الكــــــــــلا م

فاطمة الجارالله

الكلام قد يكون محموداً، أو مطلوباً، أو واجباً، باختلاف مقاماته، وباختلاف حال المتكلم.
وقد أرشدنا إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يظن أنها تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه".
وليس هناك أفضل من كلمة الحق في وجه السلطان الجائر، فالكلام قد يكون فرض كفاية كما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا وُجد أكثر من واحد قد استوفوا الشروط، وقد يكون الكلام فرض عين إذا لم يوجد إلا واحداً في مكان المنكر. وقد يكون مستحباً في مواضيع كثيرة قد تصل في بعض الأحوال إلى الوجوب.
وقد يفوت بترك الكلام مصالح كثيرة فاللسان أداة يظهر بها البيان، وشاهد يخبر عن الضمير، وحاكم يُفصل به القضاء، وناطق يرد به الجواب، وشافع تُقضى به الحاجات ومُعز تسكن به الأحزان، ومُلاطف تُذهب به الضغينة فلا يُسلَّم قول من قال: السكوت سلامة، والكلام بالخير غنية، ومن غنم أفضل ممن سلم.
ومثله قول من قال: إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب.
شاهد الحال يشهد أنه في أحايين كثيرة يُمدح المتكلم ويُلام الساكت، فلا يكون السكوت دائماً سلامة، وقد قال عبدالملك رحمه الله: الصمت نوم، والنطق يقظة. فينبغي على من تحمل همّ الإسلام أن تكتب وتتكلم وتُعبر عن رأيها في ضوء الإسلام حتى يعود الإسلام عزيزاً كما كان، وألا تكون سلبية بحجة أن الصمت أفضل، فترى محارم الله تنتهك، وترى كلاٍّ يتكلم بفكره، بل يتكلم بلسان نساء المسلمين مطالباً بحقوقهن! وتسكت وكأن الأمر لا يعنيها وقد قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
لساني وسيفي صارمان كلاهما
ويبلغ ما لا يبلغ السيف مزودي
والمرء بأصغريه لسانه وقلبه، ولكن ينبغي وزن الكلام والتأني وعدم العجلة ليجد الكلام قبولاً إذا كان مبنياً على نهج علمي لا على عاطفة وجهل.
ألم تـــر أن مفتاح الفــؤاد لسانه
إذا هو أبدى ما يقول من الفـم
وكائن ترى من صاحب لك مُعْجب
زيـادته أو نقصـــه في التكــلم
لسان الفتى نصف ونصف فــؤاده
لم يبـق إلا صـورة اللحم والدم
وكما أن الكلام يكون ممدوحاً، والساكت مذموماً، فإن الكلام قد يكون فضولاً وحشواً، وقد يكون المتكلم واقع فيما لا تُحمد عقباه في الدنيا والآخرة. وقد يكون الكلام حشواً وهو فضول الكلام الذي ليس فيما ينفع من أمر الدين أو الدنيا، والصمت عنه أفضل؛ لأن من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت خطاياه.
قال عطاء رحمه الله تعالى: "أما يستحي أحدكم أنه لو نشرت عليه صحيفته التي أملاها صدر نهاره أن يرى أكثر ما فيها ليس من أمر دينه، ولا دنياه"، ثم تلا قوله تعالى: ]وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين[ وقوله: ]عن اليمين وعن الشمال قعيد. ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد[.
وما أحسن قول أبي العتاهية:
الصمت أليـــق بالفتــــى
ما لم يكن عي يشينــــه
والقـــــول ذو خطـــــــل
ما لم يكن لبّ يعينـــــــه
وقال أبو الأرداء: حق فقه الرجل قلة كلامه فيما لا يعينه.
وإن من الكلام الذي ينبغي اجتنابه، وهو في نظري كثير في مجتمعنا نحن النساء: كثرة إلقاء اللائمة على الناس، وإيذائهم باللسان، فتجدين كثيرات منا تُسدي معروفاً إلى الناس بالصلة أو الزيارة أو الكلام الحسن والتهنئة والهدية وإكرام الضيف واستضافته، ثم تنتظر مكافئة من هؤلاء الناس على هذا المعروف، فإن لم يكن، آذتهم بلسانها إما بغيبتهم وهو الكبيرة التي سيأتي الحديث عنها وإما بحضورهم بالعتب عليهم.
إذا كنت في كل الأمور معاتباً
صديقك لم تجد الذي تعاتبه
فتجد بعض هؤلاء يوصل ويُزار ويهدي إليه اتقاء لسانه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن من شرار الناس الذين يُكرمون اتقاء ألسنتهم".
وإن من الكلام الذي ينبغي اجتنابه، وقد يجب حسب تفاصيله: ما تقع فيه كثير من النساء من الحديث عن حالها وحال بيتها وأهلها وزوجها وأهله.
فإن كان الحديث عن أمور الفراش التي تقع بين الزوج وزوجته فإن هذا لا يجوز، وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم من يقع في ذلك من الرجال والنساء مثل شيطان لقي شيطانه، أو تحكي ما تقع فيه من الذنوب والمعاصي وقد ستر الله عليها، وهي بذلك تجمع إلى الذنب المجاهرة به، وقد قال صلى الله عليه وسلم "كل أمتي معافى إلا المجاهرين".
ومن الأحاديث التي لا تنبغي كثرة الإفضاء إلى الصديق؛ لأن من أشد الناس أذى الصديق المنقلب عدواً؛ لأنه أطلع على خفي السر.
أحذر عــدوك مـــــــرة
وأحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصديـــق
فكان أعلم بالمضــــــــرة
وهذا غالباً في الصديق الذي تجمعك معه مصالح غير الحب في الله والبغض في الله، وقد ذكر ابن الجوزي في "صيد الخاطر" (ص165) أن من الأمر المُوضع في النفوس الحسد على النعم أو الغبطة وحب الرفعة فإذا رآك من يعتقدك مثلاً له وقد ارتقيت عليه فلا بد أن يتأثر وربما حسد، فإن إخوة يوسف عليه السلام من هذا الجنس وقد جرى له معهم ما جرى.
ومن الأحاديث التي لا تنبغي كثرة الشكوى, وقد تكلم أهل العلم في حكم الشكوى من الحال والمرض ونحو ذلك، واختلفت أقوالهم.
وأصل الشكوى لا بأس بها إذا حمد قبل ذكرها، قال أبو العباس سمعت عبدالرحمن المتطبب يُعرف بطبيب السنة يقول: دخلت على أحمد بن حنبل أعوده، فقلت: كيف تجدك؟ قال: أحمد الله إليك أجد كذا، أجد كذا، فقلت: أما تخشى أن يكون هذا شكوى؟ فقال: حدثنا المعافى بن عمران عن سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة والأسود قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان الشكر قبل الشكوى فليس بشاك".
قال الشيخ مجدالدين: لا بأس أن يخبر عما يجده من ألم ووجع لغرض صحيح لا لقصد الشكوى.
والأدلة على جواز الشكوى كثيرة منها الحديث الصحيح حينما قال ابن مسعود رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك لتوعك وعكاً شديداً. قال: "أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم"، متفق عليه.
قال ابن الأنباري: والحزن ونفور النفوس من المكروه والبلاء لا عيب فيه ولا مأثم إذا لم ينطق اللسان بكلام مؤثم ولم يشكِ من ربه.
إذا عرتك بليــة فاصبر لهــا
صبر الكريـــم فإنه بك أعلـــــم
وإذا شكوت إلى ابن آدم إني
تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
هذا بعض ما يجري على اللسان من الكلام، والمكلف يجب أن تكون وقّافة عند حدود الله ترعى الحكم الشرعي في أقوالها وتنظر فيما تقع فيه.