قواعد ومسائل في حوادث السير
[1]
القاضي محمد تقي العثماني
القاعدة الثالثة: المسبب ضامن إن كان متعديا :
وإن هذه القاعدة ذكرها البغدادي في مجمع الضمانات[38] بقوله "المتسبب لا يضمن إلا أن يتعدى" وقد ذكرنا عبارة الزيلعي في تبيين الحقائق عند الكلام على القاعدة الثانية.
وتعريف المسبب ما ذكره الحموي رحمه الله[39]:
"حد المسبب هو الذي حصل التلف بفعله ، وتخلل بين فعله والتلف فعل مختار".
ومثاله: من حفر بئرا، فسقط فيها رجل، فالحافر مسبب لسقوطه، فيضمن أن كان متعديا في الحفر، وإن لم يكن متعديا، فلا ضمان عليه.
وقد وقع ههنا تسامح في التعبير في مجلة الأحكام العدلية، حيث ذكرت هذه القاعدة في المادة (93) بلفظ: " المتسبب لا يضمن إلا بالتعمد " وهذا خلاف ما ذكره جمهور الفقهاء، فإن تعمد الإضرار ليس بشرط لتضمين المسبب، ولذلك من حفر بئرا في غير ملكه، وسقط فيها رجل، فإن الحافر ضامن، ولو لم يحفرها بنية أن يتردى فيها رجل. فالصحيح من عبارة هذه القاعدة ما ذكرنا من أن المسبب لا يضمن إلا بالتعدي، ولو لم يكن متعمدا بالضرر أو بالتعدي.
وقد نبّه على هذا الخطأ في تعبير المجلة فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء[40] ، حفظه الله تعالى، وذكر أن التعبير الصحيح هو أن المسبب لا يضمن إلا بالتعدي، وهو موافق لسائر الكتب الفقهية، وقد ذكرت عند الكلام على القاعدة الثانية أنه، حفظه الله ، قد فرق بين معنيين للتعدي بتمييز دقيق، وأن كلامه في موضوع المباشرة موفق قد أزاح كثيرا من الإشكالات، فجزاه الله تعالى خيرا، ولكن لي مآخذ جوهرية على ما ذكره في موضوع التسبيب، فإنه حفظه الله تعالى ذكر أن التعدي الذي يشترط لتضمين المسبب هو عين التعدي الذي يشترط لتضمين المباشر، وهو التعدي بمعنى المجاوزة إلى ملك الغير أو حقه، سواء كان بفعل مباح في نفسه.
والواقع أنه على ما ذكره الشيخ الزرقاء، حفظه الله تعالى،لا يبقى هناك أي فرق بين المباشر والمسبب، مع أن الفقهاء قاطبة، فرقوا بينهما بأن المباشر يضمن وإن لم يتعد، والمسبب لا يضمن إلا بالتعدي، فالصحيح الذي يتبلور من كلام الفقهاء أن التعدي الذي يشترط لتضمين المسبب هو التعدي بالمعنى الثاني، وهو أن يكون فعله المسبب للضرر محظورا في نفسه، وإن التعدي بهذا المعنى لا يشترط في تضمين المباشر.
القاعدة الرابعة: إذا اجتمع المباشر والمسبب، أضيف الحكم إلى المباشر :
هذه القاعدة ذكرها ابن نجيم[41] بهذا اللفظ وقد أخذت في مجلة الأحكام العدلية (مادة 90) من الأشباه وشرحها ابن نجيم بقوله:
"فلا ضمان على حافر البئر تعديا بما أتلف بإلقاء غيره".
فهنا حافر البئر مسبب، والذي ألقى الشيء فيها مباشر، فيقدم المباشر على المسبب ويضاف الإتلاف إليه، فيصير ضامنا.
ولكن هذه القاعدة لها مستثنيات كثيرة، وتتلخص في نقطتين فيما يتعلق بموضوعنا:
النقطة الأولى: إذا كان تأثير المسبب أقوى من تأثير المباشر أضيف الحكم إلى المسبب، وهذه القاعدة ليست مذكورة بهذا اللفظ في كتب القواعد الفقهية، ولكنها تستخلص من عدة جزئيات ذكرها الفقهاء في مستثنيات القاعدة الرابعة. فيقول العلامة علي حيدر رحمه الله في شرحه للمجلة[42]:
"أما إذا كان السبب مما يفضي مباشرة إلى التلف، فيترتب الحكم على المتسبب، مثال ذلك لو تماسك شخصان، فأمسك أحدهما بلباس الآخر، فسقط منه شيء، كساعة مثلا، فكسرت، فيترتب الضمان على الشخص الذي أمسك بلباس الرجل رغما من كونه متسببا، والرجل الذي سقطت منه الساعة مباشر. لأن المسبب هنا قد أفضى إلى التلف مباشرة، دون أن يتوسط بينهما فعل فاعل آخر".
والمثال الأوضح لذلك ما ذكره الفقهاء الحنفية من أن من أكره إنسانا على قتل الآخر إكراها ملجأ، فالقصاص على المكره (بكسر الراء) دون المكره (بفتح الراء)، قال الكاساني[43] رحمه الله :
" فأما المكرَه على القتل فإن كان الإكراه تاما، فلا قصاص عليه عند أبي حنيفة ومحمد ، ولكن يعزر، ويجب على المكرِه " .
وظاهر أن المكره (بالفتح) هو المباشر للقتل، والمكرِه لا يعدو من أن يكون مسببا، ولكن الضمان هنا على المسبب دون المباشر، وذلك لأن تأثير فعل المسبب أقوى من تأثير المباشر، لكونه أصبح آلة في يد المكرِه .
وكذلك قدمنا أن من نخس دابة مركوبة فوطئت رجلا، فإن الضمان على الناخس، دون الراكب، مع أن الناخس مسبب، والراكب مباشر في الظاهر، ولكن تأثير الناخس أقوى من تأثير الراكب في القتل، ولذلك قدم المسبب على المباشر.
إن هذه الجزئيات تبدو خارجة عن القاعدة الرابعة، ولكننا إذا تأملناها في ضوء ما قدمنا في القاعدة الثانية من تفسير المباشرة، وأن تحقق المباشرة بمفهومها الصحيح شرط للتضمين بدون التعدي، ربما يتبين أن الذي أطلق عليه لفظ " المباشر" في الأمثلة الثلاثة المذكورة، ليس مباشرا في الحقيقة، بحيث تصح نسبة الإتلاف إليه بوجه معقول، وإنه لم يضمن الإتلاف من هذه الجهة، لا من حيث أن المسبب مقدم على المباشر.
فإن من سقطت ساعته بإمساك الآخر ثوبه، لا يصح أن يسمى مباشرا لإسقاط الساعة؛ لأن المباشرة تقتضي عملا، وهذا الرجل لم يعمل شيئا، فيبقى الممسك سببا للإسقاط بدون مزاحم، وربما أنه متعد في الإمساك، فلا يبرأ من الضمان. وكذلك المكره (بفتح الراء) وإن كان مباشرا للقتل، ولكنه بحكم كونه ملجئًا من قبل المكره (بالكسر) وآلة محضة في يد المكرِه، لم تعتبر مباشرته في إيجاب الضمان، وإن كان مباشرا لغويًّا.
ومثل ذلك يقال في الناخس، فإنه هو الذي سبب ركض الدابة التي خرجت عن قدرة الراكب، وصار الراكب لا فعل له ولا اختيار، فلا يصح أن يسمى مباشرا، فبقي المسبب بدون مزاحم، فنسب التلف إليه، وصار ضامنا.
ثم رأيت للعلامة خالد الأتاسي رحمه الله تعالى بحثا نفيسا في الموضوع يؤيد ما قلنا، فنورده بلفظه[44]:
"المباشر: هو الذي حصل التلف مثلا بفعله بلا واسطة، فكان هو صاحب العلة يضاف إليه التلف - والمتسبب : ما حصل التلف لا بمباشرته وفعله، بل بواسطة هي العلة، لحصول المعلول، وهو فعل فاعل مختار، وأما فعله فلا تأثير له سوى أنه مفض إليه. فإن اجتمعا فكما صرحت المادة يضاف الحكم إلى المباشر، لأنه صاحب العلة، وهي أقوى…. واعلم أنه متى كان المتوسط بين السبب والمعلول صالحا لإضافة المعلول إليه، يكون السبب حينئذ سببا حقيقيا، أي سببا محضا، بمعنى أنه لا مزية له سوى الإفضاء إلى حصوله - وعرفوه بأنه ما توسط بينه وبين الحكم علة، وذلك المتوسط هو العلة، وهذا هو المبحوث عنه في القاعدة. ومتى كان المتوسط غير صالح لذلك، فالحكم يضاف إلى السبب، ويكون حينئذ في معنى العلة، ومعرفة هذا الضابط ينفعك في كثير من الوقائع.
وصورة اجتماعهما ما ذكر في المادة: فإن ملقي الحيوان مباشر تلفه بالذات، وحافر البئر متسبب؛ لأن حفره أفضى إلى التلف، فالضمان على المباشر …… وإذا انفرد السبب - وذلك فيما لو كان الحائل المتوسط بينه وبين الحكم ، أعني المعلول، غير صالح لإضافة الحكم إليه - يكون في معنى العلة المؤثرة، فيضاف الحكم إليه، ويكون المتسبب ضامنا - كسوق الدابة، فإنه غير موضوع للتلف، ولا هو مؤثر فيه، بل طريق للوصول إليه، والعلة للتلف التوسط بينه وبين السوق ، وهو وطء الدابة إنسانا أو مالا بقوائمها وثقلها، ولكن لما لم يكن هذا المتوسط فعل فاعل مختار أضيف الحكم إلى السبب، وهو السوق الواقع من السائق، فكأنه دافع للدابة على ما وطئت عليه، فيضمن، لأنه سبب فيه معنى العلة".
النقطة الثانية: إذا كان المسبب متعديا، والمباشر غير متعد:
والنقطة الثانية في مستثنيات القاعدة الرابعة التي ذكرها بعض الفقهاء هي أنه إذا كان المسبب متعديا، والمباشر غير متعد في فعله، فالحكم يضاف إلى المسبب المتعدي ، وإن هذه القاعدة ذكرها صاحب الهداية في مسألة من نخس دابة فقتلت رجلا، فإن الضمان على الناخس دون الراكب، وقد ذكرنا عبارته في القاعدة الثانية بتمامها، وفيها[45]:
"ولأن الناخس متعد في تسبيبه، والراكب في فعله غير متعد، فيترجح جانبه في التغريم للتعدي".
وقد اعترض عليه صاحب العناية بأن كون المباشر غير متعد لا يبرئه من الضمان، فهذا التعليل الذي ذكره صاحب الهداية غير صحيح فيما إذا وطئت الدابة أحدا، ولكن يمكن أن يجاب عن هذا الاعتراض بأن المباشر يضمن، وإن لم يكن متعديا فيما إذا كانت مباشرته هي السبب الوحيد في التلف. أما إذا كان هناك مسبب آخر، وهو متعد في تسبيبه، والمباشر غير متعد في فعله، فحينئذ يقدم المسبب على المباشر. نعم، إن كان كل من المباشر والمسبب متعديًا، فالمباشر مقدم على المسبب. وربما يتأيد هذا بمسألة أخرى ذكرها البغدادي في مجمع الضمانات، قال[46]:
"قصار أوقف دابة في الطريق، وعليها ثياب، فصدمها راكب ومزق بعض الثياب التي كانت على الدابة، قال الشيخ أبو بكر البلخي : إن رأى الراكب الدابة الواقفة ضمن، وإن لم يبصر لم يضمن. ولو مر رجل على ثوب موضوع في الطريق وهو لا يبصره فتخرق، لا يضمن".
فالقصار الذي أوقف دابته في الطريق مسبب لتخرق الثياب، وهو متعد، لأنه أوقف دابته في الطريق، وراكب الدابة الأخرى مباشر، فلو لم يبصر الدابة الواقفة لم يكن متعديا، فلا ضمان عليه، وينسب التمزيق إلى المسبب وهو القصار، فكأنه مزق ثيابه بنفسه، فلا يضمنه أحد. أما إذا أبصر الراكب الدابة الواقفة، ومع ذلك صدمها فإنه متعد، ومتى اجتمع تعدي المسبب وتعدي المباشر، فالمباشر أولى بالضمان ، ولذلك ضمن الثياب للقصار، وكذلك من وضع ثوبا في الطريق، فإنه مسبب لتخرقه، وهو متعد من حيث إن الطريق غير موضوع لوضع الثياب، والرجل المار مباشر لتمزيق الثياب، فإن كان قد أبصر الثياب، فإنه متعد، فيضمن، وإن لم يكن أبصرها، فليس متعديا فلا يضمن.
وكذلك ذكر البغدادي مسألة أخرى، قال[47]:
"مر بحمار عليه حطب، وهو يقول: إليك إليك، إلا أن المخاطب لم يسمع ذلك حتى أصاب ثوبه وتخرق يضمن، وإن سمع إلا أنه لم يتهيأ له التنحي بطول المدة فكذلك. وأما إذا أمكنه ولم يتنح لا يضمن"
فصاحب الحمار هنا مباشر على قول من يعد السائق والقائد مباشرا، وهو غير متعد، إذ نادى " إليك إليك " فصار ضامنا عند عدم سماع المخاطب، وكذلك إذا لم يجد المخاطب فرصة للتنحي، أما إذا لم ينتح وقد أمكنه ذلك، فهو المسبب المتعدي فأضيف التلف إليه.
فبناء على قول صاحب الهداية، ونظرا إلى هذه الجزيئات، تتحصل صور آتية :
1- إذا كان المباشر هو السبب الوحيد في الإتلاف، فهو ضامن، سواء كان متعديا، أو غير متعد، بمعنى أنه لم يفعل فعلا محظورا في نفسه.
2- إذا اجتمع المباشر والمسبب، وليس أحد منهما متعديا (بالمعنى المذكور) فالضمان على المباشر.
3- إذا اجتمع المباشر والمسبب، والمباشر متعد والمسبب غير متعد، فالضمان على المباشر.
4- إذا اجتمع المباشر والمسبب، وكل واحد منهما متعد، فالضمان على المباشر أيضا.
5- إذا اجتمع المباشر والمسبب، والمسبب متعد، والمباشر غير متعد ، فالضمان على المسبب.
هذا ما تنقح لي من ضوابط الضمان المتعلقة بحوادث السير مستخلصة من كتب الفقهاء، والله سبحانه وتعالى أعلم.
حوادث السيارات
وبعد تمهيد هذه القواعد وشرحها، نرجع إلى أحكام حوادث السيارات، ونذكرها في ضوء ما شرحنا من القواعد والجزئيات الفقهية المتعلقة بها:
مدى مسؤولية السائق بسيارته:
الأصل: أن سائق السيارة مسؤول عن كل ما يحدث بسيارته خلال تسييره إياها، وذلك لأن السيارة آلة في يده، وهو يقدر على ضبطها، فكل ما ينشأ عن السيارة، فإنه مسؤول عنه. والذي يظهر لي أن هناك فرقا كبيرا بين الدابة والسيارة من حيث إن الدابة متحركة بنفسها بخلاف السيارة، فإنها لا تتحرك إلا بفعل من السائق. ومن هذه الجهة أرى أن ما ذكره الفقهاء من الفرق بين ما أصابته الدابة بفمها أو يدها وبين ما نفحته برجلها أو بذنبها، لا يتأتى في السيارة، فإنهم ضمنوا الراكب في الحالة الأولى، ولم يضمنوه في الحالة الثانية؛ لأن راكب الدابة لا يمكنه التحرز عما تفعله الدابة برجلها أو بذنبها .
أما السيارة، فلا تتحرك بنفسها، فجميع السيارة آلة للراكب، وهو يقدر على ضبط جميع أجزائها؛ لأن أجزاءها متماسكة بعضها مع بعض، ليس لجزء منها حركة مستقلة عن حركة الآخر، ولذا فيجب أن يضمن سائق السيارة لكل ضرر ينشأ عنها، سواء نشأ ذلك الضرر من أجزاء السيارة المتقدمة، أو من أجزائها المؤخرة، أو من أحد جانبيها. لأن كل ذلك تحت تصرف السائق، وليس شيء منها يتحرك بنفسه.
إذن، فالأصل أن سائق السيارة ضامن لكل ضرر ينشأ من عجلاتها، أو من مقدمها، أو من خلفها، أو من أحد جانبيها؛ لأن السيارة آلة محضة في يد السائق، فتنسب مباشرة الإضرار إليه.
فإن كان سائق السيارة متعديا في سيره بمخالفة قواعد المرور، مثل أن يسوق السيارة بسرعة غير معتادة في مثل ذلك المكان، أو لم يلتزم بخطه في الشارع، وما إلى ذلك من قواعد المرور الأخرى، فلا خفاء في كونه ضامنا؛ لأن الضرر إنما نشأ بتعديه، والمتعدي ضامن في كل حال.
أما إذا لم يكن متعديا في السير، بأن ساق سيارته ملتزما بجميع قواعد المرور، فهل يضمن الضرر الذي أصاب رجلا آخر بسيارته في هذه الحالة؟ قد اختلف فيها أنظار العلماء في عصرنا، فمنهم من يقول: إنه يضمن لكونه مباشرا، والمباشر يضمن ولو لم يكن متعديا. ومنهم من يقول: لا يضمن لأن ما يحدث بعد الالتزام بقواعد المرور حادثة سماوية لا يمكن الاحتراز عنها، والمباشر إنما يضمن فيما يمكن الاحتراز منه، لا فيما لا يمكن الاحتراز منه.
والذي يظهر لي في ضوء القواعد والجزئيات الفقهية التي ذكرتها فيما قبل - والله سبحانه وتعالى أعلم - أن السائق يضمن الضرر الذي باشره، وإن لم يكن متعديا لأنه قد تقرر بإجماع الفقهاء أن المباشر لا يشترط لتضمينه أن يكون متعديا، ولكن يجب أن تتحقق منه مباشرة الضمان على الوجه الذي ذكرناه في تفسير القاعدة الثانية، فيجب لتضمينه أن تصح نسبة المباشرة إليه بدون مزاحم على وجه معقول. وعلى هذا الأساس لا يضمن في الصور الآتية:
1- إذا كان السائق يسوق سيارته ملتزما بجميع قواعد المرور، ولكن دفع شخص رجلا آخر أمام سيارته فجأة بحيث لم يمكن له أن يوقف السيارة قبل أن تدهسه، فدهسته السيارة. فهنا لا يضمن السائق، وإنما يضمنه الدافع، وهذا كما نخس أحد دابة فقتلت رجلا، فالضمان على الناخس دون الراكب؛ لأن نسبة المباشرة لا تصح إلى سائق السيارة في هذه الصورة؛ لأن تأثير الدافع ههنا أقوى من تأثير الراكب، أو كما قال صاحب الهداية: الدافع متعد، والسائق غير متعد.
2- إذا أوقف السائق سيارته أمام إشارة المرور منتظرا إشارة فتح الطريق فصدمته سيارة من خلفه ودفعتها إلى الإمام فصدمت سيارته أحدا، فليس الضمان على سائق السيارة الأمامية، بل الضمان على سائق السيارة التي صدمتها من خلفها ؛ لأنه لا تصح نسبة المباشرة إلى السيارة الأمامية، فإنها مدفوعة بمنزلة الآلة للسيارة الخلفية. وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية في قراراتها المنشورة في مجلة البحوث الإسلامية[48].
وإن هذه الصورة منطبقة تماما على ما ذكره الفقهاء فيما إذا نخس أحد دابة فأصابت أحدا، فإن الضمان على الناخس دون الراكب. ومما يؤيده أيضا ما ذكره البغدادي رحمه الله في مجمع الضمانات، قال[49]:
"فإن عثر بما أحدثه في الطريق رجل فوقع على آخر فمات، كان الضمان على الذي أحدثه في الطريق، وصار كأنه دفع الذي عثر به ، لأنه مدفوع في هذه الحالة، والمدفوع كالآلة" .
فالظاهر في هذا المثال أن الرجل الذي وقع على آخر، هو المباشر للإهلاك، ولكن وقع الضمان على المسبب لكونه متعديا ولكون تأثيره أقوى بحيث لم يبق للرجل الواقع صنع ولا اختيار، فلم تنسب المباشرة إليه. فكذا في مسألتنا.
3- إذا كانت السيارة سليمة قبل السير بها، وكان السائق يتعهدها تعهدا معروفا، ثم طرأ عليها خلل مفاجئ في جهاز من أجهزتها، حتى خرجت السيارة من قدرة السائق ومكنته من ضبطها، فصدمت إنسانا فقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في المملكة العربية السعودية ، بأنه لا ضمان على السائق، وكذلك لو انقلبت بسبب ذلك على أحد أو شيء فمات أو تلف ، فلا ضمان عليه.
ويمكن أن تخرج هذه الفتوى على ما قدمنا في القاعدة الثانية من نص الفقهاء على أن الدابة إن جمحت وخرجت من قدرة الراكب، فلا ضمان عليه. وذلك لأن ما حصل بالسيارة بعد خروجها من ضبط السائق بحادثة حدثت بجهاز من أجهزتها لا تصح نسبتها إلى السائق، ولا يقال: إن السائق مباشر للإتلاف، وغاية ما يقال فيه: إنه مسبب للهلاك، فإنه هو الذي سير السيارة في مبدأ الأمر، وبما أنه مسبب، فيشترط لتضمينه التعدي. فإن كان يتعهد السيارة تعهدا معروفا، ويسيرها ملتزما بقواعد المرور سيرا عاديا، فلا ضمان عليه لعدم التعدي، نعم ! إن أخل بشرط من هذه الشروط، مثل عدم تعهده للسيارة أو تسييرها مع خلل ظاهر في جهاز من أجهزتها، أو سوقها سوقا عنيفا، فإنه يضمن في كل ذلك، وإن خرجت السيارة من ضبطه، لأنه مسبب لانفلات السيارة بتعديه.
وربما تشهد لهذه الفتوى جزئية ذكرها الكاساني رحمه الله في البدائع، قال[50]:
"وكذلك (يضمن) إذا كان مشى في الطريق حاملا سيفا، أو حجرا، أو لبنة، أو خشبة، فسقط من يده فقتله، لوجود معنى الخطأ فيه، وحصوله على سبيل المباشرة، لوصول الآلة لبشرة المقتول، ولو كان لابسا سيفا، فسقط على غيره فقتله، أو سقط عنه ثوبه، أو رداؤه، أو طيلسانه، أو عمامته وهو لابسه، على إنسان فتعقل به فتلف، فلا ضمان عليه أصلا ؛ لأن في اللبس ضرورة ، إذ الناس يحتاجون إلى لبس هذه ، والتحرز عن السقوط ليس في وسعهم، فكانت البلية فيه عامة ، فتعذر التضمين، ولا ضرورة في الحمل، والاحتراز عن سقوط المحمول ممكن أيضا. وإن كان الذي لبسه مما لا يلبس عادة فهو ضامن".
ويؤيده أيضا ما ذكرنا في القاعدة الثانية أنه لو سقطت الدابة ميتة أو بمرض أو عارض ريح شديد ونحوه، وتلف بسقوطها شيء لم يضمنه الراكب[51].
4- إذا ساق إنسان سيارة في شارع عام ملتزما السرعة المقررة، ومتبعا خط السير حسب النظام، ومتبصرا في سوقه حسب قواعد المرور، فقفز رجل أمامه فجأة، فصدمته السيارة رغم قيام السائق بما وجب عليه من الفرملة ونحوها، فإن اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في المملكة العربية السعودية أبدت في هذه الصورة احتمالات مختلفة ولم تبت فيها بشيء، ونص قرارها في هذه الصورة كما يلي[52]:
"أمكن أن يقال بتضمين السائق من مات بالصدم أو كسر مثلا بناء على ما تقدم من تضمين الراكب أو القائد أو السائق ما وطئت الدابة بيديها. وقد يناقش بأن كبح الدابة وضبطها أيسر من ضبط السيارة، ويمكن أن يقال بضمان كل منهما ما تلف عند الآخر من نفس ومال بناء على ما تقدم من الحنفية والمالكية والحنابلة ومن وافقهم في تضمين المتصادمين. ويمكن أن يقال بضمان السائق ما تلف من نصف الدية أو نصف الكسور، لتفريطه بعدم احتياطه بالنظر لما أمامه من بعيد، وبضمان المصدوم نصف ذلك باعتدائه بالمرور فجأة أمام السيارة دون الاحتياط لنفسه، بناء على ما ذكره الشافعي وزفر وعثمان البتي ومن وافقهم في تضمين المتصادمين، ويحتمل أن يقال: إنه هدر، لانفراده بالتعدي".
والذي يظهر لي في هذه الصورة - والله سبحانه أعلم - أن الرجل الذي قفز أمام السيارة إن قفز بقرب منها بحيث لا يمكن للسيارة في سيرها المعتاد في مثل ذلك المكان أن تتوقف بالفرملة، وكان قفزه فجأة لا يتوقع مسبقا لدى سائق متبصر محتاط، فإن هلاكه أو ضرره في مثل هذه الصورة لا ينسب إلى سائق السيارة، ولا يقال : إنه باشر الإتلاف، فلا يضمن السائق، ويصير القافز مسببا لهلاك نفسه، وذلك لوجوه:
أولا: لو قلنا بضمان السائق في هذه الصورة، لزم منه أنه لو عزم رجل على قتل نفسه، فقفز أمام سيارة أو قطار بقصد إهلاك نفسه، فإن السائق يضمنه، وهذا مخالف للبداهة.
ثانيا: قد قررنا في القاعدة الثانية أنه يجب لتضمين المباشر أن تتحقق منه مباشرة الإتلاف بدون شك. وحيث كان تأثير المسبب أقوى من تأثير المباشر، أو انعدم اختيار المباشر بفعل رجل آخر، كما في مسألة نخس الدابة، فإنه لا يعد مباشرا للإتلاف، فلا يجب عليه الضمان .
ثالثا: إذا كان المباشر ملجأ من قبل الآخر، كما في صورة الإكراه، فإنه لا يعد مباشرا حقيقيا للقتل والإتلاف، وإنما ينسب الإتلاف إلى من أكرهه على ذلك، فصار كما إذا أكره رجل آخر على قتل نفسه، فقتله المكرَه في حالة الإكراه الملجئ، فلا ضمان على القاتل المكرَه، لأنه لا ينسب مباشرة القتل إلى المكره (بالفتح) بل لا تنسب مباشرة الإتلاف إلى السائق في مسألتنا بالطريق الأولى؛ لأن الإكراه لا يعدم القدرة على التحرز من الفعل الذي وقع الإكراه عليه، فيمكن للمكرَه أن يتحرز عن القتل على قيمة نفسه، ولذلك يستحق التعزير على قتله.
بخلاف السائق في صورتنا، فإنه لم يبق له اختيار ولا قدرة على صيانة القافز من صدم السيارة.
رابعا: قدمنا عن صاحب الهداية أنه لو كان المسبب متعديا والمباشر غير متعد، فالمسبب أولى بالضمان من المباشر، ولا شك في تعدي القافز في مسالتنا، وعدم تعدي السائق، فليكن القافز هو المسئول عن فعل نفسه .
خامسا: لا أقل من أنه قد وقع الشك في كون السائق مباشرا للإتلاف وفي كونه ضامنا، ومن أكبر الشواهد على ذلك أن اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء السابق ذكرها قد ترددت في ضمان السائق، وفي صورة الشك لا يجب الضمان، قال البغدادي في مجمع الضمانات[53]:
"رجل حفر بئرا في الطريق، فسقط فيها إنسان ومات، فقال الحافر: إنه ألقى نفسه فيها، وكذبته الورثة في ذلك، كان القول قول الحافر في قول أبي يوسف الآخر، وهو قول محمد ؛ لأن الظاهر أن البصير يرى موضع قدمه، وإن كان الظاهر أن الإنسان لا يوقع نفسه، وإذا وقع الشك ، لا يجب الضمان بالشك " .
وربما يستدل على تضمين السائق في هذه الصورة بما يأتي:
أ- اتفق الفقهاء على تضمين راكب الدابة ما وطئته خلال سيرها، ولم يستثنوا من ذلك صورة قفز الرجل أمام الدابة، فهذا يدل على أنهم يقولون بتضمينه في هذه الصورة أيضا.
وهذا الدليل ليس بصحيح؛ لأن الفقهاء لم يذكروا هذه الصورة لا نفيا للتضمين فيها ولا إثباتا لها، ومجرد سكوتهم عن ذلك لا يدل على التضمين، لأنه لا ينسب لساكت قول، وخاصة حينما ذكروا أصولا في ضمن جزئيات أخرى تدل على عدم التضمين في هذه الصورة، ولعلهم لم يذكروها من جهة أن ذلك كان نادرا في عهدهم؛ لأن ضبط الدابة أيسر من ضبط السيارة، ولأن الدابة متحركة بنفسها، فربما تتنحى في سيرها بنفسها برؤية من يعرض لها في الطريق، بخلاف السيارة، ولأن الطرق المدنية في ذلك الزمان كانت موضوعة في الأصل للمشاة، فلم تكن الدواب تسرع فيها المشي ، بخلاف السيارات فإنها تسير على طرق معبدة وضعت في الأصل للمراكب السريعة.
ب- وقد يقال: إن النائم الذي ينقلب على الرجل الآخر يضمن ما أصابه من ضرر، وبالرغم من أن النائم لا تكليف عليه فإنه حكم عليه الفقهاء بالضمان إجماعا، فتبين أن المباشر يضمن، ولو صدر منه الفعل بغير اختياره، فينبغي أن يضمن السائق أيضا، ولو صدر منه الإهلاك بدون اختياره .
والجواب عن ذلك: أن المباشر لو كان هو السبب الوحيد في هلاك شخص، فإنه يضمن الهلاك، ولو صدر منه ذلك بدون اختيار (ويستثنى منه ما لا يمكن الاحتراز منه، وما عمت به البلوى، كما قدمنا عن البدائع أنه لو سقط السيف عن لابسه، فإنه لا يضمن) ولكن إذا كان هناك شخص آخر مختار يزاحمه في نسبة الإهلاك إليه، وتأثير فعله أقوى من تأثير المباشر، فإن الهلاك يضاف إلى ذلك الشخص الآخر، كما قدمنا في غير واحد من الأمثلة، ولا سيما في مسألة الناخس، وفي مسألة من وقع على غيره بعثرة حصلت له بوضع حجر في الطريق، فإنه لا يضمن، بل يضمن واضع الحجر.
ففي مسألة النائم، ليس هناك من يزاحمه في نسبة الإهلاك إليه، بخلاف مسألتنا في السيارة، فإن القافز هنا يزاحم السائق في نسبة الإهلاك إليه، وهو أولى بهذه النسبة لتعديه من السائق الملتزم الذي لا اختيار له.
ولذلك لو رأى زيد مثلا أن عمرا نائم، هو على وشك أن ينقلب فوضع صبيا تحته حتى انقلب النائم عليه فأهلكه، فلا شك أن الضمان في هذه الصورة ليس على النائم، بل على الرجل الذي وضع الصبي تحته، مع أن النائم هو المباشر في الظاهر، وذلك لأن واضع الصبي يزاحمه في نسبة الإهلاك إليه، وتأثير فعله أقوى من تأثير فعل النائم، لأنه مختار ومعتد، بخلاف النائم، فكذا في مسألتنا.
وإلى هنا قد ذكرت بتوفيق الله سبحانه وتعالى المسائل المهمة التي قد يقع فيها الاشتباه في عصرنا في حوادث المرور، والقواعد التي تنبني عليها مثل هذه المسائل، ويمكن على هذا الأساس أن تستخرج المسائل الأخرى في هذا الباب، وما تمكنت في هذه العجالة من استقصاء الجزئيات التي تتصور في عهدنا من حوادث المرور على الرغم من رغبتي لذلك، وذلك لضيق الوقت وارتباطي بالمهام الأخرى، ولكن أرجو أن ما ذكر في هذه العجالة سيكون عونا بإذن الله تعالى لاستخراج أحكام الصور الأخرى .
والله سبحانه وتعالى أعلم وعلمه أتم وأحكم.
[1] إعداد القاضي محمد تقي العثماني القاضي بالمحكمة العليا بكراتشي وعضو المجمع
[2] كتاب الأحكام رقم (2340)
[3] المسند 5 / 327
[4] الموطأ، باب القضاء في المرفق، 2 / 122، مع تنوير الحوالك
[5] الزوائد، 3 / 48
[6] مجمع الزوائد 4 / 205
[7] المقاصد الحسنة، ص 468، رقم (1310)
[8] الموطأ، ص (664)
[9] سنن الدارقطني، كتاب الحدود والديات: 3 / 179، حديث (285)
[10] راجع التهذيب 3 / 459
[11] شرح مجلة الأحكام العدلية للأتاسي: 3 / 494، مادة (932)
[12] في كتابه القيم "شرح القواعد الفقهية" ص (385)، قاعدة (92)
[13] تبيين الحقائق للزيلعي: 6 / 149
[14] مجمع الضمانات، ص (165)، باب (12)، فصل (1)
[15] في كتابه القيم "الفعل الضار والضمان فيه" ص (78 و79)
[16] شرح الأشباه والنظائر للحموي: 1 / 196
[17] مبسوط السرخسي: 27 / 25، باب ما يحدث في المسجد والسوق
[18] شرح المجلة للأتاسي: 1 / 260، مادة (94)
[19] مجمع الضمانات للبغدادي، ص (189)، باب (2)، فصل (5)
[20] الفروع لابن مفلح: 6 / 6
[21] الإنصاف 10 / 36
[22] بدائع الصنائع للكاساني: 7 / 273
[23] روضة الطالبين للنووي رحمه الله: 9 / 331
[24] الهداية مع فتح القدير: 9 / 267
[25] مصنف ابن أبي شيبة: 9 / 429
[26] مصنف عبد الرزاق: 9 / 423
[27] نصب الراية للزيلعي: 4 / 388 - 389
[28] مغني المحتاج 4 /204
[29] مجمع الضمانات للبغدادي، ص (148)
[30] مغني المحتاج للشربيني: 4 / 204 و405
[31] مجمع الضمانات، ص (165)
[32] الأم 6 /86
[33] روضة الطالبين 9 / 336
[34] تحفة المحتاج 9 / 22
[35] الإنصاف للمرداوي: 6 / 244، كتاب الغضب
[36] الشرح الكبير لابن قدامة مع المغني: 5 / 456
[37] مغني المحتاج للشربيني: 4 / 204 و405
[38] مجمع الضمانات، ص (165)
[39] شرح الأشباه والنظائر 1 / 196
[40] شرح الأشباه والنظائر 1 / 196
[41] الأشباه والنظائر لابن نجيم: 1 / 196، قاعدة (19)
[42] درر الحكام لعلي حيدر: 1 / 81
[43] بدائع الصنائع 7 / 179
[44] شرح المجلة (1 / 249 - 250، رقم المادة (90)
[45] الهداية مع فتح القدير 9 / 267
[46] ص 154
[47] مجمع الضمانات (ص 154)
[48] مجلة البحوث الإسلامية، عدد (26) 1409 و1410 هـ
[49] مجمع الضمانات (ص 176)، باب (12)، فصل (2)
[50] بدائع الصنائع الكاساني: 7 / 271
[51] مغني المحتاج للشربيني: 4 / 204 - 205
[52] مجلة البحوث الإسلامية، عدد (26)، 1409 و1410 هـ
[53] مجمع الضمانات للبغدادي (ص 180)، باب (17)، فصل (2)