657 فائدة من فوائد من شرح العقيدة الطحاوية
وليد بن راشد السعيدان
201) المسألة الرابعة: يقول أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى: من سألك عن كيفية شيء من صفات الله فقل له: أخبرني أنت أولاً عن كيفية ذات الله.
202) العلماء –رحمهم الله تعالى– يقولون: إن معرفة كيفية الصفة فرع عن معرفة كيفية الذات، فإذا كنت أنت أصلا تجهل كيفية ذات الله فكيف تريد أن تتعرف على كيفية صفاته سبحانه ، فالمتقرر أن :القول في الصفات كالقول في الذات، فإذا كنت أنا وأنت لا نفقه ولا نعرف كيفية ذات الله فكيف تريد مني أن أبين لك كيف وجهه، وكيف استواءه ، وكيف نتكلم في كيفية صفة ذات مجهولة لنا أصلا.
203) أجمع أهل السنة –رحمهم الله تعالى– على ثلاث كلمات في الرد على من سألك على كيفية استوائه فترد عليه بثلاثة ردود:
w الرد الأول: قل له أنت الذي تكلمت وسألت عن المعنى، وأما كيفيتها على ما هي عليه في الواقع فهي مجهولة ، والإيمان بها واجب، لأن الله أخبرنا به في القرآن وأخبرنا به نبيه –صلى الله عليه وسلم- في صحيح السنة، والسؤال عن الكيفية بدعة ؛ وهذا أول رد ويروى هذا الرد عن الإمام مالك وعن ربيعة ، ويروى مرفوعًا للنبي –عليه الصلاة والسلام– ولكن لا يصح لا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ، ولا عن أم سلمة وإنما يصح عن ربيعة وعن مالك، رحم الله جميع أمة المسلمين ,
wالرد الثاني: ما قرره أهل السنة والجماعة بقولهم أمروها كما جاءت ، فنحن نثبت الصفات إثبات معاني وإثبات وجود ليس إثبات تكييف، فالكيف لا نتكلم فيها أبدا لا نتكلم في الكيفية أبداً ، وإنما الحدود عندنا هو إيجاد معاني تلك الصفات على المعاني المتفرقة في لسان العرب فقط ، فلا ندخل في هذا الباب متأولين بآرائنا ولا متوهمين,
wالرد الثالث: أن تلزمه أولاً بأن يفسر لك كيفية ذات الله ، فإذا عجز عن تفسيره -وسيعجز- تقول له: كيف تريدني أن أفسر لك عن صفة شيء ذاته مجهولة بيني وبينك.
204) في قول الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: (لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام) ردًا على الممثلة المجسمة والنفاة المعطلة.
205) ومن مسائل قول الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: (لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام)أيضًا: أن فيها دليلًا على بطلان قاعدة لا يجوز استخدامها في مسائل الغيب وهي: قياس الغائب على الشاهد ، فهذه قاعدة اعتمدها علماء أهل الكلام أو حمقى أهل الكلام ، فلديهم شيء اسمه (قياس الغائب على الشاهد)، فلما أخبرنا الله جل وعلا أن له وجهًا ووجه الله غائب ، فأخذوا هم يقيسون هذا الغائب -وهو وجه الله -على الشاهد- وهو وجه المخلوق - ، ولما أخبرنا الله جل وعلا أن له يد وعين وهما غائبتان عن مدركات حواسنا ، قالوا إذًا لابد أن نقيس هذا الشيء الغائب على الأشياء المحسوسة فوقعوا في تمثيل الخالق بالمخلوق بسبب هذا القياس وقد أجمع علماء الإسلام على بطلان هذا النوع من القياس فيما بين الخالق والمخلوق ، وأنه لا يجوز استعمال نوع شيء من الأقيسة في حق الله جل وعلا إلا ما يسمى بقياس الأولى فقط.
206) ذكر العلماء رحمهم الله تعالى أن القياس له ثلاثة أقسام :
w القسم الأول: قياس الشمول وهو : تأصيل أصل تستوي تحته أفراده ، مثل القاعدة الفقهية فنحن نقعد قاعدة وندخل تحتها فروعًا كثيرة فهذه القاعدة هي قياس الشمول، أي أن هذه القاعدة شاملة لما تحتها من الجزئيات ويحكم على جميع الجزئيات بحكم واحد ، وإذا علمت هذا فاعلم أن أهل السنة مجمعون على بطلان استعمال هذا القياس فيما بين الخالق والمخلوق فالله جل وعلا لا يجوز استعمال الشمول في حقه.
wالقياس الثاني: قياس التمثيل وهو : القياس الذي يستعمله الأصوليون ، وهو مركب من أربعة أركان : من أصل ، وفرع ، وعلة جامعة ، وحكم , وهذا النوع من القياس لا يجوز استعماله كذلك فيما بين الخالق والمخلوق إجماعًا ، ومن عجائب أهل البدع أن عامة أهل البدع إنما استعملوا في حق الله هذين القياسين ولذلك صارت النتائج من هذه الأقيسة فيما بين الخالق والمخلوق نتائج باطلة بالإجماع ولا يجوز اعتقادها في الله جل وعلا ,
wالقياس الثالث: قياس الأولى ومعناه عند أهل السنة هو : أن كل كمال في المخلوق لا نقص فيه فالله أحق أن يوصف به ، وكل نقص في المخلوق لا كمال فيه فالله جل وعلا أحق أن ينزه عنه ، وبإجماع أهل السنة هذا القياس هو الذي يستعمل في حق الله جل وعلا فقط .
207) ومن المسائل في هذا الباب نقول : قد نفى الله جل وعلا عن نفسه الإحاطة من جهتين فقال الله جل وعلا "ولا يحيطون به علمًا" ، أي مهما أعملت الخليقة عقولها فإنها لا تستطيع أن تحيط بكل ما يتعلق بالله جل وعلا، فعلم الكيفية لا يمكن أن يحيط به الخلق أبدًا ولا أن تبلغه لا أفهامهم ولا أن تدركه أوهامهم ، وذلك لأن الله جل وعلا نفى الله الإحاطة به ، فنحن نعلم أسماء صفاته ، ونعلم أسماء أفعاله ، ونعلم معاني الصفات ، لكننا لا نستطيع أن نحيط بكل علم يتعلق بأسمائه وصفاته جل وعلا , الجهة الثانية إحاطة الأبصار به جل وعلا قال الله جل وعلا فإذا رأى المؤمنون ربهم يوم القيامة فرؤيتهم له سبحانه من غير إحاطة ، وذلك لكبره وعظمته جل وعلا ، فالقلوب لا تحيط به إدراكا ،والأفهام لا تحيط به علمًا والأبصار لا تحيط به رؤية ، ولا يفهم من قوله جل وعلا " لا تدركه الأبصار " ،أي لا تراه الأبصار وحسب، بل الإدراك درجة بعد الرؤية ، فإنك ترى السماء ولا تستطيع أن تدرك كل أطرافها ،وترى الجبل العظيم ولا تستطيع أن ترى ما خلفه ،ولا تستطيع أن ترى أطرافه ، فأنت ترى الشيء ولا تدركه ، فالإدراك بمعنى الإحاطة ، فالمؤمنون إذا رأوا ربهم يوم القيامة فإنهم لا يحيطون به رؤية لأنه سبحانه لا تدركه الأبصار لكبره وعظمته جل وعلا، فإذا كانت الأبصار لا تحيط به رؤية والعقول والأفهام لا تدركه علمًا فصدق كلام الطحاوي " لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام".
208) ومن المسائل في هذا الباب نقول: في هاتين الجملتين رد على غلاة المتصوفة وهم الذين يزعمون أن العبد بالرياضة والتمارين –رياضة القلوب لا رياضة الأبدان - قد يبلغ مرتبة يرى فيها الرب في هذه الدنيا، ، فغلاة المتصوفة يزعمون أن العبد بالرياضة وتمرين الذهن قد يبلغ مرتبة يرى فيها الرب وذلك في حالة واحدة عندهم وهو إذا فنى عقله عن المحسوسات المبصرة المدركة فقد يدرك بوهمه غير المحسوسات -الغيبيات من صفات الله جل وعلا-، ففي قول الإمام الطحاوي رد على هذه الطائفة الفاجرة الكافرة ، وهذا هو الذي يسميه الصوفية الفناء بالدرجة العليا عندهم وهو أن يفنى العبد عن المخلوق ويبقي في رؤية الخالق، ولذلك تجد الواحد منهم بينما هو يحدث أصحابه إذ شخص ببصره إلى السماء فيسكت هؤلاء ويسبحون ماذا حدث؟ ويسكتون ويطأطؤون رؤوسهم معتقدين أن شيخهم الآن فنيت مدركاته عن رؤية المحسوسات ، وصارت تطالع من ما وراء الغيب من الجنة والنار والملائكة تتنزل والله فوق العرش مستوي، وهذا كله من الدجل والخرافة.
209) ومن مسائل هذا الباب أيضًا: في قول الإمام الطحاوي "لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام" فأهل السنة يجهلون معاني الصفات ، وليس معنى هذا أن أفهامنا لا تدرك المعنى ، لا ، بل المقصد إدراك الكيفية والحقيقة فقط ، وإنما إدراك المعنى وفهم المعنى فإن علماء أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى مجمعون على العلم به والإحاطة به وإدراكه ، فهم يعلمون معنى الوجه لغة ولكنهم يسكتون عن كيفية هذا الوجه ، ويعلمون معني العين لغة ولكنهم يكلون علم كيفيتها إلى الله ، ويعلمون معنى الاستواء المعدى بعلى، لغة ولكن كيفية استواء الله على ما هو عليه في الحقيقة والواقع هذا لا يتكلم فيه أهل السنة ؛ وعلى ذلك قاعدة نرددها دائمًا تقول : أهل السنة يعلمون المعاني ، ويجهلون الكيفيات ويكلون علم الكيفية إلى الله جل وعلا.
210) من نسب الى أهل السنة والجماعة القول بجهل المعنى فقد أخطأ -أو كذب - لأن الذين يجهلون المعاني هذه طائفة من أخبث فرق أهل البدع وهي طائفة المفوضة ، وهم عكس الممثلة ، فالمفوضة يقولون لا نعلم المعاني فضلًا عن علم الكيفيات ، وقابلهم الممثلة الذين قالوا نعلم المعنى ونعلم الكيفيات ، فجاء أهل السنة وتوسطوا بين الطائفتين فقالوا : أما العلم بمعناها فنعرفه لأن الله خاطبنا في القرآن والسنة والأدلة الشرعية باللسان العربي المبين ، فوجب علينا حمل تلك الألفاظ على اللسان العربي المتقرر في اللغة عندنا , وأما الكيف فإننا نفوض علمه إلى الله ولا ندخل في علم الكيفية ولا في تفاصيلها ولا في بيانها ولا في تحريفها أو تعطيلها.
211) ومن المسائل في هذا الباب: قاعدة مقررة عند أهل السنة رحمهم الله: العقيدة لا تأتي بمحالات العقول ولكنها تأتي بمحارات العقول فما جاء في الوحي من الكتاب والسنة لا تأتي بمحالات - بالشيء المستحيل - وإنما تأتي بشيء يحار به العقل الضعيف عقل الإنسان.
212) ثم قال الإمام الطحاوي: ولا يشبه الأنام والمراد بالأنام : أي الخلق ، ولا يقصد بها الناس فقط ، بل جميع الخلق، وفي بعض النسخ " ولا يشبه " ، وفي نسخة أخرى " ولا يشبهه الأنام "، وكلاهما صحيح ، والكلام على هذه الجملة في مسائل :-
213) المسألة الأولى : في هذه الجملة رد على الممثلة الذين يزعمون أن الأنام يشبهون الله جل وعلا فأهل التمثيل يقولون إن صفة الخالق مثل صفة المخلوق ، فرد عليهم الإمام الطحاوي رحمه الله بقوله : ولا يشبهه الأنام .
214) المسألة الثانية : لقد دلت الأدلة الكثيرة المتواترة على صحة ما قاله الإمام الطحاوي رحمه الله ، فمن هذه الأدلة : قول الله جل وعلا : " ليس كمثله شيء " رد على الممثلة، وقوله " وهو السميع البصير " ، رد على المعطلة , ومن الأدلة : قول الله جل وعلا " فلا تجعلوا لله أندادًا "، والند هو: المثيل والنظير ، وهذا نهي ، والنهي يفيد التحريم ، فالله ليس له ند لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أسمائه ولا في أفعاله جل وعلا .
215) انعقد إجماع أهل السنة والجماعة على وجوب إثبات الأسماء والصفات لله جل وعلا إثباتًا بلا تمثيل ، وأجمعوا على تنزيهه عن مماثلة خلقه تنزيهًا بلا تعطيل .
216) المسألة الثالثة : في قول الإمام الطحاوي "ولا يشبه"، أيهما أفضل أن نعبر بنفي التشبيه أو بنفي التمثيل ولماذا؟ نقول : التعبير بنفي التمثيل أولى لأنه التعبير الوارد في القرآن والسنة ، وقد تقرر عندنا في قواعد العقيدة أن : التعبير عن المعاني الشرعية بألفاظ النصوص أولى وهناك وجه آخر وهو : أن نفي التشبيه لا يخلو من حالتين:
217) إما أن يراد به نفي التشبيه المطلق بين الخالق والمخلوق ، وإما أن يراد به مطلق التشبيه في قوله "ولا يشبهه"، فلو قلنا إن المراد بنفي التشبيه هو نفي التشبيه المطلق فإن هذا خطأ فما من شيئين موجودين إلا وبينهما اتفاق واشتراك في الاسم الكلي العام المطلق ؛ مثل كلمة (يد الله و يد المخلوق) فبينهما اشتراك ومشابهة في أصل المعنى - في الاسم العام الكلي المطلق - ، فلو نفينا أصل وجود المشابهة للخالق والمخلوق ففيه تعطيل الله جل وعلا عن صفاته ، ونكون قد عطلنا وجود الله جل وعلا، وإذا نفينا أصل المقدار المشترك في الاسم الكلي العام المطلق بين الخالق والمخلوق فقد عطلنا علم الله جل وعلا وعطلنا حياة الله جل وعلا إذ ما من حيين إلا وبينهما قدر مشترك في الاسم الكلي العام ففيهما نوع تشابه ، وما من عالمين إلا وبينهما شيء من القدر المشترك في الاسم الكلي العام المطلق ، لكن ننتبه لقول أهل السنة : الاتفاق في الاسم الكلي العام المطلق لا يستلزم الاتفاق بعد الإضافة والتقييد والتخصيص ، فنفي التمثيل لا شأن له بالمشابهة في الاسم الكلي العام المطلق وإنما نفي التمثيل ينصب على نفي التمثيل بين الخالق والمخلوق في ما بعد الإضافة والتقييد والتخصيص .
218) نفي التشبيه باطل من الجهتين : من جهة نفي مطلق التشبيه لأن نفي مطلق التشبيه يتضمن تعطيل الله جل وعلا ، وباطل من جهة التشبيه المطلق لأننا لا نجد أحدًا من طوائف بني آدم قالوا بأن بين الخالق والمخلوق تشبيه من كل وجه ، فصار الأصح والأفضل والأحق في مسائل العقيدة أن تقول :لا يماثله شيء .
219) فإن قيل: وما الفرق بين التمثيل والتشبيه؟ نقول : إن المشابهة هي الاتفاق في بعض الصفات ، وأما المماثلة فهي الاتفاق في كلها أو أغلبها ،
220) فإن قيل: وما الفرق بين التمثيل والتكييف؟ نقول: يقول العلماء رحمهم الله إن التكييف هو التمثيل ،والتمثيل هو التكييف عند الافتراق ، فإذا ذكر التكييف وحده دخل معه التمثيل تبعًا ، وإذا ذكر التمثيل وحده دخل معه التكييف تبعًا ، لكن إذا قيل تكييف وتمثيل، فيختلف معناهما حينئذ.
221) حكم من شبه الله بخلقه عند أهل السنة والجماعة فهو كافر ، وعلى هذا قول عامة أهل العلم من أهل السنة رحمهم الله تعالى أن من شبه الله بخلقه فقد كفر؛ وعلى ذلك قول نعيم بن حماد رحمه الله تعالى شيخ البخاري حيث قال : من شبه الله بخلقه فقد كفر ، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر- فهما كفران كفر تشبيه ، وكفر تعطيل-.
222) وخلاصة الكلام أننا نكفر الممثل أو المشبه لوجهين : لأنهم ينكرون المعلوم من الدين بالضرورة ، ولأنهم يخالفون ويناقضون المتواترات ،ومن خالف المعلوم من المتواترات القطعي فإنه كافر ، ولأنهم قد خالفوا الإجماع القطعي عند أهل السنة والجماعة لأن أهل السنة والجماعة مجمعون إجماعًا قطعيًا على أن الله ليس كمثله شيء، ومن خالف الإجماع القطعي فقد كفر - أفاد ذلك أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى -.
223) فإن قلت : وهل كل من جاءنا يمثل شيئًا من صفات الخالق بالمخلوق نبادر إلى تكفيره؟ نقول : لا ، ولا شك في ذلك لأن أهل السنة يطلقون التكفير بالوصف العام على الأفعال والأقوال ويقولون : من قال كذا فقد كفر ، ومن فعل ذلك فقد كفر ، لكن إذا أرادوا رحمهم الله تعالى أن يعدوا الحكم من العام إلى الفرد المعين فإنهم يشترطون شروطًا وينظرون في موانع.
224) والقاعدة عندهم في هذا تقول: التكفير بالوصف العام لا يستلزم تكفير المعين إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع ، وقد شرحت في الأرجوزة تلك الشروط وتلك الموانع- .
225) مسألة : هل يصح إطلاق لفظ الجسمية على الله جل وعلا؟ نقول : المتقرر عند أهل السنة والجماعة أن : الألفاظ المجملة التي تحتمل الحق والباطل فإنها لا تثبت مطلقة ولا تنفي مطلقًا ، وإنما ُتوقف على الاستفصال، حتى يتميز حقها فيقبل ومن باطلها فيرد ، وأهل السنة والجماعة نظروا إلى لفظ الجسم فلم يجدوه مثبتًا لله جل وعلا لا في الكتاب ولا في السنة ،ولا في كلام أهل العلم رحمهم الله تعالى ، ولم يجدوه في المقابل منفيًا فلو أنك قلبت طرفك في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وكلام أهل السنة والجماعة لم تجد لفظ الجسم مضافًا إلى الله جل وعلا إثباتًا ولا نفيًا ، فليس هناك دليل يقول إن الله له جسم وليس هناك دليل يقول إن الله لا جسم له ، فهذا اللفظ لم يرد لا إثباتاً ولا نفياً ، فندخله تحت قاعدة المدخلات المذكورة آنفًا وهي قاعدة عظيمة عند أهل السنة تقول: أن الألفاظ التي لم يرد في الكتاب ولا في السنة إثباتها ولا نفيها فإننا لا نثبت لفظها ولا ننفيها بل نستفصل في معناها ، فإن أريد به الحق قبلناه وإن أريد به الباطل رددناه ، وبناء على ذلك فلابد أن نذكر التفصيل ، ففي هذه المسألة نقول:
226) الجسم لنا فيه نظران : نظر باعتبار لفظه ، ونظر باعتبار معناه ، فأما لفظ الجسم باعتبار لفظه فإننا نتوقف فيه فلا نثبته ولا ننفيه ، لا نثبته أي لا نقول الله له جسم ، ولا ننفيه أي لا نقول إن الله لا جسم له ، وذلك لأن لفظ الجسمية ، لم يرد في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام أهل العلم إثباته لله ولا نفيه ، وما لم يرد إثباته ولا نفيه فنحن نتوقف في لفظه فلا نثبته ولا ننفيه.
227) وأما النقطة الثانية : فهي في معناها ، فإذا نظرنا إلى معنى الجسمية فإننا ننظر فيه حقًا وباطلًا لأنه لفظ مجمل، واللفظ المجمل هو ذلك اللفظ الذي يحتمل الحق من طرف والباطل من طرف آخر ، فلفظ الجسمية لا نثبته لله جل وعلا مطلقًا ولا ننفيه عن الله جل وعلا مطلقًا ، بل نستفصل فيه، فإن أراد بإثبات الجسمية لله أي تلك الجسمية المماثلة والمشابهة لأجسام المخلوقين فإن هذا هو حقيقة التمثيل والتشبيه وهي منفية عن الله جل وعلا ، فمن قال إن الله له جسم ويريد بهذه الجسمية حقيقة مماثلة صفاته لصفات المحدثات المخلوقات فإن هذا معنى باطل لأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير جل وعلا وإن كان يقصد بلفظ الجسمية تلك الذات العلية الموصوفة بصفات الجمال والمنعوتة بنعوت الجلال والكبرياء والعظمة فهذا معنى حق ، ولكن لا نسمي هذا المعنى الحق باسم بدعي (جسم), بل نسميه بما أطلقه أهل السنة والجماعة إن الله له ذات وصفات.
228) فإن قيل : وهل ورد إطلاق الذات على الله في الأدلة؟ نقول : نعم ، ففي الحديث الصحيح: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله.... الحديث»، والمراد بالكذب هنا التعريض، وكما قال عبد الله بن رواحة : وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أجزاء شلو ممزع " ، فهذا لفظ قد ورد .
229) وإطلاق الصفات على الله قد ورد بإجماع أهل السنة وعلى ذلك ما في الصحيحين من حديث عائشة أن النبي ﷺ بعث رهطًا وأمر عليهم رجلًا فكان يقرأ في صلاته (قل هو الله أحد) ويختم بها، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي ﷺ فقال "سلوه لأي شيء يفعل ذلك"، فسألوه فقال لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها فقال: "أخبروه بأن الله عز وجل يحبه", فإثبات الصفات والذات هذه هي الألفاظ الواردة عن أهل السنة والجماعة ، وأما الجسم فإنه لم يرد عن أهل السنة لا نفيه ولا إثباته .
230) طريقة أهل السنة إتباع المحكمات وترك المتشابهات ، إتباع الصريحات وترك المحتملات ، إتباع الواضحات وترك الخفيات.
231) ويدخل في ذلك أيضاً : لفظ المكان والحيز والجهة فكلها من الألفاظ المجملة التي تطبق عليها قاعدة أهل السنة أن : الألفاظ المجملة لا تقبل مطلقًا ولا تنفي مطلقًا ، بل يستفصل في معناها فإن أريد بها الحق قبلناه ، وإن أريد بها الباطل رددناه ، ولي رسالة مختصرة في شرح قاعدة المجملات عند أهل السنة والجماعة.
232) مسألة: ومن هم أول من عرفوا بالتشبيه من الطوائف والفرق والملل؟
أقول : اعلم أن أول من عرف بتشبيه الخالق بالمخلوق هم اليهود لعنهم الله، فاليهود هم الملة التي تشبه الخالق بالمخلوق ولذلك ذكر الله جل وعلا عنهم أشياء تدل على أنهم يعتقدون هذه العقيدة الخبيثة أن الله مثل خلقه يقول الله جل وعلا " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير " ، فشبهوه بخلقه في الفقر ، وقال الله عنهم " وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا " فشبهوه بخلقه بأن له يد كالمخلوق.
233) وهناك طائفة تنتسب إلى الإسلام وهم الرافضة ،فأول من عرف بتمثيل الخالق بالمخلوق باعتبار فرق المسلمين هم الرافضة لعنهم الله ، وأول من قال بالتمثيل من الرافضة هو رجل يقال له هشام بن الحكم الرافضي لعنه الله ، ومما قاله هذا الرافضي الخبيث قال: إنني أثبت في الله جميع ما في ، وأتوقف في الذكر واللحية- أعوذ بالله من هذا الكلام - وهذا قد بلغ من الكفر مبلغه.
234) فإن قيل : ومن أين دخل على الرافضة التمثيل؟
نقول : لأن مؤسس فرقتهم هو عبد الله بن سبأ اليهودي ، وهو يهودي تظاهر بالإسلام ونصرة آل البيت والتشيع لعلي وطائفته حتى ُيدخل الفساد على المسلمين كما أدخله بولس اليهودي على النصارى ، فأول من أدخل التمثيل والتشبيه في دين النصارى هو بولس اليهودي، وأول من أدخل التمثيل والتشبيه في دين المسلمين هو عبد الله بن سبأ اليهودي.
235) فإن قلت : وهل ثبت الرافضة على تمثيلهم؟
فأقول لا، فالرافضة في أول أمرهم ممثلة ولكن بعد فتنة القول بخلق القرآن ومحنة الإمام أحمد رحمه الله وانتصار المعتزلة في أول الأمر انقلب الرافضة من كونهم ممثلة - وتابعوا المعتزلة - على تعطيل الصفات ، فالرافضة في أول أمرهم ممثلة متشبهة وفي آخر أمرهم مؤولة معطلة محرفة معطلة وأحسن ما نقول مؤولة محرفة معطلة.
236) ومن مسائل في قول الإمام الطحاوي "ولا يشبه الأنام" أيضًا:
أنه لما تولى شرح هذه العقيدة بعض الماتريدية من الحنفية حرفوا هذه النقطة عند الإمام الطحاوي رحمه الله - فقد توالى على شرح هذه العقيدة جمل من الشراح ومن أفضل شروحها السنية شرح بن أبي العز الحنفي وهو شرح سلفي لكن هناك شروح كثيرة تولاها أتباع أبي منصور الماتريدي رحمه الله – ، فلما تولوها وجاءوا إلى شرح قول الإمام الطحاوي : " ولا يشبه الأنام " ، قالوا : ويقصد بذلك رحمه الله نفي صفات الله جل وعلا ، فإذا مررت على شيء من ذلك فاعرف أن هذا من إفساد هؤلاء الشراح لتلك العقيدة السلفية وتلك الجوهرة المشرقة في عقائد أهل السنة والجماعة ، وما أقربها من إفساد بعض المالكية لعقيدة بن أبي زيد القيرواني رحمه الله ، فإن هذه العقيدة عقيدة بن أبي زيد القيرواني توالى على شرحها جمل من المالكية الأشاعرة فصاروا يسخرون هذا المتن ويلوون عنقه حتى يوافق مذهبهم ، فالماتريدية أفسدوا كثيرًا في عقيدة الإمام الطحاوي ، وبعض المالكية أفسدوا كثيرًا في عقيدة أبي زيد القيرواني - مع أن كلا العقيدتين سنية سلفية - فرحم الله الإمام بن أبي العز الحنفي لما استخرج هذا الشرح العظيم ونقل من كتابات ابن تيمية رحمه الله وتلميذ العلامة ابن القيم وشرحه شرحًا سنيًا سلفيًا إلا في بعض المواضع التي لا يضر تلك العقيدة .
237) الماتريدية وإن كانوا أخف من الأشاعرة في مسألة الصفات لكنهم يتفقون معهم في تحريف الصفات الخبرية .
238) فإن قلت: ولماذا صار كثير من الشافعية أشاعرة؟ نقول : لأن أبا الحسن الأشعري شافعي المذهب ، وهذا من اختلاط المذاهب الفقهية بالمذاهب العقدية .
239) ومن مسائل في قول الإمام الطحاوي "ولا يشبه الأنام" أيضًا: إن قلت: وما علة من قال بتمثيل صفات الله بصفات خلقه؟
نقول : علتهم ثلاث قواعد إبليسية التأصيل آدمية التنفيذ :
wالقاعدة الأولى: الاتفاق في الأسماء يستلزم الاتفاق في الصفات وهذه القاعدة ينقصها شيء واحد حتى تكون سنية سببية ، وهو " لا"، فصواب هذه القاعدة : الاتفاق في الأسماء لا يستلزم الاتفاق في الصفات ، أي ليس كل شيئين اتفقا في اسمهما فلا بد لزامًا أن يتفقا في صفاتهما وتقدم شرحها ولله الحمد والمنة.
wالعلة الثانية قاعدة أيضًا إبليسية عندهم تقول : إن الاتفاق في الاسم الكلي العام يستلزم الاتفاق فيها بعد الإضافة والتقييد والتخصيص وقلنا إن هذه القاعدة لو أضيف فيها حرف لصارت سنية سلفية وهو " لا "، فصوابها أن نقول : الاتفاق في الاسم الكلي العام لا يستلزم الاتفاق بعد الإضافة والتقييد والتخصيص - وقد شرحناها في أول هذا الكتاب -.
wالعلة الثالثة: وهي قاعدة إبليسية أيضًا يقولون: إن هذا من باب قياس الغائب على الشاهد ، فعندهم أنه لا بد من قياس الغائب على الشاهد.
240) أهل السنة والجماعة يمنعون دخول الله جل وعلا مع خلقه في قياس الشمول وفي قياس التمثيل ، وإنما القياس الذي يجوز في حقه جل وعلا هو قياس الأولى فقط - وقد تكلمنا عن ذلك فيما مضي شرحه -.
241) ومن مسائل في قول الإمام الطحاوي " ولا يشبه الأنام " أيضًا : فإن قلت : وما هي العلامة التى يعرف بها الجهمية من غيرهم ؟ نقول : أنهم إذا جاءوا في باب الأسماء والصفات يسموننا مشبهة لأننا نثبت لله الصفات على الوجه اللائق به ليس كمثله شيء فقالوا : بما أنكم أثبتم الصفات فأنتم مشبهة.
242) إثبات أهل السنة والجماعة للصفات على الوجه اللائق بالله حق ، لكن هؤلاء يصفون هذا الحق بأنه تشبيه، لأن القاعدة عندهم أن من أثبت لله ولو صفة واحدة موجودة في المخلوق فقد شبه الخالق بالمخلوق، وفي الحقيقة أنهم هم المشبهة لأنهم ما نفوا الصفات وعطلوها إلا بعد أن قام محظور التمثيل في إثبات الصفات في أذهانهم فأرادوا أن يفروا مما قام في أذهانهم من محظور التمثيل ،ففروا من التمثيل إلى التعطيل ، فالتمثيل أخف درجة من التعطيل وهو عند التحقيق تعطيل والتعطيل عند التحقيق تمثيل.
243) ومن مسائل في قول الإمام الطحاوي "ولا يشبه الأنام" أيضًا: اعلم رحمنا الله وإياك أن المتقرر بإجماع أهل السنة والجماعة أن : صفات الله جل وعلا مباينة لصفات المخلوقات من عدة أوجه:
244) إذا أردت أن تعرف مباينة صفات الخالق لصفات المخلوق فانظر إلى هذه الأوجه حتى تعرف الفرق بين ما يضاف إلى الله من الصفات وما يضاف إلى المخلوق من الصفات، وحتى يرسخ قول الإمام الطحاوي في قلبك "ولا يشبه الأنام":
245) الوجه الأول: أن الله متصف بتلك الصفات في الأزل ومستمرة إلى الأبد فالله متصف بصفاته أزلًا وأبدًا وأما المخلوق فإن صفاته مستجدة ويطرأ عليها النقص.
246) الوجه الثاني: أن الله عز وجل متصف بهذه الصفات على وجه الكمال المطلق ، وأما المخلوق فهو متصف بها على وجه النقص ، فالله له العلم الكامل المطلق الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه ، والمخلوق له مطلق العلم – علم ناقص -.
247) الوجه الثالث : أن اتصاف الله جل وعلا بالصفات ليس على وجه الحاجة لها أبدًا، فالله متصف بها على وجه الكمال لا على وجه الحاجة، فهو لا يحتاج إلى آثار هذه الصفات، فلا يحتاج إلى أثر القوة ولا إلى أثر القدرة وذلك لكماله جل وعلا بذاته وصفاته عن كل أحد وأما المخلوق فإنه متصف بتلك الصفات لحاجة المخلوق، فقد يعطي ولكنه يرجوا من وراء هذا العطاء مقاصد أخرى.
248) يقول العلماء رحمهم الله تعالى: إنه لا يجوز لمعلم الصم أن يمثل صفات الله جل وعلا بصفات خلقه ولو من باب الإفهام، وإنما يكتفي في تعليمه الصفات بالمعاني العامة بمعنى أن الله له أسماء حسنى وصفات عليا من غير دخول في تفاصيلها ولا تفاصيل دقائق الأسماء والصفات ، وأن كل صفة يثبتها الله له فالواجب علينا أن نثبتها على الوجه اللائق به وهكذا لكن من غير دخول في تفاصيل لا يعرفها ، وربما من يسمع ويبصر ربما تشكل عليه فكيف إذا كان الإفهام بالإشارات التي قد يكون فيها نوع من الإجمال، ونوع من التمثيل ، وسدًا لذريعة وقوعهم فيما لا تحمد عقباه.
249) مسألة: وهل تصح قاعدة لا قياس في التوحيد؟
نقول : كلمة لا قياس في التوحيد لفظة مجملة ، وذلك لأن القياس هل هو نوع واحد أم أنواع متعددة ؟فإن كنت تقصد بقولك : لا قياس في التوحيد ؛ تقصد قياس الشمول الذي تستوي فيه أفراده فهذا نعم مقرر ونقره أنه لا يدخل هذا القياس في التوحيد مطلقًا , وإن كنت تقصد بقولك لا قياس في التوحيد أي قياس التمثيل - وهو إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة جامعة فهذا فهم صحيح وقياس صحيح ، وهذا القياس والذي قبله لا يدخلان في مسائل التوحيد مطلقًا ، فالتوحيد ليس فيه قياس شمول ولا قياس تمثيل.
الحالة الثالثة : إن كنت تقصد بقولك لا قياس في التوحيد أي قياس الأولى فهي كلمة باطلة وقاعدة ليست بصحيحة ، لأن قياس الأولى يدخل في مسائل التوحيد فكل صفة يتصف بها المخلوق لا نقص فيها بوجه من الوجوه فالله أحق أن يوصف بها ، وكل صفة نقص ينزه عنها المخلوق فالله أحق بالتنزيه عنها.
250) مسألة: تسلسل الحوادث حتى نفهم هذه المسألة التي ذكرها الإمام الطحاوي لابد أن نفهم أولًا جملًا من القواعد السلفية السنية، وإذا فهمنا هذه القواعد السلفية السنية المنبثقة من الكتاب والسنة فإننا سنفهم مسألة تسلسل الحوادث وما المقبول منه وما المردود ، وما الحق فيه وما الباطل.
251) القاعدة الأولى: لم يزل الله متصفًا بصفات الكمال في الأزل والأبد.
وهذا متفق عليه بين أهل السنة والجماعة ، فيجب عليك أن تؤمن إيمانًا جازمًا بأن الله متصف بصفاته في الأزل الذي لا أول له، وفي الأبد الذي لا نهاية له ، لأنه الأول بصفاته قبل كل شيء، فليس قبله شيء، وهو الآخر بصفاته فليس بعده شيء، كما قال النبي ﷺ في الصحيح: «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء» ، وهي أولية الذات بالصفات ، فليست ذاته متقدمة على صفاته، وليست صفاته متقدمة على ذاته، وإنما هو الأول بذاته وصفاته ليس قبله شيء، وهو الآخر ذاتًا وصفاتًا ليس بعده شيء.
252) القاعدة الثانية: صفات كماله -عز وجل- ذاتية وفعلية.
أما الصفات الذاتية فقد عرفنا أنها التي لا تنفك عنه لا أزلًا ولا أبدًا.
وصفاته الفعلية أيضًا هي لا تنفك عنه لا أزلًا ولا أبدًا، فأما آحادها فإنه حادث مثل صفة الكلام، فهو باعتبار أصله صفة ذاتية، وباعتبار أفراده وآحاده صفة فعلية، وكذلك الغضب، هو باعتبار أصله صفة ذاتية، وباعتبار وقوع غضب الله صفة فعلية ، وكذلك فرحه هو باعتبار أصله صفة ذاتية، أي: أن الله قادر أن يفرح متى شاء، فلم يكن عاجزًا عن الفرح ثم قدر على الفرح، بل هو قادر على أن يفرح متى شاء، فقدرته على الفرح قديمة ذاتية، لكن كونه يفرح في هذا الوقت مثلاً، أو كونه يفرح بدخول أهل الجنة الجنة، وكونه يفرح بتوبة عبده هذه فعلية، ففعل الله تعالى لها لا يدل على أنه الآن قدر عليها، بل قدرته عليها سابقة على فعله لها، فخذوها قاعدة "صفات الفعل قديمة النوع حادثة الآحاد"، وهذا كما قلناه تمامًا في صفة الكلام.
253) القاعدة الثالثة: صفات الفعل لله -عز وجل- قديمة النوع حادثة الآحاد وقولنا " قديمة النوع" أي: أن الله تعالى قادر على فعلها متى شاء، ليس بعاجز أن يفعلها، لكن متى ما وقع فعل الله تعالى لها وأراد فعلها بحكمته فعلها، ففعله لها الآن ليس دليلًا على أنه عاجزًا عنها سابقًا , فهذا ينطبق على جميع صفات الله تعالى الفعلية، فالاستواء الله قادر على أن يستوي قبل أن يستوي، فقدرته عليه باعتبار الأصل ذاتي، لأنها تتعلق بقدرة الله , وكذلك يقال في صفة : القبض، النزول إلى السماء الدنيا، الفرح، الغضب، الرضا، الرحمة، كلها باعتبار آحادها فعلية، وباعتبار أصل القدرة عليها ذاتية.
254) القاعدة الرابعة: من عطَّل –أنكر- الله عن شيء من صفات كماله الذاتية أو الفعلية فهو ضال مبتدع.
وقد وقع في مخالفة هذه القاعدة جميع أهل البدع الذين يعطلون الله تعالى في الأزل عن صفاته الفعلية، فيقولون: لم يكن ربنا قادرًا على الكلام ثم حدثت له القدرة فيما بعد، ولم يكن ربنا قادرًا على أن يفعل ثم حدثت له القدرة على الفعل فيما بعد ، ولم يكن ربنا قادرًا على الخلق ثم حدثت له القدرة على الخلق فيما بعد، وهل هذا صحيح؟ نقول : لا، – وأعوذ بالله من هذا الكلام – وهذا باطل بالإجماع بدلالة الكتاب والسنة فهؤلاء المبتدعة يزعمون أن ربنا الذي نعبده ونركع ونسجد له كان معطلًا عن بعض صفات كماله عاجزًا عنها غير قادرٍ عليها ، ثم حدثت له القدرة فيما بعد، - وهذا متفق عليه بين جميع أهل البدع- ، بين الجهمية والمعتزلة وبين الكرَّامية وبين الأشاعرة وغيرهم من طوائف أهل البدع، لكن منهم من يعطل الله عن صفات كماله في طرفي الزمان، فيعطله عن بعض صفات كماله في الأزل ويعطله عن بعض صفات كماله في الأبد، ومنهم من زاد احترامه لله قليلًا فيعطله عن بعض صفات كماله في الأزل، ولكنه لا يعطله عن صفات كماله في الأبد، لكن كلهم متفقون على أن الله كان معطلًا عن بعض صفات كماله ثم حدث له القدرة بعد ذلك.
255) أهل السنة يقولون: الله سبحانه وتعالى لا يزال متصفًا بصفات الكمال ومنعوتًا بنعوت الجمال والجلال والكبرياء والرحمة والإكرام والإجلال في الأزل الذي لا أول له، وفي الأبد الذي لا نهاية له، ولم يمر زمن من الأزمنة كان الله تعالى معطلًا عن شيء من صفات كماله المطلقة.
256) القاعدة الخامسة: الله تعالى هو الفعال لما يريد.
الله فعال لما يريد، فالذي يقدر على أن يفعل في الأبد ما يشاء فهو قادر على أن يفعل في الأزل ما يشاء ، وليس ثمة زمنٌ أو فترة أو جزء من أجزاء الثانية يكون الله U معطلًا فيها عن القدرة عن فعل ما يريد، فالله الذي نعبده فعال لما يريد
257) القاعدة السادسة تقول : الله هو الأول بصفاته وهو الأخر بصفاته.
ولينتبه لحرف الباء – " بصفاته" ولا يقال: الله هو الأول وصفاته ، وإنما قل: بـ "صفاته" ؛ وهذا هو تعبير أهل السنة كما ثبت ذلك عن الإمام أحمد - رحمه الله – وجمع من أهل العلم – رحمهم الله -.
258) القاعدة السابعة تقول: الله هو الخالق وما سواه فمخلوق.
جميع العوالم العلوية والسفلية، الملائكة والإنس والجن، السماوات والأرض، بل قبل أن يخلق الله هذا العالم أوليس هناك عوالم غير هذا العالم؟ نقول : نعم , فجميع هذه العوالم التي قبل عالمنا وعالمنا وما سيأتي بعد عالمنا من عالم البرزخ، وعالم الجنة، وعالم النار، فكل هذه العوالم كلها مخلوقة لله تعالى ، فالله هو الخالق وما سواه فمخلوق، وسواء قلنا: إن المخلوقات قديمة أو قلنا: إنها أبدية آخرية، أي : أنها طويل زمنها، فاعلم أن كل مخلوق فهو مسبوق بعدم نفسه، والذي هو موجود ولم يُسبق بعدم أبدًا هو الله تعالى.
259) القاعدة الثامنة : كل فردٍ من أفراد المخلوقات فهو مسبوق بالعدم.
أي: مسبوق بعدمه لا بعدم الصفة التي توجده ، وهذا هو المحك الدقيق الذي نريد بيانه ، فكل مخلوق تصورته ولو قبل بلايين السنين، لا دخل لنا في الزمن السابق ولا في الزمن اللاحق، فكل مخلوق يجب علينا أن نعتقد أنه مسبوق بفترة عدم، فقد كان معدومًا ثم وجد، وهذا الذي يقول عليه أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله– أن : كل مخلوق وإن قدم زمنه فهو لابد أن يكون مسبوقًا بعدم نفسه، وقبله مخلوق آخر، فلا يمكن أبدًا أن يُعطل فعل الله عن إيجاد مخلوقات، ولا أن تعطل ربوبيته عن وجود مربوبات ، ولا أن يعطل خلقه عن وجود مخلوقات، لكن من مخلوقاته ما نعلمها ومن مخلوقاته ما اختص بعلمه بها سبحانه.
260) إذا كنا نتكلم عن جنس المخلوقات فلا أول لها، فالذي يثبته ابن تيمية والذي دل عليه القرآن والسنة وإجماع السلف أن :الحوادث باعتبار الجنس والنوع لا أول لها، وأما باعتبار الأعيان والأفراد فلها أول.
261) القاعدة التاسعة: العالم حادث ممكن الوجود لا واجب الوجود.
سواء كان هو عالمنا هذا أو العوالم التي قبله، فكل ما يسمى عالَم فإنه ممكن الوجود، فعالم الجن ممكن الوجود، وعالم الملائكة ممكن الوجود فإن قيل : وما المراد بممكن الوجود ، وواجب الوجود؟ نقول : هذه عبارات منطقية فلسفية لا نريد أن نشغل الأذهان بها، لكن لابد من فهمها ، فالموجود عندنا قسمان: موجود واجب ، وموجود ممكن.
فالموجود الواجب هو واحد لا ثاني له وهو الله جلا وعلا ، فهو سبحانه الوجود الذي لا عدم قبله ولا عدم في آخره، هو أول لا أول قبله، وآخر لا آخر بعده، فلا يجوز بناء على ذلك أن نصف أحدًا من المخلوقات بأنه واجب الوجود لأننا نزعم أنه صار شريكًا مع الله تعالى فهذا هو الوجود الواجب ، ولكننا نحن لا نسميه الوجود الواجب في مذهب أهل السنة والجماعة؛ لأن هذه التسمية إنما جاءتنا من علماء الكلام وأهل البدع، لكنها كلمة صحيحة ونحن لا يهمنا الكلام إذا كان معناه صحيحًا مقبولًا، وإلا فالقرآن سماه الأول والآخر، والسنة قالت: «هو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء». وأهل البدع قالوا: هو واجب الوجود، معناها: الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء.
262) أهل السنة يقولون: إن هذا العالم حادث أي : ممكن الوجود لا واجب الوجود، لأننا لو وصفنا العالم بأنه واجب الوجود لكان مثل وجود الله، فجعلناه شريكًا مع الله تعالى كما يقوله الفلاسفة من كفار اليونان وحمقى علماء الكلام الذين يقولون: إن الأفلاك السبعة أو هذا العالم قديم، قديم الأفراد، فالسماوات قديمة لا أول لها، والأرض قديمة لا أول لها، والأفلاك والمجرات والنجوم قديمة لا أول لها، ولذلك هؤلاء هم الصابئة قوم إبراهيم الذين يزعمون أن المتصرف في هذه العالم هي النجوم والأفلاك.
263) القاعدة العاشرة: أهل السنة يقولون: الحوادث متسلسلة في الماضي وفي المستقبل.
وقبل أن نبدأ في شرح قاعدة أهل السنة والجماعة أولًا لابد من القسمة الرباعية العقلية: أن عندنا الحوادث متسلسلة، فعندنا الماضي الذي هو الأزل، وعندنا الأبد الذي هو المستقبل , فقول أهل السنة والجماعة أن الحوادث متسلسلة في الماضي ومتسلسلة في الأبد، أي : أن كل مخلوق فهو مسبوق بعدم نفسه وقبله مخلوق، والمخلوق الثاني مسبوق بعدم نفسه وقبله مخلوق، وهكذا إلى ما لا نهاية وكذلك في المستقبل نعيم الجنة إذا فني بأكل بعض النعيم كالطيور إذا أُكلت، اللحم إذا أُكل، والخمر إذا شُرب، هل ينقص أم يزداد ؟ نقول : لا تزال الحوادث متسلسلة تخلق إلى ما لا نهاية، لأن أهل الجنة لن يأتي يوم من الأيام ينقطع عنهم النعيم.
264) الحوادث متسلسلة في الأبد، وكذلك هي متسلسلة في الماضي، لكن مع القواعد السابقة أن كل حادثٍ فهو مسبوق بعدم نفسه وقبله مخلوق، وهذا المخلوق الثاني أيضًا مسبوق بعدم نفسه وقبله مخلوق، وهذا المخلوق الثالث مسبوق بعدم نفسه وقبله مخلوق فهي متسلسلة في الماضي ومتسلسلة في المستقبل، وهذا بإجماع أهل السنة والجماعة، هذا هو القول الأول , والقول الثاني – ضد القول الأول -: أن الحوادث ليست بمتسلسلة لا في الماضي ولا في المستقبل : وهذا قول الجهم بن صفوان، وقول أبي الهذيل العلاف من المعتزلة، فهؤلاء يقولون: في الماضي لابد من زمن يكون الحوادث فيه منقطعة والله عاجز عن أن يحدث شيئًا وفي الأبد لابد أن ينقطع نعيم الجنة ونعيم النار، ولذلك يقولون هؤلاء بفناء الجنة وفناء النار، لأنهم لا يتصورون حوادث في الأبد ما لها نهاية، فقالوا: ونعيم الجنة يتنعمون فيها أحقابًا ثم ينقطع نعيمهم فتبرد أعضاؤهم وتتصلب أجسادهم ويفنون فلا يستطيعون أن يتنعموا بعد ذلك بشيء، وتنقطع الحركة عنهم ، وكذلك النار عندهم .
265) أما نحن معاشر أهل السنة فنعتقد أن الله لا يزال يحدث من أنواع العذاب والسلاسل والأغلال لأهل النار إلى ما لا نهاية له وايضا إذا كانت عقولنا تقر بأن أهل الجنة ونعيمهم وأهل النار وعذابهم لا يفنى، فالتسلسل في الأبد متصور، فإذا كان الله قادرًا على التسلسل في الأبد فما الذي يمنعه من التسلسل في الأزل؟ مع أن الكتاب دل على ذلك والسنة ، فقول أهل السنة دل عليه الكتاب والسنة والعقل والفطرة الصحيحة، لأن الفطرة تقتضي بأن الله فعال لما يريد ويخلق ما يشاء متى شاء.
266) القول الثالث: قالوا: إنها ليست متسلسلة في الماضي ، ولكنها متسلسلة في المستقبل، هذا قول أهل البدع أيضًا، ولم يقل به أحد من أهل السنة أبدًا، وهو قول الأشاعرة وقول الكرامية، وقول بعض المعتزلة غير أبي الهذيل العلاف المعتزلي، فقالوا: أما في الماضي فلا يتصور حوادث لا أول لها، وأما في المستقبل فيتصور حوادث لا أول لها.
267) والقول الرابع يقولون: إنها متسلسلة في الماضي، وغير متسلسلة في الأبد، وهذا قول لم يقل به أحد من أمة محمد r فليس هناك أحد من أهل البدع قال: إنها متسلسلة في الماضي وغير متسلسلة في الأبد ، كما قال شارح الطحاوية: (وهذا قول لم يقل به أحد).
268) فالقول الحق في هذه الأقوال الأربعة: هو القول الذي قال به عامة أهل السنة وهو القول الأول، وهي: أن الحوادث ممكنة الوقوع والتسلسل- ممكنة لا واجبة - في الماضي ، وممكنة التسلسل في الأبد إلى ما لا نهاية له كما مثلنا بنعيم الجنة وعذاب النار.
269) فإن قيل : هل إذا قلنا إن الحوادث لا أول لها ولا نهاية لها كما قال أهل السنة هل يلزم مشاركتها مع أولية الله أو مشاركتها في آخرية الله؟
270) نقول : لا، لأننا قلنا: إن كل مخلوق فهو مسبوق بعدم نفسه ، والله وجوده ليس مسبوقًا بعدم، وكل آخرية من المخلوقات فهي ملحوقة، أي : يلحقها العدم ثم يوجد خلق آخر، وأما آخرية الله فإنها لا نهاية لها , إذًا أوائل المخلوقات لا تشارك أولية الله، لأن الله لم يكن له كفوًا أحد في أوليته ولا في آخريته، فليس كمثله شيء لا في أوليته ولا في آخريته فأولية المخلوقات وإن اتفقت مع أولية الله فاتفاقها في الاسم فقط ، لكن في الكيفية والحقيقة تخالفها، وآخرية المخلوقات وإن اتفقت مع آخرية الله في الاسم فقط لكنها في الكيفية والحقيقة تخالفها، والقاعدة تقول : أن الاتفاق في الأسماء لا يستلزم الاتفاق في الصفات والحقائق والكيفيات.
271) وهذا هو الذي يقوله أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله – وهو الذي شنع عليه أهل البدع حتى أن البوطي - رحمه الله – قد شنع على أبي العباس تشنيعًا عظيمًا، وقد أنكر أيضًا عليه الإمام الألباني، وخطَّأ أبا العباس في هذه النظرة، ولكن أبي العباس أقعد وأعرف من الجميع في هذه المسألة، لا يماثلهما في فهمها لا الإمام الألباني ولا البوطي ولا غيره – مع توقيرنا لأهل العلم - ، فإذا جئنا لأبي العباس وجئنا في المقارنات فلا والله، فأبو العباس يحكي هذا الأمر عن إجماع أهل السنة والجماعة، وعليها دل القرآن والسنة؛ قال: (وَكَمَا كَانَ بِصِفَاتِهِ أَزَلِيًّا، كَذَلِكَ لَا يَزَالُ عَلَيْهَا أَبَدِيًّا)، أي : الأول الذي لا أول قبله، والآخر الذي لا آخر بعده.
272) القاعدة الحادية عشر: العجز صفة نقص مطلق منزه الله عنها.
فجميع الأقوال التي تُنسب الله تعالى إلى أنه يفقد شيئًا من صفاته في الأزل أو يفقدها في الأبد فإنها أقوال باطلة، لأنها توجب وصف الله بالعجز، والله ليس بعاجز عن أن يفعل شيئًا أو يخلق شيئًا في وقت من الأوقات، فسبحانه يفعل ما يشاء ويخلق ما يريد.
273) القاعدة الثانية عشر: الألفاظ المجملة لا تقبل مطلقًا ولا تُرد مطلقًا وإنما هي موقوفة على الاستفصال حتى يتميز حقها فيقبل من باطلها فيُرد.
إن كثيرًا من أهل القبلة ممن زلت قدمه وضل فهمه عن الطريق الصحيح في فهم مسألة قدم الحوادث أو قدم العالم أو عدم قدمه، إنما سببه الإشكال عنده بوجود بعض الألفاظ المجملة التي لم تأت في القرآن بأعيانها وألفاظها ولا في السنة ولم يتكلم بها الصحابة –رضوان الله عليهم-، فمثل هذه الألفاظ هي التي أوجبت لديهم إشكالًا، ولذلك لابد أن نقرر هذه القاعدة حتى نبين لطالب العلم كيف يتعامل مع هذه الألفاظ المجملة، وهل الواجب على الطالب أن يردها مطلقًا؟نقول : لا، فإن قيل لك: لماذا؟ تقول: لأن فيها حقًّا والحق لا يُرد، بل لابد أن نوقفها على الاستفصال حتى يتميز حقها فنقبله من باطلها فنرده ، وهذا هو المتقرر عند أهل السنة والجماعة –رحمهم الله-.
274) التسلسل الواجب الذي يجب اعتقاده، وهو التسلسل الذي لا انقطاع له ولا ابتداء له.
وهذا تسلسل صحيح حق بإجماع أهل السنة والجماعة في حق الله تعالى وقد دل عليه العقل والشرع، وذلك كالتسلسل في أفعال الله تعالى فإن الله لا يزال هو الفعَّال لما يريد، وهذا محل اتفاق بين أهل العلم – رحمهم الله – فكما أنه الفعال لما يريد في الأزل بلا أول فكذلك هو الفعال لما يريد في الأبد بلا آخر.
275) التسلسل الممكن وهو: التسلسل في الآثار. وهذا التسلسل الممكن بإجماع أهل السنة والجماعة أنه ممكن في الأزل وممكن في الأبد فالحوادث متسلسلة في الأزل ومتسلسلة في الأبد، لكن تسلسلها تسلسل تسلسل ممكن؛ لأن كل مخلوق منها مسبوق بعدم نفسه.
276) هناك تسلسلان مقبولان عند أهل السنة والجماعة، وتسلسل ممنوع :
أما التسلسل الممنوع فهو التسلسل في الخالقين المؤثرين المدبرين المتصرفين - لأن هذا الكون كله ينتهي عند خالق واحد، ومدبر واحد، ومتصرف واحد، وموجد واحد، ومؤثر واحد وهو الله - تعالى.
الثاني: التسلسل الذي يجب في حق أفعال الله تعالى، فالله تعالى هو الفعال لما يريد أزلًا وأبدًا، وهو الخلاق أزلًا وأبدًا، وهو المتكلم أزلًا وأبدًا وهكذا.
وأما التسلسل الثالث : فهو التسلسل الممكن، وهو التسلسل في الآثار.
277) لفظ الحلول من الألفاظ المجملة، والألفاظ المجملة التي تحتمل الحق والباطل مذهبنا فيها أننا لا نقبلها مطلقًا ولا نردها مطلقًا، بل هي موقوفة عندنا على الاستفصال حتى يتميز حقها فيقبل من باطلها فيُرد، فنقول له: ماذا تعني بالحلول؟ هل تقصد أن الله كان عاجزًا عن شيء من صفات الكمال كالفعل والقدرة والكلام والخلق ثم قدر عليه بعد ذلك؟ إن كنت تقصد بالحلول هذا فإنه باطل عقلًا وشرعًا وإجماعًا ؛ لأننا قررنا في القاعدة أن الله لم يزل بصفاته أولًا بـلا ابتداء وآخرًا بلا انتهاء.
وهذا القول باطل بهذا الاعتبار وهو الذي يريده المعتزلة في قولهم: إن الحوادث حالة في الله و يريدون بالحلول أنه كان عاجزًا عن الخلق فقدِر، وكان عاجزًا عن الفعل ففعل، وكان عاجزًا عن الكلام فتكلم، وهل يُظن هذا في الله تعالى؟ فهذا والله من ظن السوء، وكذبوا، وخابوا، وخسروا، وضلوا في هذا الاعتقاد - فهذا الأول باطل -.
الثاني: إن كنت تقصد بلفظ الحلول -بحلول الحوادث في الله- أنه يفعل ما يشاء متى شاء كيفما شاء على الصفة التي يشاء، فإن هذا معنًى حق، فإن الله لم يزل فعالًا لما يريد، فإن كنت تقصد بالحلول أنه يفعل ما شاء متى يشاء كيفما شاء، فهذا حق، ولكن هذا المعنى الحق لا نسميه بهذا الاسم البدعي المجمل أن الحوادث حلت في الله، وإنما نُطلق عليه العبارة القرآنية التي لا تحتمل إلا الحق، نقول: إن ربنا فعال لما يريد.
278) إذا أطلقت المشيئة والقدرة أو كان السؤال والكلام على شيء معين مخصوص فلا بأس أن تقول: إن الله عليه لقادر، أو على ما يشاء قادر وتقصد هذا الشيء المخصوص المعين وأما في باب الإطلاق وإثبات كمال قدرة الله U فلا يجوز أن تقيدها بالمشيئة وإنما تطلقها فتقول: إن الله على كل شيء قدير.
279) القاعدة تقول: "قدرته على ما يشاء لا تنفي قدرته على ما لم يشأ، فهو قادر على ما يشاء وعلى ما لم يشأ".
280) المعتزلة يخرجون أفعال العباد عن كونها مقدورة لله تعالى - تعالى الله عما يقول الظالمون عُلوًّا كبيرًا – بل الحق في هذا ما قرره أهل السنة: أن أفعال العباد داخلة في الأشياء التي يقدر الله تعالى عليها.
281) ومن المسائل أيضًا : هل المعدوم يُطلق عليه شيء؟
نقول: في هذا خلاف طويل بين أهل العلم – رحمهم الله – وأصح الأقوال في هذا ما قاله أهل السنة والجماعة من أن المعدوم يُطلق عليه شيء في الذكر والكتاب، ولكن ليس بشيء في الوجود ، فالصحيح – إن شاء الله – في هذه المسألة هو أن المعدوم شيء في الذكر وفي العلم وفي الكتاب، ولكنه ليس بشيء في الخارج، حتى يوجد ثم يكون شيئًا في الوجود , كقول القائل منا: سأشتري بيتًا في مكان كذا وكذا ، فهو الآن لم يتملكه ، لكن إذا وقع الشراء عليه تملكه حقيقة فالشيء يعلم من جهة فيكون شيئًا يطلق عليه شيء، ولكنه ليس بشيء باعتبار آخر .
282) الوجود وجودان: وجود في العلم والذكر والقدرة والعزيمة، ووجود في الواقع وعلى أرض المحسوس.
283) قوله : (وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ فَقِيرٌ)، الكلام على هذه الجملة في جمل من المسائل:
284) لقد أثبت الله - عز وجل - غناه وفقر المخلوقات في جمل من الآيات.
285) أجمع أهل السنة – رحمهم الله – على أن من أسماء الله "الغني" وعلى أن من صفاته "الغِنى" وقد ذكر الله تعالى اسمه الغني في كتابه الكريم قرابة ثماني عشرة مرة، كلها يثبت فيها غناه تعالى.
286) أجمع العلماء –رحمهم الله– على أن الله هو الغني الغنى المطلق بذاته، فهو الغني الغنى الذاتي الذي لا يمكن أبدًا ولا أزلًا أن ينفك عن الله تعالى.
287) وأجمع العلماء – رحمهم الله – على أن المخلوق هو الفقير إلى الله تعالى ، الفقر الذاتي الذي لا يمكن أن ينفك عنه وإن كان من أغنى الناس مالًا، وأوفر الناس صحة، فلا يزال هو ذلك العبد المفتقر إلى الله تعالى الفقر الذاتي في كل أموره ومصالحه الدينية والدنيوية .
288) اعلم - رحمك الله - أن فقر العباد ينقسم إلى قسمين: فقر لازم، وفقر منفك. فأما الفقر المنفك؛ فهو: الفقر إلى المخلوقين - أعاذنا الله وإياكم منه - ، وأما الفقر اللازم؛ فإنه: الافتقار إلى الله تعالى
289) الفقر اللازم إلى الله تعالى فهو فقر يتوسل به إلى الله، من جملة ما يتوسل به إلى الله الافتقار إليه.
290) اعلم - رحمك الله - أنه لا يمكن أن يستغني عن الله - عز وجل - شيء من مخلوقاته علوية كانت أو سفلية.
291) جميع المخلوقات مفتقرة إلى الله تعالى فلا يمكن للعرش أن يستغني عن الله، ولا يمكن لحملة العرش ولا كافة الملائكة ولا السماوات ولا الأرض ولا الجبال ولا الجن ولا الإنس ولا الجامدات ولا البحار أن تستغني عن الله تعالى طرفة عين، فكل شيء من مخلوقاته فقير إليه تعالى من كل وجه.
292) اعلم - رحمك الله - أنه لا يمكن أن يستغني عن الله - عز وجل - شيء من مخلوقاته علوية كانت أو سفلية.
293) جميع المخلوقات مفتقرة إلى الله تعالى فلا يمكن للعرش أن يستغني عن الله، ولا يمكن لحملة العرش ولا كافة الملائكة ولا السماوات ولا الأرض ولا الجبال ولا الجن ولا الإنس ولا الجامدات ولا البحار أن تستغني عن الله تعالى طرفة عين، فكل شيء من مخلوقاته فقير إليه تعالى من كل وجه.
294) الافتقار إلى الله تعالى قسمه العلماء إلى قسمين: افتقار اضطرار وافتقار اختيار.
295) اعلم - رحمك الله - أن الله - عز وجل - قد قرن غناه بجمل من الصفات العظيمة لا ينتفع العبد بحقيقة الغنى إلا مع هذه الصفات. فمنها أنه قرن غناه بالرحمة ومن الصفات أيضًا: أن الله تعالى قرن غناه بالحمد ومن الصفات كذلك: أن الله تعالى قرن غناه بالحلم ومن الصفات أيضًا: أن الله تعالى قرن غناه بالكرم .
296) اعلم – رحمك الله - أن توزيع الحظوظ في الدنيا بين العباد توزيع ابتلاء وتمحيص.
297) وصيتي في حياتي وبعد مماتي: ألا تتعلقوا بغير الله، فتعلقوا بالله تعالى في كل أمر من أموركم، ولا تتعلقوا في حاجياتكم وطلبها بملك من ملوك الدنيا، ولا بأمير من أمرائها، ولا بتاجر من تجارها أو غني من أغنيائها ، أو صاحب جاه من أهل جاهها فيغضب الله تعالى عليكم، فمن أعظم ما يُضعف سير القلب إلى الله تعليقه بالمخلوقين
298) القلوب خُلقت لله لم تخلق لعباد الله .
299) القاعدة المتفق عليها بين المسلمين أن الله لا يُدعى له، وإنما يُدعى هو عز وجل.
300) قرر أهل السنة والجماعة أن النفي يستعمل فيه الإجمال ، والإثبات يستعمل فيه التفصيل، وهذا أصل مجمع عليه بين أهل السنة والجماعة.
يتبع