يـهـود الـيـمـن... الـقـصـة الـكـامـلـة (2-3)
. نبيل محمد سعيد عبدالعزيز
اعتبر يهود أوروبا (الإشكنازيم) - الذين تكونت منهم الطبقة الحاكمة في (إسرائيل) - اليهود الشرقيين (السفارديم) - بمن فيهم يهود اليمن - مواطنين من الدرجة الثانية، و "مشرقيين" لا تؤهلهم ثقافتهم ولا إسهامهم في المجتمع إلى أن يصونوا السمة الأوروبية لدولة (إسرائيل)، والواقع فإن احتقارهم للمشرق وللثقافة اليهودية السفاردية هو أحد المراسي العرقية اليهودية - الإشكنازية، فقد كان (دافيد بن غوريون) "דוד בן-גוריון" (1886 - 1973م) واضحاً في قوله حول هذا الموضوع: "إننا لا نريد أن يصبح الإسرائيليون عرباً، وإن من واجبنا أن نحارب الروح المشرقية التي تفسد الأفراد والمجتمعات، وأن نصون القيم اليهودية الشرعية كما كانت مجسدة في يهود المجتمعات الغربية"، وقوله: "لا أريد لثقافة (مراكش) أن تكون عندنا هنا". كما عبرت (جولدا مئير) "גולדה מאיר" (1898 - 1978م) عن موقفها من اليهود السفارديم بقولها: "نحن في (إسرائيل) بحاجة إلى مهاجرين يتمتعون بمستوى رفيع، لأن مستقبل بنيتنا الاقتصادية يُقلقنا، إن لدينا مهاجرين من (مراكش) و (ليبيا) و (إيران) و (مصر) ومن بلدان أخرى ترجع مستوياتهم الاجتماعية إلى القرن السادس عشر" (1).
وبالرغم من كل المحاولات التي بذلها المسؤولون في (إسرائيل) لجلب أعداد أكبر من يهود أوروبا (الإشكنازيم)، فقد تبين لهم منذ بداية الهجرة الكبرى لليهود السفارديم أنه لا محالة من أن تصبح نسبة اليهود السفارديم في المستقبل القريب أكبر بكثير من نسبة اليهود الإشكنازيم، ومن ثم فقد عملت السلطات الإسرائيلية على وضع برامج اجتماعية واقتصادية وتربوية وثقافية من أجل صهر المجموعتين وتوحيدهما في بوتقة واحدة، ولكن النتيجة كانت أن هذه العمليات الدمجية جاءت على حساب مجموعة دون أخرى، ارتباطاً بالجهة المسيطرة والتي وضعت هذه الخطط والبرامج(2)، فقد لجأت السلطات الإسرائيلية إلى تغريب اليهود السفارديم بحجة تمدينهم ومساعدتهم على الانخراط في المجتمع الإسرائيلي، ولتنفيذ هذا المخطط استعانوا بالأساليب العلمية في الجامعات والباحثين الجامعيين أمثال عالم الاجتماع (شموئيل ايزنشتات) "שמואל אייזנשטדט" (1923 - 2010 م) المسؤول عن "نظرية الصهر"، وعالم التربية (كارل فرانكنشتاين) "קרל פרנקנשטיין" (1905 - 1990م) صاحب نظرية "محتاجي العناية الخاصة" وهي النظرية التي افترضت سلفاً تخلف الذهنية السفاردية، وكانت من نتائجها إقامة نظام تربوي خاص لمن هم بحاجة للعناية الخاصة، والطفل الذي يحكم عليه بدخول هذا النظام، يحكم عليه عملياً بالتجهيل مدى الحياة، وكان تصنيف الأولاد يتم حسب عدة معايير، لا تشمل "الذكاء" أو القدرات العقلية للطفل، وإنما اشتملت على: أصل الأب الآسيوي أو الإفريقي، والوضع الاجتماعي والاقتصادي المتدني "الهامشية"، ومستوى دخل العائلة، وهو ما يعني أن أغلبية أولاد اليهود السفارديم في الأحياء الفقيرة وبلدات التطوير كانوا يقعون ضمن هذا التصنيف، حيث تدل الإحصائيات أن حوالي 90 % من الأولاد في هذه المدارس هم من اليهود السفارديم(3).
جديرٌ بالذكر أن اليهود السفارديم لم يكن لهم دورٌ يُذكر في الحركة الصهيونية، كما أنهم لم يسهموا في نشأة الاستيطان الصهيوني في (فلسطين) قبل قيام (إسرائيل)، ولم يسهموا أيضاً في جهود إقامة الدولة الإسرائيلية، ولا في حرب 1948م - مع ما لها من أهمية في تثبيت دعائم الوجود الصهيوني على أرض (فلسطين) - إلا بقدر ضئيل للغاية لا يكاد يحسب لهم على الإطلاق في نظر الإشكنازيم(4)، وهذه الحقيقة سوف يكون لها الأثر السلبي على مصالحهم لاحقاً، وذلك لأن أجهزة الدولة في (إسرائيل) ما بعد عام 1948 م كانت استمراراً مباشراً للبنية المؤسساتية الصهيونية السابقة على قيام الدولة(5).
وما ينطبق على السفارديم بشكلٍ عام ينطبق على يهود (اليمن) بشكل ٍخاص، فقد مورست ضدهم العديد من سياسات التمييز العرقي الممنهج، بدءاً من المعاملة الاستعلائية والقهرية، كاستقبالهم بإغراقهم بسحابة من مسحوق دي. دي. تي المبيد للحشرات قبل أن ينزلوا عن سلم الطائرة وتطأ أقدامهم ما صُور لهم أنها أرض آبائهم وأجدادهم(6)، واختطاف أبنائهم وبيعهم لأغراض التبني(7)، مروراً بالإلغاء الثقافي والتدمير الاجتماعي، وصولاً إلى التهميش السياسي والاقتصادي. ومن ضمن الإجراءات التي كان يخضع لها هؤلاء:
1 - مصادرة ثقافتهم الخاصة، حيث مارست السلطات الإسرائيلية سياسة الاضطهاد الثقافي ضدهم، بدفعهم طوعاً أو كرهاً للتخلي عن هويتهم ونبذ عاداتهم وكراهية تقاليدهم المتوارثة.
2 - تمزيق الروابط الأسرية وتشتيت شمل العائلات الكبيرة عبر فصلها وإسكانها في أماكن متفرقة، ورفض وتدمير التقاليد الأبوية والبنى التسلسلية القديمة العائدة لقرون.
3 - إسكانهم في مدن تنمية وبلدات التطوير على أطراف المدن الكبرى، وعلى مر السنين بقيت أماكن سكن اليهود اليمنيين تمثل مظهراً من التمييز الصارخ والفصل العنصري، وحسب إحصاء أجري عام 1961م تبين أن اليهود اليمنيين يعيشون كل أربعة في غرفة واحدة في أحياء أطلقت عليها الصحافة الإسرائيلية تسمية "أحزمة الفقر"، كما امتنع الإسرائيليون عن مجاورة اليهود اليمنيين في أماكن سكنهم، وهو ما عبر عنه حادث لامرأة إسرائيلية تدعى يائير دايان عرضت منزلها للبيع، وبالرغم مما يتمتع به منزلها من مزايا، فإنها لم تجد من يشتريه، لأن جميع من يسكنون بالقرب منه هم من يهود (اليمن)، وقد كتبت يائيل مقالاً في صحيفة يديعوت أحرونوت في 22 مارس 1968م تقول فيه: "إن البيت لم يتم بيعه إلى الآن لأنه لا أحد يرغب في أن يلعب أولاده مع أولاد الجيران اليمنيين". وقد أثار مقال يائيل دايان نفوراً وامتعاضاً لدى اليهود السفارديم بشكل عام. حيث تصدرت نشرة السفارديم عدد أبريل 1968م عنوان: "ماذا تنتظر الآنسة دايان أن يكون وضع يهود (اليمن) في مجتمع أوروبي؟"(8).
4 – لم تتح لليهود اليمنيين فرصة مناسبة للتعليم، ففي عام 1961م وجد أن 2% فقط من تلاميذ المدارس الثانوية في (إسرائيل) هم من يهود (اليمن)، ولا يوجد بينهم من يكمل دراسته الجامعية إلا ما ندر، وتعود الأسباب الرئيسية لتسرب التلاميذ من المدارس إلى الوضع المادي البائس الذي عاشه يهود (اليمن) في (إسرائيل)، حيث إنه من النادر أن تتمكن أسرة يمنية من دفع تكاليف وأجور التعليم الثانوي والجامعي. وفي الوقت الذي حدث فيه النمو الاقتصادي العام في (إسرائيل) وأصبحت الوظائف المكتبية والأشغال من كافة الأنواع تحتاج إلى قوى عمل مع كفاءات علمية عالية
، عمل معظم اليهود اليمنيين في قطاع الزراعة وصيد السمك، وهذا يؤكد أن الهدف الأساسي من استحضار يهود (اليمن) هو استخدامهم كعمالة رخيصة في قطاعات العمل، وقد جاء على لسان أحد يهود (اليمن): "يريد الإشكنازيم أن يبقونا في الأسفل، نحن القاعدة وهم رأس الهرم ". أما الذين هربوا من العمل في القطاع الزراعي إلى غيره من قطاعات العمل فقد اقتصرت وظائفهم على أعمال النظافة وحراسة البنايات(9).
5 - قامت مناهج التعليم بتنحية تاريخ اليهود (اليمن) بشكلٍ عام، وينعكس هذا في عدد الصفحات القليلة المخصصة في كتب التاريخ لليهود اليمنيين، والأهم المضمون السيئ، فيحتوي كتاب "جولة في المستوطنات الأولى" (إصدار وزارة التربية، تل أبيب، 1992م) - والذي يُدرس في المرحلة الابتدائية - على جزء بعنوان "اليمني الصغير"، يحتوي على صور ملونة للتطريز اليمني، ووصفات أطعمة يمنية، وقصة على لسان (مِيرالِه) بنت التسع سنوات والنصف، لعائلة مجرية، جاء فيها: "في أحد الأيام ظهر في زقاق حارتنا صبي صغير، كان أسمر وأنحف من جميع الأولاد الذين عرف حتى ذلك الوقت [... ] تجول الصبي في الزقاق، متنقلاً من بيت إلى بيت وهو ينادي: جبنة! جبنة! بلهجة غريبة، تشبه العربية قليلاً والعبرية قليلاً، لكنها غير واضحة تماماً. صد الجميع الباب في وجهه، التفتت إلي أمي بنظرة حادة قائلة: "هذا الولد جاء على (القدس) قبل عدة أيام مع مائتي شخص، جميعهم سُمر البشرة ونحفاء جداً مثله، يقولون أنهم يهود جاؤوا من بلاد بعيدة، بلاد (اليمن)، لكن في (القدس) لم يصدقوهم"، "لماذا؟" سألتها. نفذ صبرها وصرخت في وجهي: "قولي ميرا، منذ متى يوجد يهود سُمر؟" [...] وعند مغادرته صدرت ضجة كبيرة من الزقاق، تحدث الجميع ضده، قالوا إنه عربي وإنه متخف وقالوا أموراً أخرى لم أعد أذكرها، كانت الأقاويل مُرعبة جداً، حتى أن أُمي اعتادت قفل الباب بالمفتاح مرتين لزيادة الحيطة. أما نهاية القصة "أخبار سعيدة"، فقد بشرت الجارة وهي تلتقط أنفاسها: "أتعرفين يا (ميرا)؟ إن هؤلاء اليمنيين هم يهود، لقد استدعاهم حاخاماتنا وأجروا فحصاً لصلواتهم وقوانين الطعام لديهم وثبت أنهم يهود، يهود جاؤوا من (اليمن)"(10).
--------------------
(1) ميكائيل الباز، المنفى الداخلي لليهود الشرقيين في إسرائيل، في: مجموعة من الكتاب اليهود، إسرائيل الثانية المشكلة السفاردية، ترجمة: فؤاد جديد، منشورات فلسطين المحتلة، بيروت، 1981م، ص120، ص 123.
(2) أحمد مصطفى جابر، اليهود الشرقيون في إسرائيل: جدل الضحية والجلاد، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، سلسلة دراسات إستراتيجية، عدد 92، 2004 م، ص 46.
(3) نبيه بشير، الشرقيون في مستنقع الصهيونية، في: إلياس جرايسة ومنير فخر الدين (تحرير)، اليهود الشرقيون إلى أين؟ اتجاهات التحرر وإشكالية الواقع، مركز المعلومات البديلة، القدس، حزيران 1998م، ص 13 - 14.
(4) رشاد عبد الله الشامي (د) القوى الدينية في إسرائيل. بين تكفير الدولة ولعبة السياسة، سلسلة عالم المعرفة، عدد 186، الكويت، يونيو 1994م، ص182.
(5) شلومو سفيرسكي، الشرقيون وجهاز التعليم: تيارات مختلفة ومسارات منفصلة، في: إلياس جرايسة ومنير فخر الدين (تحرير)، مرجع سابق، ص 36.
(6) كاميليا أبو جبل (د)، يهود اليمن. دراسة سياسية واقتصادية واجتماعية، دار النمير للطباعة والنشر والتوزيع، سورية، 1999م، ص 200.
(7) شوش مدموني، اختفاء أولاد اليمن: تجارة أم عنصرية؟، في: إلياس جرايسة ومنير فخر الدين (تحرير)، مرجع سابق، ص46 - 52.
(8) كاميليا أبو جيل، مرجع سابق، ص202.
(9) المصدر نفسه، ص203.
(10) سامي شالوم شطريت، اليهود الشرقيون في مناهج التعليم، في: إلياس جرايسة ومنير فخر الدين (تحرير)، مرجع سابق، ص22 - 23، ص28 - 29.