نحو ميثاق شرف للفتوى والاستفتاء
د. صلاح الصاوي




نحو ميثاق شرف للفتوى والاستفتاء

الفتوى بيان للحكم الشرعي، والمفتون موقعون عن الله تعالى، فهم ورثة الأنبياء، والقائمون في الأمّة مقام النبيّ صلى الله عليه وسلّم، وانتصابهم للإفتاء فرض على الكفاية، واستفتاؤهم فيما يجد من النوازل متعين على من نزلت به هذه النازلة.
والاستفتاء كغيره من أعمال المكلفين لا بد له من الإخلاص والصواب، فهما الجناحان اللذان تطير يهما الأعمال إلى الرب جل وعلا، ولكي يتحقق ذلك في عالم الفتوى لا بد له مما يلي:
أولا: بالنسبة للمستفتي
§ كون الغاية من الاستفتاء رفع جهالة أو إزالة شبهة، وليس مجرد الإعنات أو تزجية الأوقات.
§ البيان الدقيق للنازلة وتحري الأمانة في عرضها، فإن المفتي أسير المستفتي، وبقدر دقة المستفتي في عرض نازلته تكون دقة الفتوى ومطابقتها لمقتضى الحال.
§ التجرد لطلب الحكم الشرعي، وتجنب السعي لإسباغ المشروعية على الأهواء. فإن حقيقة التكليف إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لمولاه.
§ اتباع من غلب على ظنه أنه يفتيه بحكم الله، وسبيله إلى ذلك اتباع الأعلم والأورع عندما تختلف عليه فتاوى المفتين، ويعرف ذلك بالشيوع والاستفاضة.
§ القصد في طلب الدليل، وعدم الإلحاح في طلبه إذا أعرض عن ذكره المفتي.
§ تجنب التنقل بين المفتين، حتى لا يوقعه ذلك في الحيرة والاضطراب، بل يرفع نازلته إلى من يثق في دينه وعلمه من أهل الفتوى ثم يصدر عن فتواه، فإن حاك في صدره شيء منها رفع نازلته إلى الأمثل فالأمثل حتى يطمئن قلبه.
§ تجنب ما نهي عنه من الأسئلة، مما لا يكون العلم بها مفيدا ولا الجهل بها ضارا، كتلك التي لا ينبني عليها عمل، وتفتح بابا إلى الجدل.
§ تجنب القصد إلى إعنات المفتي أو امتحانه أو تجهيله وإحراجه على الملأ.
§ تجنب الأسئلة التي يقتضي الجواب عنها استعداء الظلمة على أهل الفتوى، وما تقتضيه الضرورة من ذلك لا ينبغي طرحه على الملأ.
§ تجنب الأسئلة التي تقتضي تعريضا بالهيئات أو الأشخاص خصوصا في واقع الفتنة، إلا ما تعين إعلان النكير عليه من البدع المغلظة التي يمتحن بها ويوالى ويعادى على أساسها.
§ تجنب الصيال بفتاوى المفتين على الآخرين، أو إقحام المفتين في معارك لم يكونوا طرفا فيها ولا دراية لهم بأبعادها.
§ تفهم صمت المفتي، وإعراضه عن الفتوى أو تجاهله لها في بعض المواقف، وعدم الإلحاح عليه في طلبها، فإن من المسائل ما يكون جوابه الصمت أو التجاهل.
§ تحين الوقت الملائم للاستفتاء، فلا يسأل المفتي أثناء اشتغاله بالحديث إلى آخرين، ولا يسأل أثناء استغراقه بعارض ألم به من هم أو غضب أو فرح ونحوه.
§ توقير أهل الفتوى وإنزالهم منازلهم، ومن ذلك إجلالهم في الخطاب، والدعاء لهم في مستهل استفتائهم ونحوه.
ثانيا: بالنسبة للمفتي
§ تجريد القصد لله تعالى، ودوام الضراعة إليه، وصدق التوكل عليه، فإنما الأعمالُ بالنيّات، وإنما لكل امرئ ما نوى. وما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه، ومن لم تكن له نيّةٌ لم يكن عليه نُورٌ، و لا على فتواه نور.
§ التوقر والحلم والسكينة، والإقلال من اللغو وفضول الضحك والعبث ونحوه صيانة لمقام الفتوى وتعظيما لشعائر الله عز وجل.
§ صيانة الفتوى من التأثر بالأهواء الحزبية أو التنظيمية، والحذر من الاستدراج لأهواء العوام كالحذر من الاستدراج لأهواء السلاطين.
§ قول الحق ولو كان مرا، ومن لم يقو على قول الحق فلا أقل من أن يصمت فلا ينطق بباطل.
§ التثبت في الفتيا، فلا يفتي إلى بعد إيقان وإتقان، فإن أَجْرأ الناس عَلَى الْفُتْيَا أقلهم علما، وأجرأهم على الفتيا أَجْرَأُهمْ عَلَى النَّارِ.
§ رد العلم إلى الله فيما خفي عليه خير من التورط في اتباع الظن والقول على الله بغير علم.
§ تجنب الإجمال أو التعميمات التي توقع في الإيهام، ومن ذلك أن يوهم بانعقاد إجماع فيما لم ينعقد فيه إجماع.
§ حمل العوام على المعهود الوسط من أقوال أهل العلم، وتجنب المشتهرات وغرائب الأقوال.
§ تجنب الطعن في المخالف له من أهل الفتوى، والحذر من التعريض بهم في مجلسه، أو الاستعداء عليهم في فتواه، فإنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد، ولا حرج في تعقيبه على ما يعتقده مجانباً للصواب تبرئة للذمة، ونصحا للأمة، وخروجا من إثم كتمان العلم.
§ تجنب التساهل في الفتيا بتتبع الرخص أو بالتلفيق المذموم، فإن من عرف بذلك حرم استفتاؤه وتقليده.
§ الفقه هو الرخصة من العالم الثقة، أما التحريم فيحسنه كل أحد، والجرأة على التحريم. كالجرأة على التحليل، فكلاهما قول على الله بغير علم.
§ الحرص على التشاور مع إخوانه من أهل الفتوى، وإحالة الفتاوى التي تحتاج إلى نظر جماعي إلى لجان الفتوى أو المجامع الفقهية، فإن نظر الجماعة أولى بالصواب من نظر الفرد، وقد وفرت وسائل التقنية المعاصرة كثيرا من الإمكانات في هذا المجال.
§ أهلية التصدر للدعوة والإرشاد لا تعني بالضرورة أهلية التصدر للإفتاء أو القضاء، لما لا يخفى من الفرق الواضح بين المقامين.
§ صيانة الفتوى أن تكون أداة للصيال على الآخرين، أو أن تصبح وقودا للفتنة في خصومة قائمة.
§ الرفق بالمستفتين، والحرص على تألف قلوبهم على طاعة الله ورسوله، والصبر على استفتاءاتهم مهما بدت يسيرة ومعادة، والإرشاد إلى البدائل المشروعة إذا تعلق الاستفتاء بتصرفات أو عقود غير مشروعة.
§ تجنب العجلة في إصدار الفتاوى في الخصومات القائمة قبل الإحاطة بملابساتها، والاستماع الدقيق إلى مختلف أطرافها، فإن الإفتاء قد يقترب من القضاء في بعض المواقع من حيث إلزامه وفصله في الخصومات.
§ دعم الفتوى بالدليل ما أمكن، تعميقا لمعنى الاتباع في نفوس المستفتين، ولا سيما فيما وردت فيه أدلة مباشرة من الأقضيات والنوازل.
§ الكفاية والاستغناء عن الآخرين، صيانة لمقام الفتوى عن التشوف إلى ما في أيدي المستفتين، والترفع عن مزاحمتهم فيما يدورون في فلكه من أمور دنياهم وإن كان من المباحات.