, وذلك محافظة منهم على رتبة فصاحة القرآن الكريم, وحاشا لله أن يظن بهم أنهم يوجهون التضعيف إلى القرآن نفسه أو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نزه الله شأنه عن كل عيب, فهم أئمة الإسلام الذائدون بالعلم والحق عن حماه".

    ويقول ص (84): "لا شك أن هؤلاء الناقدين يؤمنون بأن القرآن كلام رب العالمين منزه ويجب أن ينزه عن الأوجه الضعيفة في اللغة العربية, فهؤلاء العلماء دفعتهم الغيرة على كتاب الله تعالى إلى هذا النقد... فكل هؤلاء الناقدين بنوا نقدهم على أن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان, وعلى أن الأداء المخالف للمستوى الأدبي المثالي العام من اللغة العربية هو غير متواتر, ونحن أيضاً يجب أن نعلم ذلك ونعتقده".

    الدليل السادس:
    أنه لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أقرأهم جميع تلك القراءات المخالفة للهجة قريش لنقل في النصوص واشتهر وتواتر ذكره والنص عليه, فعدم نقله إلا في روايات قليلة نادرة جداً يدل على أن الأمر بخلاف ذلك, وأن النبي صلى الله عليه وسلم في غالب أمره ما كان يقرأ ويعلم إلا بلهجة قريش.
    ولو وقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقرأ أحداً من الصحابة بغير لغته لغة قريش لجاء في روايات كثيرة, ولما أغفل نقله, فإنها منقبة عظيمة لمن اقرئوا هكذا لم يكونوا ليغفلوها.
    ومما يدل على ذلك أيضاً ويؤكده أنه لما اختلف عمر وهشام بن حكيم في شأن القراءة لم يكونا على علم أن القرآن أنزل على سبعة أحرف إلا بعد أن قرأ كلاهما على النبي صلى الله عليه وسلم فصحح لهما, مع أن ذلك لم يحصل إلا في زمن متأخر بعد الفتح, فإن هشام بن حكيم ما أسلم إلا عام الفتح, ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرئ بكل الأحرف واللهجات لاشتهر وما كان ليخفى على مثل عمر رضي الله عنه.
    فليس من المعقول أن يحصل إقراء النبي صلى الله عليه وسلم بقراءات متنوعة ثم لا يعلم به صحابي مثل عمر رضي الله عنه.

    الدليل السابع:
    مما يجلي ذلك ويؤكده أن الأحاديث السابقة في طلب النبي صلى الله عليه وسلم من ربه أن يهون القرآن على أمته ويأذن في قراءته على سبعة أحرف إنما كان ذلك بالمدينة في وقت متأخر جداً بعد فتح مكة, ومما يدل على ذلك أنه لما اختلف عمر مع هشام بن حكيم وترافعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونا يعلمان بأن القرآن يقرأ على أكثر من وجه حتى أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, والقصة لم تحصل إلا بعد فتح مكة يقيناً, فإن هشام بن حكيم لم يسلم إلا بعد فتح مكة.
    وهذا يعني أن القرآن كان لا يقرأ إلا بلسان قريش إلا في أواخر العهد المدني حين بدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً, فهي رخصة أذن فيها للحاجة إليها.
    وإذا كان الأمر كذلك فمتى سيقرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه بكل الأوجه واللهجات والقراءات, إن من يعلم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم, ويتصور أحواله وكيف كان يقضي وقته صلى الله عليه وسلم بين المشاغل الكثيرة المتنوعة, والدعوة والجهاد والتعليم والتوجيه واستقبال الوفود والحج والزوجات ومشاكل الناس وغير ذلك كثير يدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يتأتى له أن يمضي كثيراً من أوقاته في تعليم القراءات المتنوعة.

    يقول الدكتور محمد حسن جبل رحمه الله في كتابه "من القضايا الكبرى في القراءات" ص (60): "الذين يشترطون أو يظنون ضرورة تلقي القراءة اللهجية من الرسول صلى الله عليه وسلم أي توقف جوازها على ذلك يقعون في خطأين:
    الأول: إبطال كون القراءة باللهجات تيسيراً على الأمة, وذلك أن توقف تلك القراءة على التلقي تلزم كل من يريد القراءة بلهجته بأن يتلقاها عن الرسول صلى الله عليه وسلم, وفي ذلك ما فيه من ضرورة لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم, والاستماع إليه وهو يقرأ بتلك اللهجة, أو القراءة أمامه صلى الله عليه وسلم بلهجة القارئ, وذلك مستحيل, لأن أصحاب هذه اللهجات غير القرشية من الصحابة آلاف, ومنتشرون في البلاد, والنص القرآني الكريم طويل, ليس عبارة واحدة أو عبارات محدودة, والرسول صلى الله عليه وسلم له مشاغله الجمة, مع كون ذلك أولاً وأخيراً تحصيل حاصل, لأن قراءة الإنسان بلهجته أمر فطري.
    والثاني: أن اللهجات العربية جد كثيرة (نحو مائة وثلاثين لهجة), والرسول صلى الله عليه وسلم لا يتسع وقته عمره (عمر الدعوة 23 عاماً) لذلك, فإن الرسول صلى الله عليه وسلم له مشاغله العظيمة"اهـ
    قلت: (لكن قوله رحمه الله: "لا يتسع وقته عمره (عمر الدعوة 23 عاماً) لذلك".
    فيه غفلة عن الحقيقة التي ذكرتها سابقاً, وهي أن المدة ليست 23 عاماً, بل عامين أو ثلاثة فقط, فإن الرخصة لم تنزل إلا في آخر العهد المدني كما سبق.

    وقال ص (85): "إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن بلهجته القرشية, وهي اللغة التي تمثلت فيها العربية الأدبية العامة, وجمعت أحسن خصائص لغات العرب... وكان من الطبيعي جداً أن يؤديه الصحابة كل منهم بلهجته الخاصة التي نشأ عليها, ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم أبداً أنه منع أحداً أن يقرأ بلهجة قبيلته... ولا حاجة أن نحمل كلمة (يقرئ) على غير الإقرار أو الإجازة, لأن قبائل العرب كثيرة تقارب المائة قبيلة, وهناك نحو ثلاثين صقعاً لكل منها لهجته, ومحال أن يشتغل النبي صلى الله عليه وسلم بأداء القرآن بكل هذه اللهجات".

    وقال ص (89): "يستحيل أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد قرأ القرآن بكل تلك اللهجات, وليست هناك ضرورة لادعاء ذلك, فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يتعبد, ويقوم الليل, ويرعى أحوال المسلمين جماعتهم وأفرادهم, وكان يرتب الجيوش, ويقودها في المعارك, ويوزع المغانم, ويؤم المصلين, ويخطب في الجمع وغيرها, ويجمع المسلمين ليعظهم ويبين له حكم الشرع في الأحداث التي تجد, ويبلغ القرآن الكريم, وله بيوت وزوجات, فادعاء أمر إليه تبرعاً بلا ضرورة ولا سند ولا حاجة لنسبته إليه هو من الحماس المبني على غير أساس, فهو ادعاء بغير علم, فالقرءان والقراءات حقيقتان متغايرتان: القرآن كلام الله بأداء رسول الله صلى الله عليه وسلم, والقراءات أداء البشر بجهودهم وخصائصهم البشرية لكلام الله تعالى الذي سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم".

    وقال الدكتور صبري الأشوح في كتابه "إعجاز القراءات" ص (25): "لو كانت جميع القراءات إقراء من النبي صلى الله عليه وسلم وليست إقراراً منه فأين يذهب إذن معنى الرخصة والتيسير والتوسعة, إن هذه القراءات المتعددة ستكون تعسيراً.
    أيُّ المهمتين أسهل, نقل وحفظ القرآن بقراءة واحدة أم بعشرات القراءات؟!
    وهل يعقل أن يطلب من أي عقل بشري أن يؤمن بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأ بنفسه كل هذا الخضم الهائل من القراءات؟!"اهـ

    الدليل الثامن:
    ما ورد عن عمر رضي الله عنه (أنه سمع رجلاً يقرأ من سورة يوسف {من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه عتى حين}، فقال عمر: من أقرأكها؟ قال: أقرأنيها ابن مسعود، فقال له عمر: {حتى حين}، وكتب إلى ابن مسعود: أما بعد: فإن الله أنزل القرآن بلسان قريش، فإذا أتاك كتابي هذا، فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل، والسلام). أخرجه ابن شبة في "أخبار المدينة" (3/227), وابن عبد البر في "التمهيد" (8/278), وغيرهما.
    وهذا دليل واضح جداً على أن الذي نزل به جبريل إنما هو حرف واحد, وهو حرف قريش, ولو كانت كلها منزلة ما أنكر عمر على ابن مسعود, وكيف ينكر عليه وهو يقرئ بقراءة أنزلها الله, ونزل بها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم.
    ولكن ابن مسعود كان يقرئ بلغة هذيل لعلمه أن القرآن يقرأ بأحرف كثيرة, فنهاه عمر لأن الرخصة تقدر بقدرها, فهي رخصة للتسهيل والتوسعة, أما التعليم والإقراء فشأن آخر, يختار به الحرف الذي نزل به القرآن, ولذلك قال: (أقرئ الناس بلغة قريش, ولا تقرئهم بلغة هذيل).

    هذه ثمانية أدلة تدل كلها بوضوح على أن جبريل إنما نزل بقراءة واحدة, وأن النبي صلى الله عليه وسلم أنما أقرأهم بقراءة واحدة وهي التي نزل بها جبريل لغة قريش, وأن الناس رخص لهم أن يقرؤوا بلهجاتهم وحسب قدراتهم في ذلك الوقت, وإن حصل شيء من التغيير في القراءة, فإن القرآن لم ينزل على أن يقرأ على وجه واحد, بل نزل على أن يقرأ على أوجه كثيرة.

    أما الآن فنقف مع ظاهر بعض النصوص التي فهم كثير من أهل العلم من ظاهرها أن القراءات كلها نزل بها جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم, وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأ بها جميعها.
    فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأ بعض الصحابة بقراءات مختلفة, فحين اختلف عمر مع هشام قال كل منهما: هكذا أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وثبت أنه قال لكل منهما حين سمع القراءة منهما: (هكذا أنزلت).
    وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنزل القرآن على سبعة أحرف).
    والجواب عن هذه النصوص التي جعلت كثيراً من أهل العلم يأخذون بظاهرها دون مزيد من النظر والتأمل والسبر والمقارنة وتبعهم جماهير من الناس قديماً وحديثاً.
    أما كون النبي صلى الله عليه وسلم أقرأ بعض الصحابة بقراءات مختلفة فإنه سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يؤكد هذه الرخصة ويشهرها فأقرأ بعض الصحابة شيئاً من القرآن بألفاظ وقراءات مختلفة كما حصل في قصة عمر مع هشام بن حكيم, وفي قصة أبي بن كعب مع صاحبيه, وكان هذا في حالات قليلة جداً, وقد سبق ذكر الأدلة على أن أكثر ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرئ به إنما هو الحرف الذي نزل به جبريل.

    وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (أنزل القرآن على سبعة أحرف) فإنه لم يقل: (أنزلت سبعة أحرف) وإنما قال: (أنزل على سبعة أحرف) وهناك فرق بين اللفظين, فقوله: (أنزل على سبعة أحرف) أي: أنزل على أن يقرأ على أحرف وأوجه كثيرة, فإن الصحابة الذين قيل لهم هذا الكلام لا يشكون أن القرآن إنما أنزل على لسان قريش, فهم عايشوا الرسول صلى الله عليه وسلم ويرون الوحي يتنزل ويكتب صباحاً ومساءً ويقرؤه النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات كل ذلك بلسان قريش.
    وهذا ما يفسر عدم سؤال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الأحرف وعن المراد بها, وهي مسالة حيرت العلماء أيما حيرة طيلة القرون السابقة إلى اليوم.
    إنها عند الصحابة رضي الله عنهم واضحة كل الوضوح, ولذلك فهموها دون سؤال أو استفهام, فهموا فوراً أن المراد بذلك أن هذا القرآن المنزل على حرف واحد جاءت الرخصة أن يقرأ على حروف ولهجات مختلفة لأن الضرورة دعت إلى ذلك.
    ولذلك قال كما أشرت: (أنزل على سبعة أحرف) ولم يقل: (أنزلت سبعة أحرف)
    وكذلك في الرواية الأخرى قال: (اقرأه على حرفين), وقال: (اقرأه على سبعة أحرف).
    ومثل ذلك قوله: (هكذا أنزلت) المراد به التأكيد على أن القراءة هكذا صواب, فهو كالمنزل تماماً بل هو المنزل, لأن الله تبارك وتعالى أذن أن يقرأ بالوجهين جميعاً, فمن قرأه هكذا أو هكذا فقد قرأ القرآن الذي أنزله الله, فهو إذاً هكذا أنزل, كما أنه قد أنزل على سبعة أحرف.
    ولذلك جاءت الروايات هكذا:
    (إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف) (فقال: أن تقرأ أمتك)
    (أرسل إلي أن اقرأ القرآن على سبعة أحرف) (فقال: أن اقرأ القرآن)
    ولم يقل: (أقرئ أمتك على سبعة أحرف) (سيأتي أن هذا اللفظ لم يثبت).
    ولم يقل: (اقرأني جبريل) إلا في رواية واحدة سيأتي بيان المراد بها بعد قليل.
    ومن يتأمل في هذه الروايات يدرك بوضوح أن جبريل عليه السلام ما كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بقراءات مختلفة, لكن النبي صلى الله عليه وسلم طلب أن يقرأ على أحرف كثيرة فأجيب إلى ذلك.
    وتأمل قوله: (أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف, فرددت إليه أن هون على أمتي, فرد إلى الثانية اقرأه على حرفين, فرددت إليه أن هون على أمتي, فرد إلى الثالثة اقرأه على سبعة أحرف).
    فلم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لما طلب التخفيف والتهوين جاءه جبريل بالوحي بألفاظ أخرى وقراءات مختلفة, وإنما جاءه فقال: (اقرأه على حرفين) ثم جاءه قال: (اقرأه على سبعة أحرف).
    أي: اقرأ ما أوحي إليك بأحرف كثيرة وبقراءات مختلفة متنوعة تيسيراً على أمتك.
    من يتأمل الروايات لا يدرك إلا هذا المعنى بكل وضوح.
    وكذلك في الرواية الأخرى حين قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك, فأتاه جبريل المرة الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين وهكذا.

    تنبيه:
    وردت بعض روايات حديث أُبيّ بن كعب رضي الله عنه بلفظ (إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك).
    والحديث بهذا اللفظ لا يثبت, والصواب أنه بلفظ (إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك).
    وتوضيح ذلك كما يلي.
    الحديث يرويه شعبة, عن الحكم بن عتيبة, عن مجاهد, عن ابن أبي ليلى, عن أبي بن كعب رضي الله عنه.
    وقد اختلف عن شعبة ومن بعده في لفظ (تقرئ), فتارة يأتي بهذا اللفظ, وتارة يأتي بلفظ (تقرأ), ويحتمل أن الاختلاف سببه الكتابة والنسخ, فإن (تقرأ) قريبة جداً من (تقرئ) فالخطأ وارد جداً, ولكن على افتراض أن الاختلاف في الروايات فعلاً فإن الصواب أنه بلفظ (تقرأ) وليس (تقرئ).
    فإنه قد اختلف عن شعبة فيه كما سبق.
    فرواه محمد بن جعفر, عن شعبة, عن الحكم, عن مجاهد, عن ابن أبي ليلى به بلفظ (تقرأ), كما عند مسلم (821)
    وقد رواه ابن أبي شيبة, وابن المثنى عند مسلم (821)
    ومحمد بن بشار عند مسلم (821), والنسائي في "الكبرى" (1/326)
    كلهم عن محمد بن جعفر, عن شعبة عن الحكم عن مجاهد عن ابن أبي ليلى به بلفظ (تقرأ أمتك) (ووقع في الصغرى للنسائي (939) بلفظ (تقرئ), وهو خطأ, والصواب ما في الكبرى).
    وأخرجه أبو داود (1478) عن ابن المثنى, عن محمد بن جعفر, عن شعبة به بلفظ (تقرئ), والصواب رواية الجماعة, بل حتى ابن المثنى نفسه قد رواه كما رواه الجماعة كما سبق عند مسلم.
    وأخرجه أحمد (35/103) عن محمد بن جعفر به بلفظ (تقرئ أمتك)
    وكذلك أخرجه (35/108) من طريق: ابن أبي شيبة، عن محمد بن جعفر به بلفظ (تقرئ أمتك)
    (ولكن ذكر في حاشية المسند في الموضعين كليهما أنه جاء في بعض نسخ الظاهرية بلفظ (تقرأ), وكان المحقق قد ذكر في المقدمة أن نسخ الظاهرية في غاية النفاسة).
    فالصواب أن محمد بن جعفر إنما يرويه عن شعبة بلفظ (تقرأ أمتك).
    وتابع محمد بن جعفر معاذ بن معاذ العنبري عند مسلم (821)
    وتابعه أيضاً شبابة بن سوار، وعبد الرحمن بن زياد, فروياه عن شعبة به بلفظ (إن الله يأمرك وأمتك أن تقرؤوا القرآن على سبعة أحرف) أخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (8/125)
    فهؤلاء أربعة من الرواة أكثرهم ثقات أثبات إنما يروونه بلفظ (تقرأ أمتك).
    وخالفهم الطيالسي في "مسنده" (558)
    وحجاح بن محمد عند أبي عوانة في "مسنده" (3840), فروياه عن شعبة به بلفظ (تقرئ)
    والصواب رواية محمد بن جعفر ومن معه, فإن محمد بن جعفر (غندر) ثقة من أثبت الناس في حديث شعبة.
    قال ابن المبارك: إذا اختلف الناس في حديث شعبة فكتاب غندر حكم بينهم. انظر: "تهذيب الكمال" (25/5)
    وكذلك معاذ بن معاذ ثقة حافظ.
    وكذلك شبابة بن سوار ثقة حافظ أيضاً.
    وأما الطيالسي فإنه ثقة ثبت, ولكنه غلط في أحاديث. انظر: "تهذيب الكمال" (11/401)
    وأما حجاج بن محمد فإنه قد اختلط في آخر عمره. انظر: "التهذيب" (2/205)
    وأما رواية محمد بن جحادة عن الحكم به بلفظ (تقرئ) عند أحمد (35/109), وأبي عوانة في "مسنده" (3843), وابن حبان (3/13), وابن عبد البر في "التمهيد" (8/287), وغيرهم
    فيقابلها رواية عبد الله بن عيسى عن ابن أبي ليلى به بلفظ (تقرأ) عند ابن أبي شيبة (7/182) بلفظ (فليقرؤوا على سبعة أحرف) فيتساقطان.

    ومما يؤيد الرواية بلفظ (تقرأ) قوله: (فأيما حرف قرؤوا عليه), ولم يقل: (فأيما حرف اقرأتهم عليه).

    يقول الأستاذ الدكتور محمد جبل في كتابه الماتع "من القضايا الكبرى في القراءات القرآنية" ص (77): "هي منزلة من عند الله بالمعنى الأساسي الواسع, وهو أن القرآن (بلسان عربي مبين), وكل لهجة عربية فهي من اللسان العربي المبين, ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز القراءة بها, إذ أجاز لكل قوم أن يقرؤوا بلغتهم أي: لهجتهم...
    فلا تناقض بين أن يكون نازلاً بلغة قريش وأن يقرأ بلغات عربية أخرى ما دام القرآن نص على أنه نزل (بلسان عربي مبين), ولو كان القرآن نص على أنه نزل بلسان قرشي لما جاز أن يقرأ بأية لهجة عربية أخرى".

    إشكال وجوابه:
    أما ما رواه ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أقرأني جبريل على حرف, فلم أزل أستزيده حتى انتهى إلى سبعة أحرف) متفق عليه.
    فهذا الحديث مروي بالمعنى قطعاً, ولذلك جاء بلفظ مختصر, وإلا فإن مضمونه هو ما جاء في حديث أبي بن كعب رضي الله عنه السابق.
    وهو (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف, فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك, ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين, فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك, ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف, فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك, ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف, فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا).
    وفي الرواية الأخرى: (أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف, فرددت إليه أن هون على أمتي, فرد إلى الثانية اقرأه على حرفين, فرددت إليه أن هون على أمتي, فرد إلى الثالثة اقرأه على سبعة أحرف).
    فقوله: (أقرأني جبريل على حرف, فلم أزل أستزيده...) مفسر بالروايات السابقة التي فصلت ووضحت, فقوله: (أقرأني) أي: أمرني أن تقرأ أمتي على حرف واحد, وقوله: (فلم أزل أستزيد حتى انتهى إلى سبعة أحرف) هو كقوله في الرواية المفسرة: (إن أمتي لا تطيق ذلك, فجاءه فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف).
    وليس كل حديث يأتي يكون مستقلاً, بل في أحيان كثيرة تأتي رواية مروية بالمعنى يكون مضمونها هو ما جاء في أحاديث أخرى رويت بألفاظ أخرى مختلفة, ومن له علم بالحديث ورواياته واختلافها يدرك فهم ذلك بسهولة.
    ويؤكد هذا أنه لم يقل: (أقرأني حرفاً فلم أزل أستزيده حتى أقرأني سبعة أحرف).
    وإنما قال: (أقرأني على حرف, فلم أزل أستزيده حتى انتهى إلى سبعة) أي: (حتى انتهت الرخصة إلى سبعة أحرف).
    ولذلك جاء في رواية عن الإمام أحمد (35/84) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أبي بن كعب إني أقرئت القرآن فقلت: على حرفين، فقال: على حرفين، أو ثلاثة؟ فقال الملك الذي معي: على ثلاثة، فقلت: على ثلاثة، حتى بلغ سبعة أحرف).

    إشكال آخر وجوابه.
    وأما ما أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" ص (346), وسعيد بن منصور في "التفسير" (34) وغيرهما من طرق عن الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله قال: (إني قد سمعت القراء فوجدتهم متقاربين، فاقرءوا كما علمتم, فإنما هو كقول أحدكم هلم، وتعال).
    وأخرج الإمام أحمد (2/199) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (تمارينا في سورة من القرآن، فقلنا: خمس وثلاثون آية، ست وثلاثون آية، قال: فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدنا علياً يناجيه فقلنا: إنا اختلفنا في القراءة, فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال علي رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تقرءوا كما علمتم).
    فالمراد بقول ابن مسعود رضي الله عنه: (فاقرءوا كما علمتم) هو مرتبط بقوله: (فوجدتهم متقاربين) أي: لا يترك أحد منكم قراءة قرأها أو أقرئها لسماعه قراءة تخالفها, فالكل قراءات متقاربة وكلها حق, فليبق كل منكم على القراءة التي علمها.
    هذا هو المراد بقول ابن مسعود رضي الله عنه, والله أعلم.
    وكذلك كل رواية فيها (فليقرأ كما علم) أو (اقرؤوا كما علمتم).
    وأما قول علي رضي الله عنه: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تقرءوا كما علمتم) فهو أيضاً حين اختلفوا في عدد آيات السورة نفسها, فأمروا أن يلتزموا بما أقرئوا لا يزيدون ولا ينقصون.

    وأخيراً:
    أخي الكريم: إن الترخيص أن يقرأ كل بلهجته وطريقته في الكلام قد كان ووقع بأمر الله وإرادته فالقرآن كلامه وقرآنه لا معقب لحكمه, ولا يسأل عما يفعل, هذا الذي وقع ودلت عليه الآثار, كما في رواية (إن قلت: غفوراً رحيماً، أو قلت: سميعاً عليماً، أو عليماً سميعاً فالله كذلك، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب).
    وفي الأخرى (كلها شاف كاف، ما لم تختم آية رحمة بعذاب، أو آية عذاب برحمة).
    وفي ثالثة (ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب، ولا ذكر عذاب برحمة)
    إنها رخصة من الله تبارك وتعالى, إنه مجرد تغيير لا يؤثر في المعنى الذي أراده الله تبارك وتعالى.
    ما حيلة الأمة الأمية والعجوز الكبيرة والشيخ الفاني والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتاباً قط, كيف يحفظون ويعرفون ما أراده الله إلا بهذه الرخصة, فتبارك الله أحكم الحاكمين.
    ثم إنها رخصت لوقت محدد قصير لم يدم عقدين من الزمن فلما زالت الحاجة إلى الرخصة كتب عثمان المصحف على حرف واحد وهو الحرف الذي نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وألغى عثمان بقية الأحرف.
    وبذلك يتبين ضعف ما ذهب إليه الدكتور عبد العزيز القارئ في كتابه "حديث الأحرف السبعة" ص (112) حيث يقول: "ووجه الرخصة في هذه الأحرف هو أن الكلمة عندما تكون منزلة على عدة أوجه يكون القارئ مخيراً في قراءة ما سهل منها على لسانه وتيسر على فهمه وذهنه, كما أنه عندما يغلبه لسانه فيخطئ في النطق بكلمة على خلاف لهجة قريش فإنه يجد فيما أنزل فيها من لهجات أخرى ما يلجأ إليه ويلوذ به فيرتفع عنه الحرج وتطمئن نفسه"اهـ
    قلت: ما أبعد هذا على (هون على أمتي), وهل العسر والمشقة إلا هذا, لأن معنى ذلك أن القارئ عليه أن يحفظ الأحرف كلها حتى يختار منها ما يسهل على لسانه, فتحولت الرخصة إلى ضيق وعسرة وآصار وأغلال.
    إن فهم كثير من مسائل الأحرف السبعة والقراءات مرتبط ارتباط وثيق بمسألة التيسير والتهوين, ومتى غفل الباحث عن هذه الحقيقة حصل عنده الخلل في التصورات والأحكام وتعارضت عنده أمور كثيرة في هذه المسائل.
    أسأل الله لي ولكم أيها الأخوة الكرام النبلاء أن يهدينا للحق ويرزقنا الصواب في الآراء والفقه في مسائل الدين والتقوى التي هي رأس الأمر وأوله وآخره, وأن يخلص أعمالنا ويتقبل منها ويغفر لنا ويرحمنا إنه جواد وهاب غفور رحيم.
    والحمد لله رب العالمين.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.
    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
    أخوكم ومحبكم صالح بن سليمان الراجحي
    Alrajhi.sr@gmail.com

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Apr 2015
    المشاركات
    38

    افتراضي رد: هل القراءات القرآنية كلها نزل بها جبريل (بحث ونقل وعقل)

    يوجد طبعة جديدة لهذا البحث فيها زيادات مهمة كثيرة وتصويبات
    تجدها على هذا الرابط
    https://majles.alukah.net/t192595/

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •