ويُسَنُّ أنْ يُحَرِّكَ سَبَّابَةَ اليَدِ اليُمْنَى في التَّشَهُّدِ.
اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في حُكْمِ تَحْرِيْكِ السَّبَّابَةِ في التَّشَهُّدِ على قَوْلَيْنِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّهُ يُشْرَعُ تَحْرِيْكُهَا، وهُوَ قَوْلُ أبي حَنِيْفَةَ وأحْمَدَ، وقَوْلٌ للشَّافِعِيَّةِ ، واخْتَارَهُ مِنَ المُعَاصِرِيْنَ : شَيْخُنَا ابنُ بَازٍ، وابنُ عُثَيْمِيْنَ، والألْبَانِيُّ، واللَّجْنَةُ الدَّائِمَةُ.
لحَدِيْثِ وَائِلِ بنِ حُجْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لأنْظُرَنَّ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ، كَيْفَ يُصَلِّي؟، قَالَ: «فَنَظَرْتُ إلَيْهِ قَامَ فَكَبَّرَ، ورَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى حَاذَتَا أُذُنَيْهِ، ثُمَّ وضَعَ يَدَهُ اليُمْنَى على ظَهْرِ كَفِّهِ اليُسْرَى، والرُّسْغِ والسَّاعِدِ، ثُمَّ قَالَ: لَمَّا أرَادَ أنْ يَرْكَعَ، رَفَعَ يَدَيْهِ مِثْلَهَا ووَضَعَ يَدَيْهِ على رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ مِثْلَهَا، ثُمَّ سَجَدَ، فَجَعَلَ كَفَّيْهِ بِحِذَاءِ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ قَعَدَ فَافْتَرَشَ رِجْلَهُ اليُسْرَى، فَوَضَعَ كَفَّهُ اليُسْرَى على فَخِذِهِ ورُكْبَتِهِ اليُسْرَى، وَجَعَلَ حَدَّ مِرْفَقِهِ الأيْمَنِ على فَخِذِهِ اليُمْنَى، ثُمَّ قَبَضَ بَيْنَ أصَابِعِهِ فَحَلَّقَ حَلْقَةً، ثُمَّ رَفَعَ إصْبَعَهُ، فَرَأيْتُهُ يُحَرِّكُهَا يَدْعُو بِهَا»، ثُمَّ جِئْتُ بَعْدَ ذَلِكَ في زَمَانٍ فِيهِ بَرْدٌ: «فَرَأيْتُ النَّاسَ عَلَيْهِمُ الثِّيَابُ تُحَرَّكُ أيْدِيهِمْ مِنْ تَحْتِ الثِّيَابِ مِنَ البَرْدِ» أخْرَجَهُ أحْمَدُ والدَّارِمِيُّ والبُخَارِيُّ في «رَفْعِ اليَدَيْنِ»، وأبو دَاوُدَ والنَّسَائِيُّ وابنُ خُزَيْمَةَ وابنُ حِبَّانَ.
قُلْتُ: لَقَدَ طَعَنَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ في هَذَا الحَدِيْثِ؛ للأُمُورِ، مِنْ أهَمِّهَا تَفَرُّدُ زَائِدَةَ بنِ قُدَامَةَ، ومُخَالَفَتُهُ للثِّقَاتِ الَّذِيْنَ رَوَوْا الحَدِيْثَ بدُوْنِ زِيَادَةِ: «ويُحَرِّكُهَا» ؛ مَا يَدُلُّ على أنَّهَا شَاذَّةٌ!
قُلْتُ: إنَّ الحَدِيْثَ عَنْ تَحْرِيْرِ مَسْألَةِ «تَحْرِيْكِ السَّبَّابَةِ في التَّشَهُّدِ»، ومَا يَتَعَلَّقُ بتَخْرِيْجِ أحَادِيْثِهَا، سَوَاءٌ كَانَ عِنْدَ المُثْبِتِيْنَ لهَا، أو النَّافِيْنَ لهَا، مِمَّا سَيَطُولُ بَحْثُهُ، الأمْرُ الَّذِي سَيُخْرِجُنَا عَنْ مَقْصَدِ الاخْتِصَارِ، ومَعَ هَذَا فإنَّنِي أحْبَبْتُ أنْ أذْكُرَ طَرَفًا مِنْ تَحْرِيْرِ هَذِهِ المَسْألَةِ باخْتِصَارٍ، كَمَا يَلي:
أوَّلًا: أنَّ جَمْعًا مِنْ أهْلِ العِلْمِ المُعْتَبَرِيْن َ ـ قَدِيْمًا وحَدِيْثًا ـ: قَدْ صَحَّحُوا هَذَا الحَدِيْثَ: كابنِ خُزَيْمَةَ، حَيْثُ أوْرَدَهُ في «صَحِيْحِهِ» مِمَّا يُشْعِرُ إلى صِحَّتِهِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ الجَمِيْعِ، وقَدْ بَوَّبَ لَهُ بقَوْلِهِ: «بَابُ إشَارَةِ الخَاطِبِ بِالسَّبَّابَةِ على المِنْبَرِ عِنْدَ الدُّعَاءِ في الخُطْبَةِ، وتَحْرِيكِهِ إيَّاهَا عِنْدَ الإشَارَةِ بِهَا».
أمَّا قَوْلُ ابنِ خُزَيْمَةَ عَقِبَ الحَدِيْثِ: «لَيْسَ في شَيءٍ مِنَ الأخْبَارِ: «يُحَرِّكُهَا» إلَّا في هَذَا الخَبَرِ، زَائِدَةُ ـ ابنُ قُدَامَةَ ـ ذَكَرَهُ».
قُلْتُ: هَذَا مِنْهُ رَحِمَهُ اللهُ لَيْسَ رَدًّا للحَدِيْثِ، أو تَضْعِيْفِهِ، كَمَا جَنَحَ إلَيْهِ بَعْضُهُم، بَلْ هُوَ مِنْهُ إخْبَارٌ بحَالِ مَخْرَجِ الحَدِيْثِ لا بحَال ضَعْفِهِ، فتَأمَّلْ!
كَمَا صَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ، وابنُ حجَرٍ، ومِنَ المُعَاصِرِيْنَ : الألْبَانيُّ، وابنُ بَازٍ، وغَيْرُهُم.
ثَانِيًا: أنَّ التَّفَرُّدَ في الحَدِيْثِ إنَّمَا يُرَدُّ إذَا كَانَ الرَّاوِي ضَعِيْفًا، أو كَانَ ثِقَةً قَدْ خَالَفَ مَنْ هُوَ أوْثَقَ مِنْهُ، وهَذَا لَيْسَ مِنْهُ شَيءٌ هُنَا، يُوضِّحُهُ.
ثَالِثًا: أنَّ زَائِدَةَ بنَ قُدَامَةَ ثِقَةٌ، فَإنَّ الأئِمَّةَ أجْمَعُوا على ثِقَتِهِ، وقَدِ احْتَجَّ بِهِ الشَّيْخَانِ، هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّهُ رَحِمَهُ اللهُ كَانَ مِنْ أشَدِّ الرُّوَاةِ تَثَبُّتًا في رِوَايَتِهِ عَنْ شُيُوخِهِ.
رَابِعًا: لَقَدْ ذَهَبَ عَامَّةُ أهْلِ العِلْمِ إلى أنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ لا تُرَدُّ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ الجَمْعَ بَيْنَهَا وبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الرِّوَايَاتِ.
وعَلَيْهِ؛ فَإنَّ زِيَادَةَ «يُحُرِّكُهَا»، لَفْظَةٌ لا يَتَعَذَّرُ الجَمْعُ بَيْنَهَا وبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الرِّوَايَاتِ، بَلْ تُعْتَبَرُ زِيَادَةُ «يُحَرِّكُهَا» تَوْضِيْحًا لمَعْنَى «الإشَارَةِ» الَّتِي جَاءَ ذِكْرُهَا في الحَدِيْثِ، بَلْ تُعْتَبَرُ مُجَامِعَةً لَهَا، لا مُنَافِيَةً لَهَا.
بَلْ غَايَةُ الأمْرِ: أنَّ الرُّوَاةَ إذَا أطْلَقُوا لَفْظَ «الإشَارَةِ»، فَإنَّ ابنَ قُدَامَةَ: قَيَّدَهَا بالتَّحْرِيْكِ، ولا مُنَافَاةَ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الصِّنَاعَةُ الحَدِيْثِية والفِقْهِيَّةِ على حَدٍّ سَوَاءٍ، وقَدْ دَلَّ على تَقْيِيْدِ «الإشَارَةِ» بالتَّحْرِيْكِ أحَادِيْثُ كَثِيْرَةٌ، مِنْهَا:
حَدِيْثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «مَا رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ شَاهِرًا يَدَيْهِ قَطُّ يَدْعُو على مِنْبَرِهِ، ولا على غَيْرِهِ، ولَكِنْ رَأيْتُهُ يَقُولُ هَكَذَا: وأشَارَ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ يُحَرِّكُهَا» أخْرَجَهُ ابنُ خُزَيْمَةَ.
وفِيْهِ دَلِيْلٌ: على أنَّهُ ﷺ كَانَ يُشِيْرُ بإصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يُحَرِّكُهَا في خُطْبَةِ الجُمُعَةِ.
وحَدِيْثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أنَّهَا قَالَتْ: صَلَّى رَسُوْلُ اللهِ ﷺ في بَيْتِهِ وهُوَ شَاكٍ، فَصَلَّى جَالِسًا وصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأشَارَ إلَيْهِم أنِ اجْلِسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «إنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإذَا رَكَعَ، فَارْكَعُوا وإذَا رَفَعَ، فَارْفَعُوا، وإذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا» أخْرَجَهُ البُخَارِيُّ.
وحَدِيْثُ حُذَيْفَةَ بنِ اليَمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «رَأيْتُنِي أنَا والنَّبِيُّ ﷺ نَتَمَاشَى، فَأتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ خَلْفَ حَائِطٍ، فَقَامَ كَمَا يَقُومُ أحَدُكُمْ، فَبَالَ، فَانْتَبَذْتُ مِنْهُ، فَأشَارَ إلَيَّ فَجِئْتُهُ، فَقُمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ حَتَّى فَرَغَ» أخْرَجَهُ البُخَارِيُّ.
قُلْتُ: إنَّ هَذِهِ الأحَادِيْثَ في غَيْرِهَا مِنَ الأحَادِيْثِ: لهِيَ شَاهِدَةٌ على أنَّ الإشَارَةَ تُجَامِعُ التَّحْرِيْكَ، ولا تُنَافِيْهَا لا لُغَةً ولا شَرْعًا ولا عُرْفًا، بَلْ لَفْظَةُ «التَّحْرِيْكِ» مُفَسِّرَةٌ للفَظِ: «الإشَارَةِ»، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الأحَادِيْثِ السَّابِقَةِ وغَيْرِهَا، واللهُ أعْلَمُ.
القَوْلُ الثَّاني: أنَّهُ لا يُشْرَعُ تَحْرِيْكُهَا، وهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ .
لحَدِيْثِ عَبْدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: «أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ إذَا قَعَدَ في التَّشَهُّدِ وَضَعَ كَفَّهُ اليُسْرَى على فَخِذِهِ اليُسْرَى، وأشَارَ بِالسَّبَّابَةِ لا يُجَاوِزُ بَصَرُهُ إشَارَتَهُ» أخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ والنَّسَائِيُّ، وأصْلُهُ في مُسْلِمٍ دُوْنَ قَوْلِهِ: «لا يُجَاوِزُ بَصَرُهُ إشَارَتَهُ».
وفي لَفْظٍ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُشِيْرُ بإصْبَعِهِ إذَا دَعَا، ولا يُحرِّكُها»، قَالَ ابنُ جُرَيْجٍ: وزَادَ عَمْرُو بنُ دِيْنَارٍ، قَالَ: أخْبَرَني عَامِرٌ عَنْ أبِيْهِ: «أنَّهُ رَأى النَّبِيَّ ﷺ يَدْعُو كَذَلِكَ، ويَتَحَامَلُ النَّبِيُّ ﷺ بيَدِهِ اليُسْرَى على فَخِذِه اليُسْرَى» أخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ والنَّسَائِيُّ وأبو عَوَانَةَ والبَيْهَقِيُّ.
وقَدْ قَدَحَ بَعْضُ العُلَماءِ في هَذِهِ الزِّيَادَةِ: «لا يُحَرِّكُهَا»؛ لأنَّ مُسْلِمًا خَرَّجَ هذا الحَدِيْثَ في «صَحِيْحِهِ» بدُونِهَا، ـ وكَذَا ابنُ حِبَّانَ ـ؛ لأجْلِ هَذَا فَقَدْ حَكَمَ بَعْضُهُم بشُذُوذِهَا.
قُلْتُ: إنْ دَعْوَى الشُّذُوذِ هُنَا، تَحْتَاجُ إلى دَلِيْلٍ صَرِيْحٍ، كَمَا أنَّهَا خِلافُ الأصْلِ؛ بَلِ الأصْلِ صِحَّتُهَا، ومَعَ هَذَا فَلَهَا عِنْدَنَا تَأوِيْلٌ عِلْمِيٌّ، كَمَا يَلي:
أنَّ قَوْلَهُ: «لا يُحَرِّكُهَا» نَافِيَةٌ للتَّحْرِيْكِ، وجَاءَتِ الرِّوَايَاتُ الأُخْرَى بإثْبَاتِ التَّحْرِيْكِ، وقَدْ تَقَرَّرَ في القَاعِدَةِ: أنَّ المُثْبِتَ مُقَدَّمٌ على النَّافي، ومَنْ يَعْلَمْ حُجَّةٌ على مَنْ لا يَعْلَمُ!
أنَّ الخِلافَ جَارٍ هُنَا: في التَّنَوُّعِ لا في التَّضَادِّ، بمَعْنَى: أنَّهُ يَجُوزُ كِلا الصِّفَتَيْنِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ.
وإنْ كُنَّا هُنَا: لا نَعدِلُ بشَيءٍ عَنِ الأخْذِ بتَحْرِيْكِ السَّبَّابَةِ؛ لصِحَّةِ دَلِيْلِهَا، وقُوَّةِ تَأوِيْلِهَا.
تَنْبِيْهٌ: لَقَدَ جَنَحَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ إلى أنَّ حَرَكَةَ السَّبَّابَةِ في التَّشَهُّدِ: تَكُونُ شَدِيْدًا!
قُلْتُ: لم يَثْبُتْ في حَرَكَةِ السَّبَّابَةِ سُنَّةٌ نَبَوِيَّةٌ، ولا أثَرٌ عَنِ الصَّحَابَةِ!
بَلِ الصَّحِيْحُ في حَرَكَةِ السَّبَّابَةِ: أنَّهَا تَرْجِعُ إلى العُرْفِ؛ بحَيْثُ تُحَرَّكُ بَيْنَ بَيْنَ مِمَّا يَصْدُقُ عَلَيْهَا الحَرَكَةُ عُرْفًا؛ شَأنُهَا شَأنُ حَرَكَةِ السَّبَّابَةِ في غَيْرِ التَّشَهُّدِ ـ كَمَا جَاءَ ذِكُرُ بَعْضِهَا في السُّنَّةِ الصَّحِيْحَةِ ـ: كحَرَكَةِ سَبَّابَةِ الخَطِيْبِ، أو حَرَكَةِ المُشِيْرِ إلى النَّاسِ بالجُلُوسِ، ونَحْوِ ذَلِكَ، واللهُ تَعَالى أعْلَمُ.
قُلْتُ: أمَّا مَا رَوَاهُ ابنُ هَانئ في «مَسَائِلِهِ» عَنِ الإمَامِ أحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ؛ أنَّهُ سُئِلَ: هَلْ يُشِيْرُ الرَّجُلُ بإصْبُعِهِ في الصَّلاةِ؟، قَالَ: «نَعَم، شَدِيْدًا».
قُلْتُ: هُوَ سُؤالٌ عَنِ الإشَارَةِ لا عَنِ التَّحْرِيْكِ، فَكَانَ جَوابُهُ رَحِمَهُ اللهُ عَنْ سُنِّيَّةِ الإشَارَةِ في التَّشَهُّدِ لا غَيْرَ، فتَأمَّلْ!

فضيلة
الشيخ الدكتور
ذياب بن سعد الغامدي
المحرر في صفة الصلاة 337