مجتمعنا بين الثقافة والتعليم
أ.د.. سارة بنت عبد المحسن بن جلوي آل سعود
تمهيد
لكل أمة مفهومات أساسية خاصة بها، تحرص عليها، وتسعى لترسيخها وتثبيت جذورها في شتى المجالات الفكرية، والاجتماعية، والسياسية، وتعمل على المحافظة عليها، والاهتمام بها، وتأصيلها في أبنائها، ومن ثم إيصالها إلى الآخرين باستخدام الوسائل المتاحة كلها.
وهذه المفاهيم هي ما يمكن أن نطلق عليها اسم الثقافة.
ومن المعلوم بداهة أن الثقافات تتعدد، وتختلف باختلاف المبادئ والتصورات الفكرية لدى الأمم. وبالتالي فإنه يمكننا القول أن الثقافة هي:
حصيلة مقومات شتى تكون في النهاية صورة معينة، وشخصية خاصة لأي أمة، بكل ما تحمله من تصورات وأفكار، وآمال، وتطلعات.
لذا، فإن ثقافة كل أمة تشكل عناصر مهمة بالنسبة لأبنائها؛ لأنها وثيقة الارتباط بالإنسان، وإكمال شخصيته من الناحيتين: المادية، والروحية.
كما أنها عميقة الصلة بالمجتمع؛ لأنها تحوي عناصر الفكر، والتصور، والاعتقاد التي تشكل بدورها الأرضية الفكرية للبناء الأخلاقي، وتركيب شخصية الفرد بنواحيها العقلية، والنفسية، والروحية.
لذا، فقد اهتمت الأمم عبر تأريخها بنشر ثقافاتها، وحمايتها من الانصهار في غيرها من الثقافات، أو السماح لغيرها بالحلول محلها.
وعن الثقافة يقول الأستاذ "عمر عودة الخطيب": "هي الصورة الحية للأمة، فهي تحدد ملامح شخصيتها، وهي التي تضبط سيرها في الحياة، وتحدد اتجاهها فيها. إنها عقيدتها التي تؤمن بها، ومبادئها التي تحرص عليها، ونظمها التي تعمل على التزامها، وتراثها الذي تخشى عليه الضياع والاندثار، وفكرها الذي تود له الذيوع والانتشار".
هذا هو المعنى العام للثقافة.
فما هو المعنى الخاص لها؟
معنى الثقافة الخاص يمكن استخلاصه من تعريفها اللغوي والاصطلاحي.
1) في اللغة:
إن تعريف كلمة "ثقافة" تعريفاً دقيقاً أمر غير متاح، وذلك أن المعنى اللفظي لهذه الكلمة يضيق عن استيعاب مدلولها المتشعب، ذي الدلالات الكثيرة، والأبعاد غير المتناهية؛ لأنها كلمة جديدة لا تتصل بالمدلول اللغوي الذي ذكرته معاجم اللغة العربية، إلا من قبيل التأويل والمجاز.
فهي مأخوذة من كلمة (culture) المشتقة من أصل لاتيني: بمعنى الفلاحة أو الزراعة.
لكن هذا لا يمنع أن نشير إلى بعض ما أوردته المعاجم من مدلولات هذه الكلمة:
إن أصل كلمة ثقافة مأخوذ من الفعل "ثقف".
ومعاني هذا الفعل كثيرة، منها على سبيل الذكر لا الحصر:
أ) الحذق، الفطنة، سرعة أخذ العلم وفهمه.
فيقال: ثقف الرجل ثقفاً وثقافة: أي صار حاذقاً.
ب) تقويم المعوج من الأشياء، وتثقيف الشيء تسويته، ومنه المثاقفة، والمثاقفة: وهو ما تسوى به الرماح.
ج) إدراك الشيء والظفر به. وعليه: ثقفته بمعنى صادفته، وأدركته، وظفرت به ومنه قوله تعالى {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ }.
د) التهذيب والتأديب.
هـ) ومن المعاني المتداولة لكلمة ثقافة:
المشاركة البارعة في فروع شتى من المعرفة وبلوغ الفرد والجماعة مستوى في كسب المعلومات.
2) في الاصطلاح:
إن المعنى الاصطلاحي لكلمة "ثقافة" أوسع بكثير من معناها اللغوي مما يبرز صعوبة إيجاد تعريف جامع لها.
ذلك أن التعريفات الاصطلاحية لها اختلفت باختلاف توجها المعرفين وتخصصاتهم العلمية.
ومع هذا فسنذكر بعض هذه التعريفات:
أ) قال هنري لاوست: "إن الثقافة هي مجموعة الأفكار والعادات الموروثة، التي يتكون منها مبدأ خلقي لأمة ما، ويؤمن أصحابها بصحتها، وتنشأ منها عقلية خاصة بتلك الأمة تمتاز عن سواها".
ب)آرنست باركر: "إنها ذخيرة مشتركة لأمة من الأمم تجمعت لها، وانتقلت من جيل إلى جيل خلال تأريخ طويل، وتغلب عليها بوجه عام عقيدة دينية هي جزء من تلك الذخيرة المشتركة من الأفكار والمشاعر واللغة".
جـ) ماثيو أرنولد: "محاولتنا الوصول إلى الكمال الشامل عن طريق العلم بأحسن ما في الفكر الإنساني مما يؤدي إلى رقي البشرية".
د) هي مجموعة من العلوم والفنون والمعارف النظرية التي تؤلف الفكر الشامل للإنسان فتكسبه أسباب الرقي والتقديم والوعي.
هـ) هي ما تعكسه حضارة معينة تضم ثمرات الفكر من علم، وفن، وقانون، وأخلاق.
ومع هذا فإن هذه التعريفات على مالها من مدلولات قيمة. إلا أنها لا تغطي الأبعاد المختلفة لمعنى الثقافة أو مفهومها، وهذا لا يعني قصورها أو خطأها.
وحتى يكون للثقافة معناها ومفهومها الشامل، فلابد من أن تشمل الجانبين: النظري والعلمي.
وقد يكون التعريف الذي اختاره "مالك بن نبي" هو أقرب التعريفات لهذا المفهوم فقد عرف الثقافة بأنها: "مجموعة من الصفات الخلقية، والقيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لا شعورياً العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه".
وحتى ننتهي إلى مفهوم كامل للثقافة فلابد أن نعرف علاقتها بالعلم.
وهذا يلزمنا بالتعرض السريع لمعنى العلم من حيث اللغة والاصطلاح.
لغة: من علم الرجل علماً. إذا حصلت له حقيقة العلم وهو ضد الجهل.
وعلم الشيء: عرفه، وأعلمه: أطلعه.
اصطلاحاً: هي مجموعة المعارف التي توصل إليها الإنسان عن طريق الملاحظة المقترنة بالتجربة.
ويفترق العلم عن الثقافة بالتالي:
1) العلم يستقي من المعارف المأخوذة بطريق التجربة والاستنتاج.
بينما الثقافة: هي مجموعة المعارف المأخوذة بطريق التلقي، والأخبار، والاستنباط.
2) العلم: يتسم بالعالمية من حيث إنه تراث إنساني عام، تشترك جميع الأمم والشعوب في تنميته، وتطويره، وإبرازه للوجود، كما أنه لا يقتصر على جنس أو يتقيد بأرض.
وهو يستعمل في تنمية الملكات، وقد يستعمل في الخير والشر على حد سواء.
الثقافة: تتسم بالخاصية، وترتبط بكل أمة ارتباطاً قوياً دائماً؛ وذلك لاختلاف الأمم في المعتقدات، والأفكار، والمبادئ والتصورات، التي تعطي انطباعاً معيناً عن الكون والحياة والإنسان.
3) العلم: يؤخذ أخذاً عالمياً بلا قيود؛ لأنه نتيجة لجهود الأمم جميعها.
الثقافة: خاصة بكل أمة قد لا تتجاوزها إلى غيرها.
4) الثقافة أشمل وأعم من العلم. حيث إن العلم يعد جزءاً من الثقافة.
فالثقافة إذاً: هي معرفة، وموقف، وعاطفة، وأسلوب حياة، وهي تعد الإنسان للحياة الحضارية المتمناة، وتعينه على التطور.
فالمعرفة مادة العلم، والعلم هو الطريق إلى إيجاد عقلية متمكنة مؤهلة لتلقي الثقافة.
وأخلص من هذا العرض إلى أن:
الثقافة الحقيقية هي التي تفيد الإنسان بصورة عملية، وتؤهله للتفاعل مع بيئته، ومجتمعه، وحضارة عصره، وبالتالي تعينه على حل ما يواجهه في حياته من مشكلات دون أن يفقد توازنه الداخلي، وأصالة انتمائه، أو يعاني من تناقض حاد، وانفصام بين واقعه وقناعاته.
ولو شئنا أن نطبق هذا الفهم على واقع مجتمعنا المعاصر، لنرى مدى تحققه من ثقافته، وارتباطه بعصره، وهل هو مجتمع مثقف أو أنه يعاني من مشكلة وأزمة ثقافية؟ فإن هذا يلزمنا أن نعرض وبصورة سريعة لواقع هذا المجتمع.
المجتمع هو الوسط والمحيط الذي ينشأ فيه الأفراد، وهو يمثل القوى الاجتماعية التربوية التي يمتد أثرها ليشمل الأفراد والجماعات التي يتكون منها هذا المجتمع، من خلال العلاقات التي تربط الأفراد والجماعات بعضهم ببعض، ويتأثر بعضهم بالبعض الآخر سلباً وإيجاباً.
ومجتمعنا السعودي كان قبل بضع عشرات من السنين مجتمعاً بسيطاً يعيش منغلقاً على نفسه حياة شبه انعزالية حافظت له على كثير من خصائصه الاجتماعية والأخلاقية والدينية.
لكن مد التطور والتقدم الذي وافق اكتشاف النفط في أراضينا، قفز بالمجتمع السعودي قفزة مذهلة، وانتقل به نقلة كبيرة من البساطة الاجتماعية، إلى حياة التقدم والمعاصرة في فترة وجيزة تكاد لا تصدق إذا ما قيست بحياة الأمم.
وهذه القفزة الحضارية المذهلة، والانتقال الفجائي السريع من حال إلى حال، وهو ما يسمى بـ "الطفرة" كان لها أثرها الواضح على سلوك الأفراد وأسلوب حياتهم وتفاعلهم مع الثقافة الممتدة جذورها في أعماق نفوسهم وعالم الأفكار والأشياء التي عاشوا داخل إطارها العام، ومارسوا من خلالها حياتهم اليومية.
فالإقبال الشديد على الاستفادة من معطيات الحضارة رافقه إقبال شديد على التعليم والحصول على أعلى الشهادات، حتى باتت شريحة كبيرة من شرائح المجتمع تحمل الشهادات العلمية المختلفة، وذلك يعد مظهراً حضارياً راقياً.
وعلى الرغم من التعامل مع معطيات الحضارة، والوصول إلى مستويات علمية تخصصية متفاوتة، إلا أننا نجد انفصاماً واضحاً وهوة واسعة بين التأهيل العلمي الذي قد يبلغ أعلى الدرجات، والقدرة على التفاعل مع الواقع، والتعامل مع المستجدات، والموازنة بين الأصالة بمقوماتها الدينية، والتراثية، والأخلاقية، والتجديد بما يحمله من معطيات قد تختلف كثيراً أو قليلاً عما لدينا، بل إن العجز ليصل إلى درجة العجز عن فهم ما لدينا فهماً صحيحاً سوياً.
وهذا مؤشر خطير يدل على وجود أزمة ثقافية حقيقية يعاني منها المجتمع وإن تسترت خلف شهادات عالية، ومظاهر حضارية راقية، إلا أن آثارها تعمقت في النفوس، وأحدثت شرخاً في بنيان المجتمع، الذي انقسم إلى مجموعات ضاع كثير منها بين الإفراط، والتفريط.
ولو تتبعنا أصول المشكلة لرأينا أنها ترجع لأسباب متعددة ساهم كل منها بدور كبر أو صغر في تنمية وجودها، وتعميق أبعادها، عن طريق التربية بوسائطها ومقوماتها كلها.
والوسائط التربوية التي يتم عن طريقها تربية النشء وتثقيفه، متعددة، ولكني سأقتصر هنا على أهمها؛ لما لها من دور فعال في هذا المجال:
الأسرة هي المحضن الأساسي الذي يتلقى منه النشء الأصول الرئيسة، التي تحدد سلوكياتهم، وتكون شخصياتهم، بمقوماتها الإيمانية، والفكرية، والروحية والأخلاقية. لكن الملاحظ أن كثيراً من هذه الأسر غير قادرة على القيام بدورها بالصورة التي تقدم للمجتمع فرداً متكامل الشخصية والثقافة؛ وذلك لأسباب متعددة، منها:
- تفشي الجهل والأمية، ولا يقصد بهما هنا حصراً جهل القراءة والكتابة، لكنه الجهل الذي يعجز عن توظيف العلم في إحداث التغير على مستوى الفرد والمجتمع، فحتى تلك البيوت التي يتمتع أفرادها بمستوى من التعليم قد يرتفع أو يتدنى، لا تولي الثقافة اهتماماً يناسب أهميتها الحضارية؛ وذلك لأنها تعاني من أمية فكرية وتوجهية، وجهل لوظيفتها التربوية.
ومن ثم فإنها لا تحرص على تنمية أفرادها ثقافياً، بل نجد التركيز على دفعهم إلى الحصول على أعلى الدرجات في تعليمهم المدرسي النظامي، دون أدنى مبالاة بما سوى ذلك، ومن ثم فقد خلت كثير من البيوت من المكتبات وإن وجدت فهي للزينة.
- اختلاف المستوى الفكري والعلمي بين جيل الآباء وجيل الأبناء، فالآباء جيل ما زال كثير من أفراده بسيطاً في طريقة تفكيره وتحليله لأمور الحياة.
بينما يشعر الأبناء بأنهم أكثر علماً وفهماً للحياة وأقدر على التحليل من آبائهم.
وإن كان هذا غير صحيح في أحيان كثيرة، إلا أنه يحدث انفصالاً شديداً في الأجيال مما يوجد هوة ثقافية لا يقام عليها جسر ولا معبر.
- إذا كان لابد للتثقيف من طرائق توصيل وتربية، كذلك لا بد له من هدف أسمى يسعى إليه.
وبما أن الطفرة المادية أثرت على البيئة الفكرية في المجتمع، فبالتالي أوجدت أهدافاً مادية سخرت الأفكار لتنمية الأشياء؛ وهنا تكمن خطورة التوجيهات الثقافية في الأسرة، فقد أصبحت الدنيا تشغل الآباء والأبناء أكثر مما مضى؛ ولذلك أصاب الحياة الثقافية في المجتمع عدم توازن فكري وسلوكي بسبب الهدف المادي الذي أثر على الحياة الثقافية لدى الآباء والأبناء، فصار الهم المستقبل المادي عند الكثيرين، بينما كان الهم الأساسي الآخرة عند الأجيال السابقة.
فانشغال الأب والأم في شؤونهما الخاصة لا يتيح لهما فرصة تنمية مدارك أبنائهما العقلية، وتوسعة دائرتهم الثقافية.
ليس اليتيم من انتهى أبواه من
هم الحياة وخلفاه ذليلاً
إن اليتيم هو الذي تلقى له
أماً تخلت أو أباً مشغولا
نستطيع أن نعد التعليم بمستوياته جميعها، العامة والعليا، سبباً في ضعف الثقافة، مع كثرة المدارس، والمعاهد، والكليات، والجامعات، وكثافة المناهج الدراسية، والمواد المقررة، التي لا نكاد نجد لها أثراً في تشكيل عقلية الفرد وتنمية ثقافته.
وعلى الرغم من أننا نجد كثيراً من الشباب المتخصص تخصصاً دقيقاً وراقياً في مختلف جوانب العلوم الطبيعية، والإنسانية، والفنية، والإدارية، والعسكرية، إلا أن التعليم لم يحقق الهدف الثقافي في إنتاج شخصية مثقفة تقيم علاقة تبادل ناجحة مع الوسط الاجتماعي والأخلاقي، والتربوي، ومع الموروث، والمعاصر، ولم يوجد فاعلية ثقافية مبدعة ومؤثرة في عملية التغيير بجوانبها المختلفة، وإن وجدت قوة بشرية متخصصة أسهمت في دفع عملية التطور المادي في المملكة.
وقد يكون غياب الأهداف، وتوجيه الميول لدى الطلاب لتحقيق تلك الأهداف، ووسائل الربط بين الميول والغايات، ثم مستوى التعليم المتدني هي أحد الأسباب التي غيبت الثقافة، بالإضافة إلى الأسباب التالية:
أ) كثافة المناهج، وكثرة المقررات الدراسية التي ترهق كاهل الطالب بالواجبات الدراسية، مما لا يتيح له فرصة للقراءة الخارجية والاطلاع، بل إنها قد تؤدي في أحيان كثيرة إلى توليد نوع من النفور النفسي لدى الطالب تجاه كل كتاب.
ب) بعد المناهج في موضوعاتها عن واقع الحياة، وانقطاع صلتها به.
ج) طبيعة الدراسة التي تعتمد على الحفظ المجرد، دون تعويد الطالب استعمال ملكاته العقلية في التفكير والمناقشة والحوار، مما يؤدي إلى التبلد الذهني، وعدم الاستجابة العملية والنفسية.
ويظهر ذلك واضحاً في العلوم الدينية التي على الرغم من كثرتها، وتنوعها وشمولها لأصول الإسلام وفروعه كلها، واهتمام الدولة بها، إلا أننا لا نجد لها ذلك الأثر الواضح في فكر الطالب وعمله.
د) تقييد الطالب بكتاب دراسي مقرر، أو مذكرة خاصة، تحصره في نطاق فكري ضيق، فلا يسعى للبحث والمطالعة والحصول على مزيد من العلم، بل إنه يتعود الاتكالية في تلقي العلم، والاعتماد على الغير في توصيله، وهذا أسلوب لا يساعد على اكتساب الثقافة؛ وذلك أن الثقافة إطار شمولي عام، والمدرسة أو الجامعة تركز على جوانب تخصصية مكتنزة لا تقدم الجرعة الثقافية اللازمة.
هـ) نظام الامتحانات الذي يجعل الغاية القصوى، والهدف الأهم هو الحصول على الدرجة، دون اهتمام بأي أمر آخر.
يتبع