"شبابك قبل هرمك"


سليمان العيد







لقد كان شباب الصحابة رضي الله عنهم حريصون على اغتنام مرحلة الشباب من حياتهم في طاعة الله سبحانه وتعالى، كما أوصاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فيما رواه عنه ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"([1]).
فهذا التوجيه النبوي الكريم ليس لذلك الرجل وحده وإنما هو لكل شباب الأمة باغتنام هذه المرحلة العمر في طاعة الله سبحانه وتعالى والبعد عن معصيته، فهي فرصة للشباب في طاعة الله سبحانه بجميع أنواعها، فالشاب عنده القدرة مثلاً على الإكثار من نوافل الصلاة سيما قيام الليل الذي يحتاج إلى عزيمة وقوة، كما أن لديه القدرة على طول القيام فيها الذي هو أيضاً بحاجة إلى قوة تعين صاحبها على ذلك.
كما أن الشاب أيضاً لديه القدرة على الإكثار من نوافل الصيام لما عنده من القوة والنشاط، كما أدرك ذلك شباب صدر الإسلام من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث علل حمزة الأسلمي قدرته على الصيام في السفر بكونه شاباً، لما في سنن أبي داود، قال حمزة: قلت يا رسول الله إني صاحب ظهر أعالجه، أسافر عليه، وأكريه وإنه ربما صادفني هذا الشهر ـ يعني رمضان ـ وأنا أجد القوة وأنا شاب، وأجد بأن أصوم يا رسول الله أهون علي من أن أؤخره فيكون دينا، أفأصوم يا رسول الله أعظم لأجري أو أفطر؟ قال: "أي ذلك شئت يا حمزة"([2]). فالصيام في السفر مظنة المشقة على الإنسان، ومن أجل ذلك أبيح الفطر في السفر رفقاً بالمسافر، ولكن حمزة رضي الله عنه علل قدرته على الصيام في السفر بكونه شاباً، وبالتالي فإن الصيام في السفر لا يشق عليه لما عنده من القوة، فخيره رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الفطر والصيام في السفر.
والحج من العبادات التي تحتاج إلى قوة ونشاط لما فيها من الطواف والسعي والتنقل بين المشاعر، والتعرض للزحام ونحو ذلك؛ لذا فإن الإنسان في قوته وشبابه أقدر على أداء هذا النسك منه في كبره وشيخوخته. كما أن الجهاد الذي هو مشتق من الجهد محتاج لطاقة الشباب وقوتهم، فقد أبلى شباب الصحابة رضي الله عنهم في هذا الجانب بلاء حسناً، وسخروا كل ما عندهم من القوة والنشاط لإعلاء كلمة الله ونصرة عباد الله، حتى عم الإسلام وانتشر في كثير من أرجاء الأرض.
ولا شك أن اغتنام هذه المرحلة في طاعة الله سبحانه وتعالى، والنشأة عليها فيه خير عظيم للشاب، والشاب الذي يعيش على طاعة ربه له مزية عظمى كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه". فالشاب الذي ينشأ في طاعة الله سبحانه وتعالى ينجيه الله سبحانه وتعالى مع الأصناف المذكورة من ذلك الموقف العظيم، الذي جاء في وصفه ما رواه مسلم عن المقداد بن الأسود قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ أَمَسَافَةَ الْأَرْضِ أَمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ قَالَ فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا قَالَ وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ"([3]).
ومن الحسنات التي يجدها الشاب العابد المجتهد في عبادته أن اعتياد ذلك مما يسهل عليه فعلها والمداومة عليها في حالة ضعفه عند الكبر.
وفي المقابل إذا كان الشاب عنده القدرة على الاجتهاد في الطاعة، فلديه القدرة على التوبة من الذنب والخلاص منه، فإن الذنب في القلب كالشجرة في الأرض، كلما طال بها الزمن ضربت بجذورها في الأرض وازدادت تمسكاً بها، فيصعب حينئذ قلعها واجتثاثها، ‎وكذلك المعصية إذا تقدم بالإنسان العمر وما زال مصراً على معصيته ولم يتب منها، فيصعب عليه حينئذ تغيير حاله والإقلاع عن ذنبه.
إنه لمن الغرور أن يسوف الإنسان بالتوبة ويؤخر الاجتهاد في ‎الطاعة إلى آخر عمره، فمن كانت هذه حاله فهو بين خطرين: إما أن يفجأه الموت في حال شبابه مصّراً على معصيته مقصراً في طاعة ربه، وإما أن تتأصل المعصية في قلبه فلا يستطيع الخلاص منها في حال كبره وشيخوخته، فيموت وهو على تلك الحال، فكم مات من شيوخ على آثام ارتكبوها ودوا لو تخلصوا منها في شبابهم، فالموت لا يفرق بين الصغير والكبير ولا بين الصحيح والمريض، وإنما هي آجال مكتوبة، وأنفاس محسوبة، فكم مات ممن نعرفهم من الأطفال والشباب والشيوخ، قال سبحانه )وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ(، وقال )كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(.
أيها الشاب، إلى متى التسويف والتأجيل:
حتى متى وإلى متى نتوانى
وأظـــن هــــذا كله نســــاينا
الموت يطلبنا حثيثاً مسرعاً
إن لم يــزرنا بكــرة مســـانا
معشر الشباب اعلموا أن التوبة واجبة على الفور، وأن تأخيرها ظلم للنفس فقد قال سبحانه )يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِ مْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(، وقال )وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(.
أسأل المولى جل وعلا أن يلهمنا رشدنا، وأن يوفقنا لصلاح ديننا ودنيانا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وإلى أن ألقاكم أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


1) أخرجه الحاكم في المستدرك، 4/306. وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
([2]) كتاب الصوم، حديث رقم 2051 ترقيم العالمية.
([3]) صحيح مسلم …