تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: معركة بدر.. فاتحة عهد جديد

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,479

    افتراضي معركة بدر.. فاتحة عهد جديد



    معركة بدر.. فاتحة عهد جديد (1)


    علي بن محمد الصلابي



    في شهر رمضان المبارك كانت أولى انتصارات المسلمين بقيادة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فبعد أن استقرت دولة المسلمين في المدينة المنورة بات من الضروري أن يوسعوا نطاق الدعوة لخارج حدود المدينة. وكانت البداية حين بلغ المسلمون تحرُّكُ قافلةٍ تجاريَّةٍ كبيرةٍ من الشَّام، تحمل أموالًا عظيمة لقريش، يقودها أبو سفيان، ويقوم على حراستها بين ثلاثين، وأربعين رجلاً، فأرسل الرَّسول صلى الله عليه وسلم بَسْبَسَ بنَ عمرو؛ لجمع المعلومات عن القافلة، فلَّما عاد بَسْبَسُ بالخبر اليقين، ندب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للخروج، وقال لهم: «هذه عِيرُ قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها؛ لعلَّ الله يُنْفِلُكُموها» .
    وكان خروجه من المدينة في اليوم الثاني عشر، من شهر رمضان المبارك، من السَّنة الثانية للهجرة، ومن المؤكَّد: أنَّه حين خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة، لم يكن في نيَّته قتالٌ؛ وإنَّما كان قصده عِيرَ قريش، وكانت الحالة بين المسلمين وكفار مكَّة حالة حرب، وفي حالة الحرب تكون أموال العدوِّ، ودماؤهم مباحةً، فكيف إذا علمنا: أنَّ جزءًا من هذه الأموال الموجودة في القوافل القرشيَّة، كانت للمهاجرين المسلمين من أهل مكَّة، قد استولى عليها المشركون ظلماً، وعدوانًا.
    أرسل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم اثنين من أصحابه إلى بدرٍ طليعةً، للتَّعرُّف على أخبار القافلة فرجعا إليه بخبرها: وقد حصل خلاف بين المصادر الصَّحيحة حول عدد الصَّحابة، الذين رافقوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في غزوته هذه إلى بدرٍ، ففي حين جعلهم البخاري "بضعة عشر وثلاثمئةٍ". يذكر مسلمٌ: أنَّهم كانوا "ثلاثمئةٍ وتسعة عَشَرَ رجلاً"، في حين ذكرت المصادر أسماء ثلاثمئةٍ وأربعين من الصَّحابة البدريين.
    كانت قوَّات المسلمين في بدرٍ، لا تمثِّل القدرة العسكريَّة القصوى للدَّولة الإسلاميَّة؛ ذلك: أنَّهم إنَّما خرجوا لاعتراض قافلةٍ، واحتوائها، ولم يكونوا يعلمون: أنَّهم سوف يواجهون قوَّات قريشٍ، وأحلافها مجتمعةً للحرب، والَّتي بلغ تعدادها ألفاً، معهم مئتا فرسٍ، يقودونها إلى جانب جمالهم، ومعهم القِيانُ يضربن بالدُّفوف، ويغنِّين بهجاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، في حين لم يكن مع القوات الإسلاميَّة من الخيل إلا فَرَسَانِ، وكان معهم سبعون بعيراً يتعاقبون ركوبَها.
    أولًا: بعض الحوادث أثناء المسير إلى بدر:
    حدثت بعض الحوادث في أثناء مسير النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فيها من العِبَرِ والمواعظ الشَّيءُ الكثير:
    1- إرجاع البَرَاء بن عازبٍ وابن عمر لصغرهما: وبعد خروج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المدينة في طريقهم إلى ملاقاة عِير أبي سفيان وصلوا إلى (بيوت السُّقيا) خارج المدينة، فعسكر فيها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، واستعرض صلى الله عليه وسلم مَنْ خرج معه، فردَّ مَنْ ليس له قدرةٌ على المُضِيِّ مع جيش المسلمين، وملاقاة مَنْ يُحتَمَل نشوبُ قتالٍ معهم، فردَّ على هذا الأساس البَرَاء بن عازب، وعبد الله بن عمر؛ لصغرهما، وكانا قد خرجا مع النبي صلى الله عليه وسلم راغبين، وعازمَيْنِ على الاشتراك في الجهاد.
    2- "فارجعْ فلن أستعينَ بمشركٍ": عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قِبَلَ بدرٍ، فلمَّا كان بِحَرَّةِ الوَبَرَةِ، أَدْركهُ رَجُلٌ، قد كان يُذْكرُ منه جُرْأَةٌ، ونَجْدةٌ؛ ففرِحَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رَأوْهُ، فلمَّا أدْرَكَهُ، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئتُ لأتَّبِعَكَ، وأُصيبَ معَكَ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تؤمنُ بالله ورَسُولِهِ؟» قال: لا، قال: «فارجعْ؛ فلن أستعينَ بمشركٍ». قالت: ثمَّ مضى، حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل، فقال له كما قال أول مرة، فقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كما قال أوَّل مرَّةٍ، ثمَّ رجع، فأدركه بالبَيْدَاءِ، فقال له كما قال أوَّل مرَّة: «تؤمنُ بالله ورسوله؟» قال: نعم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فانْطَلِقْ».
    3- مشاركة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أصحابه في الصِّعاب؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنَّا يوم بدرٍ كلُّ ثلاثة على بعيرٍ، وكان أبو لُبَابَةَ، وعليُّ بن أبي طالبٍ زميلَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وكانت عُقبَةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فقالا: نحن نمشي عنك، فقال: «ما أنتما بأقوى منِّي، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما».
    ثانيًا: قرار لقاء المسلمين ببدر:
    بلغ أبا سفيان خبرُ مسير النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، بأصحابه من المدينة، بقصد اعتراض قافلته، واحتوائها، فبادر إلى تحويل مسارها إلى طريق السَّاحل، في الوقت نفسه أرسل ضَمْضَمَ بن عمرو الغِفَاريَّ إلى قريشٍ يستنفرها؛ لإنقاذ قافلتها، وأموالها، فقد كان أبو سفيان يَقِظًا حَذرًا، يتلقَّط أخبار المسلمين، ويسأل عن تحرُّكاتهم، بل يتحسَّس أخبارهم بنفسه، فقد تقدَّم إلى بدرٍ بنفسه. وقد استطاع أن يعرف تحرُّكات عدوه، حتَّى خبر السَّريَّة المسلمة التي استطلعت المكان عن طريق غذاء دوابِّها، بفحصه البعر الَّذي خلَّفته الإبل؛ إذ عرف أنَّ الرَّجلين من المدينة؛ أي: من المسلمين، وبالتَّالي فقافلته في خطرٍ، فأرسل ضَمْضَمَ بنَ عمرٍو، إلى قريشٍ، وغيَّر طريق القافلة، واتَّجه نحو ساحل البحر.
    كان وقع خبر القافلة شديدًا على قريشٍ؛ التي اشتاط زعماؤها غضبًا؛ لما يَرَوْنه من امتهانٍ للكرامة، وتعريضٍ للمصالح الاقتصاديَّة للأخطار إلى جانب ما ينجم عن ذلك من انحطاطٍ لمكانة قريشٍ بين القبائل العربيَّة الأخرى؛ ولذلك فقد سعوا إلى الخروج لمجابهة الأمر بأقصى طاقاتهم القتالية. لقد جاءهم ضَمْضَمُ بنُ عمرو الغِفَاريُّ بصورةٍ مثيرةٍ جدّاً، يتأثَّر بها كلُّ من رآها، أو سمع بها؛ إذ جاءهم وقد حوَّلَ رَحْلَه، وجَدَعَ أنفَ بعيره، وشقَّ قميصه من قُبُـلٍ، ومن دُبُـرٍ، ودخل مكَّة وهو ينادي بأعلى صوته: يا معشرَ قريش! اللَّطيمةَ اللَّطيمةَ! أموالكم مع أبي سفيان، قد عرض لها محمد مع أصحابه، لا أرى أن تُدْركوها، الغوثَ، الغوثَ.
    وعندما أمن أبو سفيان على سلامة القافلة، أرسل إلى زعماء قريش وهو بالجُحْفَة، برسالةٍ أخبرهم فيها بنجاته، والقافلة، وطلب منهم العودة إلى مكَّة، وذلك أدَّى إلى حصول انقسامٍ حادٍّ في اراء زعماء قريش، فقد أصرَّ أغلبهم على التَّقدُّم نحو بدرٍ؛ من أجل تأديب المسلمين، وتأمين سلامة طريق التِّجارة القرشيَّة، وإشعار القبائل العربيَّة الأخرى بمدى قوَّة قريشٍ، وسلطانها، وقد انشق بنو زُهْرَة، وتخلَّف في الأصل بنو عديٍّ، فعاد بنو زُهْرَةَ إلى مكَّة، أمَّا غالبية قوَّات قريشٍ، وأحلافهم؛ فقد تقدَّمت، حتَّى وصلت بدرًا.

    أتى المقداد بن الأسود للنَّبيَّ وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ}، ولكنَّا نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، وبين يديك، وخَلْفك.
    ثالثاً: مشاورة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه:
    عندما بلغ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نجاةُ القافلة، وإصرارُ زعماء مكَّة على القتال، استشار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في الأمر، وأبدى بعضُ الصَّحابة عدم ارتياحهم لمسألة المواجهة الحربيَّة مع قريشٍ؛ حيث إنَّهم لم يتوقَّعوا المواجهة، ولم يستعدُّوا لها، وحاولوا إقناع الرَّسول صلى الله عليه وسلم بوجهة نظرهم، وقد صوَّر القرآن الكريم موقفَهم، وأحوال الفئة المؤمنة عمومًا، في قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ *يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ *وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْن ِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ *لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِل وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الآنفال5 ـ 8].
    وقد أجمع قادة المهاجرين، على تأييد فكرة التَّقُّدم لملاقاة العدوّ، وكان للمقداد بن الأسود موقفٌ متميِّزٌ، فقد قال عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه: شهدت من الْمِقْدَاد بن الأسود مشهدًا، لأن أكونَ صاحِبَهُ أحبُّ إليَّ ممَّا عُدِلَ به: أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ}، ولكنَّا نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، وبين يديك، وخَلْفك، فرأيت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أشرق وَجْهُهُ وسَرَّه؛ يعني: قوله.
    وبعد ذلك عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أشيروا عليَّ أيها النَّاس!» وكان إنَّما يقصد الأنصار؛ لأنَّهم غالبيةُ جنده. وقد أدرك الصَّحابيُّ سعدُ بن معاذ، حامل لواء الأنصار، مقصد النَّبيِّ الكريم؛ فنهض قائلاً: (والله! لكأنَّك تريدنا يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أجل»، فقال: لقد آمنا بك، وصدَّقناك، وشهدنا أنَّ ما جئتَ به هو الحقُّ، وأعطيناك على ذلك عهودنا، ومواثيقنا على السَّمع، والطَّاعة، فامضِ يا رسول الله! لما أردت، فنحن معك، فو الَّذي بعثك بالحقِّ! لو استعرضت بنا هذا البحر، فخُضْتَه لخُضْنَاه معك، ما تخلَّف منا رجلٌ واحدٌ، وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا غداً، إنَّا لصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ عند اللِّقاء، ولعلَّ اللهَ يريك منا ما تَقَرُّ به عينك، فَسِرْ على بركة الله.
    وسُرَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من مقالة سعد بن معاذٍ، وزاد من همته ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: «سِيرُوا وأبشروا؛ فإنَّ الله تعالى قد وعدني إحدى الطَّائفتين، والله! لكأنِّي الآن أنظر إلى مصارع القوم». كانت كلمات سعدٍ مشجِّعةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وملهبةً لمشاعر الصَّحابة؛ فقد رفعت معنويات الصَّحابة، وشجَّعتهم على القتال، إنَّ حرص النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على استشارة أصحابه في الغزوات، يدلُّ على تأكيد أهمِّية الشُّورى في الحروب بالذَّات؛ ذلك لأنَّ الحروب تقرِّر مصير الأمم، فإمَّا إلى العلياء، وإمَّا تحت الغبراء.
    يصوِّر تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، حيث كان أيُّ فرد من أفراد ذلك المجتمع يُدْلي برأيه، حتَّى في أخطر القضايا، ولا يكون في شعوره احتمال غضب القائد الأعلى صلى الله عليه وسلم، ثمَّ حصول ما يترتَّب على ذلك الغضب من تدنِّي سمعة ذلك المشير بخلاف رأي القائد، وتأخُّره في الرتبة، وتضرُّره في نفسه أو ماله. وعلى هذا النحو: إنَّ هذه الحرِّيَّة؛ الَّتي ربَّى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، مكَّنت مجتمعهم من الاستفادة من آراء وخبرة جميع أهل الرَّأي السَّديد، والمنطق الرَّشيد، فالقائد فيهم ينجح نجاحًا باهرًا؛ لأنَّه ليس هناك ما يحول بين أيِّ فردٍ منهم، والوصول برأيه إلى قائد جيشه. ونلحظ عظمة التَّربية النَّبويَّة؛ الَّتي سرَتْ في شخص الحُبَاب بن المُنذر، فجعلته يتأدَّب أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدَّم دون أن يُطلب رأيه؛ ليعرض الخطة الَّتي لديه؛ لكن هذا تمَّ بعد السُّؤال العظيم، الَّذي قدَّمه بين يدي الرَّسول صلى الله عليه وسلم: "يا رسولَ الله! أرأيت هذا المنزل، أمنزلًا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدَّمه، ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرَّأي، والحرب، والمكيدة؟".
    رابعاً: المسير إلى لقاء العدوِّ، وجمع المعلومات عنه:
    نظَّم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جنده، بعد أن رأى طاعة الصَّحابة، وشجاعتهم، واجتماعهم على القتال، وعقد اللواء الأبيض، وسَلَّمه إلى مصعب بن عمير، وأعطى رايتين سَوْدَاوَيْن إلى سعد بن معاذٍ، وعليِّ بن أبي طالبٍ، وجعل على السَّاقة قيس بن أبي صَعْصَعَة. لقد كان من هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، حرصه على معرفة جيش العدوِّ، والوقوف على أهدافه، ومقاصده؛ لأنَّ ذلك يعينه على رسم الخطط الحربيَّة المناسبة لمجابهته، وصدِّ عدوانه، فقد كانت أساليبه في غزوة بدرٍ في جمع المعلومات؛ تارةً بنفسه، وأخرى بغيره، وكان صلى الله عليه وسلم يطبِّق مبدأ الكتمان في حروبه.
    فقد أرشد القرآن الكريم المسلمين إلى أهمية هذا المبدأ. قال تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَه ُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 83]. وكذلك نلحظ: أنَّ التَّربية الأمنيَّة في المنهاج النَّبويِّ مستمرةٌ منذ الفترة السِّرِّيَّة والجهريَّة بمكَّة، ولم تنقطع مع بناء الدَّولة، وأصبحت تنمو مع تطوِّرها، وخصوصاً في غزوات الرَّسول صلى الله عليه وسلم. إنَّ هذه النَّفسيَّة الرَّفيعة، عرفت أصول المشورة، وأصول إبداء الرَّأي، وأدركت مفهوم السَّمع والطَّاعة، ومفهوم المناقشة، ومفهوم عرض الرَّأي المعارض لرأي سيِّد ولد آدم صلى الله عليه وسلم. وتبدو عظمة القيادة النَّبويَّة في استماعها للخطَّة الجديدة، وتبنِّي الخطَّة الجديدة المطروحة من جنديٍّ من جنودها، أو قائدٍ من قوَّادها.
    لقد كانت القوَّة المعنويَّة لجيش مكَّة، مصدرها في النُّفوس، وإن كان مظهره القوَّة، والعزم، والثبات، إلا أنَّ في مخبره الخوفُ، والجبنُ، والتردُّد يكلفها الطريق الصواب في النهج النبوية في إدارة الأزمات. فقد ذكَّر المولى ـ عزَّ وجلَّ ـ موقفه حبن قال: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} أي: اذكروا أيها المؤمنون وقت أن خرجتم من المدينة، فسرتم حتَّى كنتم أي: بجانب {بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا}، وحافَّته الأقرب إلى المدينة المنوَّرة أي: والكفار بالجانب الأبعد الأقصى {وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} الَّذي هو بعيد بالنِّسبة للمدينة ـ أي: وعِيرُ {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} سفيان ومن فيها كانت أسفل منكم من ناحية ساحل البحر الأحمر على بُعْدِ ثلاثة أميالٍ منكم. وقوله: تذييلٌ قُصِدَ به التَّرغيب في {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}، والتَّرهيب من الكفر، أي: لا يخفى عليه شيءٌ من أقوال أهل الإيمان، عليمٌ بما تنطوي عليه قلوبهم، وضمائرهم ـ وسيجازي ـ سبحانه ـ كلَّ إنسانٍ بما يستحقُّه مِنْ ثوابٍ، أو عقابٍ على حسب ما يعلم، وما يسمع عنه.
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــــ
    المراجع:
    1- ابن حزم، جوامع السِّيرة، ص 107.
    2- ابن سعد، الطَّبقات، 2/24.
    3- ابن كثير، البداية والنِّهاية، 3/260.
    4- ابن هشام، سيرة ابن هشام، 2/61.
    5- أبي فارس، غزوة بدرٍ الكبرى، ص. ص 33 - 34.
    6- تفسير الرَّازي، 15/173.
    7- تفسير القرطبي، 8/25.
    8- تفسير الكشَّاف للزَّمخشريِّ (2/160).
    9- الحميدي، التَّاريخ الإسلاميُّ، 4/110.
    10- خليفة بن خياط، الطَّبقات.
    11- صالح بن عبد الله بن عبد الحميد، موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، 1/286.
    12- العمري، المجتمع المدني في عصر النبوة، ص. ص 138.

    13- محمد آل عابد، حديث القرآن عن غزوات الرَّسول صلى الله عليه وسلم، 1/43.
    14- المستدرك للحاكم، 3/632.






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,479

    افتراضي رد: معركة بدر.. فاتحة عهد جديد

    معركة بدر.. فاتحة عهد جديد (2)

    علي بن محمد الصلابي



    عهد جديد من الهداية والرحمة والنصر الذي خص به الله تعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والمسلمين من أصحابه، وأيدهم بمدده وتمكينه. فكانت بدر أولى المعارك التي خاضها النبي الكريم وصحبه ضد المشركين وأعداء الدين. وكانت معركة فرقان فَرَّق الله بها الحق عن الباطل، فكانت نقطة تحول كبرى في مسيرة الدعوة الإسلامية وبداية لانتشارها في شتى أصقاع العالم.
    1- الوصف القرآنيُّ لمواقع المسلمين والمشركين في بدر:
    وصف الله سبحانه وتعالى حالة المسلمين والمشركين في بدر بقوله: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42].
    هذه الآية الكريمة توضِّح الأماكن في غزوة بدرٍ، كما صوَّر لنا الله عز وجل حالة الجيشان يوم اللقاء، وفي الآية تصوير ما دبَّر سبحانه من أمر غزوة بدرٍ، ليقضي أمرًا كان مفعولاً؛ من إعزاز دينه، وإعلاء كلمته، حين وعد المسلمين إحدى الطَّائفتين، مبهمةً غير مبينةٍ، حتَّى خرجوا؛ ليأخذوا العير راغبين في الخروج، وأقلق قريشًا ما بلغهم من تعرُّض المسلمين لأموالهم، فنفروا؛ ليمنعوا عِيرَهم، وسبَّب الأسباب حتَّى أناخ هؤلاء بالعدوة الدُّنيا، وهؤلاء بالعدوة القصوى، وراءهم العير يحامون عليها، حتى قامت الحرب على ساقٍ، وكان ما كان.
    2- النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في ساحات بدر:
    بعد نزول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه، على أدنى ماء بدرٍ من المشركين؛ اقترح سعد بن معاذ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء عريشٍ له؛ يكون مقرّاً لقيادته، ويأمن فيه من العدوِّ. فأثنى عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم خيرًا، ودعا له بخيرٍ، ثمَّ بنى المسلمون العريش لرسول الله على تلٍّ مشرفٍ على ساحة القتال، وكان معه فيه أبو بكر رضي الله عنه، وكانت ثُلَّةٌ من شباب الأنصار، بقيادة سعد بن معاذٍ، يحرسون عريشه الشريف. ويُستفاد من بناء العريش أمورٌ؛ منها، وهو وجود مقر قيادة للإشراف على أرض المعركة، وأن يكون للقائد قوَّةٌ احتياطيَّةٌ أخرى، تعوِّض الخسائر الَّتي قد تحدث في المعركة.
    ابتكر الرَّسول صلى الله عليه وسلم في قتاله مع المشركين يوم بدرٍ أسلوبًا جديدًا في مقاتلة أعداء الله تعالى، لم يكن معروفًا من قبل؛ حيث قاتل صلى الله عليه وسلم بنظام الصُّفوف، وهذا الأسلوب أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]. وصفة هذا الأسلوب: أن يكون المقاتلون على هيئة صفوف الصَّلاة، وكان من فوائد هذا الأسلوب إرهاب العدو وترتيب النظام العسكري عند المسلمين.
    وتحدَّث ابن خلدون عن الأساليب القتاليَّة الَّتي استحدثها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في معركة بدر وما تلاها، والَّتي لم يكن للعرب عهدٌ بها، فقال مشيرًا إلى ذلك: «وكان أسلوب الحرب أوَّل الإسلام كلُّه زحفًا، وكان العرب إنما يعرفون الكرَّ والفرَّ..». وكان من أسلحة النبي الروحية الدعاء في كل مراحل المعركة. وفي رواية ابن عباسٍ: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم بدرٍ: «اللَّهمَّ أنشُدُكَ عَهْدَكَ، ووعدك! اللَّهُمَّ إن شئتَ لم تُعْبَدْ» فأخذ أبو بكر بيده، فقال: حسبك، فخرج صلى الله عليه وسلم؛ وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}.
    وبذلك أخذ الرَّسول صلى الله عليه وسلم بالأسباب المادِّيَّة، والمعنويَّة، وتوكَّل على الله، فكان النَّصر والتَّأييد من الله تعالى؛ فقد اجتمع في بدرٍ الأخذ بالأسباب بالقَدْرِ الممكن، مع التَّوفيق الرَّبَّانيِّ في تهيئة جميع أسباب النَّصر متعاونةً. ففي عالم الأسباب تشكِّل دراسة الأرض، والطَّقس، ووجود القيادة والثِّقة بها، والرُّوح المعنويَّةَ لبِناتٍ أساسيةً في صحَّة القرار العسكريِّ. ولقد كانت الأرض لمصلحة المسلمين، وكان الطَّقس مناسبًا للمعركة، والقيادة الرَّفيعة موجودةً، والثِّقة بها كبيرة، والرُّوح المعنويَّة مرتفعة. فأخذ المسلمون الاستقامة على أمر الله، وأخذوا بالأسباب.
    3- نشوب القتال وهزيمة المشركين:
    اندلع القتال بين المسلمين والمشركين بالمبارزات الفرديَّة، فخرج من جيش المشركين عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة بن ربيعة، وابنه الوليد، وطلبوا المبارزة، فخرج إليهم ثلاثةٌ من الأنصار؛ ولكنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم أرجعهم؛ لأنَّه أحبَّ أن يبارزهم بعض أهله، وذوي قرباه؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «قم يا عُبيدة بن الحارث! وقم يا حمزة! وقم يا علي!» وبارز حمزةُ شيبةَ، فقتله، وبارز عليٌّ الوليدَ، وقتله، وبارز عبيدةُ بن الحارث عتبةَ، فضرب كلُّ واحدٍ منهما الآخر بضربةٍ موجعةٍ، فكرَّ حمزة، وعليٌّ على عتبة فقتلاه، وحملا عبيدة، وأتيا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ما لبث أن اسْتُشهد متأثراً بجراحه.
    ووجه الحكمة، واللُّطف بالمسلمين في هذا التَّقليل، هو أنَّ إراءة المسلمين عدد الكافرين قليلاً ثبَّتهم، ونشَّطهم، وجرآهم على قتال المشركين، ونزع الخوف من قلوب المسلمين من أعدائهم. وكذلك المدد بالملائكة، وقد يسأل سائل: ما الحكمة في إمداد المسلمين بالملائكة لدحر جيش قريش؟
    أجاب الأستاذ عبد الكريم زيدان على ذلك، فقال: لقد مضت سنَّة الله بتدافع الحقِّ، وأهله مع الباطل وأهله، وأنَّ الغلبة تكون وَفْقًا لسنن الله في الغلبة والانتصار، وأنَّ هذا التَّدافع يقع في الأصل بين أهل الجانبين: الحقِّ والباطل، ومن ثمرات التمسُّك بالحقِّ، والقيام بمتطلَّباته أن يحصلوا على عونٍ، وتأييد من الله تعالى بأشكالٍ وأنواعٍ متعدِّدة من التأييد، ولكن تبقى المدافعة، والتدافع يجريان وَفْقًا لسنن الله فيهما، وفي نتيجة هذا التَّدافع، فالجهة الأقوى بكلِّ معاني القوَّة اللازمة للغلبة هي الَّتي تغلب، فالإمداد بالملائكة هو بعض ثمرات إيمان تلك العصبة المجاهدة، ذلك الإمداد الَّذي تحقَّق به ما يستلزم الغلبة على العدوِّ، ولكن بقيت الغلبة موقوفةً على ما قدَّمه أولئك المؤمنون في قتالٍ، ومباشرة لأعمال القتال، واستدامة توكُّلهم على الله، واعتمادهم عليه، وثقتهم به، وهذه معانٍ جعلها الله حسب سننه في الحياة أسباباً للغلبة، والنَّصر مع الأسباب الأخرى المادِّية؛ مثل العُدَّة، والعَدد، والاستعداد للحرب، وتعلُّم فنونها... إلخ،.
    4- الخلاف في الأنفال والأسرى:
    بعد الانتصار في بدر، قال الَّذين جمعوا الغنائم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن حَوَيَنْاها، وجمعناها؛ فليس لأحدٍ فيها نصيبٌ، وقال الَّذين خرجوا في طلب العدوِّ: لستم بأحقَّ بها منَّا؛ نحن نَفَيْنا عنها العدوَّ، وهزمناهم، وقال الَّذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: لستم بأحقَّ بها مِنَّا؛ نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وخِفنا أن يصيب العدوُّ منه غرَّةً، واشتغلنا به؛ فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].
    إذًا خلَّد الله سبحانه وتعالى غزوة بدرٍ في سورة الأنفال، وجاءت مفصلةً عن أحداثها وأسبابها، ونتائجها، وتعرَّضت الآيات الكريمة لعلاج النَّفس البشريَّة، وتربيتها على معاني الإيمان العميق، والتَّكوين الدَّقيق، فبدأت السُّورة بتبيان حكم أثـرٍ من آثار القتال، وهو الغنائـم، فبيَّنت: أنَّ هـذه الغنائـم لله، والرَّسول فالله هو مالـك كلِّ شيءٍ، ورسوله صلى الله عليه وسلم هو خليفتهُ، ثمَّ أمر الله المؤمنين ثلاثة أوامر: بالتَّقوى، وإصلاح ذات البين، والطَّاعة لله والرَّسول صلى الله عليه وسلم. وتلك الآيات وضعت قاعدةً هامَّةً في بناء الدَّولة حينما تكون في مرحلة التَّكوين، وفي سبيل هذه الكلِّيَّة يُطرح الاهتمام بالجزئيَّات حتَّى ولو كانت الحاجة ملحةً إليها.
    كما كانت معاملة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم للأسرى تحفُّها الرَّحمة، والعدل، والحزم، والأهداف الدَّعوية؛ ولذلك تعدَّدت أساليبه، وتنوَّعت طرق تعامله صلى الله عليه وسلم، فهناك من قتله، وبعضهم قبل فيهم الفداء، والبعض الآخر منَّ عليهم، وآخرون اشترط عليهم تعليم عشرة من أبناء المسلمين مقابل المنِّ عليهم. وكان لا بد من الحزم مع مجرمي الحرب، ورؤوس الفتنة؛ من أمثال: عُقبة بن أبي مُعَيْط، والنَّضر بن الحارث، فقد كانا من أكبر دُعاة الحرب ضدَّ الإسلام، والمتربِّصين بالمسلمين الدَّوائر، فبقاؤهما يُعَدُّ مصدرَ خطرٍ كبيرٍ على الإسلام، فَقَتْلُهُمَا في هذا الظَّرف ضرورةٌ تفتضيها المصلحة العامَّة لدعوة الإسلام الفتيَّة، لذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِهما أثناء رجوعه للمدينة.
    5- نتائج غزوة بدرٍ:
    قويت شوكة المسلمين، وأصبحوا مرهوبين بين قبائل الجزيرة العربية كلها، وتعزَّزت مكانة الرَّسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، وارتفع نجم الإسلام فيها، ولم يعد المتشكِّكون في الدَّعوة الجديدة، والمشركون في المدينة يتجرَّؤون على إظهار كفرهم، وعداوتهم للإسلام؛ لذا ظهر النِّفاق، والمكر، والخداع، فأعلنوا إسلامهم ظاهرًا أمام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وازدادت ثقة المسلمين بالله تعالى وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. ودخل عددٍ كبيرٍ من مشركي قريشٍ في الإسلام، وقد ساعد ذلك على رفع معنويات المسلمين الَّذين كانوا لا يزالون في مكَّة، فاغتبطت نفوسهم بنصر الله، واطمأنَّت قلوبهم إلى أن يوم الفرج قريب، فازدادوا إيمانًا على إيمانهم، وثباتًا على عقيدتهم.
    كسب المسلمون مهارةً عسكريَّةً، وأساليبَ جديدةً في الحرب، وشهرةً واسعةً داخل الجزيرة العربيَّة، وخارجها. أمَّا قريش، فكانت خسارتها فادحةً، فإضافةً إلى أنَّ مقتل أبي جهل بن هشام، وأميَّة بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وغيرِهم من زعماء الكفر؛ الَّذين كانوا من أشد القرشيِّين شجاعةً، وقوةً، وبأسًا لم يكن خسارةً حربيَّةً لقريشٍ فحسب، بل كان خسارةً معنويَّةً أيضًا؛ ذلك: أنَّ المدينة لم تعد تُهَدِّدُ تجارتَها فقط، بل أصبحت تهدِّد أيضًا سيادتها ونفوذها في الحجاز كلِّه.
    6- دروس وعبر وفوائد من غزوة بدر:
    حقيقة النَّصر من الله تعالى:
    إنَّ حقيقة النَّصر في بدرٍ كان من الله تعالى، فقد بيَّن ـ سبحانه وتعالى ـ: أنَّ النَّصر لا يكون إلا من عند الله تعالى في قوله: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126].
    يوم الفرقان:
    سُمِّيَ يومُ بدرٍ يومَ الفرقان، ولهذه التَّسمية أهمِّيَّةٌ عظيمةٌ في حياة المسلمين، عن وصف الله تعالى ليوم بدرٍ بأنه يوم الفرقان، في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال: 41]. فقال: لقد كانت غزوة بدر الَّتي بدأت وانتهت بتدبير الله وتوجيهه وقيادته ومدده فرقانًا بين الحقِّ والباطل. فهذا الفرقان الكبير كان فرقانًا بين عهدٍ الدعوة الإسلاميَّة، عهد المصابرة والصَّبر، والتَّجمُّع والانتظار، وعهد القوَّة والحركة والاندفاع، والإسلام بوصفه تصويرًا جديدًا للحياة، ومنهجًا جديدًا للوجود الإنسانيِّ، ونظامًا جديدًا للمجتمع، بوصفه إعلانًا عامًّا لتحرير الإنسان في الأرض؛ بتقرير ألوهيَّة الله وحده وحاكميته، ومطاردة الطواغيت، الَّتي تغتصب ألوهيته.
    الولاء والبراء من فقه الإيمان:
    رسمت غزوة بدر لأجيال الأمَّة صورًا مشرقًة في الولاء والبراء، وفيها تجسَّدت هذه المعاني، فعاشها الصَّحابة واقعًا، وفيها تهاوت القيم الجاهليَّة، فالتقى الابن بأبيه والأخ بأخيه:
    أ*- كان أبو بكر الصِّدِّيق في صفِّ المسلمين، وكان ابنه عبد الرَّحمن في صفِّ المشركين.
    ب*- كان مصعب بن عمير حامل لواء المسلمين وأخوه أبو عزيز بن عمير في صفِّ المشركين، ثمَّ وقع أسيرًا في يد أحد الأنصار، فقال مصعب للأنصاريِّ: شُدَّ يدك به؛ فإنَّ أمَّه ذاتُ متاع، فقال أبو عزيز: يا أخي هذه وصيَّتك بي؟ فقال مصعب: إنَّه أخي دونك.
    ج- كان شعار المسلمين في بدرٍ: (أحَد.. أحَد) وهذا يعني: أنَّ القتال في سبيل عقيدةٍ تتمثَّل بالعبوديَّة للإله الواحد، فلا العصبيَّة، ولا القبلية، ولا الثأر، هو الباعث والمحرِّك؛ إنما الإيمان بالله وحدَه.
    الحرب الإعلاميَّة في بدرٍ:
    قال حسَّان بن ثابت رضي الله عنه:
    فَمَا نَخْشَى بِحَوْل اللهِ قَوْماً وَإِنْ كَثُرُوا وأَجْمَعَتِ الزُّحُوفُ
    إِذَا ما ألبسُوا جَمْعاً عَلَيْنَا كَفَانَا حدَّهُمْ رَبٌّ رَؤُوفُ
    وقال كعب بن مالك رضي الله عنه:
    وما حَامَتْ فَوَارِسُكُمْ بِبَدْرٍ ولا صَبَرُوا بِهِ عِنْدَ اللِّقَاءِ
    فلا تَعْجَلْ أَبَا سُفْيَانَ وارْقُبْ جِيَادَ الخَيْلِ تَطْلُعُ من كَدَاءِ
    بِنَصْرِ الله رُوْحُ القُدْسِ فِيْهَا وَمِيْكَالٌ، فَيَا طِيْبَ المَلاءِ
    فكان الشِّعر يمثِّل الحملات الإعلاميَّة المؤثِّرة في دنيا العرب، فيرفع أقوامًا، ويخفض آخرين، ويُشْعِل الحروب، ويُطْفِئها. وهكذا كانت بدر معركة الفرقان وفاتحة لعهد جديد مليء بالانتصارات اتسعت فيه الدولة الإسلامية في عهد النبي وخلفائه الراشدين ولتصل في عهد بني أمية إلى حدود الصين وأطراف فرنسا، وكانت بدر حافزا للانطلاق نحو الفتح والتمكين.
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــــ
    المراجع:
    1- ابن خلدون، المقدِّمة، ص 273.
    2- أحمد أبو الشباب، مقومات النَّصر، 2/154.
    3- تفسير الفخر الرَّازي، 15/133.
    4- تفسير القرطبيِّ،7/327.
    5- صالح بن عبد الله بن عبد الحميد، موسوعة نضرة النَّعيم في مكارم أخلاق الرَّسول الكريم صلى الله عليه وسلم، 1/291.
    6- علي محمد الصلابي، السيرة النبوية دروس وعبر، دار ابن كثير، بيروت، ص. ص 553 - 590.
    7- محمد آل عابد، حديث القرآن عن غزوات الرَّسول صلى الله عليه وسلم، 1/91.
    8- محمود خطاب، غزوة بدرٍ الكبرى الحاسمة، ص 23 - 24.
    9- محمود محفوظ، المدخل إلى العقيدة والاستراتيجيَّة العسكريَّة، ص 121.








    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •