جموح البحــــر

ميساء الهواري

ركبت زورق العمل، وجدفت بمجداف الصبر والأمل، في بحر الحياة، كان البحر صديقي الذي أبثه همومي، وألقي في جوفه بأحزاني وآلامي، وأشكو له ما أجد و أعاني، كان البحر شريكي الذي يواسيني، ويؤازرني ويخفف معاناتي، كان يهمس لي بلزوم الصبر، ويهون عليَّ شدائد الأمر، ويطفئ في كبدي نيران القهر، كان الصدر الواسع الذي يمدني بالقوة والعزيمة، ويستوعب كل آهاتي، وبين أحضانه أسكب دموعي وعبراتي، كان يهدي إليَّ أصداف الحكمة، ويجود عليَّ بلآلئ الموعظة، ويشرع لي نافذة الأمل الرحبة الفسيحة حتى أكاد أعمى عن اليأس، وهكذا كان عهده معي، كان لي وفياً، وبي حفياً، وعني رضياً، وبالعجائب والفوائد زاخراً هادئاً ودوداً، إلى أن كان يوم ذهبت فيه إلى البحر كعادتي، ففوجئت بوجهه العبوس، وغضبه الهادر، وموجه الصارخ المتلاطم، قد تلوثت شطآنه، وكثرت أوحاله، وتلطخت صفحته، وغرقت سفنه، وتكدرت مياهه، وسرقت نفائسه، وسمت أحياؤه، وسيطرت عليه أوساخه، وتبدلت حاله، ومخر عبابه شرذمة لا قبل له بهم من قبل، وكأنه لم يكن يوماً البحر الذي عرفت وعايشت، فانهمرت من عيني دموع خرجت عليَّ، وحزنت وتساءلت، ما بك يا بحر؟ مالك؟ ما الذي بدل حالك؟ كيف تبدلت؟ ولم انتكست؟ أي مجرم فعل بك ما فعل؟ وظلت أسئلتي بلا إجابة منه، فأنا وحدي الذي يعلم الإجابة، ولطالما خشيت من ذلك وحذرته منه، كم حذرته من أن يقترب من شواطئه أناس لا يرتاح القلب لمرآهم، كم نصحته بأن يقف موقف الحازم الصارم منهم وأن يكف عن تسامحه وتساهله الزائد عن الحد، فالناس ليست سواسية، كم طلبت إليه أن يميْز الخبيث من الطيب وألا يطلق شعار الناس كلهم خير وبركة بلا محاذير أو قيود وضوابط، كم نهيته عن السماح لطائفة خبيثة تظهر غير ما تضمر، وتبدي غير ما تخفي، باستغلال اتساع صدره، وطيبة قلبه لإفراغ سمومها بداخله وهو يحتج بأن البحر لا تؤثر فيه قطرة، والآن ماذا جنيت يا صديقي؟!
لقد صدقت شكواي وهذا تأويل رؤياي من قبل، ألم أكن لك ناصحاً ولكنك لا تحب الناصحين، ألم أنهك عن تلك الصحبة، وعن ذاك التساهل؟ ولكنك أبيت واستكبرت وكنت من الغافلين، وكنت عن التذكرة من المعرضين، فاليوم لا تنفعك شفاعة الشافعين، إلا أن ترجع إلى الله بقلب سليم، فيتوب عليك إنه هو التواب الرحيم، فسلام عليك سأستغفر لك ربي عسى أن يهديك صراطاً مستقيم..
وبعد أُخيَّتي في الله.. فلم يكن راكب الزورق هذا إلا أنا، ولم يكن صديقي البحر إلا أنت، أنت من سرت وإياها زمناً طويلاً على طرقات الصالحين، وفي سبيل الحق واليقين، بين شعاب الدين القويم، كم كانت لنا من رحلات وجلسات، وضحكات وأنات، ومشاريع وعطاءات، وهمسات وحركات وسكنات، وآمال وطموحات، وندوات ومحاضرات، وأخيراً حسنات وجنات، أفتنسين اليوم كل هذا وأراك خلقاً آخر جديد، كأن لم يكن معنا بالأمس، ولم يكن واحداً منا ذات يوم؟! انقلبت ما بين عشية وضحاها وتركتنا حائرين، كم حذرتك؟ كم ذكرتك؟ كم رهبتك؟ ولكنك كنت مغيبة لا تشعرين بالخطر القادم نحوك.
لن يجدي الندم، رفعت الأقلام وجفت الصحف، ولم يبق سوى كلمات من أخت محبة ناصحة مشفقة من عذاب الله تقرؤها، علَّها تكون لكِ تذكرة، وتعيها منكِ أذن واعية، فتتوبي إلى الله توبة نصوحاً، ليغفر لكِ ذنوبكِ ويدخلكِ جنات تجري من تحتها الأنهار، ويخلصك من رفقة السوء، ومن تلك النكسة التي حلت بكِ إنَّ الله على كل شيء قدير، والله يسددكِ.
جليستك الصالحة:
حاملة المسك.