مستجدات الحج الفقهية
( النوازل في الحج )
(5من16)

الدكتور محمد بن هائل المدحجي

ما زال الحديث متصلاً عن أثر الزحام في مناسك الحج ، ومن ذلك :
أثر الزحام على أحكام منى
من النوازل المتعلقة بالزحام وأثره على أحكام منى : توسيع أحواض الجمرات : فمنطقة الجمرات شهدت عدة حوادث أدت إلى وفاة عدد من الحجاج بسبب التدافع ، فالحجاج المنتهون من الرمي يدافعون الناس للخروج، بينما يدافع آخرون قادمون للرمي ، فيلتحم الداخل مع الخارج ليولدوا حركة سير غير سليمة قد يحدث فيها الوقوع أو ضيق تنفس أو غير ذلك من أخطار السلامة ، فكانت هذه الحوادث هي السبب الرئيس في إعادة صياغة منطقة الجمرات ، وتوسيع أحواض الجمرات لتصبح على الهيئة التي صارت عليها اليوم .
وإذا أردنا أن نلقي نظرة تاريخية على أحواض الجمرات نجد أنه لم يكن هناك أحواض مبنية حول الجمرات، بل كانت مواقع الجمرات معلومة ، ويرمي الناس المرمى المتمثل في مكان اجتماع الحصى والذي قدره بعض العلماء بثلاثة أذرع من كل جانب ، وفي ذي القعدة من عام ١٢٩١هـ/ الموافق لشهر ديسمبر من عام 1874م وضع شِباك حديدي حول جمرة العقبة لإزالة الزحام ، لا لتحديد ذات المرمى، واستنكره بعض العلماء ؛ نظرًا لسعته؛ خوفًا من أن يظن بعض العوام أن جميع ما أحاط بذلك مَرْمى، وليس كذلك، ثم في العام الذي بعده أزيل ذلك الشباك الواسع ،وأُحدث بدلَه أحواضٌ حول الجمار الثلاث ، وإن كانت بنيت بشكل واسع ثم اختصرت إلى الشكل المعروف سابقًا على شكل دائرة نصف قطرها ما يقارب ثلاثة أذرع؛ بناءً على ما قال به جملة من علماء الحنفية والشافعية بتحديد المرمى بثلاثة أذرع ، ثم استمر الحال على ما تم بناؤه في ذلك العام، حتى جاءت هذه العصور التي شهدت قفزة حضارية وتنوعًا وسرعة في وسائل الموصلات؛ مما أتاح وصول الأعداد الضخمة إلى هذه المشاعر المقدسة، ونتج عنه وصول تلك الأعداد إلى الجمرات في أوقات متقاربة، وبسرعة فائقة، فلم تعد تلك الأحواض تستوعب جمار تلك الأعداد الضخمة، فناسب بحث جواز توسعة تلك الأحواض ، فاختلف العلماء في هذه المسألة ، فمنهم من أجاز ذلك ؛ بناء على أن هذه الأحواض لم تكن موجودة على عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ، ولم يرد تحديد منضبط عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يحدد أقصى اتساع لمنطقة الرمي ، وإنما حده بعض العلماء بثلاثة اذرع ، وبعضهم حده بمسيل الحصى ، ولما كان الأمر غير محدّد بأدلة قطعية، واقتضت الضرورة التوسعة ، جاز ذلك انطلاقا من قاعدة : "الضرورات تبيح المحظورات"، وقاعدة : " إذا ضاق الأمر اتسع"، كما أن رفع الحرج عن الناس في المرمى الذي قد حصلت فيه من الوفيات ما الله به عليم أولى من رفع الحرج عن الناس في المطاف الذي فعله عمر رضي الله عنه عندما حول المقام عن مكانه الذي كان ملاصقًا للكعبة تيسيرًا على الناس ورفعاً للحرج عنهم مع أنه لم يحصل فيه وفيات ، وأيضاً ما قارب الشيء يأخذ حكمه؛ وحينئذ لا مانع من أن يوسع الحوض وتعتبر التوسعة من المرمى ،ومن رمى في التوسعة فقد رمى إلى مجمع الحصى أو قريبًا منه ،وذلك مثل توسعة المسجد الحرام دخلت في حكمه بعد إلحاقها به.
ومن العلماء من منع توسيع أحواض الجمرات ؛ بناء على أن الأصل في تحديد المشاعر التوقيف؛ فلا دخل للعقل فيها بزيادة ولا نقص أو تغيير عن مواضعها، والتحديد وإن لم يكن بوضع جدار ونحوه؛ فإنه معلوم تناقلته الآثار التي نقلت عن السلف ، ومستقر عند الناس أنه بهذا التحديد تقريبًا ؛ مما يدل على اعتباره ؛ وإلا لأنكره العلماء واشتهر إنكارهم له .
ثم وفق الله عز وجل لطريقة يتحقق بها المقصود من اتساع أحواض الجمرات بدون تغيير لسعة المرمى عما هو عليه _ كما وقع في حج عام 1426هـ_ ، وذلك بتوسيع دائرة الرمي مع بقاء المرمى على وضعه، تترل فيه الجمار، ثم تزال بطريقة مرنة، من غير أن يتأذى بذلك أحد، وهي طريقة أخذت أساسها الشرعي مما قرره أهل العلم من أن المعتبر في صحة الرمي هو حصول الجمار في مجمع الحصى ، وأن الجمار إذا وقعت دون المرمى ثم تدحرجت حتى وقعت فيه فالرمي صحيح ، كما أن استقرار الحصى في المرمى ليس شرطًا في صحة الرمي؛ لأن المقصود هو الرمي إلى المرمى وحصول الجمرة فيه وقد حصل فأجزأه ، قال النووي رحمه الله : " ولو انصدمت الحصاة المرمية بالأرض خارج الجمرة ، أو بمحمل في الطريق ، أو عنق بعير ، أو ثوب إنسان ، ثم ارتدت فوقعت في المرمى ، أجزأته بلا خلاف " [المجموع 8/174] ، وقال ابن قدامة رحمه الله : " وإن وقعت على موضع صلب في غير المرمى ، ثم تدحرجت على المرمى ، أو على ثوب إنسان ، ثم طارت فوقعت في المرمى ، أجزأته ، لأن حصوله بفعله " [ المغني3/383] .
والنصوص السابقة للفقهاء تدل على أن من رمى الشاخص فرميه صحيح ما دام أن نهاية الحصاة في المرمى ، كما أنها تنطبق على من رمى من الأدوار العلوية ؛ إذ نهاية الحصى تكون في المرمى المعتبر شرعاً ، وكون الرمي يكون من أعلى هذا جائز بالإجماع، قال ابن حجر رحمه الله : " وقد أجمعوا على أنه من حيث رماها ( أي جمرة العقبة ) جاز ، سواء استقبلها أو جعلها عن يمينه أو يساره أو من فوقها أو من أسفلها أو وسطها ، والاختلاف في الأفضل "[ فتح الباري3/582] ، وإذا جاز ذلك في جمرة العقبة فغيرها مثلها ، قال ابن المنذر رحمه الله : " وأجمعوا على أنه إذا رمى على أي حال كان الرمي إذا أصاب مكان الرمي أجزأء " [ الإجماع ص58]، وقد دل على جواز رمي جمرة العقبة من أعلاها ما رواه الأسود قال : "رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرمي جمرة العقبة من فوقها " [ ابن أبي شيبة 3/199 ] ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ، وأما ما ورد عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه رمى من بطن الوادي فقال له عبدالرحمن بن يزيد يا أبا عبدالرحمن إن ناسًا يرمونها من فوقها، فقال: والذي لا إله غيره هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة [ متفق عليه ] فهو في بيان الأفضل والأكمل وليس لنفي جواز الرمي من غير هذه الجهة .
وعليه فإن رمى الحاج جمرة العقبة أو غيرها من الجمرات من فوق الجسر المبني فوقها فلا حرج عليه ، ولو كان رميها من تحته متيسراً ، بل إن الأفضل أن يفعل الحاج ما هو أيسر له ، ليؤدي هذه العبادة بطمأنينة وحضور قلب ، فمراعاة الكمال في ذات العبادة أولى من مراعاة الكمال في المكان .
ومما يمكن أن نضيفه : أن أهل العلم اتفقوا على أن الهواء تابع للقرار ، وأن من ملك أرضاً ملك هواءها وقرارها، وعليه فما فوق موضع النسك موضع نسك أيضًا، فمن رمى الجمرات من الطابق العلوي فهو في حكم من رماها من بطن الوادي؛ لأن الهواء تابع للقرار ، وهذا يقودنا إلى فرع آخر وهو الرمي من أسفل الجمرة ، ففي التوسعة الجديدة يوجد موضع للرمي في القبو يفتح في بعض الأحيان ، فما حكم الرمي هناك؟ والجواب :أن القرار كالهواء يتبع سطح الأرض، كما دل على ذلك قوله –صلى الله عليه وسلم-:"من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين"[متفق عليه] أي أن هذه السبع كلها ملك لمن ملك سطح الأرض، وعليه فيكون الرمي في القبو جائزاً ،والله أعلم .
وما دام الحديث عن الجمرات أحب أن أشير إلى أن جمرة العقبة إلى عهد قريب كانت على هيئتها حينما رماها النبي –صلى الله عليه وسلم- كانت في عرض جبل ، فكان الناس لا يستطيعون رميها من الجهة الشمالية لوجود الجبل ، فكان الذي يأتي للرمي يأتي من جهة الوادي من الجهة الجنوبية, بحيث تكون مكة عن يساره, ومنى عن يمينه, والجمرة والجبل تلقاء وجهه جهة الشمال, والجنوب خلفه ، وهذا هو المكان الذي رماها منه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ، فإنه رماها من بطن الوادي ، استقبلها, وجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه _ كما تقدم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه .
وقد أزيل هذا الجبل تسهيلاً وتوسيعًا على الناس في جمادى الأولى ١٣٧٦هـ /مارس 1948م ، فلما أزيل انكشفت الجهة الشمالية لجمرة العقبة الملاصقة للجبل ، فبرزت مسألة "حكم رمي جمرة العقبة من الجهة الشمالية" التي كانت هي جهة الجبل ، وأفتى العلماء بجواز الرمي من تلك الجهة بشرط أن تقع الحصاة في الحوض الذي جعل على شكل نصف دائرة تقريباً .
لكن الإشكال أن كثيراً من الناس كان يرمي الشاخص من تلك الجهة فلا تقع الحصاة في الحوض بل على الجزء الخلفي الذي لم يكن موجودًا على عهد النبوة ، فلا يكون موضعًا للعبادة؛ لأن مواضع العبادة توقيفية ، فيكون هذا الرمي غير صحيح موجباً للدم إذا لم يُعَد في وقته ، ومحاولة لتجنيب الناس مثل هذه المخالفة جُعل الشاخص من الجهة الخلفية ( الشمالية ) بهيئة مغايرة لشكل سائر أجزاء الشاخص ليوضح أنه ليس محلا للرمي . وهذا الإشكال قد زال مع التوسعة الجديدة للجمرات حيث صار بالإمكان رمي الجمرة الكبرى من أي جهة فينساب الحصى إلى المرمى المعتبر شرعاً ، ولله الحمد .
وللحديث بقية بإذن الله تعالى...
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.